إسلام ويب

تفسير سورة البلدللشيخ : مصطفى العدوي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لله سبحانه وتعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وفي هذه السورة العظيمة يقسم سبحانه بأحب البقاع إليه وهي قبلة المسلمين؛ أن الإنسان خلق في تعب ونكد ومكابدة لمتاعب هذه الحياة، ثم ذكر الله الإنسان وحثه على اقتحام العقبة الكئود حتى لا يتكرر عليه النكد يوم القيامة، وهذه العقبة يكون اقتحامها بإطعام المساكين، والنظر إلى المحتاجين، والعطف على الأيتام، وتفقد الأرامل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( لا أقسم بهذا البلد )

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.

    وبعد:

    فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم في سورة البلد:

    لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:1] وهذا قد يرد عليه إشكال! فقد أقسم الله سبحانه وتعالى بالبلد، قال الله سبحانه وتعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:1-3]، فأقسم الله سبحانه وتعالى بالبلد.

    والآية التي نحن بصددها: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ نافية للقسم بهذا البلد، وابتداء: البلد هي مكة، وقد نقل فريق من أهل العلم الإجماع على أن المراد بالبلد مكة، ثم نرجع فنقول: كيف نجمع بين قوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ، وبين قوله تعالى: وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:3] ؟

    للعلماء في ذلك أقوال:

    هذه الأقوال تنصب على تفسير: (لا) في قوله تعالى: (لا أُقْسِمُ)، فمن العلماء من يقول: إن (لا) نافية لشيء قد تقدم، فالمعنى: أن المشركين كانوا ينكرون البعث، ويقولون: لا بعث، فقال الله لهم: (لا) فهناك بعث، ثم أكد هذا بقوله سبحانه: أقسم على ذلك بهذا البلد، هذا التأويل مبني على الربط بين السور ببعضها، وبين المعاني ببعضها، فهذا القول الأول، حاصله: أن (لا) نافية لشيء متقدم، ثم ابتدئ الكلام بقوله: أقسم على هذا المنفي بهذا البلد.

    ووجه الاعتراض على هذا القول الأول: أن الأصل أن كل سورة مستقلة بنفسها، ولا دليل على أن نربط بين السورة والأخرى إلا إذا جاء في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    القول الثاني: أن (لا) زائدة، ومثال ذلك في كتاب الله سبحانه وتعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الحديد:29] ، فقوله سبحانه: (لِئَلَّا يَعْلَمَ) المراد به: ليعلم، وقوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الأعراف:12] ، فالمعنى: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك، و(لا) زائدة على قول بعض العلماء.

    والشاهد من شعر العرب قول الشاعر:

    تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يتقطع

    فـ(لا) أيضاً هنا زائدة.

    واعترض على هذا: بأنه ليس في القرآن حرف زائد، وأجيب عن هذا الاعتراض: بأن القرآن نزل بلسان عربي مبين، ولغة العرب فيها أشياء زائدة كي يتكامل بها المعنى ويتسق.

    القول الثالث: أن (لا) نافية، لكن ليس لشيء متقدم، إنما هو للشيء الآتي، فالمعنى: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:1-2] يعني: لا أقسم بهذا البلد أثناء وجودك، وقد أحللت لك هذه البلدة كما سيأتي بيانه، يعني: لا أقسم بهذا البلد أثناء وجودك فيه في الوقت الذي أحللت لك هذه البلدة تفعل فيها ما تشاء.

    إذاً: هي ثلاثة أقوال للجمع بين قوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وبين قوله تعالى: وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:3] :

    أحدها: أن (لا) نافية لشيء متقدم.

    الثاني: أن (لا) زائدة.

    الثالث: أن (لا) نافية باعتبار ما هو آت، يعني: لا أقسم بهذا البلد حينما أحللت لك هذه البلدة.

