إسلام ويب

دروس وعبر من قصة يوسفللشيخ : مصطفى العدوي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الابتلاء من سنن الله التي لا تتبدل ولا تتغير، ويكون عظم الابتلاء على قدر عظم منزلة المبتلى عند الله، ومن القصص القرآني الوارد في الابتلاء قصة يوسف عليه السلام وما لقي من الظلم على يد إخوته في صباه، وما لقيه من السجن في شبابه بسبب كيد امرأة العزيز، وقد جاءت هذه القصة تسلية لنبينا صلوات الله وسلامه عليه وتثبيتاً له.

    1.   

    صبر المؤمن في الضراء وشكره في السراء

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [الأحزاب:70] * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:71].

    وبعد:

    فما زلنا مع سيرة نبي الله يوسف صلى الله عليه وسلم، نستمد منها الإيمان، والأدب، والحلم، والوقار صلوات الله عليه وسلامه وعلى نبينا محمد وعلى سائر الأنبياء والمرسلين أجمعين.

    فَسّر نبي الله يوسف للسجينين رؤياهما، ثم: وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [يوسف:42]، هكذا قدّر الله سبحانه وتعالى، وكما هو معلوم لدى أهل الإيمان أن قدر الله سبحانه وتعالى للمؤمنين خير إن هم رضوا بهذا القدر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء فشكر فكان خيراً له)، فهذا حال المؤمن أمام النعم وأمام الابتلاءات، إن مرض حمد الله فأثيب، وإن رُزق حمد الله فأثيب كذلك، وهذا أمر المؤمن الذي يتعجب منه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

    إن القضاء الشرعي الديني والقضاء الكوني القدري في كل منهما للمؤمن خير، وهو إن امتثل للقضاء الشرعي الديني بامتثال الأوامر التي أمر بها والانتهاء عن النواهي التي نهي عنها فله في ذلك خير، وإن جهلنا الحكمة التي وراءه.

    قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً فجعل الفراش يقع فيها، وأنا آخذ بحجزكم أن تتساقطوا في النار)، أي: أننا لخفة عقولنا ولجهلنا بعواقب الأمور ومآلها كالفراش، فالفراش مشهور بالطيش وخفة العقل، يرى النار الموقدة يحسبها نوراً فيأتي إليها فيحترق، ونحن كذلك نرى الشهوات فإذا أقدمنا عليها وقعنا في جهنم والعياذ بالله! ونبينا يأخذ بحجزنا وأحزمتنا كي لا نتساقط فيها، ونحن نجادل ونفر من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نقع في هذه النار ونحن لا نشعر، فنظرنا قاصر.

    وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله الجنة قال لجبريل: يا جبريل! اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، فقال: والله يا رب، لا يسمع بها أحد من الخلق إلا دخلها أو عمل لها، ثم حفها بالمكاره، فقال لجبريل: يا جبريل! فانظر إليها، فذهب ينظر إليها ثم رجع، فقال: يا رب، والله لا يسمع بها أحد -أي: بعد هذا- إلا فر منها، ولما خلق الله النار، قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر، فقال: والله لا يا رب! لا يسمع بها أحد إلا فر منها، ثم حفها بالشهوات، فقال: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، فقال: والله يا رب -بلفظ قريب- لقد خشيت أن يدخلوها جميعاً) ، فالنار محفوفة بالشهوات، والنفس تواقة إلى هذه الشهوات، فإذا امتثلنا أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم الذي به أمرنا نجونا ولله الحمد وإن خفيت علينا العلل، وكذلك إذا رضينا بقدر الله الذي قدره علينا رغم أنوفنا فلله الحمد؛ نكون قد سلمنا وغنمنا وارتفعت درجتنا، ولكن هذا وذاك كلاهما مقيد بقيد طاعة الله ورسوله، أي: بأن نكون مطيعين لله مخلصين له الدين، فإن أصبنا بابتلاءات ونحن عصاة فهذه الابتلاءات تكون نقماً والعياذ بالله!

