إسلام ويب

شرح العقيدة الواسطية [13]للشيخ : خالد بن عبد الله المصلح

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من عقيدة أهل السنة والجماعة إثبات معية الله سبحانه وتعالى لخلقه، وليس معنى هذا أنه سبحانه وتعالى في كل مكان، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل هو مستو على عرشه بائن من خلقه، ومعيته لخلقه هي معية علم وإحاطة واطلاع، فلا تنافي بين العلو والمعية.

    1.   

    إثبات معية الله لخلقه وبيان أنها لا تنافي علوه فوق عرشه

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    قال المؤلف رحمه الله: [ وقوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيث ما كنت) حديث حسن.

    وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق قبل وجهه ولا عن يمينه، ولكن عن يساره أو تحت قدمه) متفق عليه.

    وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم رب السماوات السبع والأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شرك كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين وأغنني من الفقر) رواه مسلم .

    وقوله صلى الله عليه وسلم لما رفع أصحابه أصواتهم بالذكر: (أيها الناس! أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً قريباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) متفق عليه ].

    هذه الأحاديث فيها إثبات معية الله عز وجل لخلقه، وفيها إثبات قربه سبحانه وتعالى من عباده، فبعد أن فرغ الشيخ رحمه الله من الأحاديث الدالة على علو الرب جل وعلا ذكر الأحاديث الدالة على معيته سبحانه وتعالى لخلقه كما فعل ذلك في الآيات، وذلك أنه قد يتوهم متوهم أن إثبات علو الرب يناقض وينافي معيته سبحانه وتعالى لخلقه، والمؤمن تابع للنصوص، فالنصوص دلت على علوه ودلت على معيته، ولا تعارض بين ما أخبر الله به عن نفسه كما قال تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، ولكنه من الرب الحكيم الخبير الذي أتقن كل شيء، ومما أتقنه سبحانه وتعالى خبره، فإنه لا اضطراب ولا اختلاف ولا تضاد فيه.

    يقول رحمه الله: (وقوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت) ) أفضل الإيمان أي: أعلى الإيمان، وفي هذا فائدة وهي: أن الإيمان يتفاضل، وأنه درجات كما سيأتينا إن شاء الله تعالى في مبحث الإيمان.

    قوله: (أفضل الإيمان -وهو أعلاه- أن تعلم أن الله معك) والمعية هنا الثابتة هي معية العلم، المعية العامة التي يثبتها أهل السنة والجماعة.

    ومعنى: (أن تعلم أن الله معك) هو ما جاء في الحديث الآخر: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ، وقد ذكرنا في شرح حديث جبريل أن الإحسان أعلى مراتب الدين، وهذا يؤيد ذلك، فإن أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك للمقامين:

    إما أن تعبد الله كأنك تراه ، أو فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

    وكلاهما داخل في قوله: (أن تعلم أن الله معك)؛ لأن المعية إما أن يراك أو أن تراه.

    قوله: (أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت) حيث هنا مكانية، يعني: في أي مكان كنت، وهذه المعية ثابتة كما تقدم في الآيات، قال الله جل وعلا: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]، وهذه المعية ما هو مقتضاها ؟ وما حكمها ؟ وما لازمها؟

    الجواب: مقتضاها وحكمها ولازمها أن الله سبحانه وتعالى مطلع على عبده، مهيمن عليه، متصرف فيه، وأن العبد لا خروج له عن إرادة الله عز وجل وتقديره وعلمه وإحاطته، هذا مقتضاها، فأهل السنة والجماعة يثبتون هذه المعية.

    ولا تظن أن المعية الثابتة له سبحانه وتعالى تقتضي المخالطة أو المماسة، بل هي تفيد مطلق المقارنة، لكن هل المقارنة تقتضي المخالطة والمماسة وأنه مع خلقه يخالطهم؟

    الجواب: تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فهو سبحانه وتعالى المستوي على عرشه البائن من خلقه، وهو معهم أينما كانوا كما أخبر، وسيأتينا بيان ذلك بالأدلة في كلام الشيخ رحمه الله.

