وبعد:
يجب ابتداء الطواف من الحجر الأسود؛ حتى يحسب لك شوط كامل لابد من البدء من الحجر الأسود, فلو بدأ بعده بالركن الشامي مثلاً، ثم أكمل الركن الشامي الآخر، ثم الركن اليماني، ثم وصل إلى الحجر الأسود كل هذا غير معتد به, فإذا وصل إلى الحجر الأسود بدأ يعد على نفسه هذا الشوط الأول.
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود أول ما يطوف يخب ثلاثة أطواف من السبعة ...), فهنا أول ما يطوف يستلم صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود أو الركن الأسود، ثم يخب, والخب: هو الإسراع في المشي، وهو الرمل, فيرمل ثلاثة أطواف كما ذكرنا في الحديث السابق, فإن ابتدأ من غيره لم يعتد بما فعله حتى يصل إلى الحجر الأسود, فإذا وصله نكان ذلك أول طوافه, ويستحب أن يستقبل الحجر الأسود في أول طوافه بوجهه، ويدنو منه، بشرط ألا يؤذي أحداً, ولو أنه وقف إليه وأعطاه وجهه فهذه هي السنة, أما لو أنه أعطاه جانبه الأيسر مثلاً ولم يقف ومر مباشرة فطوافه صحيح، ولكن الأكمل أن يفعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فيستقبل الحجر الأسود بوجهه ولا يؤذي أحداً عندما يزاحم على الحجر الأسود، ويمر عن يمينه حتى يجاوز الحجر الأسود, ثم بعد ذلك يجعل جانبه الأيسر إلى البيت ويطوف حول البيت, فيجعل يساره إلى البيت ويمينه إلى الخارج، ولو فعل هذا من أول أمره وترك الاستقبال لجاز.
وإذا لم يجعل البيت عن يمينه ولا عن يساره, كأن طاف بالبيت ووجهه إلى البيت مستقبله, فكذلك هذا مكروه، ولكن الطواف صحيح, فعلى الإنسان ألا يقلب الهيئة حتى ولو ظن في نفسه أنه ينظر إلى البيت فيملأ عينه من البيت فهذا خطأ, والصواب: أن يجعل البيت عن يساره، ويكون متجهاً إلى أمامه جاعلاً البيت عن يساره, فإذا وصل إلى الحجر الأسود استقبله, ولو جعل البيت عن يمينه ومشى إلى خلفه مخالفاً هذا الذي يفعله فقد خالف فيه هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصح منه هذا الطواف.
إذاً: كأن الصورة هنا: أنه أعطى يمينه إلى البيت ومشى جهة ظهره، فلو فعل وطاف على هذه الصورة فالطواف باطل، وسبب البطلان أنه منابذ لما ورد الشرع به.
وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك)، وفي رواية قال: (أما والله لقد علمت أنك حجر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك)، فهذا من عمر -كما ذكرنا قبل ذلك- يريد أن يعلم الناس شيئاً، والتعليم قد يكون بالشرح مباشرة أنه يقبل الحجر الأسود من أجل كذا وكذا, وقد يكون التعليم عن طريق المسألة، فيسأل المسألة ويجيب عنها عن طريق الاستفهام, أو عن طريق إظهار التعجب من الشيء، حتى يشوق السامع ليسمع الجواب, وليس في هذا اعتراض من عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه على هذا الذي يصنعه, ولكن إرادة إعلام الناس, فلذلك يقول: إن هذا الحجر لا ينفع ولا يضر, يقول الإمام النووي رحمه الله: إنما قال عمر رضي الله عنه ذلك ليسمع الناس هذا الكلام، ويشيع بينهم، وقد كان كثير منهم حديث عهد بعبادة الأحجار, فهذا هو السبب: أنهم كانوا قريبين في عهدهم من عبادة الأصنام، ولذلك أحب عمر رضي الله عنه أن يقول: نحن لا نعبد الحجر ولا نرجو من الحجر نفعاً ولا ضراً؛ حتى لا يظن الناس أن العبادة من أجل ذلك، أو يظنون أن هذا مشابه لما كانوا يصنعونه بالأصنام، يقول: إن هذه التحية أمرنا بها، وليست عبادة للحجر، ونحن نستيقن أن الحجر لا ينفع ولا يضر، وإنما نفعل ذلك اقتداء بالنبي صلوات الله وسلامه عليه, قال: (ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك)، فخاف أن يغتر البعض فقال ما قال، والله أعلم.