    الشاهد: أن الصديق يوسف صلى الله عليه وسلم أراد أمراً وأراد الله أمراً آخر.

    قال تعالى: وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [يوسف:42]، فالسجن بؤسه شديد والعياذ بالله! والسجن لا يتحمله إلا الصابرون؛ فقال: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [يوسف:42]، راجياً بذلك الخروج من السجن، ولكن لم يرد الله له ذلك في ذلك الوقت، فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [يوسف:42]، هذا قضاء الله وقدره، وربنا ليس بغافل عن يوسف وعن الهم الذي أصيب به، ولا عن الكرب والنكد والهم الذي يعانيه يوسف عليه الصلاة والسلام.

    فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [يوسف:42]، والأمور يدبرها ربنا، فهو الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، وله ملائكة يدبرون الأمر بإذنه، وقد اقترب الفرج وأراد الله ما أراد من إنجاء نبيه يوسف صلى الله عليه وسلم بعد أن نال من الحسنات ما نال بصبره على هذا البلاء الطويل في السجن من أجل عفته وطهارته ونقائه، فالهم الذي ينزل بالشخص يثاب عليه الشخص إن هو رضي بقضاء الله وقدره، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما يصيب المؤمن من هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا حط الله بها من خطاياه كما تحط الشجرة ورقها)، في رواية: (حتى الهم يهمه)، فالهموم والأحزان لها ثواب إن صبرنا واحتسبنا.

    1.   

    تأويل يوسف لرؤيا الملك

    غنم يوسف عليه الصلاة والسلام من الحسنات ما غنم، ثم أراد الله نجاته، قال تعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ [يوسف:43]، فالله سبحانه وتعالى أرى الملك هذه الرؤيا لحكمة، فالذي يدبر الأمر هو الله، وهذا يستفاد منه أن الفرج يأتي من حيث لا تحتسب، فإن رؤيا رآها شخص في منامه كانت سبباً في تفريج كرب شخص وهو لا يشعر.

    وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ [يوسف:43]، سبع بقرات سمان وفي جوارها سبع بقرات ضعاف هزال نحاف، فإذا بالسبع الضعاف النحاف يأكلن السبع السمان، فهذا أمر على غير المعتاد، فالمفترض أن البقرة السمينة هي التي تعتدي على الضعيفة الهزيلة، ولكن الأمر على غير ذلك، فلفت نظر الملك ذلك، قال تعالى: سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ ، قال بعض أهل اللغة، الأصل: أن السبع الآكلة هي التي تتقدم بالذكر: إني رأيت سبع بقرات هازلة تأكل سبعاً سمينة، لكن قدمت السبع السمان لعلة فهم منها ما فهم يوسف عليه الصلاة السلام.

    إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ [يوسف:43]: هذه رؤيا غريبة من الملك استحوذت على قلبه وعقله وكل فكره، وكونها تستحوذ على قلبه وعقله وكل فكره فهذا من الله، فقد نرى رؤيا وتمر مروراً عابراً، لكن هذه رؤيا عظمها ربنا سبحانه عظمها وعظم شأنها عند هذا الملك، فلم يهدأ للملك بالٌ ولم يستقر له حال حتى يقف على أمر هذه الرؤيا، فقال للملأ: (يا أيها الملأ..) أي: يا أيها الأشراف.. يا رجال الدولة.. يا أيها السادة.. يا أهل الرأي والمشورة.. يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ [يوسف:43].

    فقالوا مقولة أهل الجهل، فالجاهل دائماً يتلقن تحت أي ستار. قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ [يوسف:44]، وكان من اللائق أن يقولوا: الله أعلم. وأن يكلوا العلم إلى الله سبحانه وتعالى، فلا يضربوا سريعاً بالغيب ويقولوا: أضغاث أحلام، وقد قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (الرؤيا على ثلاثة أنحاء: حديث للنفس، ورؤيا من الله، وحلم من الشيطان يخوف الله به أولياءه، أو تهاويل وتخاويف من الشياطين).

