إسلام ويب

مفهوم العبادةللشيخ : سفر الحوالي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في هذه المادة تحدث الشيخ عن الحاجة الفطرية إلى العبودية، وأنه ما من أحد إلا والعبودية مغروسة فيه، فهو بفطرته عبد، ثم بين أن البشر إنما يختلفون في المعبود، وفي كيفية العبادة، وذكر سبب ضلال البشر بعد آدم عليه السلام، ثم تكلم عن المعبودات الباطلة من دون الله، متطرقاً إلى موضوع شمولية العبادة، مع إيراد عدد من الأدلة على ذلك؛ وتكلم عن عبادة أصناف الناس كالملوك والعلماء والتجار... وغيرهم، مبيناً خطر البدعة وتاريخ دخولها على الإسلام، وخطر الفرق ذات الأفكار الدخيلة، وعلى رأسها فرقة الصوفية بطرقها المختلفة.

    1.   

    الحاجة إلى العبادة

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

    أما بعــد:

    يقول الله تبارك وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات:56-57] فالله تبارك وتعالى قد بيَّن في هذه الآية الغاية من خلق الثقلين وهي (عبادته)؛ وهذه العبادة يفتقر إليها المخلوق افتقاره إلى الطعام والشراب؛ بل ربما كان أكثر من ذلك؛ لأن جوعة الروح وجوعة القلب أعظم من جوعة الجسد، فإن الإنسان لا يستطيع الاستغناء عن الطعام والشراب، وكذا عن الجو الذي يعيش فيه جسده، فكذلك -بل أعظم منه- لا يستطيع الإنسان أن يكون في كفاية عن غذاء الروح (أي: عن العبودية لله).

    حاجة العبد إلى الله حاجة فطرية ذاتية

    إن افتقار المخلوق إلى أن يكون عبداً لله -تبارك وتعالى- هو افتقار ذاتي فطري، وهو حاجة رجوعة لا يسدها حقاً إلا عبادة الله وحده لا شريك له، وهو الذي أودع في العبد هذه الحاجة الفطرية، وهذا الافتقار الذاتي؛ كي يعبده وحده تبارك وتعالى، ولذلك مدح الله سبحانه نبيه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أعظم مقامات التشريف، وهو: مقام الإسراء والمعراج الذي لن يبلغه قبله بشر ولم يبلغه أحد بعده، فقال تبارك وتعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً الإسراء:1] فوصفه بالعبودية؛ لأنها أشرف مقام، ولأنها أعظم ما تطمح إليه النفس البشرية؛ فبتحقيق العبودية لله -تبارك وتعالى- يرتقي العبد إلى أعلى درجات الكمال الإنساني الذي يمكن أن يبلغه أي بشر، وأعظم الناس عبودية هم: الملائكة، والأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل من البشر، ممن انتهج منهجهم، وسار على طريقهم.

    الكفار يلجئون إلى الله

    وهذا الافتقار الذاتي إلى عبادة الله من فطريته وضروريته في النفس الإنسانية، أنه لا يمكن أن ينكره منكر، ولا يكابر فيه مكابر، حتى الكفار الذين جحدوا آيات الله، وعاندوا أنبياء الله، وردوا ما جاءوا به من أمر الله، واستكبروا على عبودية الله، فإنك في وقت الشدة تراهم يذعنون لله تبارك وتعالى بالعبودية، ويظهرون الافتقار والحاجة إليه، في ذلك الوقت (وقت الضرورة) الذي تنتفي فيه كل البهارج وكل ما يكون على القلب من الكبر والعتو.

    إذاً: كما ذكر الله عنهم في القرآن حاكياً حالهم بأنهم إذا ركبوا في الفلك وأحاط بهم الموج من كل مكان، حينئذٍ ينسون آلهتهم، ويعلمون أن تلك الآلهه إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ [النجم:23] فهم الذين اختلقوها واخترعوها، وهم أول من يعلم أنها لا تغني ولا تنفع ولا تضر؛ فيدعون الله تعالى بتضرع وبكاء.

    وهنا سأذكر أمثلة من العالم الحاضر، الذي يعيش الآن في أعتى درجات التكبر عن عبادة الله وعن الإذعان والإعلان بالعبودية لله، بل عن الإقرار لله تعالى بالألوهية، بل بوجوده تبارك وتعالى؛ فهم ينكرون أن يكون الله موجوداً، فضلاً على أن يتقربوا إليه بالعبادة، أو يخضعوا له.

    هذا العالم المتجبر المتكبر، وإنَّ أعتى وأكبر من يمثل ذلك هي: الشيوعية الملحدة، وأعتى دول الشيوعية في العالم هي: الاتحاد السوفيتي، وإن أعتى طواغيت هذه الدولة هو: استالين عندما اجتاحت جيوش هتلر أراضي بلاده -أثناء الحرب العالمية الثانية- وكانت بلاده تحرم الأديان تحريماً قاطعاً، بل وحظرتها حظراً باتاً وأقفلت دور العبادة من أي ملة؛ فعند ذلك لم يكن لديه أية حيلة ولا أي منقذ، وهنالك يأمر هذا الطاغوت اللعين أن تفتح أبواب الكنائس، وأن يتضرع الناس بدعاءِ الله، وأن يطلبوا من الله التأييد على هتلر وعلى جنوده النازيين!!

    فهذا الإقرار الذي ذكره الله تبارك وتعالى عن الأمم الخالية يتمثل أمامنا في أعتى طاغوت من طواغيت أعتى دولة شيوعية ملحدة تنكر وجود الله.!

    وأذكر أنني قرأت في مذكرات شدشد أنه هو وإيزنهاور عندما كانا يتوليان قيادة جيوش الحلفاء في الحرب العالمية نفسها، أنهما كانا على إحدى البوارج في البحر، وكان الموقف في أشد ما يكون من الحرج، وكانت جيوش النازية ما تزال في عنفوان وقمة انتصاراتها واجتياحها لـأوروبا؛ وعندئذٍ عملا قداساً على ظهر البارجة وأخذا يبتهلان إلى الله! وهما الرجلان اللذان لم يعرفا الله عز وجل من قبل؛ فهؤلاء عتاة الشرق والغرب في عالمنا المتمرد على الله يلجئون وقت الشدة إلى الله، ويعترفون أنه لا ملجأ ولا منجىً منه إلا إليه، وأنه هو الذي يغيث الملهوف، وينقذ المكروب ويكشف الغم.

    فالعبودية ضرورة فطرية، فطر الله تبارك وتعالى عليها كل واحد.

    1.   

    الاختلاف في العبودية عند البشر

    إن واقع البشر الذي نراه يختلف اختلافا بيناً لا في قضية العبودية من أصلها أو في العبادة من حيث هي عبادة ولكن من حيث نوع العبادة، ومن حيث نوع المعبود، ومن حيث كيفية التعبد، وهنا ضلت الأمم وتاهت.

    سبب الضلال

    قال تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ [البقرة:213] كان الناس أمة واحدة (أي: كانوا على التوحيد) فالمُقَدَّر هنا، (فأشركوا وكفروا) كما فسرها ابن عباس -رضي الله عنه- بقوله: [[كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام]] حتى أضلتهم الشياطين الذين جاءوا إلى قوم نوح وأمروهم أن يعيدوا ذكريات القوم الذين سماهم الله تبارك وتعالى من الرجال العبّاد: (ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسرا).

    عشرة قرون والبشرية على التوحيد النقي، تعبد الله -تبارك وتعالى- ثم اختلفوا، ومنذ أن اختلفوا -وما يزالون مختلفين- ظهرت العبوديات المتباينة، والديانات المختلفة؛ التي منها ما كان من عند الله فحَّرفه الذين قال الله تبارك وتعالى عنهم: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [البقرة:79] وهم: الأحبار، والرهبان، والكهان، الذين اتخذهم أقوامهم أرباباً من دون الله، وحرفه -أيضاً- الطواغيت من الملوك والحكام من الفراعنة ومن قبلهم، ليعبِّدوا الناس لأنفسهم، كما قال عبد الله بن المبارك رحمه الله:

    وهل أفسد الدين إلا الملوك      وأحبار سوء ورهبانها

    جاء فرعون ليقول للقوم الذين كانوا يعبدون آلهة شتى: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] ويقول لهم: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24].

    وممن قام بتحريف الأديان المبتدعة الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله كما قال سبحانه: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21] فكل من اتبع هواه في عبودية الله أو عبد الله لا كما أمر الله، وإنما كما يحلو له، أو كما يرد على خاطره، أو كما يرى من تقاليد آبائه وأجداده؛ فله حظ من ذلك.

    المعبودات الباطلة مظاهرها وأشكالها

    لقد تعددت العبوديات وتنوعت؛ فهناك اليوم بشر! يعملون في المصانع النووية، وينتجون القنابل الذرية التي يهددون بها المسلمين، ولكنهم يعبدون البقر! هذا الحيوان المعروف الذي نراه!! ويتبركون بما يخرج منها!!! وهناك من يعبدون البشر ويعطونهم الربوبية الكاملة وهم -أيضاً- أحياء، وفي القرن العشرين القرن الذي يقال عنه: إنه قرن الحضارة والعلم والتطور، وإن مرحلة الدين هي مرحلة تجاوزتها الإنسانية وخلفتها وراءها، وانتقلت الآن إلى طور الحضارة وطور العلم، وما الدول الشيوعية إلا نموذج لذلك.