    ثم قال: (وقوله: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قِبَل وجهه -أي: جهة وجهه، يعني: أمامه- ولا عن يمينه، فإن الله قبل وجهه)، وذلك أن الله سبحانه وتعالى ينصب وجهه للمصلي تفضلاً وكرماً وإحساناً، وهذا لكل مصلٍ، فربنا ينصب وجهه الكريم لنا وقلوبنا غافلة، فتجد القلب في كل واد نازل، وبعض الناس تجد وجهه منصرفاً، فيكون منصرفاً عن صلاته بقلبه وقالبه.

    والواجب على المؤمن إذا دخل في صلاته أن يستحضر أن رب السماوات والأرض جل وعلا قد نصب وجهه له، وهذا لكل مصل، وسبحان ربي العظيم الذي وسع خلقه! وإلا كان الواحد يقول: الآن يكون في المسجد الواحد بل في الصف ما يقارب ستمائة رجل، فكيف ينصب الله عز وجل وجهه لكل واحد من هؤلاء إماماً أو مأموماً؟

    الجواب: أنه لا كيف في هذا الأمر، فالذي يرزقهم في ساعة واحدة، ويدبر شئونهم في ساعة واحدة، لا يمتنع عليه مثل هذا.

    ثم إن القاعدة فيما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن نفسه: أنه لا كيف، فالكيف مجهول، والإيمان بما أخبر به الرسول واجب.

    ثم قال: (ولكن عن يمينه أو يساره أو تحت قدمه)، هذا فيه فائدة وهي: أن كون الله سبحان وتعالى قبل وجهه لا ينافي علوه، كما أن المعية لا تنافي العلو، فكذلك كونه جل وعلا ينصب وجهه للعبد فإن ذلك لا ينافي علوه كما سيأتي بيانه في كلام الشيخ رحمه الله بالدليل العقلي.

    ثم قال: (وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم رب السماوات السبع، والأرض، ورب العرش العظيم)، سبحان ربي! يذكر الله سبحانه وتعالى ربوبيته العامة والخاصة، وكثيراً ما يضيف الله عز وجل ربوبيته لمخلوقات عظيمة تدل على عظمته؛ لأن ربوبيته للعظيم تدل على عظمته، (رب السماوات السبع والأرض)، وهذا يدل على عظمته؛ لأن رب هذه المخلوقات العظيمة لابد أن يكون عظيماً. (اللهم رب السماوات السبع والأرض ورب العرش العظيم، ربنا -هذه ربوبية خاصة- ورب كل شيء -وهذه ربوبية عامة- فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن)، هذا كله توسل إلى الله سبحانه وتعالى بصفاته، فيتوسل العبد بصفات الله عز وجل وربوبيته العامة والخاصة وما اتصف به من كريم الصفات وعاليها.

    (أعوذ بك من شر نفسي)، فبعد أن توسل توصل إلى سؤاله فقال: (أعوذ بك) والاستعاذة: هي طلب العوذ، وهو: طلب الحفظ والحماية.

    (أعوذ بك من شر نفسي)، والنفس -يا إخوة- مليئة بالشرور، فإن لم يعنك الله عليها فإنها تتسلط عليك، وتوردك المهالك، فينبغي للإنسان أن يحرص على الاستعاذة بالله من شر نفسه، فكثيراً ما يستعيذ الناس من شر الشيطان، ولكنهم يغفلون عن عدو آخر وهو النفس الأمارة بالسوء. (أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، وشر كل ذي شر) يشمل شر بني آدم، وشر الجن، وشر الشياطين. (أنت الأول فليس قبلك شيء)، هذا فيه إثبات أوليته سبحانه وتعالى. (وأنت الآخر فليس بعدك شيء)، هذا فيه إثبات آخريته جل وعلا، وهذان الاثنان مقترنان، الأول والآخر، وبهما يثبت لله عز وجل الإحاطة الزمانية، فهو محيط بكل شيء زمناً سبحانه وتعالى، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، فهذا أفادنا إحاطته سبحانه وتعالى زمناً. (وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء)، وهذا فيه إحاطته مكاناً سبحانه وتعالى، فلا دونه شيء، ولا فوقه شيء سبحانه وتعالى، فهو عليٌّ في دنوه، قريب في علوه جل وعلا، كما سيأتي في كلام الشيخ رحمه الله.

    ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم سؤالاً آخر فقال: (اقض عني الدين، وأغنني من الفقر)، وهذا الحديث فيه إثبات علوه من قوله: (وأنت الظاهر فليس فوقك شيء)، وأيضاً من قوله: (ورب العرش العظيم)، وربوبيته للعرش ربوبية خاصة؛ ولذلك اختصه بالاستواء عليه، وفيه إثبات علوه جل وعلا من قوله: (منزل التوراة والإنجيل) لأن الإنزال لا يكون إلا من علو إلى سفل.

    ثم قال: (وقوله صلى الله عليه وسلم لما رفع الصاحبة أصواتهم بالذكر: (أيها الناس! أربعوا على أنفسكم -أي: هونوا على أنفسكم، ولا تكلفوها ولا تشقوا عليها برفع أصواتكم- فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً) النفي هنا نفي مفصل في صفات الله عز وجل، ومقصوده والمراد منه إثبات كمال سمعه سبحانه وتعالى، وكمال بصره جل وعلا. (فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً).

    وقد ذكرنا قبل في صفة السمع أن سمع الله عز وجل يرد عاماً وخاصاً، فهنا السمع سمع خاص، وهو خاص بالداعي نظير قوله تعالى: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ [إبراهيم:39]، ونظير قول المصلي: سمع الله لمن حمده، فهذا سمع خاص، وهو سمع الإجابة والقبول والإثابة.

    وأما السمع العام فهو: إدراك الأصوات، والله جل وعلا لا تخفى عليه خافية كما قالت عائشة رضي الله عنها في نبأ المجادلة: (سبحان الذي وسع سمعه الأصوات، إنها لفي طرف الحجرة أو في جانب الحجرة وإنه ليخفى عليَّ بعض قولها)، والله جل وعلا قد قال: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ [المجادلة:1]، وهو جل وعلا فوق عرشه، فوق السماء السابعة سبحانه وتعالى. (إنما تدعون سميعاً بصيراً قريباً)، والقرب هنا هل هو القرب العام؟

    الجواب: لا، إنما هو قرب خاص من الداعي، ولم يرد القرب عاماً لا في الكتاب ولا في السنة، إنما ورد القرب خاصاً هذا هو الصحيح، فالله أخبر بقربه من الداعي، وبقربه من المصلي، وبقربة من الساجد، وبقربة من أهل عرفة فإنه يدنو عشية عرفة من أهل الموقف، وهذا قرب خاص ليس عاماً.

    قال: (إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) وهذا -كما ذكرنا قبل- قرب خاص.

    1.   

    إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة

    قال المؤلف رحمه الله: [ وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا)، متفق عليه.

    إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه بما يخبر به ].

    حديث: (اللهم رب السماوات السبع والأرض، ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء) هذا يفيد -إضافة إلى العلو- المعية؛ لأن إحاطته سبحانه وتعالى تدل على معيته، فالمعية هنا من حيث المعنى لا من حيث اللفظ إحاطته بالخلق مكاناً وزماناً تدل على معيته سبحانه وتعالى.

    قوله: (إنكم سترون ربكم) إثبات رؤية الرب جل وعلا، ورؤية الله سبحانه وتعالى سيتكلم عنها المصنف رحمه الله في الفصول القادمة.

    أفاد الحديث أن أهل الإيمان سيرون الرب سبحانه وتعالى؛ لقوله: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته) لا تضامون بالتخفيف والتشديد، لا تضامون، أي: لا يلحقكم ضيم، يعني: ضر، ولا تضامون، أي: لا ينضم بعضكم إلى بعض، وكلا المعنيين صحيح، والمراد: نفي الضرر ونفي الضيق في رؤية الله جل وعلا. (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته)، يعني: كما يرى الإنسان القمر ليلة البدر، وهل يحتاج إلى أن يقرب القمر ليلة البدر من أحد ليراه ؟

    الجواب: لا، بل كل يراه في مكانه، بخلاف الهلال في أول الشهر فإن الناس قد يحتاجون إلى التضام، وينضم بعضهم إلى بعض، ويقول بعضهم لبعض: انظر هذا هو الهلال أو انظر هنا أو انظر هناك، فينضم بذلك بعضهم إلى بعض، أما رؤية المؤمنين لربهم عز وجل فهي كرؤيتهم للقمر ليلة البدر.

    فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن رؤية المؤمنين لربهم، وشبه رؤيتهم لربهم سبحانه وتعالى برؤيتهم للقمر ليلة البدر، لكن هل شبه المرئي بالمرئي؟

    الجواب: لا، فلم يقل: إن الله كالقمر، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وإنما أراد تحقيق الرؤية وأنها كما نرى أعظم الأشياء ظهوراً وهما الشمس والقمر، وكذلك نراه جل وعلا متجلياً لعباده المؤمنين، وهذه الرؤية لا يلزم منها الإدراك كما قال سبحانه وتعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام:103]، وإنما هي رؤية تنعيم لا يدرك فيها العبد المرئي، إنما يراه رؤية لا إدراك فيها، كما أننا الآن ننظر إلى الشمس والقمر ونراهما وهما من خلق الله عز وجل، ولا ندرك لا الشمس ولا القمر، فما يستطيع الإنسان أن يدرك القمر ولا أن يدرك الشمس، فكذلك رؤية الرب جل وعلا.

    ثم بعد أن أخبر بهذا الفضل وهذه المنة بين النبي صلى الله عليه وسلم طريقها فقال: (فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا ) وهما: صلاتا الفجر والعصر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى البردين دخل الجنة)، ففضائل هاتين الصلاتين كثيرة، ومنها: حصول رؤية الرب جل وعلا، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يراه رؤية تنعيم وإكرام.

    قال المؤلف رحمه الله: [إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه بما يخبر به]، المراد: أنه مثل ببعض أحاديث الصفات، ولم يستوعب، وكل هذه الأحاديث يجري فيها أهل السنة والجماعة على سنن واحد وعلى طريقة واحدة كما سيبين المؤلف رحمه الله.

    1.   

    موقف أهل السنة من الأحاديث التي فيها إثبات الصفات الربانية

    قال المؤلف رحمه الله: [فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك، كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل هم الوسط في فرق الأمة] .

    يقول رحمه الله: (فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة -جعلنا الله منهم- يؤمنون بذلك) أي: يؤمنون بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه.

    قوله: (بذلك) اسم الإشارة عائد إلى الأحاديث التي فيها إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه جل وعلا، وإيمانهم بهذه الأحاديث كإيمانهم بما دل عليه الكتاب ولذلك قال : (كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه العزيز) أي: أنهم لا يفرقون بين ما ثبت في الكتاب وما ثبت في السنة كطريق أهل البدعة، بل ما ثبت في السنة فهو كالثابت في الكتاب من حيث الإيمان بما تضمنه وما دل عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل عليه القرآن ومثله معه كما قال (ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه) أي: مثله في وجوب الإيمان والقبول، وإلا فليس مثله في الدرجة، وليست المثلية من كل وجه، إنما المثلية في الإيمان والقبول، وهو ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، وقد جاء ذلك في القرآن في قوله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وقد تقدم الكلام على هذا في أول الفصل عند أن تكلم عن منزلة السنة من القرآن.

    ثم قال رحمه الله : (كما يؤمنون بما أخبر به في كتابه من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل) وقد تقدم الكلام على هذه الضوابط فيما سبق.

    1.   

    مكانة أهل السنة والجماعة بين فرق الأمة

    قال المؤلف رحمه الله: [ بل هم الوسط في فرق الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم.

    فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة.

    وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية وغيرهم.

    وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم.

    وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية.

    وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج ].

    بعد أن فرغ الشيخ رحمه الله من بيان المنهج العام الذي سار عليه أهل السنة والجماعة في هذا الباب -باب الأسماء والصفات- واستدل لذلك بأدلة من الكتاب والسنة انتقل رحمه الله إلى بيان أنهم وسط في عقائدهم وأعمالهم، وأن أهل السنة والجماعة وسط في الفرق -فرق الأمة- كما أن الأمة هي الوسط في الأمم.

    فقوله رحمه الله: (بل هم) الضمير عائد إلى أهل السنة والجماعة.

    (الوسط) والوسط من الشيء: أعلاه وأعدله وخيره.

    (في فرق الأمة) فهم من هذا أن في الأمة فرقاً، وقوله: (الأمة) الألف واللام للعهد، أي: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المشهور في مسند الإمام أحمد وأبي داود وغيرهما: (أن الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم صفة هذه الفرقة بقوله: (هم من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (يد الله مع الجماعة)، فهذان وصفان أساسيان لهذه الفرقة، جعلنا الله منهم.