    قالوا أضغاث أحلام، أي: أغلاط، وليست من الرؤيا الحقة في شيء، فلا تقف عندها ولا تفكر فيها.

    قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ [يوسف:44-45]، أي: أنه تذكر يوسف صلى الله عليه وسلم إذ هو الذي فسر له الرؤيا التي فيها نجا.

    قال تعالى: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ [يوسف:46] المفهوم من السياق: أنهم آكدوا له في الذهاب إلى يوسف، فدخل قائلاً مثنياً على يوسف عليه السلام: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ : وفيه جواز الثناء على الأشخاص بما هو فيهم، إذا لم يكن يقطع الثناء أعناقهم.

    يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أي: يا كثير الصدق، أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ [يوسف:46].

    فتكلم يوسف مفسراً الرؤيا مباشرة ولم يعاتب هذا السجين بقوله: لمَ لم تذكرني عند ربك؟ لأنه نبيٌ يعرف أن الأمور مقدرة، فلم يقف وقفات طويلة ينتقم بها من السجين، ولم يطلب أجراً لتعبير الرؤيا فهو نبيٌ كريم عليه الصلاة والسلام! ولم يطلب خروجاً من السجن أيضاً، وقال: أنا أذهب إلى الملك فأعبر الرؤيا أمامه بنفسي، كلا وحاشاه عليه الصلاة والسلام، ولم يدعه مرة ثانية إلى التوحيد بعد أن دعاه وفصل فيه من قبل، فهذه الدعوة حينئذٍ قد تكون بمقابل، فقد قدم من النصح ما فيه كفاية من قبل.

    قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا أي: متتابعة متواصلة تثمر فيها أرضكم، ثم أرشدهم إلى العلاج بلا طلب منهم، قال لهم: فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ هذا ليس من تأويل الرؤيا، إنما هو علم زائدٌ أفادهم به يوسف صلى الله عليه وسلم.

    قوله: فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ [يوسف:47]، ليس من الرؤيا، إنما هو من التدبير والوقاية، فكما يقول أهل العلم وأهل الأصول: فيه جواز إجابة السائل بأكثر مما سأل إذا كان ينتفع بالجواب، وأخذ العلماء ذلك من مجيء فاطمة بنت قيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، تستشيره فقالت: (يا رسول الله! إن معاوية وأبا جهم خطباني فأيهما أتزوج؟ قال عليه الصلاة والسلام: أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، ولكن انكحي أسامة بن زيد ) وهناك أدلة متعددة على جواز إجابة السائل بأكثر مما سأل إذا كان فيه نفع للسائل وليس فيه ضرر على أحد.

    فقال يوسف: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا [يوسف:47]، هذه هي السبع السنوات الخصاب التي هي السبع البقر السمان، فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ [يوسف:47]، أخذ العلماء من هذه الآية طريقة من طرق الادخار، وهي إبقاء الحب في السنبل ليبقى سنوات طويلة، فالحصاد يبقى سنوات متعددة إذا بقي الحب في السنبل.

    قال تعالى: قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ [يوسف:47]، أي: اتركوه في سنبله ولا تحصدوه.

    قال تعالى: إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ أي: إلا على قدر الحاجة للطعام فقط، والباقي تبقون عليه في السنبل.

    قال تعالى: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ [يوسف:48]، وهن السبع العجاف، يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ أي: يأكلن المدخر كله.

    إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ [يوسف:48]، (مما تحصنون) أي: مما تدخرون للبذر في الأرض مرة ثانية.