    ويوجد -أيضاً- عُبَّاد الشهوات الذين يعبدون الهوى، والذين يعبدون بطونهم وفروجهم، وهؤلاء يقدمون عبودية كاملة وعبودية حقيقية.

    قد يقول البعض: إنها ليست عبودية بالمعنى الواضح، ولكنها في الأخير نرى أنها عبودية لمن أوحى ولمن وسوس ولمن زين هذه العبوديات؛ إما عبودية الشيطان، أو عبودية المرأة، أو عبودية الأفلام، أو عبودية الخلاعة، أو عبودية ما يسمى بالموضات، فكل هذه أنواع من العبودية.

    وهناك -أيضاً- عبودية التقاليد وهي عبودية شديدة الوطأة فهي ثقيلة، ولا أدَّل على ثقل هذا النوع من العبودية من أنه في إمكان الإنسان أن يتعبد أو يصلي أو يستقيم مع أنه يتعرض للأذى لكنه قد يتحمل ذلك، لكن أن يخالف عادة اجتماعية... أو تقليداً من تقاليد القبيلة... أو من تقليد البيئة... فهذا أشد شيء عليه، وهنا تظهر حقيقة اتباع الناس لهذه العبودية التي لم يشرعها الله تبارك وتعالى وإنما هي تقاليد، قال تعالى: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:22] فقط! دون النظر إلى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أحل هذا أو حرَّمه.

    هناك -أيضاً- عبودية أخرى، وهي عبودية اللهو واللعب... (عبودية الملاهي بجميع أنواعها) فشياطين الجن والإنس الذين كما قال الله تبارك وتعالى عنهم: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام:112] أوجدوا هذا النوع من العبودية لمن؟!

    للجماهير (الطبقة العريضة الممتدة من البشر الذين هم أقل من أن يفهموا الأفكار... أقل من أن يستوعبوا المبادئ أو النظريات التي يخطط لها هؤلاء الشياطين) فجاءوا لهم بعبودية اللهو واللعب، ومنها: الكرة -كمثال على ذلك، فالفرق كبير بين (الرياضة -بين النشاط- بين الترفيه) بين أي نوع من الأنواع التي يمكن أن يقوم الإنسان بها مع نفسه أو مع غيره، فرق بين هذه وبين العبودية التي تعطي الولاء والبراء! تعطي المحبة والبغض! وهذا الذي فطن إليه شياطين الجن والإنس، فرأوا أن القلب البشري -كما خلقه الله- لا بد أن يُعادي وأن يوالي، أي: أن فيه خطان مزدوجان: خط الحب وخط البغض.

    فمثلاً: عندما تسمع أي خبر في الإذاعة عن القتال في أفغانستان، فمجرد أن يخطر على بالك هذا الخبر فإنك سوف تتعاطف تلقائياً مع إخوانك المجاهدين، وتتمنى أن يكون الخبر مفرحاً، وأنهم حققوا انتصارات كبيرة على عدوهم! وبالمقابل تتغيظ من عدوهم وتبغضه، وتتمنى أن يحقق الله له الذلة والهزيمة الساحقة! (وهذه هي فطرة بشرية!)، فأراد شياطين الإنس والجن أن يأتوا إلى هذا الإناء فيفرغوا فيه ويضعوا فيه ما يملؤه مما يصرف البشر -وبخاصة المسلمين- ويجعلهم يعرضون عن الطريق القويم إلى طريق آخر، وهذا الإناء الذي جعله الله تبارك وتعالى لنا هو القلب، فإذا امتلأ بما يضعه هؤلاء الشياطين؛ فلن يبق فيه مجال لما يلقيه الملك الذي يأمرك بالخير، كما في الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (ويظهر أنه موقوف عليه) {إن للملك لمة وللشيطان لمة} فالقلب البشري تعتريه لمة الملك ولمة الشيطان، ولا يمكن أن يخلو القلب من هذا أو ذاك؛ فهؤلاء يريدون أن يجعلوا لمة الشيطان هي الغاية، فلا يبقى للمة الملك مدخل ولا منفذ إلى القلب البشري؛ ولذلك جاءوا بهذه المغريات، وأتوا بالتعصب والتحزب والولاء والعداء لها! فجعلوها كأنما هي غاية!! فتحققت عبودية المشتغلين بها على النحو الذي خطط له هؤلاء؛ فالقلب البشري لا يخلو من الحب والكره، وهما (أي: الحب والكره) مع الإرادة يحققان العبودية لأي معبود كان.

    1.   

    شمولية العبادة

    يقول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6] أي: فكل بشر كادح... وكل مخلوق كادح... وكل مخلوق عابد كادح فهذا الكدح هو عبادة؛ فإن كان يكدح ويعمل في طاعة الله فهذا عبد لله، وإن كان يكدح ويعمل للدنيا فهو عبد للدنيا، وهو الذي قال فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم) وإن كان يكدح من أجل المرأة فهو عبد للمرأة، وإن كان يكدح من أجل أي هدف مادي أو أي غرض دنيوي فهو عبد لذلك الغرض.

    شمولية مفهوم العبادة في الإسلام وأدلته

    ولشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رسالة قيمة عنوانها (العبودية) ذكر فيها هذا الأمر، وذكر ما هو أشمل منه؛ فكل مخلوق لابد وأن يكون عبداً، فإما أن يعبد الله، وإما أن يعبد غير الله، إما أن يوالي في الله فيحب إخوانه المؤمنين ويكره أعداءه الكافرين, وإما أن يوالي في غير الله، فيحب أعداء الدين ويكره المؤمنين، ولا يمكن أن يخرج الإنسان عن ذلك؛ لأنه كادح، وهذا الكدح لا بد أن يكون لغرض، ولا بد أن يكون وراء الكدح هدفاً معيناً، وهذا الهدف به تتحدد نوعية العبودية، فإذا كانت العبودية بهذا الشكل؛ فإننا نعرف لماذا كانت العبادة في الإسلام عامة وشاملة؟ في كل النشاط (الكدح) البشري ككل.

    فالعبادة تحتويه وتحتضنه؛ فإما أن يكون في طاعة الله (من الواجبات أو من النوافل أو من المستحبات) وإما أن يكون في ضد ذلك من المنهيات أو من المكروهات، وإما أن يكون في درجة المباح، والمباح إن كان وسيلة للطاعة... التحق بالطاعة، وإن كان وسيلة للمعصية... التحق بالمعصية.

    فكل إنسان بما أنه كادح فهو عابد، بل وإن كل دولة وكل أمة بما أنها بشر فهي عابدة لشيء ما، ولغرض ما، ولإله ما؛ فإما أن يكون هذا الإله هو الله تبارك وتعالى، وإما أن يكون الله ومعه غيره من الأوثان التي يشرك بها البشر، وإما أن يكون معبوداً لغير الله.

    فمن هنا كان مفهوم العبادة في الإسلام أعظم وأشمل مفهوم، وفي ذلك جاءت الآيات وجاءت الأحاديث، التي ذكرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه العظيم، فذكر لنا من الآيات، والتشريعات، والعبر، ومن الحكم، ومن أخبار الأنبياء ما يدل على ذلك؛ فنجد نبي الله إبراهيم عليه السلام يخاطب الملك فيدعوه إلى عبادة الله، وكذلك موسى وهارون عليهما السلام يخاطبان فرعون، فيدعوانه إلى عبادة الله.

    وهكذا كل نبي فإنه دائماً يدعو أمته إلى عبادة الله: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [المؤمنون:32]، وكما قال الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36].

    فعبادة الله التي تضمنتها الكلمة العظيمة -كلمة لا إله إلا الله- كانت دعوة كل نبي بعثه الله، يخاطب بها الملوك، ويخاطب بها العوام، ويخاطب بها ما نطلق عليه المثقفين؛ كل هؤلاء مدعوون إلى عبادة الله... فمن كان ملكاً فليعبد الله من خلال ملكه، فليقم شرع الله ودين الله عز وجلَّ كما قال جل شأنه: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41].

    عبودية العلماء لله

    أما العلماء فعبوديتهم أعظم لله سبحانه؛ لأن الله -جل شأنه- جعلهم شهداء على ألوهيته دون غيرهم، كما قال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ [آل عمران:18] فجعلهم الله تبارك وتعالى شهداء في أعظم قضية وهي ألوهيته التي شهد بها الله -جل شأنه- ثم ملائكته الذين يسبحون له في الليل والنهار لا يقترون ولا يملون، ثم أولو العلم الذين يقيم الله تعالى بهم الحجة على العالمين.

    فعبوديتهم أعظم؛ لأنهم الرقباء على البشر جميعاً؛ لأن العلماء في هذه الأمة هم في مقام الأنبياء في الأمم التي قبلنا، فهم رقباء على شرع الله عز وجل، وعلى أفعال الناس؛ ولهذا تجدون الإمام ابن القيم رحمه الله ألف عن العلماء كتاب (إعلام الموقعين عن رب العالمين)، فهم بمثابة الموقعين عن الله، لأن حكم الله لا نعرفه إلا عن طريق هؤلاء العلماء، فكأنما يوقعون هذا حرام... من حرمه؟

    الله، هذا حلال... من أحله؟

    الله، فإذا قال العالم هذا حلال أو هذا حرام فهو يوقع يخبرنا عن الله تبارك وتعالى؛ ومن هنا كانت عبوديتهم أعظم.