    فقوله تعالى على فرض أن (لا) زائدة (أقسم بهذا البلد)، فيه أن الله أقسم بالبلد، وبعض العلماء يورد هنا، وما كان في مثل هذا المقام تقديراً محذوفاً، فيقول مثلاً: قوله تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1]، فيريد أن يفر من القسم بغير الله، وقال: إن الله لا يقسم إلا بنفسه، فقال: إن قوله تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1]، (وَهَذَا الْبَلَدِ) فيها تقدير محذوف (لا أقسم بهذا البلد) أي: أقسم برب هذا البلد، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1] أي: ورب الشمس وضحاها، وهذا القول قول ضعيف؛ لأنه إذا قلنا: إن المقدر ورب الشمس وما ضحاها، ورب القمر إذا تلاها، ورب النهار إذا جلاها، سنأتي إلى قوله تعالى: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [الشمس:5] سنقع في إشكال، فكيف نقول: ورب السماء ورب ما بناها؟! فالذي بناها هو الله، فهذا وجه تضعيف هذا القول.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( وأنت حل بهذا البلد )

    قال تعالى: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ [البلد:1-2] ما المراد بـ(أَنْتَ حِلٌّ)؟

    من العلماء من قال: إن (حِلٌّ) معناه: لست بآثم، كما تقول للشخص: أنت في حل من أمرك، أنت في حل من هذا الوعد، أنت لست بآثم إذا أخلفت هذا الوعد، وأنت لست بآثم إذا لم توف لي بهذا الأمر، فقوله تعالى: (وَأَنْتَ حِلٌّ) أي: وأنت في حل، وما المراد بهذا القول؟

    المراد أن مكة بلد حرام، حرمها الله على لسان نبيه إبراهيم صلى الله عليه وسلم، بل حرمها يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام إلى يوم القيامة، لا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها -لا يجوز لك أن تطير الحمام من الحرم- ولا يعضد شوكها، ولا يلتقط لقطتها، ولا يحمل فيها سلاح، ولا يقتل فيها الناس، فالبلد بلد حرام محرم.

    الرسول صلى الله عليه وسلم كانت مكة حراماً عليه كما أنها حرام على الناس، فيحرم على الرسول أن يرتكب فيها شيئاً من المذكور، لكنها أحلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار يوم الفتح، يفعل فيها ما يشاء، ويقتل من يشاء، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مكة بلد حرام حرمها الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شجره، ولا ينفر صيده) إلى آخر الحديث: (وإنها ما أحلت لأحد قبلي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار -أثناء فتح مكة- ثم رجعت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس إلى يوم القيامة) فأحلت مكة للرسول ساعة من النهار، قتل فيها بعض الناس، كما قال في شأن ابن خطل : (وإن وجدتموه متعلقاً بأستار الكعبة فاقتلوه)، فقوله: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:2] أي: وأنت في حل مما تصنع في الساعة التي أحللت لك فيها هذه البلدة عام الفتح، فهذا هو تأويل قوله تعالى: (وَأَنْتَ حِلٌّ) عند الجمهور، أي: جمهور المفسرين.

    وقول آخر: (وَأَنْتَ حِلٌّ) أي: قد استحل أهل هذه البلدة دمك، وهناك أقوال أخر لا نوصي بذكرها، المهم أن قول الجمهور هو الأول الذي سمعتموه.

    فعلى هذا اتضحت وجهة من قال: إن (لا) نافية لشيء آت، فلا أقسم بهذا البلد في الساعة التي أُحلت لك فيها هذه البلدة، إنما أقسم بهذه البلدة في سائر الأوقات، وهذه وجهة من قال: إن (لا) نفي لشيء آت.

    وهنا اعتراض على هذا التأويل وحاصله: إن هذه السورة -سورة البلد- مكية، وإنما أحلت مكة لرسول الله عام الفتح، يعني: بعد نزول هذه السورة، فكيف يلتئم الجمع بين أن السورة مكية وبين قوله تعالى: (وَأَنْتَ حِلٌّ) وهو إنما كان عام الفتح؟

    فأجيب بأن هذا أطلق باعتبار ما سيكون، كما في قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ [الزمر:30] ليس معنى (إنك ميت) ميت الآن إنما معنى إِنَّكَ مَيِّتٌ أي: ستموت، وكقوله تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ [النحل:1] ونحو ذلك.

    لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:1-2] (حِلٌّ) يعني: حلال فاصنع ما تشاء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( ووالد وما ولد )

    وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ [البلد:3] المراد بالوالد عند فريق من العلماء آدم صلى الله عليه وسلم وَمَا وَلَدَ ذريته.

    وقال فريق آخر من العلماء: إن (وَالِدٍ) هو إبراهيم صلى الله عليه وسلم، (وَمَا وَلَدَ) الأنبياء من سلالة إبراهيم، فكل الذين جاءوا بعده من ذريته، كما قال تعالى: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ [الزخرف:28] يعني: (وَمَا وَلَدَ) هم ذرية إبراهيم.