    ثم أضافهم يوسف علماً ليس بالرؤيا، فقال: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ [يوسف:49]، فهذا لم يره الملك في رؤياه، وإنما رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، ورأى سبع سنبلات خضر وآخر يابسات، ولم ير العام الذي فيه يغاث الناس، لكن فهم يوسف عليه السلام أن بعد السبع العجاف فرج ورخاء بما علمه الله، فقال: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ أي: يأتيهم الغيث واسعاً كثيراً، وَفِيهِ يَعْصِرُونَ [يوسف:49]، لدرجة أن العنب يثمر ثمراً زائداً، ويبدأ الناس في عصره لصنع الخمر مرة ثانية، فكان الخمر مباحاً آنذاك، بل كان الخمر مباحاً في صدر الإسلام إلى أن نزل تحريم الخمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد امتن الله بذلك على هذه الأمة في صدر الإسلام، فقال: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا [النحل:67]، إلى أن نسخ هذا الحكم.

    1.   

    ظهور براءة يوسف عليه السلام

    قال تعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ [يوسف:50]، فطلبه الملك ولم يرد يوسف أن يخرج إلا بريئاً صلى الله عليه وسلم، وهذا فيه دليل على أن الإنسان يدفع الشبهات عن نفسه، ولا يعتقد أنه بدفع الشبهة أنه ناج، بل الذي ينجي هو الله: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38]، دفع الشبهات إنما هو من باب الأخذ بالأسباب فقط، وإلا فقد تثبت الشبهة عند دفعك لها، ولكن تعلمنا من نبينا عليه الصلاة والسلام أن ندفع الشبهات عن أنفسنا مع اعتقادنا أن البريء من برأه الله.

    فالنبي صلى الله عليه وسلم : (عندما مر به رجلان من الأنصار وهو واقف مع صفية بنت حيي زوجته يكلمها عند باب المسجد، فلما رآه الأنصاريان أسرعا المسير فناداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لهما: على رسلكما، إنها صفية بنت حيي ، قالا: سبحان الله؟ وهل نشك فيك يا رسول الله؟ قال عليه الصلاة والسلام معلماً لهما وللأمة كلها: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً أو قال: شراً).

    فقد يحملك الشيطان على الوقوف مع امرأة في مكان خفي، أو يحملك الشيطان على الذهاب إلى امرأة زوجها غائب أو مات عنها زوجها، ثم يحمل إخوانك على الظن السيئ بك.

    فيوسف الصديق عليه الصلاة والسلام -ومشارب الأنبياء واحدة، وكلهم يستقون من الوحي النازل من السماء- لم يرد أن يخرج وهو متهم أبداً، بل قال لمن دعاه: ارجع إلى ربك.. أي: ارجع إلى سيدك كما أخبر الله بذلك في قوله: قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ أي: ما شأنهن وما حالهن؟ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ [يوسف:50].

    تحقيق الملك في قضية يوسف عليه السلام

    قال تعالى: قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ [يوسف:51]، دليل على أن الملوك لا يعرفون دقائق الأمور، فالملك كان لا يعرف دقائق الأمور، فغاية ما يظن أنه قيل له: عبد جميل فتنت به امرأة العزيز، لكن لا يتصور الجمال ولا يتصور الأحداث، أو قال: عبد جميل حاولت الاعتداء عليه امرأة العزيز، فحاشية السوء تزين للملك أن يفعل الذي تريد.

    ولذلك كان من نعم الله على الملوك والوزراء أن يقيض الله لهم بطانات صالحة وجلساء من أهل الصلاح، فإن الشخص الذي يكثر من الكلام على مسامعك يؤثر فيك بلا شك، فإن كان من أهل الصلاح فإنه يدلك على الخير، وإن كان من أهل الشر والفساد فإنه يدلك على الشر والعياذ بالله!

    قال عليه الصلاة والسلام: (ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كان له بطانتان، بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالسوء وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله تعالى)، فجدير بكل منا أن ينتقي جلساءه وكل من يستمع إليهم، فلا تسمع لكل أحد أبداً، فإن أحداً من الناس قد يؤيدك على فعل الشر، فيسمع كلمة طيبة من أحد إخوانك الطيبين، فتنزل على قلبه كالبرد ترطب قلبه ويذهب الله بها الغضب عنه، ويقمع الله بها الشيطان، وآخر قد يكون في منتهى الهدوء والسكينة ولكن يأتيه آت شرير مفسد بكلمة تعكر عليه صفو حياته كلها، وتعكر عليه فكره، وترديه في الشر والعياذ بالله.