    وهم يشهدون في الآخرة كما يشهدون في الدنيا، قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ [الروم:56] وهذا عندما يقسم المجرمون أنهم ما لبثوا في هذه الدنيا غير ساعة، فمن يشهد يوم القيامة؟

    أو من يقيم الحجة على المنكرين؟

    إنهم الذين أوتوا العلم والإيمان؛ فالعلماء يشهدون في الدنيا ويشهدون في الآخرة؛ لأن رتبتهم هي رتبة الأنبياء، ومقامهم هو مقام الأنبياء.

    عبودية التاجر

    وكذلك التاجر في متجره عليه عبادة عُظمى، وهي: أن يتقِ الله وألا يغش ولا يخون، وأن يكون صادقاً وألا ينفق بيعه وشراءه بالحلف الكاذب، وكذلك هو منهي عن المناجشة، وأن يبيع على بيع أخيه، وعن أن يبيع الحاضر للبادي، وأحكام في البيع، البيوع المحرمة... البيوع المكروهه... ومتى يجوز؟

    ومتى لا يجوز؟

    ما يتعلق بالخيار...، ما يتعلق بالأجل...، ما يتعلق بصفة المبيع...

    أحكام شرعها الله تبارك وتعالى في هذا المجال، فأحل البيع، وحرم الربا، وحرم الغش، وجعل لكل شيء حكمه حتى الشفعة، وهي من الأحكام التي قيل: إن الأمم قبلنا لم تعرفها.

    وشرع الله تبارك وتعالى أحكام التوارث، ولم يرضَ أن يكلها إلى أحد، بل فصَّلها في كتابه، وترك الاجتهادات المتفرعة عنها للعلماء، كلُّ ذلك شرعه الله؛ ليبين لنا أن هذا المال إنما هو أمانة؛ كما قال سبحانه: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7] فهو الذي استخلفنا فيه والمال ماله فلنتق الله فيه.

    عبودية المعلم والمتعلم

    وفي مجال العلم: فالطالب أو المعلم كل منهم -أيضاً- عليه عبودية كاملة لله تبارك وتعالى، بأن يتقي الله ويعمل بما يُعلَّم أو يُعلِّم، وأن يدعو إلى هذا العلم الذي تعلمه، وأن يصبر على الأذى في الدعوة إلى الله إذا دعا إلى هذا العلم، وأن يجعل هذا العلم لوجه الله الكريم، لا يبتغي به أي عرض من أعراض الدنيا.

    عبودية المرأة

    وهكذا المرأة: فالمرأة مطالبة بأنواع من العبوديات تتناسب وتتلاءم مع ما جعل الله لها، وما أودع فيها؛ فهي في بيتها تتعبد الله بطاعة زوجها، وبتربية ابنائها على دين الله، وبغض نظرها، وحفظ فرجها، وبعدم التبرج، وبكل ما شرع الله من الأحكام مما دلت عليه الآيات والأحاديث.

    إذاً: فكل إنسان مطالب -من حيث أنه إنسان ومن حيث أنه مخلوق- بتحقيق العبودية لله، وهي عبودية عامة لا تدع شيئا من حياة الأفراد ولا من حياة الأمم إلا واستوعبته وشرحته، وبيَّنت منهجه كما جاء في الكتاب والسنة.

    1.   

    البدعة وخطرها

    إنَّ التعبد بما لم يأذن به الله، من أخطر ما أصاب الأمة الإسلامية؛ فقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه على الدين المعروف لنا جميعا (المنهج القويم) (ما أنا عليه وأصحابي) (أمة واحدة) كما ذكر الله عز وجل فكانت تعبد الله على الطريق القويم الذي لا عوج فيه، وكان كل شيء في هذه الأمة يمضي وفق أمر الله، ولا يُقدِّم أحد بين يدي الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أي أمر؛ حتى إن عمر رضي الله عنه لما رآه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه أوراق من التوارة، غضب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غضباً شديداً! وقال له: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي!) لو بعث أي نبي لاتبع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يأتِ بشيء من عنده مع أنه نبي، لأن الله تبارك وتعالى أخذ الميثاق على الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81] فالله عز وجل أخذ العهد على الأنبياء أن ينصروا محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يؤمنوا به، فما بالك بغيره من البشر؟!

    بدء الانحراف

    لقد بدأ الانحراف عندما أخذت هذه الأمة تتلقى عن غير كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن القَدَر أن أول من واجه هذه القضية هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فعندما فتح سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه هو وجيشه الميمون المظفر مدائن كسرى تلك المدينة العظيمة التي ما كان يحلم العرب بأن يروها بأعينهم، فضلاً عن أن يدخلوها!

    دخلوا فوجدوا فيها الكتب الكثيرة عن الحضارة الفارسية والعقائد والأديان والعلوم التي كانت عند هذه الأمة في هذه المملكة؛ فكتبوا إلى عمر رضي الله عنه: [يا أمير المؤمنين! قد وجدنا كذا وكذا فما رأيك أنحملها أم ننقلها للمسلمين فلعل فيها علوماً، فكتب رضي الله عنه إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أغنانا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن يكن في هذه الكتب هدىً فقد هدانا الله، وإن يكن فيها غير ذلك فقد كفانا الله، فاطرحوها في الماء أو حرِّقوها] ولكن هذا الموقف الذي اتخذه عمر رضي الله عنه لم يظل هو الموقف المعمول به؛ فإنه جاء من بعده خالد بن يزيد الأموي الذي ترجم من كتب اليونان قليلاً، ثم أبو جعفر المنصور الذي ترجم بعض الكتب أيضاً، ثم جاء المأمون ففتح الباب على مصراعيه، ودخلت البدع من كل مكان، تُلقي وراء ظهرها بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فظهرت أقوال القدرية، وظهرت أقوال الخوارج، وظهرت الشيعة، وهي التي نفثها اليهود في دين الإسلام ليهدموه، وظهرت هذه الفرق، فنبذت كتاب الله وراء ظهرها، وأخذت تُشرِّع للناس من أنواع التعبدات ما لم يأذن به الله.

    خطر الصوفية

    هناك فرقة كانت أخطر من هذه الفرق جميعاً! لأنها تعاملت مع الطبقة العامة، وتعاملت مع الجمهور ومع المثقفين أيضاً؛ لكنها كانت شعبية، وأخذت تزحف على كل بلد (إنها الصوفية!).

    فبالتصوف جاءوا إلى قضية العبودية وإلى قضية الافتقار الذاتي الذي يعيشه، ويشعر به كل إنسان، فحركوها، ولكن على غير هدى من الله.

    فكل واحد منا يتلذذ بقراءة كتاب الله تبارك وتعالى، تنعش قلبه وتدمع لها عينه، ويتفكرها دائماً ويجد لذة عجيبة، وقد يُبتلى الإنسان في بلوى فيرفع يديه إلى الله، فيجد من لذة دعاء الله ما ينسيه مصيبته التي دعا من أجلها، فيشعر ويعلم عندئذ أن في إصابته بهذه المصيبة خير كثير جداً... فعرف الله وتلذذ بدعاء الله، وتلذذ بمناجاة الله!!

    ونحن نعلم كيف كان الصحابة رضي الله عنهم يتأثرون ويتلذذون بقراءة القرآن، حتى أنهم لما كانوا في سرية من السرايا، وكان أحدهم يقرأ وجاءه العدو، فرماه بالسهم الأول، ثم رماه بالسهم الآخر ولم يتوقف! فمن لذة قراءته للقرآن؛ ترك هذه النبال تدخل في جسده وهو يقرأ ولم يقطع قراءته!!

    فالعبودية من يشعر بها ويتذوقها ويجدها لا يعدل بها أي متعة في هذا الكون كله!!

    فمن هذا الباب دخل المبتدعة وأخذوا يُشرِّعون، فأخذوا من حلاوة الذكر تشريعات بأن يُذكر الله عز وجل بغير ما أذن، وأخذوا من حلاوة المناجاة بأن يشرعوا الأدعية الكثيرة جداً، والتي يطبعونها في عصرنا الحاضر ويوزعونها؛ لأن الإنسان إذا دعا الله شعر بالاطمئنان والراحة، فشرعوا من عند أنفسهم ما يصرفون به هذا الإنسان عن عبادة الله؛ ليعبد غير الله؛ فعندما نقول: إن جوعة التعبد أو الحاجة إلى العبودية أشد من الحاجة إلى الطعام والشراب أو مثلها، فهؤلاء المبتدعة مثلهم كمثل من يأتي إليك وأنت جائع في أشد حالات الجوع... يطعم هذا الجائع تراباً! خشباً! ورقاً! يطعمه أي شيء لا ينفعه بل يضره!!

    ولو أنه بقي على جوعه لكان أفضل؛ لأنه سيبحث عن الغذاء النافع؛ لكن هؤلاء جاءوا ووضعوا بدلاً من الغذاء الذي جعله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو القرآن والسنة، والذي جعل فيه الحياة والزكاء والنماء، جاءوا فجعلوا مكانه غذاء لا يُسمن ولا يغني من جوع، ولا يعلي ولا ينمي ولا يزكي ولا يطهر، فشرعوا هذه البدع والضلالات؛ فطواغيت الأديان شرعوا أدياناً تخالف دين الله عز وجل، وتصرف الناس عن عبادة الله، وطواغيت البدعة شرعوا بدعاً تخرج الإنسان مع انتسابه للإسلام عن منهج العبودية الصحيح إلى تعبدات وإلى عبوديات لم يشرعها الله ولم يأذن بها ولم ينـزلها.