    فأهل السنة والجماعة وسط عدول خيار في الأمة كما أن الأمة وسط بين أمم الكفر، أما وسطية الأمة فذلك في قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]، والمراد بالوسط: العدل الخيار، فجعل الله عز وجل هذه الأمة عدولاً خياراً حتى تتحقق لهم الشهادة على الأمم، فإنه لا يشهد على أحد إلا من كان عدلاً خياراً، ووسطية الأمة لا تنحصر في ذلك؛ ولذلك شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه (الجواب الصحيح) ذكر أوجهاً من وسطية الأمة بين أمتي اليهود والنصارى، ثم بعد إن ذكر وجوهاً عديدة قال: وهذا باب يطول وصفه، يعني: يطول تتبعه وتحديده، لكن كل من نظر إلى شرائع من تقدم، وإلى ما تميزت به هذه الأمة؛ وجدها قد سلكت طريقاً مستقيماً، صراطاً عدلاً قسطاً، لا وكس ولا شطط، لا غلو ولا تفريط، فليس عندهم غلو، وليس عندهم تقصير، بل هم على صراط مستقيم.

    وكذلك أهل السنة والجماعة لكونهم أخذوا هذا المنهج من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهما مصدر التشريع ومصدر العقائد لأمة الإسلام، فإنهم اتصفوا بهذا الوصف، فبقدر تمسك الإنسان بالكتاب وبالسنة يتحقق بقدر ذلك وصف الوسطية فيه، وبقدر ما يكون عدلاً خياراً.

    إذاً: فهمنا أن الوسطية في أمة الإسلام أمرها واسع، وكذلك الوسطية في منهج أهل السنة والجماعة -في الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة -أيضاً باب يطول وصفه، فهم وسط في الأعمال، وسط في العقائد، وسط في الأقوال، فليس عندهم غلو ولا تقصير، وإنما الغلو والتقصير عند غيرهم، فضرب المؤلف رحمه الله نماذج لوسطية أهل السنة والجماعة في خمسة أمور في باب العقيدة؛ لأن الرسالة في باب العقيدة، وهذه الأمور الخمسة، هي:

    الأول: باب صفات الله عز وجل.

    الثاني: باب أفعال الرب جل وعلا.

    الثالث: باب وعيد الله سبحانه وتعالى.

    الرابع: باب أسماء الإيمان والدين.

    الخامس: في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وليست الوسطية مقصورة على هذه، إنما هذه نماذج وأمثلة لوسطية هذه الفرقة فرقة أهل السنة والجماعة.

    موقف أهل التعطيل والتمثيل من صفات الله تعالى

    قال: (فهم وسط في باب صفات الله تعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة)

    صفات الله عز وجل هي: كل ما وصف به نفسه سبحانه وتعالى، والصفات لها مفهوم خاص ومفهوم عام، مفهومها العام يصدق أو يندرج تحته كل خبر عن الله عز وجل من وصف أو فعل، فإن كل خبر عن الله عز وجل بفعل أو باسم سواءً كان مصدراً أو اسم فاعل أو اسم مفعول أو صفة مشبهة كل ذلك يندرج في كونه وصفاً لله سبحانه وتعالى.

    وأهل السنة والجماعة فيما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن نفسه وسط بين الفرقتين من فرق الضلالة، فرقة التعطيل وفرقة التمثيل، والتعطيل يندرج فيه أو يندرج تحته كل من حرف في صفات الله عز وجل، سواءً كان التحريف تحريفاً كلياً أو تحريفاً جزئياً.

    فالتحريف الكلي هو كتحريف غلاة الجهمية الذين يقولون: إن الله جل وعلا لا يوصف بشيء لا بإثبات ولا بنفي، ومن دونهم كالمعتزلة الذين نفوا الصفات، ومن دونهم كالأشاعرة الذين أثبتوا بعض الصفات ونفوا بعضها، كل هؤلاء يستظلون في مظلة التعطيل على درجات، لكن الجميع يشترك في هذا الأصل وهو التعطيل.