    فلذلك لا تسمع من كل أحد، ولا تصغِ إلى كل أحد، بل اسمع إلى المتقين وأهل الفضل والصلاح، واعرف أحوال الناس، فهناك أناس لا يأتونك إلا بالشر، وهناك أناس يأتونك بالبشارات، فاستمع إلى النصحاء الأمناء، فإن نبينا عليه الصلاة والسلام كان يخرج فيقول لأصحابه: (لا تحدثوني عن أصحابي)، وفي معنى الحديث: (إني أريد أن أخرج إليهم وأنا سليم الصدر) صلى الله عليه وسلم.

    ونستفيد أن الملك لم يكن يعرف شيئاً عن الذي حدث لامرأة العزيز، والعزيز غير الملك، والدليل أنه حقق في القضية، فالأمور تجري على وجه السرعة، قال: قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ [يوسف:51] وهنا يظهر الله الحق على ألسنة المعتدين، وألسنة الخصوم.

    قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ [يوسف:51]، أي: ما شأنكن؟ وإن كان هذا الإظهار في بعض الأحيان لا يتم في الدنيا، لكن يتم أمام ملك الملوك سبحانه وتعالى.

    ثبوت براءة يوسف باعتراف امرأة العزيز

    قال تعالى: قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ [يوسف:51]، من العلماء من قال: معناها معاذ الله، ومنهم من قال: معناها ننزه الله عن العجز أن يخلق بشراً عفيفاً مثل هذا البشر.

    قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أي: قالت مظهرةً للحق، الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ [يوسف:51-52]، هكذا يظهر الله الحق، فلم تنس امرأة العزيز الواقعة، فالذنب لا ينسى وخاصة عند من يراجع نفسه، فالمرأة طيلة تلك المدة وهي تراجع نفسها، كيف تسببت بعبد عفيف بريء نظيف لكونه لم يقترف الفاحشة معها؟!

    والنفوس اللوامة هي: دائمة اللوم لأصحابها، تذكرها نفسها اللوامة بما حاصله: كيف يقر لك قرار ويهدأ لك بال، وقد تسببت في سجن شخص بريء وألصقت به التهمة وهو عفيف؟ كيف تنامين في الفرش الوفيرة وتطيبين بالطيب الجميل وقد تسببت في سجن شخص بريء؟

    فالنفوس اللوامة تلوم أصحابها الطيبين دائماً، أو الذين فيهم نزعة خير، ولا تزال بهم حتى يردوا الحقوق إلى أهلها، ويبحثوا عن وقت يعتذرون فيه، هكذا فعلت امرأة العزيز، فأعلنت صراحة أمام الملأ وأمام الناس كلهم في مجلس التحقيق ما تظن أنها تنجو به، قالت: الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أي: تبين وظهر أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:51]، أي: أنا الذي دعوته إلى فعل منكر، فإنه لمن الصادقين، ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يوسف:52].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب)

    قوله تعالى: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ، المفسرون لهم فيه وجهان:

    فمن العلماء كـالحافظ ابن كثير وشيوخه وتلاميذه وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ومن بعدهما يقولون: إن القائل في قوله تعالى: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ هي امرأة العزيز، وقولها: مطرد، فهي تطلب رضا يوسف صلى الله عليه وسلم، فمع أنها تسببت بفتنته، لكنها ما زالت تجله وتوقره وتحرص على إرضائه عليه الصلاة والسلام مع أنه عبد سجين.

    وهكذا المرأة أمام من لم يفعل معها الأشياء المحرمة، لكن إن فعل معها شيئاً محرماً، فتود أنها ضربته بعد ذلك بحذائها إن كان قد أجابها إلى طلبها بالمحرم، ولكن العفة والوقار حملتها على طلب رضاه، قالت: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ولم أشهد عليه شهادة زور في غيابه، وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ [يوسف:52]، أي: لا يوفق الله الخونة أبداً، وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي أي: لأني بشر، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف:53]، كل ذلك على لسان المرأة التي اعترفت بعجزها وضعفها على رءوس الأشهاد، هذا قول الحافظ ابن كثير في طائفة كبيرة من المفسرين.