    فمن هنا نرى خطر هؤلاء المجرمين، وأن إجرامهم لا يقل عن إجرام الأحبار والرهبان والكهان والطواغيت والفراعنة في الأمم التي قبلنا.

    أهمية تحقيق العبودية

    إن واجب المسلم أن يحقق العبودية لله كما أراد الله، وأن يتقي الله أينما كان، وألاَّ يُعبد الله إلا بما شرع الله... قف عند كل عمل تعمله... وانظر هل هذا من طاعة الله؟

    فإن كان من طاعة الله فكيفما فعله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فافعله، وإن كان مما حرم الله فاجتنبه، ولا يغرك كثرة الهالكين، ولا يغرك كثرة الداعين إلى البدع؛ فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ضرب لنا أمثلة منها: أنه رسم خطاً ورسم خطوطاً، وذكر أنه على رأس هذا الخط المستقيم داع يدعو، وعلى جانبيه أبواب، وعليها ستور مرخاة ودعاة يدعون، فهؤلاء دعاة على أبواب جهنم كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا أطاعهم المؤمن (فانحرف يميناً أو يساراً) إما إلى مذهب الغلو في الدين حتى يخرج منه كما فعل الخوارج، وإما إلى مذهب التساهل أو الترك كما يفعل أكثر الناس إلا من رحم الله؛ فإذا انحرف يميناً وشمالاً انحرف عن الخط، وأخذه وتلقفه دعاة جهنم فيلقونه في النار.

    فهذه العبادة كيف يحققها العبد؟

    يحققها باتباع ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف؟

    تقرأ كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعرض أعمالك كلها عليها، وتعلم أنه ما من عمل يتعلق بك فرداً، أو بمجتمعك الذي تعيش فيه، أو بأمتك عامة، أو بالثقلين كافة؛ إلا والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد شرع فيه ما يغني ويكفي؛ وإنما جعل الله تبارك وتعالى اجتهادات العلماء والفقهاء أموراً كاشفة عن حكم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يبحثون ويجتهدون ليبينوا لنا ما شرع الله؛ ولذلك كل الأئمة الأربعة رضي الله عنهم وهم أكثر من اتُّبع من العلماء، كلٌّ منهم يقول: ''إذا رأيتم الحديث يخالف كلامي فاعملوا بالحديث واضربوا بكلامي عرض الحائظ!''.

    هذا وهم أئمة وقدوة! وهم الذين أجمعت عليهم الأمة! لكن قالوا: إذا خالفنا الحديث فلا تعملوا بقولنا أبداً! فكيف إذا كان القول المخالف لشرع الله -قول- أعداء الله؟!

    قول الكافرين وقول الملحدين وقول المنافقين وقول المجرمين الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا [النور:19] والذين يتبعون الشهوات؛ والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء:27] لكن ماذا يريد الذين يتبعون الشهوات؟ قال تعالى: وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً [النساء:27] أي: لو أطعناهم بما يقولون وبما يزينونه للشباب، وبما يبهرجون للشباب من المغريات؛ لأخرجونا عن عبودية الله تبارك وتعالى.

    إن العودة إلى الله وإلى الدين وإلى العبودية الحقة لله أصبحت ظاهرة قوية مشاهدة في الشباب المسلم، ونرجو الله أن يمكن لها، وأن تتقدم أكثر فأكثر؛ لكن ماذا عمل هؤلاء المبتدعة؟

    هؤلاء قطاع الطريق لما رأوا أن الشباب متجهون إلى الله، جاءوا ووضعوا علامات (اتجه يميناً، اتجه شمالاً) ليصرفوا هؤلاء الشباب عن العودة إلى الله تعالى، فلتحذروا من قطاع الطريق هؤلاء! وهم المبتدعة وأصحاب الضلالات وأصحاب الفرق المنحرفة، الذين كل منهم يرفع راية من الرايات!ليأخذ ثلة من الشباب، فيقذف بهم في النار!

    فيجب على الشاب العائد إلى الله المتمسك بدينه أن يعرف هؤلاء المبتدعة وأن يجتنبهم وأن يتجنب بدعهم؛ كما يجب أن يعرف أيضاً أولئك الملاحدة وأتباع الشهوات، ويجتنب إجرامهم وشهواتهم ومفاسدهم، فليجتنب هذين العدوين! فإنهما من أخطر الأعداء، وكذلك العدو الذي في داخله وهي (هذه النفس) (فيتقي الله في نفسه) ويعلم أنها إنما خلقت لعبادة الله، وإلا فكلُّ نفسٍ بشرية فيها جزء من الفرعونية؛ كما يسميه ابن القيم رحمه الله، كما أن فرعون قال: فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] فكل إنسان يحب أن يظهر، ويحب أن يرتفع على غيره، يحب أن لا يخضع، وكأنه يرى أن في عبوديته وخضوعه لله قيوداً تعطله؛ ولكن في الحقيقة: إن أعظم حرية هي العبودية لله! وإن أعظم راحة وأعظم نعمة هي عبادة الله!!

    حالة أهل الكفر والبدعة

    وما أظننا في حاجة إلى أن نعدد ما تعيشه المجتمعات التي لا تعبد الله من القلق والألم من الانتحارات والضياع ومن انتهاك الحرمات من الملل ومن الذعر والإرهاب والجرائم...، فلا أظن أننا الآن سنأتي بجديد عندما نتحدث عن هذه الموضوعات؛ لأن كل جريدة ومجلة وكل نشرة أخبار تظهر فيها هذه الحقائق!!

    فهؤلاء لما لم يعبدوا الله ابتلاهم الله وعذَّبهم بهذه المصائب عقوبة لهم؛ وفي المجتمعات الأخرى مثل مجتمعات الهند، التي هي مدمنة ومغرقة في العبودية، ابتلاهم الله بأنواع أخرى من الابتلاء؛ لأنهم دائماً في عبودية، لكنها عبودية لغير الله، يعبدون الأبقار! ويعبدون الأحجار!

    فالصوفية منهم، وهم منبع الصوفية! يعذبون أنفسهم بأنواع من العذاب، ويقولون: هذه هي عبودية الله! والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما شرع ذلك ولا أمر به، فهؤلاء يعيشون في عذاب، والغرب الملحد الكافر المتمرد يعيش في عذاب وقلق وذعر، والمجتمعات الشرقية التي يسمونها المنحطة وكل منهم منحط؛ لأنه لم يرتفع إلى عبودية الله... هذه المجتمعات المنحطة تعيش في هذا الألم والعذاب والمعاناة الشديدة من الفقر والجوع، ومن التعبدات المرهقة المجهدة!!

    وشريعة الله سمحة سهله موجودة بين أيديهم، ويمكن أن يعرفوها؛ لكنهم لم يهتدوا إليها! ونحن لم نبلغها لهم! فهؤلاء عبدوا الله على ضلال، وهؤلاء استكبروا عن عبادة الله؛ فعذَّب الله الطائفتين، وأخشى أن يعذبنا بمثل ما عذبهم به إن لم نستقم على أمر الله؛ فإن ما يعانيه الغرب من القلق النفسي أصبح حقيقة في ديار المسلمين أيضاً، وما تعانيه المجتمعات الشرقية من التعبدات المرهقة الثقيلة لغير الله أصبحنا -أيضاً- نعانيه، ونرى أمثلتهم في مجتمعاتنا الإسلامية من شباب يقلدونهم فأخذوا يجوعون أنفسهم! ويتعرون!! ويلبسون الملابس المزرية!! ويضربون أسوأ النماذج للإسلام! ويقال: هذا هو الدين... وإذا اهتدى شاب قيل له: تريد أن تهتدي فتكون مثل فلان.

    فهذه العقوبات التي ابتلي بها الغرب والشرق قد ابتلينا بها -أيضاً- بقدر ما بعدنا عن منهج الاستقامة والعبودية لله.

    1.   

    الأسئلة

    جواز ارتباط اسم الإيمان بأي مسمىً من مسميات الشريعة

    السؤال: إن الإيمان يكون بالله فقط، فهل يجوز أن نقول: إننا نؤمن بدعوة التوحيد وأنها دعوة الحق، أفيدونا جزاكم الله خيرا؟

    الجواب: إن كان الأخ يقصد أن الإيمان إنما يكون بالله، فهل يجوز لي أن أقول: أنا أؤمن بدعوة التوحيد، أو أنا أومن بكذا، الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ [البقرة:137] أي بالذي آمنتم به، وهو القرآن والسنة، فإذا قلت: أنا أؤمن بالإيمان.

    أيضاً قال الله تعالى في آية أخرى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5] فمن يؤمن بالإيمان وبالتوحيد... ومن يؤمن بالرسول أو بأي مسمى من مسميات الشريعة... كمن يؤمن بالصلاة، أو من يؤمن بالزكاة؛ فهذا لا حرج فيه إن شاء الله إن كان هذا هو المراد.

    كيفية التخلص من عبادة الشهوة

    السؤال: كيف يمكن للإنسان أن يتخلص من عبادة شهوة معينة لها تأثير -على نفسه- شديد؟

    الجواب: عبودية الشهوة من أشد وأخطر العبوديات، فللشيطان طريقان: الشهوات والشبهات، يتعبث بهما الخلق، وعندنا نماذج تجيب على هذا السؤال وأمثاله.