    قول ثالث: أن الوالد إبراهيم، (وَمَا وَلَدَ) إسماعيل وثم أقوال أخر، واختار الطبري رحمه الله تعالى العموم، فقال: إن الله أقسم بكل والد وما ولد، فإن (ما) هنا بمعنى الذي، فالمعنى: ووالد والذي ولده.

    ومن أهل العلم من قال: (وَوَالِدٍ) أي: رجل أنجب وَمَا وَلَدَ [البلد:3] أي: رجل لم ينجب، وهذا عليه قلة من المفسرين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( لقد خلقنا الإنسان في كبد )

    أقسم الله بهذا البلد، وبـوَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ على شيء، وهو: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4] كما أسلفنا قد يأتي ذكر الإنسان ويراد به الخصوص، وأحيانا يراد به العموم، فقال الله سبحانه وتعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1] وهو آدم إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ [الإنسان:2] وهم ذريته، آدم لم يخلق من نطفة، هنا يقول الله سبحانه: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4] المراد به عموم الإنسان، فكل بني آدم خلقوا في كبد، والكبد: المشقة والتعب والنصب والإرهاق، ومنه قول القائل: (كبّدت العدو الخسائر) أي: ألحقت به خسائر.

    قال الله سبحانه: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ فما هو هذا الكبد؟

    قالوا: التعب والمشقة كما أسلفنا، فالإنسان منذ أن خلق؛ والتعب والمشقة ملاحقة له، فعندما يخرج من بطن أمه يتلقفه الشيطان فيطعن في خاصرته فيصرخ كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا ويطعن الشيطان في خاصرته حين يولد فيستهل صارخاً إلا مريم وابنها) الحديث، ثم يبقى يجوع حيناً ويشبع حيناً، ثم تأتيه آلام الختان، وتأتيه آلام قطع السرة، وتأتيه آلام الفطام ومنعه من الثدي، وهذا من أشق الألم عليه، ويكبر شيئاً ما فيبتلى بأصدقاء سوء يضربونه ويظلمونه، ويذهب إلى المدرسة فيبتلى بالمعلم: لماذا تركت الواجب؟ ويضربه، ويذهب إلى البيت فيكلفه أبوه بأعمال إن تخلف ضربه، ويستمر فيه الكيد يمرض! يتعب! يشاك! يقوم، وهكذا لا تكاد تجد راحة حلت به إلا وتبعها بلاء، ولا تجد فرحاً نزل به إلا وتبعه حزن، وهكذا، تبدأ مشاكل الدراسة والنجاح والرسوب والمجموع وغير ذلك.

    ثم ينتهي من الدراسة فيبحث عن الوظيفة، ويبحث عن زوجة، فيتزوج ويحمل هم الأولاد والزوجة، وربما يبتلى بقوم ظالمين، إذا التزم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تستمر به البلايا في كل حياته، يشيب وبعد أن يشيب يبدأ بالانحناء والتدهور، كما قال القائل:

    يسر الفتى طول السلامة والبقاء فكيف ترى طول السلامة يفعل

    يرد الفتى بعد اعتدال وصحة ينوء إذا ما رام القيام ويحمل

    يأتي ليقف فيسقط بعد أن كان شابا قوياً، وهكذا! يبتلى بأمراض الشيخوخة التي لا تكاد تعالج إلا إذا أذن الله، ثم يبتلى بتلقف الملائكة له، هل تتلقف له بالرحمة أو تتلقف له بالعذاب؟! ويبتلى بفراق الأهل والأحباب ويدخل القبر ويبتلى في القبر ابتلاء أشد من ابتلاء المسيح الدجال، وفتنة أشد من فتنة المسيح الدجال، ثم كما قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ [يس:51] تدنو الشمس من رأسه يوم القيامة وتقترب، يبتلى بالموازين التي تقام ويوزن فيها الأعمال، يبتلى بالمرور على الصراط، وما أدراك ما الصراط؟!

    ويبتلى بقصاص المظالم بعد مروره على الصراط، ابتلاءات تلو ابتلاءات.. إلى أن يستقر إما في جنة، وإما في نار، فهكذا خلق الإنسان.

    أقسم الله سبحانه وتعالى على ذلك، فالإنسان لا يملك لنفسه من هذه الأمور كلها شيئاً، ومن ثم يعلم أن الأمور مقدرة، وأن أقدار الله سبحانه وتعالى تجري عليه رغماً عنه، لا يريد الشخص أن يكون فقيراً، ولا أن يخسر، ولكن يخسر رغماً عنه، ويمرض رغماً عنه، لا يريد الشخص أن يكون تعيساً، ولا أن يكون عقيماً، لكن رغماً عنه قدر الله ينفذ فيه شاء أم أبى، كلنا يكره الموت، ولكننا كلنا سنموت، فهذا بعض ما ورد في قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4].