    وطائفة أخرى من المفسرين قالوا: إن القائل لقوله تعالى: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يوسف:52] هو يوسف عليه السلام، وقال ما بعد ذلك أيضاً، فيكون وجه التأويل على النحو التالي:

    قالت: الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:51]، وبعد ذلك تكلم يوسف لما بلغه قولها، فقال: ذلك أي: هذا الطلب مني لا لفضيحة المرأة، فأنا لا أحب أن أفضح أحداً، ولكن ليعلم زوجها أني لم أخنه بالغيب، أي: وقد وكلني ببيته وخلَّى بيني وبين امرأته، بعد أن أكرم مثواي وأنزلني منازل طيبة، فطلبت هذا البيان، لا لأفضح النساء فليس من شأني فضيحتهن أبداً، وليس من شأني فضيحة من اتهموني وقذفوني، فهذا ليس لي بسبيل، إنما إن فضحوني سترت عليهم، ولكن ليعلم زوجها أني لم أخنه بالغيب، فالله لا يهدي ولا يوفق الخائنين، وأيضاً أنا نفسي بشر فلا أبرئ نفسي من المعاصي ولا أزكيها.

    فهذا حق لحق نفسه عليه الصلاة والسلام، وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي أي: لا أنزهها عن الخطأ والقصور: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف:53].

    هكذا البيان وهكذا الأدب، فسمع الملك هذه المقالات التي لا تخرج إلا من مشكاة النبوة، وسمع الملك كذلك اعترافات من النسوة، واعترافات من المرأة بلا ضرب ولا أذى، لقد سمع مقالات يوسف وهي في غاية الحسن والبهاء والجمال التي لا تصدر إلا من الأنبياء ومن سلك مسالكهم، فللأنبياء أقوال تعرف بهم ويعرفون بها، كما قال العلماء رحمهم الله في شأن الحسن البصري رحمه الله، فقد قال علي بن الحسين -الملقب بـزين العابدين - وقد ذكر عنده الحسن البصري : ذاك الرجل الذي كلامه يشبه كلام الأنبياء.

    فللأنبياء سمتٌ وللأنبياء حديث، ولألفاظهم حلاوة، وعلى كلامهم طلاوة، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وقد قال تعالى: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [النور:26]، هكذا قال ربنا، فسمع الملك هذه المقالات، ولأول مرة يطرق سمعه مثل هذا القول الطيب الجميل! فحينئذ قال الملك: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ لا للمجيء به فقط، بل قال: أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي [يوسف:54]، أجعله خالصاً لنفسي مستشاراً لي، أستشيره في كل أموري، هكذا تتبدل الأحوال.

    قال الفضيل بن عياض -ولعله تلقى ذلك من الإسرائيليات-: إن الملك لما قال: ائْتُونِي بِهِ ، فإن امرأة العزيز رافقت العزيز حتى تشاهد الموكب الذي خرج به يوسف من السجن، فقالت عندما نظرت إلى حالها: سبحان من جعل العبيد ملوكاً لطاعته، وسبحان من جعل الملوك عبيداً لمعصيته.

    قال تعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ فالملك يسمع عن يوسف ويسمع كلامه عن بعد، فهو لم ير إلى الآن يوسف، ولكن لما جاء يوسف، وكلمه الملك ورآه ورأى علامات الجمال تكسوها علامات الوقار، رأى الحسن قد كمل بالنبوة والرسالة، فرأى أمراً لم يره لما كلمه، وكما قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (ليس الخبر كالمعاينة)، إذا سمعت بجمال شخص، فإنه يختلف الأمر إذا شاهدته، قال صلى الله عليه وسلم: (ليس الخبر كالمعاينة).

    والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755988694