    فمثلاً: يصعب على المدمنين على الخمر أن يتركوها؛ ولذلك فهم يموتون ولا يتركونها، لكن العرب كانوا يشربونها كعادة، ثم جاء الإسلام ولم تحرم أول الأمر؛ بل كان الصحابة رضي الله عنهم يشربونها من جملة ما يشربون، لكن لما حُرِّمت الخمر أريقت تماماً! فجرت أنهاراً في شوارع المدينة! وكف عنها المؤمنون!

    ومن هذا الشيء نأخذ عبرة لنا أيضاً، شهوة التبرج أو النظر إلى النساء -مثلاً- كان الصحابة رضي الله عنهم وهم أطهر وأنظف المجتمعات يرى بعضهم بعضاً، فلما أنزل الله الحجاب أصبحت النساء مغطيات كالغربان لا يرى منهن شيئاً أبداً! امتثال عجيب!!

    فإذاً: الشهوات والتقاليد مهما اشتد ضغطها؛ فإنه بالإيمان بالله يمكن أن يتغلب الإنسان عليها.

    فيا أخي! إذا كنت تُعاني من عبودية شهوة معينة، فتَّذكر أنك عبدٌ لله، وأنك سوف تلقى الله، وتَّذكر وعيد الله، وتَّذكر كم تعيش في هذه الدنيا! ولكن في النار أبد الآبدين عياذاً بالله.

    تذكر أن جهنم سوداء مظلمة لو ألقي فيها حجر لاستمر سبعين خريفاً لا يصل إلى قعرها! تَّذكر ما ذكر الله تبارك وتعالى من آيات الوعيد، وما ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أحاديث الوعيد، ثم تَّذكر إلى جانب هذا كله هذه الشهوة، وقارن بين هذا وذاك، ثم انظر إلى الجانب الآخر، انظر إلى الجنة ونعيمها! وما يعوضك الله عن هذه الشهوة من الخير العظيم! فحينئذٍ يعينك الله تبارك وتعالى وتقلع عن هذه الشهوة.

    الرفاهية من أسباب قسوة القلوب

    السؤال: ماذا عن الفراغ الروحي الذي يستولي على قلوبنا استيلاءً كاملاً، وحلَّ بذلك محلَّ العبودية التي فرضها الله علينا، ولعل الرفاهية هي أهم سبب في ذلك؛ لأنها زادت عن حدها المفروض فكيف يكون الحل؟

    الجواب: نعم، الرفاهية التي سمَّاها الله تبارك وتعالى الترف فنحن قد أُترفنا؛ وأما الصحابة رضي الله عنهم فقد كانوا يخشون أن تكون حسناتهم قد عُجِّلت لهم في هذه الحياة الدنيا، كما فعل ذلك الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لما وضعت أمامه المائدة وفيها الطعام، فتذكر مصعب بن عمير وترك الطعام، قالوا: مالك؟

    قال: تذكرت مصعب بن عمير يوم أحد، وكان بجوار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مصعب بن عمير فقاتل حتى قُتِلَ؛ فلما جئنا نكفنه، لم يكن معه إلا بردة، إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه؛ وإن غطينا رجلاه بدا رأسه! وما منا اليوم أحد إلا وهو أمير على بلد من البلدان، فقال: أخشى أن تكون هذه حسناتنا قد عجلت لنا!

    فإذا كان هذا الجيل المجاهد العظيم الذي وعده الله في هذه الدنيا بأنه يملكها، لما ملكها خاف أن تكون عقوبة وأن تكون طيباته عُجِّلت له بهذه الدنيا! فنحن أولى بالخوف ونحن أولى أن نحذر من هذا الترف وأن نعوذ بالله منه؛ فإن المترفين هم أكثر الناس قسوة في القلب، وأبعدهم عن الضراعة إلى الله؛ لأن الحاجة تلجئ إلى دعاء الله وإلى عبادته والتضرع إليه، لكن الذي يشعر بالغنى لا يدعو الله، ولا يشعر أنه مفتقر إليه، فيكون من الران على قلبه أنه يشعر بالغنى عن الله، فالرفاهية والترف لاشك أنها من أعظم أسباب الفراغ الروحي والبعد عن الله، لكن قلوبنا لها ِأسباب أخرى في قسوتها وغفلتها، ولو عبدنا الله تعالى حق العبادة لكنا حقاً من المؤمنين، وإن كان بيدنا من الدنيا ما بيدنا؛ لأن المؤمن الذي يملك المال ويتعبد الله به لا يكون مترفاً أبداً، مهما كانت بيده من الأموال، وإنما يأخذ بقدر إنفاقه على نفسه.

    السلف والتصوف

    السؤال: ما هي الصوفية التي اتصف بها السلف الصالح رحمهم الله، وما هي الصوفية المنحرفة في هذا الموضوع؟

    الجواب: الصوفية لم يتصف بها أحد من السلف -ولله الحمد- وهذا دين قديم ظهر في بلاد الهند، ثم انتقل منها إلى أوروبا.

    ولم يكن الرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أحد من الصحابة، ولا من التابعين يقول: أنا صوفي! أو أنا متصوف على التصوف الصحيح أبداً.

    فهذا دين؛ كما أن اليهودية دين، كما أن البوذية دين، وكما أن المجوسية دين، فهذا دين آخر كانت الأمم تتعبد به وليس من دين الله في شيء.

    وأما الصوفية المنحرفة ولو لم تكن منحرفة، فيكفي أن تقول: إنها صوفية، ولأن أي شيء غير الإسلام فهو منحرف، إذا كان غير الدين الذين أنزله الله -فهي دين آخر- كما هو الواقع وهي بطبيعتها منحرفة، فليس هناك نوع منها كان محقاً ونوع آخر مبطلاً؛ بل كلها بطلان، ولكن يأتي اللبس بسبب أن بعض أهل الحق يأخذون بعضاً منها، ولا يأخذون شركياتها، ولا يأخذون وحدة الوجود، ولا يأخذون الحلول والاتحاد، ولا يأخذون العقائد المبتدعة الكفرية فيها، وإنما يأخذون بدع مخففه وهم من أهل الحق، فيأتي الإشكال، لكن الإشكال الذي يأتيك في هذا الرجل أو هذا العالم أو هذا الداعية الذي أخذ شيئاً من المتصوفة لا يعني أنك تحكم على المنهج نفسه؛ لأن فيه حق وباطل، وهذا الرجل أخذ بعض الباطل، وعنده كثير من الحق خلطه ببعض الباطل، فيأتي اللبس ممن أخذ، لا من الفكرة نفسها.

    فالعقيدة نفسها -عقيدة التصوف- موجودة من قديم، وموجودة الآن، وهي موجودة في هذا الاسم نفسه ديناً من الأديان التي يسمونها الأديان الحديثة في الولايات المتحدة الأمريكية، لما بعثوا الأديان القديمة وجدوا هذا الدين وبعثوه بهذا الاسم، ويوجد عدد من الشباب الأمريكي يدخل فيه ويتعبدون بأنواع العبادات بهذا الاسم الصوفية أو الثيوصوفية التي تعني عشق الله!! كما يقولون: ثيوقراطية أي: الحكم الإلهي فالثيوصوفية هي العشق الإلهي أو المحبة الإلهية المطلقة.

    فهذا دين جديد موجود في أمريكا بهذا الاسم، وموجود في أوروبا ضمن النصرانية وغيرها، وموجود في كل بلد، فمن الخطأ؛ أن نقول: إن في دين الله تصوف.

    نعم! وُجِدَ في المسلمين من يتصوف، إما أن يأخذ منه كفره، أو يأخذ منه البدعة، وما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تجد فيه لا يهودية ولا مجوسية ولا بوذية ولا صوفية ولا أي مسمى من مسميات الأديان الباطلة الذي نسخها هذا الدين.

    فقد أكرمنا الله بالحنيفية السمحة... أكرمنا الله بملة إبراهيم؛ ولذلك أنكر الله تعالى على اليهود والنصارى، فقال سبحانه وتعالى: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140] فلم يرض الله عز وجل أن يقال لهؤلاء الأنبياء أنهم يهود أو نصارى، فهل يرضى لأمة الإسلام أن تقول: إننا صوفية أو بوذية؟! لا يمكن هذا أبدا.

    معرفة الله أساس الخشية

    السؤال: قال الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] ما معنى هذه الآية؟

    الجواب: ذكر ابن كثير رحمه الله في هذه الآية من التفسير ما لا نريد الإطالة فيه، والخلاصة أن الإنسان كلما كان أعلم بالله عز وجل فهو أعبد لله وأكثر خشية له ممن لا يعرف الله؛ فمعرفة الله تمنع من معصية الله، معرفة الله عز وجل تدعو إلى خشية الله، والعلم بالله يدعو إلى خشيته كما قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] أي: الذين يعرفون من صفاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونعوت جلاله... ما يحجزهم عن أن يعصوه أو يخالفوا أمره أو ينتهكوا حرماته، فمن هنا تظهر أهمية معرفة الله تبارك وتعالى؛ فكلما كان العبد أكثر معرفة بالله كان أكثر طاعة وخشية لله.