    كل بني آدم على هذا النحو، لا ينجو منهم رئيس ولا مرءوس، بل تجد هم الرئيس أكبر من همك آلاف المرات، لا يكاد ينام نوماً هادئاً هنيئاً: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ، يتكبد المشاق في جمع المال، ثم يتكبد المشقة في حراسة هذا المال!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( أيحسب الإنسان أن لن يقدر عليه أحد )

    قال الله تعالى: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ [البلد:5] نحن الذين خلقناه في كبد، وهذه الحال التي خلق عليها، أفيحسب الإنسان أنه يعجزنا أو يفوتنا وأننا لن نقدر عليه، ولن نقبضه ولن نعيده مرة ثانية حياً بعد موته؟!

    أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ .

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( يقول أهلكت مالاً لبداً )

    قال الله تعالى: (يَقُولُ) هذا الإنسان أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا [البلد:6] أي: أنفقت مالاً كثيراً، فاللبد: الكثير المجتمع، وقريب منه قوله تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19] تكالبوا عليه واجتمعوا حوله يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا أي: أنفقت مالاً كثيراً، ومن القائل أهلكت مالاً لبداً؟

    من العلماء من قال: إن القائل: أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا هو الكافر، يقول الكافر من الكفار: إنني أهلكت مالاً كثيراً في عداوة محمد عليه الصلاة والسلام، كما ذكر في بعض التفاسير أن امرأة أبي لهب كان لها قلادة من ذهب، فباعتها كي تنفق ثمنها في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا قول وراد في التفاسير، فالكافر يقول: أنا أنفقت مالاً كثيراً في عداوة الإسلام وأهله، وعداوة محمد، والمنافق يقول للمسلمين: إنني أنفقت مالاً كثيراً في الخير، مرائياً بهذا المال ومسمعاً، فهذه بعض الوجوه في تفسيرها.

    (يَقُولُ) الإنسان بعمومه إما الكافر وإما المرائي، وقد يقولها المؤمن ليس على سبيل الرياء.

    أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ [البلد:7] هذا الكافر يزعم أنه أنفق أموالاً طائلة ويتباهى بذلك أمام الكفار، أيظن أن أمره قد خفي علينا، وأننا لا نراه؟!

    فكذلك المنافق الذي أنفق الأموال مرائياً ومسمعاً، أيحسب أننا لن نراه؟!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( ألم نجعل له عينين... )

    قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ [البلد:8] العينان تشهدان على الكافر بما صنع، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ [البلد:9] فإن كنت -أيها الكافر- تظن أن أحداً لم يراك، وأنت تنفق في عداوة الأنبياء وعداوة أهل الصلاح فاعلم أن الله يراك، ثم جوارحك أيضاً شاهدة عليك، كما قال تعالى: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:21] .

    أما المتباهي بكثرة إنفاقه في سبيل الله فالتوجيه أن يقال له: إن من نعمه عليك ما أكثر من إنفاقك، فإذا كنت تدعي أنك أنفقت مالاً كثيراً لنصرة الدين فإنا قد جعلنا لك عينين، ولساناً وشفتين، والنعمة الواحدة من هذه النعم تغطي على كل ما أنفقت: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ [البلد:8-9].

    وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10]الهداية هنا: هداية الدلالة لا هداية التوفيق، فقد تقدم أن الهداية هدايتان:

    هداية الدلالة، ويملكها البشر بإذن الله، قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] ، إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [الرعد:7] ، وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات:19] أي: أدلك على عبادة ربك فتحصل على الخير، فالهداية هنا هداية الدلالة، يملكها البشر بإذن ربهم.

    أما هداية التوفيق فلا يملكها إلا الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].

    قوله تعالى: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ أي: وضّحنا له الطريقين، وبينا له أعدل الطريقين: طريق الخير وطريق الشر، بيناهما له، كما قال تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ) أي: أوضحنا له الطريق إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:3] ، وأصل النجد: المكان المرتفع، والنجود هي: الأماكن المرتفعة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( فلا اقتحم العقبة... )

    قال تعالى: فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [البلد:11] من العلماء من قال: إن الهمزة هنا محذوفة، وهي: أفلا اقتحم العقبة، والمعنى: بعد إنعامنا عليه أفلا عمل أعمالاً يقتحم بها هذه العقبة ويتجاوزها.