    يقابل هذه البدعة بدعة أهل التمثيل وهم: الذين مثلوا الله بخلقه، فقالوا: يد الله كأيدينا، وسمعه كأسماعنا، وبصره كأبصارنا، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فهؤلاء -أيضاً- غلوا في الإثبات، فجعلوا الخالق كالمخلوق، وكذبوا بالقرآن حيث قال الله جل وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وهذه الآية رد على هاتين البدعتين المنحرفتين في هذا الباب، وقد تقدم الكلام على هاتين البدعتين في ثنايا الحديث على الآيات، وتبين لنا أن أهل السنة والجماعة يثبتون المعاني ويكلون الكيفيات إلى الله عز وجل، فيثبتون معاني ما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن نفسه، وأما كيفيات ذلك فإنهم يكلونها إلى الرب جل وعلا.

    أهل التعطيل ماذا فعلوا في المعاني؟

    الجواب: عطلوها بالتحريف والإبطال.

    وأهل التمثيل ماذا فعلوا بالمعاني؟

    الجواب: غلوا في إثباتها حتى جعلوا ما للمخلوق للخالق، وما اتصف به الرب نظير ما اتصف به المخلوق، فأثبتوا كيفيات وأمثال لله سبحانه وتعالى، تعالى الله عنها علواً كبيراً.

    وأهل السنة والجماعة وسط بين هاتين البدعتين، والسلامة من هذين الطريقين في الضوابط التي تقدم ذكرها هي إثبات الصفات من غير تحريف ولا تعطيل، وبهذا نسلم من شبهة أهل التعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وبهذا نسلم من شبهة الممثلة.

    موقف الجبرية والقدرية من أفعال الله تعالى

    قال رحمه الله: (وهم) الضمير يعود إلى أهل السنة والجماعة الفرقة الناجية.

    (وهم وسط في باب أفعال الله تعالى بين الجبرية والقدرية)، أفعال الله عز وجل هي: ما أخبر به سبحانه وتعالى من فعله، وقد انقسم فيها الجبرية والقدرية إلى فريقين:

    فريق غلوا في الإثبات، وفريق غلوا في النفي.

    الجبرية غلوا في أن الله عز وجل على كل شيء قدير، وأنه خالق كل شيء، وأنه ما من شيء إلا بمشيئته سبحانه وتعالى، فألغوا بذلك قدرة المخلوق ومشيئته وفعله، فجعلوا المخلوق كالريشة في مهب الريح، ليس له اختيار ولا فعل، وإنما الجميع فعل الله، وقالوا: الجميع فعل الله، فلا يضاف للمخلوق شيء، ولما قالوا هذا القول قالوا: إنه يجوز على الله عز وجل كل شيء إلا الممتنع، فيجوز على الله عز وجل الظلم، ويجوز عليه مخالفة الحكمة، ويجوز أن يجعل الشيطان في الفردوس الأعلى، ومحمداً صلى الله عليه وسلم في أسفل السافلين -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- لأنه لا حكمة للرب، ولا رحمة ولا عدل. والإنسان إذا سمع هذه الأقوال يقشعر منها بدنه، فكيف بمن جعلها في قلبه عقيدة يدين الله بها؟! فهذا أمر عظيم، لكن -سبحان الله العظيم!- طمس الله بصائرهم، وأعمى قلوبهم حتى اعتقدوا في ربهم هذه العقيدة، هؤلاء هم الجبرية.

    يقابلهم فريق آخر وهم القدرية الذين سلبوا الله سبحانه وتعالى قدرته وفعله وخلقه ومشيئته، فقالوا: إن العبد يفعل، والله جل وعلا لا قدرة له على فعل هذا، والله سبحانه وتعالى لم يشأ فعل العبد، والله سبحانه وتعالى لم يخلق فعل العبد.

    وأهل السنة والجماعة سلكوا طريقاً وسطاً، وصراطاً مستقيماً، فأثبتوا للعبد الفعل، وأثبتوا أن هذا الفعل بمشيئة الله عز وجل، فالعبد يفعل بمشيئته وإرادته، والرب جل وعلا قد أحاطت مشيئته بمشيئة عبده، فما شاء الله كان، كما قال الله جل وعلا: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30]، فمشيئة العبد الثابتة له وإرادته الثابتة له؛ لا تخرج عن إرادة الله ومشيئته سبحانه وتعالى.

    وسيأتي مزيد بيان وتوضيح لهذا الأمر في كلام المؤلف رحمه الله عن القدر في قوله: [ ويؤمن أهل السنة والجماعة الفرقة الناجية بالقدر خيره وشره ] في هذه الرسالة إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم.

    والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756220741