    وورود هذه الآية ضمن الآيات الكونية التي تحدَّث الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنها في أول السورة التي تحدَّث فيها عن الرياح والأمطار، ثم تحدث عن خلق الإنسان، ثم تحدَّث عن الشمس والقمر، ثم تحدَّث عن الجبال وألوانها والدواب والشجر وألوانه؛ ثم قال: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] لا يعني بالضرورة أن العلماء الذين يخشون الله هم علماء الكون فقط، فالعلماء بالله عز وجل يعرفون من مخلوقات الله ما يستدلون به على معرفة الله عز وجل، ومن عرف الكون وعرف أسرار الطبيعة ولكن لم يعبد الله عز وجل؛ فلا تنفعه هذه المعرفة وإن اعترف بالله بلسانه، فلا يغني عن العبودية لله!

    أقول هذا تنبيهاً بأن هناك كتاباً اسمه الإسلام يتحدى ذكر هذه الآية وذكر جيمس بيكر، وأمثاله من علماء الفلك أنهم يعرفون الله، وكل من عرف الله فقط بتوحيد الربوبية، وأنه خالق الكون، فلا يعد في ديننا عارفاً ولا عالماً بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حتى يفرده وحدة بالعبودية.

    متى يكون الحب والكره عبادة

    السؤال: ما مدى الحب والكره الذي تتحقق به العبودية؟

    الجواب: الحب والكره في قلب كل مخلوق، وللحب والكره أنواع، فالنوع الذي تحدد به العبودية يختلف عن الحب الطبيعي أو الحب الفطري، كأن يحب الرجلُ أمه أو أباه أو إخوانه أو أن يحب الطعام أو الشراب فليس هذا هو الحب التعبدي، فالحب التعبدي هو: ما فُعل تعبداً وتقرباً، أو مبنياً على العبادة وعلى التعبد والتقرب، أو ما يقتضي الولاء والبراء، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة -إلى أن قال-: إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط) فمن كانت موالاته وبغضه ومحبته للدنيا فهو عبد لها، ومن كانت موالاته ومعاداته لله، فهو عبد لله.

    فهذا هو الحب التعبدي الذي لا يجوز أن يصرف إلا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو ما يقتضي الموالاة والمعاداة.

    تعارض عبودية الله وعبودية الهوى وفائدة الرفقة الصالحة

    السؤال: هل يمكن للقلب البشري الجمع بين عبادتين: عبودية الحق وعبودية الهوى، أو أن ينقسم الدهر بينهما، كمثل أولئك الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان، وماذا عن الرفقة الصالحة، أليست معينة لتحقيق العبودية الحقة الموصلة إلى جنات النعيم؟

    الجواب: القلب البشري لا يمكن أن يجمع بين عبادتين؛ لأنه كالإناء، فهذا الإناء إذا امتلأ بشيء لا نستطيع أن نضع فيه شيئاً آخر، وإنما تتعارض -للملك لمة وللشيطان لمة- أي: يغفل القلب فيأتي الشيطان فيدخل فيه، فهنا يكون الهوى، فيذكر العبد الله -عز وجل- فيخرج الشيطان ويولي، وهنا تكون العبودية لله عز وجل، والقلب ما دام ينبض، لا يخلو أبداً من لمة الملك أو لمة الشيطان؛ فأنت بإرادتك وباختيارك إما أن تجعل لمة الملك هي الغالبة عليك وعلى قلبك بذكر الله الذي يطرد الغفلة عن القلب، وإما أن تجعل الشيطان يعشش ويفرخ في القلب بالغفلة عن ذكر الله، وبالغفلة عما أمر الله؛ فهذا الذي يقع في القلب (التعارض بين العبوديتين) لكن! لا يخلو من عبودية لأحدهما، فالذي يقول: أنا لا أعبد شيئاً أبداً لا تصدقه، لابد أنه إما أن يكون عابداً لله أو عابداً للشيطان والهوى.

    وأما الرفقة فلا شك أنها أحد ما يعين الإنسان؛ إما على الخير بأن يعينه الصالح على الخير، أو رفقة الشر تعينه على الشر وتزينه له.

    فليحذر المؤمن ولينظر من يخالل؛ فإن المرء يحشر يوم القيامة ويبعث مع خليله، وأما الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان فهؤلاء بئس القوم كما قال السلف.

    متى يكون الخوف عبادة

    السؤال: هل الخوف من غير الله عبادة؟

    وما هي أقسام الخوف؟

    الجواب: الخوف من غير الله قد يكون خوفاً طبيعياً، وقد يكون خوفاً عبادياً، فالخوف الذي هو عبادة هو خوف التعبد كما يخاف أتباع الأولياء وأتباع الطواغيت العباد من دون الله، أي: يخافونهم ويرهبونهم، وإذا ذكر الطواغيت في مجلس من مجالسهم؛ سكتوا كلهم، حتى يظن بعضهم أنه يسمع ذلك، ويظن أن الجن الذين هم موكلون به -الآن- يلتقطون الخبر ويبلغونه للطاغوت؛ فهذا من الخوف الذي يكون لغير الله.

    مثال من أمثلة الخوف الذي هو لغير الله والذي يكون شركاً، ذكره الله عز وجل ليبينه لنا، فقال سبحانه: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً [الجن:6] أي: خوفوهم أكثر حتى يدعوهم أكثر، وإلا فإنهم بشر مثلنا، لكن! حتى نعبدهم أكثر خوفُونا أكثر... فهذا هو الخوف الذي يجعلك تترك الطاعة، عندما تريد أن تنهى عن المنكر أو تأمر بالمعروف، فتخاف المخلوقين، تخاف -كما يقول بعض الناس- أن يقطعوا عنك الرزق أو يمنعوه، فتدخل في الشرك وأنت لا تشعر بأن الله هو الرزاق ذي القوة المتين؛ أو تخاف إذا أمرت أهلك بطاعة الله؛ أن تهرب إلى بيت أهلها؛ فتتركها على المعصية مثلاً، أو تخاف من أي مخلوق فلا تقول له كلمة الحق بالحكمة أو بالحسنى... هنا يكون الخوف المكروه أو المحرم أو الذي قد يرتقي إلى درجة الشرك.

    حكم من يقول: (ساعة لقلبي وساعة لربي)

    السؤال: كثيراً ما نسمع من بعض الناس، أن العبادة يمكن أن يقطعها الإنسان بشيء من الترفيه والتسلية غير المشروعة، ويرددون: (ساعة لله وساعة لك) أو ما شابه ذلك؛ فما رأيكم بأمثال هؤلاء؟

    الجواب: الذي يقول: إن الإنسان يمكنه أن يقطع العبادة بشيء من الترفيه أو التسلية غير المشروعة، كيف يدعي بعد ذلك أنه في عبادة؟!

    لأن الذي لم يشرعه الله لا يمكن أن يكون طاعة، ولا يمكن أن يكون عبادة.

    وأما قضية (ساعة لله وساعة لك)؛ فإنهم يقولونها بغير علم، ولو تأملوا وأدركوا معناها أو بُعدها؛ لوجدوا أنها تعني الشرك؛ لكن لا نعني أن من يقولها مشرك، بل نقول: إن مآل مثل هذه العبارات إلى الشرك، لأنني في وقت أعبد الله، وفي وقت قد أعبد الهوى، في وقتٍ أطيع الله، وفي الوقت الآخر قد أطيع الهوى والشهوة... فمآل هذا القول إذا وضع قاعدة في الحياة أنه يعني أنني أُشرك بالله، فأجعل له وقتاً فقط، وأقول له: الوقت الآخر لا تتدخل فيه؛ لأن هذا الوقت (لربك) انتهى، والآن أنا في وقت (لنفسك).

    ومن هنا نعرف خطورة مثل هذه الشعارات، وهذا القول هو مشتق من المقولة التي يقول النصارى أن عيسى عليه السلام قالها: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فهؤلاء أيضاً جعلوها بمعنى آخر أي: (هذا لنفسك وهذا لربك) وإذا قلت لواحد منهم: (اتق الله) قال: يا أخي! الموعظة بالمسجد.

    ما معنى هذا؟

    وكأنه يقول لك: أنا عبد لله في المسجد؛ فإذا رأيتني في المسجد فعظني، لكني في الشارع لا أعبده؛ فكيف تطالبني بذلك وكأنك خرجت من بلد، تطبق عليك قوانينه.

    فمثلاً: لو أنك خرجت من أمريكا ثم جاء أحدهم يقول لك: إن النظام الأمريكي ينص على كذا وكذا؛ فستقول له: أنا الآن خارج حدود أمريكا، ولا تهمني قوانين أمريكا في شيء، فهؤلاء يقولون: الموعظة في المسجد فقط، فكأني أصبحت خارج الحدود التي يمكن أن تطبق عليَّ فيها شريعة الله، وهذا هو بعينه مكر الشيطان الذي أخرج به النصارى من دين الله فقالوا: هذا لله وهذا لقيصر.

    أمة العرب قبل البعثة -أيضاً- وقعت في هذا، قال تعالى: وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا [الأنعام:138]، وقال: فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ [الأنعام:136] أي: أولاً: تبدأ القسمة، فهذا لله، وهذا للنفس؛ ثم بعد ذلك الساعة التي نجعلها لله في المسجد، تكون لغير الله! فيدخل الشيطان بالوساوس، وكان الواحد في الصلاة يبيع في الدكان ويشتري ويشوف ويكتب ويقرأ و...!! وأما ما كان لغير الله، فإذا كان أحدهم في البيت أو في الدكان فإنه لا يسمع القرآن ولا يذكر الله؛ لأنه يقول لك: أنا الآن تركت ما لله.