    ومنهم من قال: هي نافية، فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ [البلد:11-13].

    لا يظن شخص أن تفسير العقبة: فك رقبة، وهذا خطأ يقع فيه كثير من الناس، يقول: وما أدراك ما العقبة؟! فك رقبة، العقبة شيء، وفك الرقبة سبب من أسباب اقتحام العقبة، وهذا الوهم يقع فيه كثير من الناس، مثلاً تقدم في قوله تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ [المطففين:19-20] فيتوهم البعض أن كتاب مرقوم تفسير لعليين، إنما المراد كما قال تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ [المطففين:18-19] تفخيم لشأنها وتعظيم لقدرها، وهنا كذلك: فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ، أي: ما عمل أعمالاً تجعله يقتحم العقبة ويتجاوزها.

    وما هي العقبة؟

    من أهل العلم من قال: هي عقبة يوم القيامة، يمرها ويقطعها كل شخص، المؤمن يقتحمها ويتجاوزها، والكافر يسقط فيها.

    ومن العلماء من حملها على الصراط، فالمؤمن يتجاوزه ويمر عليه، والصراط عقبة أيضاً، والكافر يسقط فيه، والناس يمرون عليه بحسب الأعمال، فهذا قول قوي.

    ومنهم من قال: إن العقبة جبل في النار، وهو المذكور في قوله تعالى: سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا [المدثر:17] أي: سأتعبه -أي: هذا الكافر- في الصعود على هذا الجبل، مع أنه في نار، ويضاف إلى عذابه في النار إرهاقه.

    فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ فلا عمل أعمالا تجعله يقتحم العقبة ويتجاوزها، ثم فخم شأن العقبة فقال الله سبحانه وتعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ما هي الأعمال التي تجعل الشخص يقتحم هذه العقبة؟ قال الله سبحانه: فَكُّ رَقَبَةٍ من الأعمال التي تجعلك خفيفاً تتجاوز هذه العقبة عتق الرقاب، إما العتق أو المساهمة في العتق، قال تعالى: أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ [البلد:14] والمسغبة: المجاعة، أي: يوم جاع فيه الناس، واعتراهم جوع شديد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( يتيماً ذا مقربة )

    قال تعالى: يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ [البلد:15] ذا قرابة منك، ففيه أن الإنفاق على الأقارب الأيتام مقدم على الإنفاق على غيرهم إذا تساوت الحاجة، يعني: هنا يتيم في ظروف معينة قريب لك، ويتيم آخر ظروفه نفس الظروف بعيد منك، فالقريب هو الأولى، الأقربون أولى بالمعروف دوماً، وفي المعنى أيضاً قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة:123] الأقرب فالأقرب.

    يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ : قدم اليتيم على المسكين، وقد جاءت جملة آيات تحث على الرفق باليتيم، والله يقول: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ [الضحى:9] ، كَلَّا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ [الفجر:17] ، أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ [الماعون:1-2] الذي يدع اليتيم رجل ضعيف الإيمان، يكذب بالدين، وفيه خصال سيئة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( أو مسكيناً ذا متربة )

    قال الله تعالى: أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد:16] ما معنى (ذَا مَتْرَبَةٍ)؟

    أي: ألصقته المسكنة والفقر بالأرض، فأصبح لا يملك شيئاً إلا التراب، فـ(مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) يعني: هو مسكين لا يمتلك أي شيء إلا التراب، فالمسكين الذي ألصقه الفقر وألصقته المسكنة بالتراب، فأصبح لا مأوى له إلا التراب، وفيه دليل على أن الشخص عند الإنفاق يتحرى الأحوج كي يعطيه، فمثلاً يعمد قوم إلى زكوات أموالهم فيتصرفون فيها، وفي الحقيقة أن زكاة الأموال ليس من حقك أن تتصرف فيها كما تشاء، إنما هي كما قال تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25]، فواحد مثلاً يأتي ويقول لك: يا شيخ! إن لي أختاً متزوجة، وحالتها غير متيسرة، فهل يجوز أن أعطيها الزكاة؟ فأنت قد تفتيه بالجواز؛ لأنها بحاجة لا تكفيها؛ ولأنها لا تلزمه نفقتها، فيجوز أن تكون مصرفاً للزكاة، وهي أولى، لكن ينبغي النظر إلى المستوى واليسر الذي يسأل عنه الشخص، فهو قد يقول: إنها لا تأكل في كل أسبوع لحماً، ويكون هناك أفقر منها لا يرى اللحم إلا في المواسم، بل يكون هناك من لا يرى اللحم حتى في المواسم، فيقدم الشخص الفقير في هذه الحالة على الأخت التي في بيتها تلفاز ولكنها لا تأكل لحماً إلا في كل شهر مرة، فهذه الآية الكريمة أشارت إلى هذا المعنى.