    فإذا كنا نعيش هذا واقعاً تحت مظلة الغفلة عن الله، فنجعله شعاراً ومنهجاً، فإننا نكون قد خططنا للشرك ووقعنا فيه، شعرنا أو لم نشعر بذلك!!!

    واجبنا أمام وجود النظريات الإلحادية في المناهج

    السؤال: ذكرت أن المعلم يكون له دور في العبودية من خلال رسالته العظيمة.

    فمثلاً: مدرس العلوم يجد -أحياناً- أموراً لا توافق الكتاب والسنة، مثل نظرية التطور لدارون اليهودي فهو بدوره سيخبر الطلبة بهذا العيب، لكن بعض المدرسين لا ينبهون على ذلك، فما رأيكم في هذه المناهج؟

    الجواب: في الحقيقة مثل هذه النظريات لا تختص بمدرس فقط، لأن المدرس عندما يكون وظيفته كذا أو عمله كذا، نعني به ما هو في حدود عمله هو؛ أما مثل ذلك فهو واجب على الذي وضع المنهج وعلى الوزارة المسئولة عن المنهج، وعلى العلماء المسئولين، وعلى كل من قرأه!!

    فعندما يكون الأمر أمر نظريات إلحادية شركية، فهنا يجب على كل من بلغته أن يتقدم، وأن يطلب من المسئول أو من بيده الأمر أن يزال وأن يغير هذا المنهج، وأضعف الإيمان أن تقول أمام الطلاب: إن هذه النظرية خاطئة، لكن ذلك لا يكفي، بل لا بد من الكتابة إلى وزارة التعليم أو إلى الوزارة أو إلى العلماء الذين يكون تأثيرهم أقوى من تأثيرنا، فهم يستطيعون أن يغيروا المنهج.

    وأي عمل يسعى فيه بالجد والاجتهاد فلا بد بإذن الله أن يتحقق التغيير، أو تقوم الحجة؛ لأن الله عز وجل جعل عمل الأنبياء إقامة الحجة على العالمين.

    كيف نعبد الله طوال اليوم

    السؤال: عندما تقول لشخص: إنه لم يخلق إلا للعبادة، فإنه يقول: أتريد أن أصلي كل اليوم، فما هو الرد على مثل هؤلاء؟

    الجواب: نقول له: اتق الله كل اليوم، (اتق الله حيثما كنت)، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن كانت الصلاة بمعنى الركعات المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم، فلا نقول لك: صلِّ إلا الصلوات الخمس، وما يسر الله لك بعدها من النوافل، وإن كانت الصلاة بمعنى العبادة، فنعم يجب أن تعبد الله طول اليوم! حتى ولو كنت نائماً؛ كما قال معاذ رضي الله عنه (إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي) هؤلاء الرجال الذي ثاروا قليلاً وربحوا كثيراً، ينام ويحتسب النوم، ويقوم والنوم في ميزانه! ويأتي بعض العبَّاد الذين اجتهدوا طول الليل في العبادة يأتون وهذه العبادة مردودة عليهم، بل تضرب بها وجوههم لماذا؟

    هنا نعرف قيمة الصحابة رضي الله عنهم ونعرف لماذا نحن متأخرون ومنحطون في كل مجال، وهم متفوقون في كل مجال؟

    فقد عرفوا كيف يسيرون، وعرفوا العبادة بمعناها الواسع العظيم، فالواحد منهم كان يتعبد بما يسر الله له ثم ينام، وكلها محسوبة، أما نحن فيقول شبابنا مثل هذه الكلمة! ثم نقول: لماذا نحن متأخرون؟!

    بل حقنا والله أن نتأخر!! وسوف نزداد تأخراً إلا أن يمن الله علينا بالتوبة.

    الانحراف وأسبابه

    السؤال: هل للانحراف عن الطريق المستقيم سببان: (الشهوات والأهواء فقط) أم أن هناك أسباباً أخرى؛ كالتقليد وتعود الإنسان على أشياء معينة غير جائزة؟

    الجواب: إن أدخلت التقليد والعادات ضمن الأهواء فتكفي، ولا حرج في عد أسباب أخرى؛ لأن الله عز وجل يقول في الوصايا التي قال عنها عبد الله بن مسعود: [من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات من آخر سورة الأنعام] وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].

    فطريق الله واحد؛ أما السبل فكثيرة! أودية يهلك فيها البشر؛ فمنهم من يهلك في أودية الشبهات، ومنهم من يهلك في وادي الشهوات، ومنهم من يهلك في وادي التقليد، ومنهم من يهلك في وادي البدعة، ومنهم من يهلك في وادي كذا، والشيطان لا تتوقف مكائده، فكل يوم يأتي بمكيدة، ويأتي ببدعة ويأتي بضلالة، ويأتي بسبيل جديد؛ ليضل الناس عن سبيل الله عز وجل.

    اختصار كتب السلف، وهل ابن القيم صوفي

    السؤال: ظهر كتاب تهذيب مدارج السالكين (لابن القيم) لعبد المنعم صالح العلي؛ فما رأيك في:

    أ- اختصار كتب السلف الذي انتشر مؤخراً.

    ب- ذكر المهذب في أحد عناوينه بأن ابن القيم صوفي؟

    الجواب: لا نستطيع أن نحكم حكماً عاماً مطلقاً على المختصرات، وإنما هي أنواع، والسلف أيضاً اختصروا الكتب؛ فمن كان على عقيدة صحيحة، وغرضه سليم، واختصر جزءاً من كتاب أو كتاباً كاملاً لإفادة الناس أو لإفادة طبقة معينة يشق عليهم الرجوع إلى الكتاب الكبير؛ فهذا لا حرج فيه -إن شاء الله تعالى- على ألاَّ يمنع ذلك القارئ فيستغني عن الأصل؛ لأن الأصل مهم.

    وأما أن يكون المختصر صاحب بدعة وهوى، يشوه كتاباً من كتب السلف، أو طالب شهرة، فبعض الناس مغمور لا يعرفه أحد، لكن يعرف أن ابن تيمية وابن كثير وابن القيم مشهورون، فيربط الاسم المغمور بالاسم المشهور حتى يشتهر، ويختصر -والاختصار سهل غالباً- خاصة على تصور أي كتاب، فينزع ورقة، وينزع الأساليب، ويحذف كذا سطر ويترك الباقي، ثم يعطيه المطبعة؛ فيصدر كتاباً ويصبح شيخاً، فيذهب للمكاتب، ويقول: اشتروا مني خمسين ألف نسخة ووزعوها؛ لأني أصبحت مؤلفاً وعندي علم فهذا ونيته التي أراد.

    أما قول المهذب بأن ابن القيم صوفي، فأظن الأجابة مرت عليه فيما سبق، بل ابن القيم -رحمه الله- في هذا الكتاب نبه على كثير من أخطاء الصوفية، لكن لا ننسى قضية معينة وهي أن بعض الناس يقولون: (إن في كتب شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وابن القيم ميل إلى التصوف أو أحياناً تساهل معهم أو شيء من هذا القبيل) وإن الذي يقرأ كتب شَيْخ الإِسْلامِ وتلميذه شَيْخ الإِسْلامِ ابن القيم قراءة واضحة وجادة ومتعمقة، يجد أنهما عندما يتكلمان عن الفكرة أو عن المبدأ بعيداً عن الأشخاص... كأن يتكلم عن وحدة الوجود فلا يتردد أنها كفر، أو يتكلم عن الفناء، يقول كفر، وعندما يتكلم عن كفريات الصوفية يطلق عليها الكفر ولا يتردد، فيقول عن ابن عربي -مثلاً- أو التلمساني أو السهروري بأنهم كفار، لكنه عندما يتكلم عن الجيلاني أو مؤلف (منازل السائرين) الذي شرحه ابن القيم في (مدارج السالكين) تجد أن الكلام يختلف؛ لأنك لم تعش في واقع أو في عصر وهناك شخص يُعبد مثل عبد القادر الجيلاني.

    والآن فأكثر المسلمين في الهند وفي أفريقيا يعبدون عبد القادر الجيلاني، وتسمعهم ينشدون ويرددون:

    عبد القادر يا جيلاني      يا متصرف في الأكوان!

    كانوا يرددونها في الحلقات! وإذا كانوا في الطائرة، وحصلت مطبقات جوية يقولون: (يا جيلاني يا جيلاني) تصيح بها الطائرة كلها وهم حجاج!! فهناك عبودية غريبة له.

    فأنت في هذا الواقع لو جئت وقلت لهم: هذا فلان كذا فأنت مخطئ؛ لأن عبد القادر الجيلاني لم يكن يدعو إلى عبادة نفسه.

    ثانياً: أنك تثيرهم فلا يستفيدون من دعوتك، بل تأتي بكتب الجيلاني التي يقول فيها -مثلاً- لا يكون البعد لله ولي إلا إذا كان على عقيدة أحمد بن جنبل.

    تقول: يا جيلانية، هذا الجيلاني يقول هذا الكلام، ما رأيكم؟

    ثم تقول لهم: التصوف الذي أنتم عليه تصوف لا يقتضي منكم الشرك، ولا يقتضي منكم دعاء هذا الرجل؛ لأن الرجل يريد أن تكونوا على طريق الله فتعبدوا الله وحده.

    كمثل الشيخ أبو بكر الجزائري فإنه من أعداء التصوف؛ لكن له كتيب إلى التصوف يا عباد الله... فالرجل لا يريد به أن يدعو إلى التصوف، لكن يضع لهم هذا الاسم لعلهم ينقادون إليه.

    على كل حال! نحن لا نقول: هذه وجهة صحيحة أو خاطئة، لكن نقول: أنت عندما تتعامل مع واقع صوفية، لا تصدمهم وتواجهم مواجهة؛ فمن باب الحكمة والدعوة أنك تأخذ معهم المنهج السليم فشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وابن القيم وُجدا في وقت كانت الصوفية طاغية حتى على علماء الحديث الذين يذكرون كلام الله ورسوله، وعلماء التفسير، فكان لا بد لهم إذا جاءوا في مواضع العامة أن يأتوا بكلام ظاهره يقبل حتى لا يثيروها، هذا أحد الأسباب عملياً ودعوياً، فأنت تدعوهم، ومن باب دعوتهم إلى العقيدة الصحيحة، لا تبدأ بأن تصدمهم بعقائد معينة تظهر منهم؛ لكن عندما تتحدث عن البدعة المجردة أو عن الدين نفسه أو عن الشرك مجرداً؛ تقول ما تشاء، ولذلك تجد في فتاوى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، أمثلة لهذا وهذا؛ لأنه ذهب إلى مصر مطروداً، فإذا وصل إلى هناك، لا يستطيع أن يقول لهم: هذا ضلال وهذا كفر -بهذه المواجهة- وإنما يأتي من باب أوسع وأرحب قليلاً، فلا يعني هذا أنه من التناقض.

    فعندما يعالج الإنسان واقعاً معيناً قد يأخذ بنوع من الحكمة ومن التدرج، لا يفطن إليها من يعيش بعيداً عن هذا الواقع.

    الخشوع في الصلاة

    السؤال: مما نجد في حضارة العبودية في هذا العصر، هو أن العبادة هي تلك الحركات الخالية من أي خشوع، فما هو العلاج لذلك؟

    الجواب: يجب أن نعبد الله كما شرع، فالصلاة يجب أن نقيم هيئتها كما صلاَّها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه مما يجعلك تخشع، أن تقيم العمل كما أمر الله، فنعلم أنها بالقلب، والخشوع هو روحها، والطمأنينة هي لبها، والعلاج لذلك هو دوام الخشوع ودوام الذكر واستحضار معاني الآيات والصلاة كأنك مودع... كل منا يعاني من هذه المشكلة، لكن بقدر ما تجاهد نفسك على أن تكون صلاتك على أكمل وجه؛ فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يستجيب لك.

    كتاب الإيمان حقيقيته وأركانه

    السؤال: كتاب (الإيمان حقيقته وأركانه) لـمحمد نعيم ياسين سمعنا أن فيه بعض الأخطاء العقدية خاصة في قضية خلق القرآن، فهل هذا صحيح؟

    الجواب: الذي أعرفه أن هذا الكتاب ليس لصاحبه فيه جهد مستقل، فهو اختصر وجمع من عدة كتب، ولا أذكر الآن أن في مسألة خلق القرآن خطأ، ولا أذكر صواباً لأني بعيد عهد به، فلا أستطيع أن أجيبك، لا بنعم، ولا بلا؛ لكن إذا كان الكتاب يتحدث عن القرآن بأن لله تعالى كلامين: كلام نفسي قائم بذاته، وكلام لفظي؛ فهذه هي البدعة التي يخشى هو وأمثاله أن يقعوا فيها، وهي من كلام الأشاعرة إذا كانت هكذا.

    أما إذا ذكر أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ولم يتجاوز ذلك، أو ذكر أقوال السلف فيه -وهذا الذي أظنه وأرجحه- فليس هناك خطأ، لأن الحكم على أشياء وهي غائبة يوجد اللبس، لكن عندما يكون النص الذي تشك فيه أمامك فمن الممكن أن يعرف هل فيه خطأ أم لا.

    ترجمة علوم اليونان (فائدتها- وخطرها)

    السؤال: هل يفهم من حديثكم عن الترجمة في عهد المأمون أن الحضارة الإسلامية لم تستند إلى علوم الإغريق واليونان في الطب ولا الهندسة ولا الرياضيات وغيرها من العلوم؟

    الجواب: فرق بين أن نتلقى عن غيرنا وبين أن نستفيد من علمه، بل يجب أن نستفيد من علوم غيرنا والحكمة ضالة المؤمن، فقد استفاد المسلمون في الطب والهندسة وغيرها من العلوم.

    من اليونان ومن غيرهم، وعدَّلوا وأضافوا وشرحوا وزادوا، وإنما كان الكلام مقتصراً في قضية التعبد، فإذا أخذنا عن غير الله ما نعبد به الله عز وجل وما نعرف به الله، فهنا يأتي الضلال.

    نضرب لكم مثالاً على ذلك: فمثلاً اليونان تكلموا عن الله كلاماً مجرداً فهم يقولون: إن الله وجود مطلق لا يوصف بأي صفة، وإذا كان لا بد أن يوصف، يوصف بالنفي فقط، ليس بكذا ولا بكذا..، فلما جاءوا إلى قضية بديهية عندنا جميعاً وهي قضية أين الله عز وجل؟

    هم يقولون: لا داخل العالم ولا خارجه!! وهكذا كان اليونان يعتقدون؛ لأنه هو ليس شيئاً عندهم، فهو مجرد وجود مطلق لا يوصف بشيء! فقالوا: لا داخل العالم ولا خارجه! وهذه عقيدتهم.

    فجاء المسلمون ولم يهتموا بنقل الطب أو العلوم، بل نقلوا هذه العقيدة؛ وكما يذكر شَيْخ الإِسْلامِ ابن القيم أن الأدلة على علو الله عز وجل على خلقه تقارب الثلاثة آلاف دليل، فهي بالآلاف ومن أوضحها دليل الفطرة، فكل مخلوق يشعر أن الله عز وجل فوق، حتى رائد الفضاء الملحد الشيوعي لما صعد على المركبة إلى الفضاء، ثم نزل إلى الأرض، قال: (لما صعدت رأيت الله) أي: آمنت بوجود الله، فاضطره استالين أن يغير عبارته إلى (لما صعدت لم أجد الله)، أي: على مذهبه الكافر.

    أي: لو أنه موجود فسيكون فوق، وهذه هي الفطرة البشرية؛ لكن أخذ المسلمون عقيد أن الله لا داخل العالم ولا خارجه، وكتاب المواقف في العقيدة -وهو الذي يُدرَّس الآن في معظم الجامعات في العالم الإسلامي خارج المملكة- يقول: ''إن الله لا داخل العالم ولا خارجه''.

    إذاً: فالشاب الأوروبي الذي هرب من دين النصارى لأنه يقول: (الله ثلاثة: الأب، والابن، وروح القدس) - أي: ثلاثة تساوي واحد- فقال: هذه عقيدة لا يقبلها العقل، وأنا أرفض هذه العقيدة وألحد بها أو آمن بنظرية دارون أو غيرها ثم رفضها؛ لأنها لا يقبلها العقل، أفنأتي نحن أمة القرآن ونقول له: تعال! أنت لا تريد تلك العقيدة، فعندنا العقيدة الصحيحة... ما هي؟!

    نقول له: الله لا داخل العالم ولا خارجه! فهل يؤمن؟!

    لا يمكن أبداً!

    هنا نعرف جناية هذه العلوم وهذه البدع وجناية العقائد المحرفة... على دين الله عز وجل.

    حقيقة حب الرسول صلى الله عليه وسلم

    السؤال: بعض الناس يقولون: إننا لم نحب الرسول لذاته بل نحبه ونتبع ما جاء به، نرجو توضيح ذلك؟

    الجواب: الغلو قد يذهب بالإنسان في ما لم يشرعه الله عز وجل، فلماذا نفرق (لذاته أو لما جاء به)؟

    فبمقتضى أنه (رسول) الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فنحن نحبه ونجله ونعظمه، والصحابة رضي الله عنهم كانوا يحبون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكانوا يتسابقون على ما بقي من وضوئه، وكانوا إذا دخل بيت أحدهم -كما في الأحاديث الكثيرة- كانوا يطلبون منه أن يصلي في البيت، يتبركون به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما شرب من قربة أحدهم؛ قطعوا الفم لماذا؟

    تبركاً؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمسه، ومن كانت له شعرة من شعر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يحتفظ بها.

    فنحن لا نغلو ولا نريد أن نلغي هذه أبداً، إنما إنكارنا على أهل البدع أنهم يتحدثون عن معجزات ما قبل المولد ثم عن المولد ثم انقطع الحديث!! فيتركون الهداية والنور والدين والدعوة، ويتعلقون بتقديس خيالي وهمي يجعل السيرة وكأنها خيالات وأوهام فقط!

    فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندهم لم يأت ليخرج الثقلين من العبودية لغير الله، أو ليحرر العالم، ولا يذكرون إلا أنه سقطت الشرفات والبحيرة جفت، وكذا وكذا والشجرة صار لها كذا والحجر كلمه والجذع نطق، هذه بعضها صحيح، لكنه جزء فقط مما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن تعظيم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندهم، وأنهم يشركون بالله، ويدعون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويستغيثون ويكتبون كتب الاستغاثة بالرسول، ويسمون أبناءهم: عبد الرسول، فإذا أنكرت عليهم، قالوا: أنت لا تحب رسول الله.

    والخلاصة: أننا نحب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لذاته ولما جاء به، ولا نفرق ولا نتنطع.

    والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755986622