    الفقير أشد فاقة من المسكين

    فإذا أردت أن تتصدق فتحرى الأحوج وأعطه المال، حتى يعظم لك الأجر عند الله سبحانه وتعالى وتأخذ أجرك مستوفياً.

    هل هناك فرق بين المسكين والفقير؟

    الجمهور يقولون: الفقير أشد من المسكين، واستدلوا بقوله تعالى: وأَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79]، وقالوا: المسكين يجد شيئاً، ولكن الشيء لا يكفيه، هذا رأي الجمهور، واعترض على هذا الرأي بأن الله قال: (مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) وهنا المسكين ليس له أي شيء، وجمع بين الأقوال بأن قيل: إن اصطلاح المسكين والفقير قد يأخذ كل منهما معنى الآخر، إذا افترقا اجتمعا، يعني: إذا جاء المسكين في سياق ليس معه الفقير يأخذ معنى المسكين والفقير، وإذا جاء ومعه الفقير في سياق واحد، يكون الفقير أقل حاجة من المسكين، فهنا المسكين جاء في السياق وحده، لم يرد معه ذكر للفقير، فأخذ معنى الفقير والمسكين، وهو كاصطلاح البر والتقوى، فالبر إذا جاء منفرداً أخذ معه معنى التقوى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]، فالبر أخذ معنى التقوى في بعض الأعمال.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( ثم كان من الذين آمنوا... )

    قال الله تعالى: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [البلد:17] ما هو وجه إيراد قوله تعالى: (ثم) هنا؟

    من المعلوم أن الشخص الكافر إذا عمل عملاً لا يقبل منه هذا العمل إلا إذا كان مؤمناً في الأصل، وإلا عمله حابط، فلماذا أخر الإيمان هنا عن العمل مع أن جل الآيات الأخر تربط الإيمان بالعمل كقوله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وهنا: إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد:14-17] وثم موضوعه في أغلب الأحوال للترتيب مع التراخي؟

    فأجاب بعض العلماء بأجوبة، منها:

    أن (ثم) لترتيب الذكر، وليس للترتيب الزمني، كقول الشاعر:

    قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده

    (قل لمن ساد ثم ساد أبوه) وأبوه كان سيداً (ثم قد ساد قبل ذلك جده) فـ(ثم) للترتيب الذكري.

    القول الثاني: أن (ثم) بمعنى الواو، أي: أطعم وكان مؤمناً وكان من الذين آمنوا.

    القول الثالث: إنه فعل هذه الصالحات في جاهليته، فأثبتت هذه الأفعال الصالحة التي في جاهليته، فلما آمن انتقلت معه هذه الخصال الطيبة إلى إسلامه، فأصبح أيضاً بعد إسلامه كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أسلمت على أسلفت من خير)، هذه وجوه ثلاثة، وهناك وجوه أخر. وقوله تعالى: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3] أي: أوصى بعضهم بعضاً، الصبر: الصبر على المصائب، والصبر على الطاعات، هذه نصوص عامة، فالتواصي بالصبر من شيم أهل الإيمان والصلاح وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا [العصر:1-3] أي: أوصى بعضهم بعضاً بالصبر، بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3].

    يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ [لقمان:17] فلقمان يوصي ولده بالصبر .

    وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ المراد بالمرحمة: رحمة الناس والرفق بهم، فالشدة على الناس الأصل أنها مذمومة إلا في حالات واستثناءات إذا رأيت أن الشدة تنفع في هذا المقام، وإلا فالأصل أن الناس يتراحمون بينهم، كما قال تعالى في الحديث القدسي: (إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل رحمة واحدة، فبها يتراحم الخلق فيما بينهم، حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها) وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ وفي هذه الجزئية فقه متسع، المقام لا يتحمله وتفسير السورة لا يتحمله.

    أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ [البلد:18] أي: أصحاب اليمين الذي يتلقفون الكتب -كتب الأعمال- بأيمانهم، ومن ثم يقولون: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [الحاقة:19].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة )

    قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ [البلد:19] أي: الشمال الذي يتلقفون كتبهم بشمائلهم عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ [البلد:20] أي: مغلقة مطبقة، تطبق عليهم ولا تفتح، ليست ناراً مكشوفة إلى السماء، بل نار تغلق عليهم والإحراق داخلها.

    وفقنا الله لما يحب ويرضى.

    1.   

    الأسئلة

    حال حديث: ( إن الله يبغض المرأة...)

    السؤال: ما مدى صحة حديث (الله يبغض المرأة......

    الجواب: لا أعرف له سنداً.

    جواز تأديب الطفل بالضرب وهو دون العاشرة

    السؤال: يقول لي زوجي: إن ضرب الأطفال وتأديبهم لا يكون إلا عند سن العاشرة قياساً على أمر الصلاة، فما مدى صحة ذلك، خاصة أني أخاف أن أتركهم بغير أن أضربهم عندما يخطئون فيفشلوا؟

    الجواب: الذي يضبطنا في هذا الباب العمومات، منها قوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205] ، إذا كان الطفل مؤذياً، يسرق، يعبث، ولا ينكف إلا بالضرب، شرع أن يضرب لتقليل المفاسد، فالله سبحانه وتعالى لا يحب الفساد، وإذا تركنا الأمر على ما يريد هذا الزوج، انطلق الأطفال للعبث والسرقة والضياع كما قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الحديد:25] فالموعظة إذا لم تنفع استعمل الضرب أحياناً، فعموم الآيات ثم إطباق أهل العلم على ذلك إذا كان لمصلحة التأديب، فهذا مما يدفع قول هذا الزوج.

    حكم سفر المرأة بدون محرم

    السؤال: هل يجوز للمرأة أن تسافر بدون محرم لطلب علم خاصة وأنها سوف تستغرق يوماً واحداً؟

    الجواب: إذا دعت الضرورة إلى ذلك جاز، وفي الحقيقة أن هذه قضية خاصة ما أدري هل نفتي بها أو نمسك بها بعض الشيء؟! لأنها تعتبر كفتوى وتقدر بقدرها، فمثلاً: الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن سفر المرأة بدون محرم، فهل ينظر إلى العلة من نهيه عليه الصلاة والسلام أو يوقف مع النظر ويغض الطرف عن النظر إلى العلة؟

    فهذه مسالك للعلماء: فمن العلماء من ينظر ليس في هذه المسألة لخصوصها، بل ينظر في عموم الأحاديث إلى العلة من وراء هذا الحديث.

    وبعض العلماء يقف على متن الحديث، ويبني عليه الحكم دون نظر إلى ما وراءه من العلة، فمثلاً: الخلط والنبذ، فمثلاً: الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن نبذ الخليطين، يعني: أن تأتي بتمر وزبيب، وتنقع هذا مع هذا، هل أبني على هذا أنك إذا طرحت زبيباً وتمراً في ماء يحرم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخليطين أو أمعن النظر في سبب النهي وأدور مع العلة كما تدور؟!

    فمثلاً من العلماء من قال: إن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نبذ الخليطين لأنه -يعني: التمر والزبيب- إذا نقعا معاً يسرع إليهما التخمر، فقد تأتي تشرب الشيء المنبوذ وتظن أنه لا يسكر فتفاجأ أنه قد أسكر.

    ونظر فريق منهم إلى العلة وقال: إن الشراب حلال ما لم يصل إلى حد الإسكار، وأجرى هذا المجرى في حديث النهي عن الانتباذ في الظروف، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الانتباذ في الحنتم والمقير والمزفت والنقير؛ لأن هذه القدور تسرع بالنبيذ إلى الإسكار، ثم في آخر الأمر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن الانتباذ في الظروف فانتبذوا ولا تشربوا مسكراً)، فهل ينسحب هذا على الخليطين أيضاً، أي: اخلطوا ولا تشربوا مسكراً؟!

    الشاهد: أن من العلماء من يدور مع العلة من وراء هذه الأوامر، ومنهم من يقف عند الحديث.

    مسألة: سفر المرأة بدون محرم، إذا كانت هناك ضرورة يجوز للمرأة أن تسافر بدون محرم، إذ الضرورات تقدر بقدرها، والضرورة تجيز للشخص أن يأكل الميتة، وقد قال الله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] .

    ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن تسافر المرأة مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها محرم، وورد أنه نهى أن تسافر المرأة مسيرة ليلتين إلا ومعها محرم، وورد أنه نهى أن تسافر المرأة مسيرة ليلة إلا ومعها محرم، وورد أنه نهى أن تسافر المرأة مسيرة بريد إلا ومعها محرم، وورد أنه نهى أن تسافر المرأة دون قيد إلا ومعها محرم.

    فبالنسبة للناحية الأصولية: هل المطلق يحمل على المقيد؟

    نقول: إن الروايات المطلقة كحديث ابن عباس نهى أن تسافر المرأة بدون محرم قيدتها الروايات الأخرى بالليلة أو الليلتين أو الثلاث أو البريد، ونقول: ما دون ذلك يجوز للمرأة أن تسافر أو أن الروايات المطلقة قضت على الروايات الأخر، وغطت عليها كما قال النووي وابن حزم، روايات ابن عباس هي القاضية على الروايات كلها التي فيها أن النبي نهى أن تسافر المرأة إلا ومعها محرم؟!

    فهذه جزئية ينبغي أن تحرر بشيء من الدقة، والقول فيها ليس واحداً، وإن كنا نجنح إلى قول النووي رحمه الله تعالى.

    جزئية أخرى: هل ينظر إلى مخرج حديث الرسول عليه الصلاة والسلام في الوقت الذي قال فيه الرسول هذه المقولة أو لا ينظر؟

    يعني: الرسول قال الحديث في وقت خطورة الأسفار، وفيها صحاري يعني: إذا سافرت من المدينة إلى خيبر -مثلاً- فهي مسافات شاسعة تمشيها المرأة منفردة، لا بد حتى لو مشت ساعة واحدة أو نصف ساعة أن يتسلط عليها شرير، فيعبث بها وينصرف ولا أحد يعلم، ولا رقيب إلا الله سبحانه وتعالى، فكون المرأة معرضة للفساد لا شك أنه متحقق في مثل ذلك الموطن، لكن لو أن شاباً أعزب في السعودية عقد على امرأة هنا في مصر، هو مصري يعمل في السعودية وعاقد على امرأة في مصر، وأراد أن يأتي بزوجته، فهو يقول في نفسه: وجودي بدون زوجة أخشى على نفسي الفتنة، خاصة إذا كان في بلد فيه نساء متبرجات، قال: أخشى على نفسي الفتنة، وزوجتي في بلدتي أخشى عليها أيضاً الفتنة، وهو يريد أن تأتي إليه زوجته.

    ويقول: أنا أرغب أن آتي بها، لكن أموالي لا تسمح لي أن آتي بها مع محرمها، فهذا يكلف مبلغاً ليس قليلاً، هل أصبر على ما أنه فيه من العنت، وهي تصبر، أو يجوز لأخيها مثلاً أن يوصلها إلى المطار وأنا أستقبلها في مطار السعودية، والرفقة الآمنة موجودة في الطائرة، والتواطؤ على الفاحشة صعب في مثل هذا الموقف، فهل تتنزل على مثل هذه الحالة أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم التي صدرت على قوم كانوا في البادية أو لا تتنزل؟

    والكلام هذا لا نقوله في محاضرة عامة، بل نقوله في وسط إخواننا طلبة علم، فنقول: العلماء إذا سئلوا في فتاوى عامة بمثل هذه المسائل لا بد أن تصدر منهم فتوى تسد الذريعة، يعني: إذا قال العالم: جائز للمرأة أن تسافر في الطائرة بدون محرم، فقد تسافر بنت من القاهرة إلى باريس لوحدها، وتقول: لأن العالم الفلاني أفتى، فمثل هذه المسائل تكون جرعات من الدواء تقدم للمريض بقدر حاجته.

    فأظن -والله أعلم- أن الباب لا يقفل مرة واحدة أمام الاجتهاد وأمام مراعاة المصالح الأخرى، فإنه يخاف أن تقع البنت في الفاحشة مع جارها المؤذي، أو مع ساكن آخر في البيت، وهو أيضاً يخاف أن يقع في فاحشة مع امرأة متبرجة في البلدة التي هو فيها، فتصدر فتوى بقدر الحاجة إليها، لا أسد الباب قولاً واحداً وأقول: لا تذهب، ولا يفتح الباب فتصدر فتوى عامة لعموم الناس فيظنون أنه يجوز السفر بدون محرم.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756000721