إذاً: إما أن يقبل بفمه، فإن لم يقدر فيستلمه بيده، وإن كان المكان يسمح له بأن يمد شيئاً إلى الحجر ويقبله فعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا أشار من بعيد باليد إلى الحجر فهل يقبل يده أو لا؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين: فالجمهور على أنه لا يقبل يده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أشار بمحجن في يده ثبتت عنه أنه كان يقبل المحجن عليه الصلاة والسلام، فذكروا أن المحجن لمس الحجر ولذلك قبله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يمس الحجر فلا يقبل, والإمام النووي اختار أنه إذا أشار بيده قبل يده، وإذا أشار من بعيد أيضاً قبل يده؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم)، فقال: إن لم يتمكن من الاستلام أشار بيده أو بشيء في يده للاستلام, ثم قبل ما أشار به، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم).
واحتج الجمهور بما جاء في الصحيحين عن ابن عباس قال: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن)، وفي صحيح مسلم عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت، ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن)، فالجمهور على أن الشيء الذي يلمس الحجر هو الذي يقبل، سواء كانت اليد أو المحجن والأمر في ذلك يسير، فإن لم يتمكن قلنا: إنه يشير بيده أو يشير بشيء في يده.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير كلما أتى الركن أشار إليه بشيء كان عنده...) فالسنة أنه كلما أتيت إلى الركن تشير إليه إذا كنت بعيداً، وإذا كنت قريباً قبلته, ولـمسلم عن سويد بن غفلة قال: (رأيت
والشاهد منه: أنه إذا استلم الحجر قال: باسم الله والله أكبر, قال (ثم يرمل ثلاثة أشواط يمشي ما بين الركنين، فإذا أتى على الحجر استلمه وكبر...) فمن السنة: أنه يضع اليد إذا استلم ويقول: باسم الله والله أكبر.
ولا يستحب للنساء تقبيل الحجر ولا استلامه إلا عند خلو المطاف, وعندما تصل المرأة في الزحام إلى الحجر سيكون في ذلك مشقة شديدة عليها، وحرج شديد جداً على الرجال الموجودين, عندما تتنازع مع الرجال وتحتك بهم فيزحمونها وتزحمهم, ولعلها تتكشف في ذلك, فلا يستحب لها أن تصنع ذلك إلا إذا كان هناك فراغ فيستحب لها أن تصنعه, أما مزاحمة الرجال فكم تقع فيه من ملامسة ومزاحمة وضغط مع الرجال وتكشف, فلا تصل إلى تطبيق شيء مستحب حتى تقع في حرام كبير, فلا يستحب للمرأة إلا إذا كان المكان فارغاً وتقدر أن تصل دون أن تؤذي أو تؤذى.
والركن الأسود له فضيلتان: أنه مبني على قواعد إبراهيم، وفيه الحجر الأسود, فيشرع فيه التقبيل والمسح باليدين أو المس والسجود عليه.
والركن اليماني الآخر مبني على قواعد إبراهيم, فالمستحب فيه أن يمسح باليد، وفيه فضل وثواب، فإن الله عز وجل يحط الذنوب حطاً بهذا المسح.
والركنان الشاميان قصرت النفقة بقريش أن يبنوهما على قواعد إبراهيم, فدخلوا إلى الكعبة قليلاً، فتوجد ستة أو سبعة أذرع من البيت هي خارج البيت, فلذلك لا يستحب في الركنين الشاميين لا المسح ولا التقبيل.
وجاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (ما تركت استلام هذين الركنين: اليماني والحجر الأسود منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما في شدة ولا رخاء)، أي: أنه كان يحاول دائماً أن يستلم الحجر الأسود والركن اليماني في الشدة والرخاء, وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني), وجاء عن ابن الزبير أنه كان يستلم الأربعة الأركان, ولعله لما هدم الكعبة في عهده وبناها مرة أخرى على قواعد إبراهيم فقال: ليس شيء من البيت مهجور, فالركنان اليمانيان الآن على قواعد إبراهيم، فكان يستلمهما, ولكن الركنين الشاميين هما على ما كانا عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فليسا على قواعد إبراهيم, وسنة النبي صلى الله عليه وسلم استلام الركنين اليمانيين دون الركنين الشاميين.
وفي حديث آخر رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما، ولولا ذلك لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب)، الركن: هو الحجر الأسود, والمقام: هو مقام إبراهيم الذي قام عليه وهو يبني الكعبة, فجاء في هذا الحديث الصحيح أن (الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة, لولا أن الله طمس نورهما لأضاءتا -أي: هاتان الياقوتتان- لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب, ولولا ما مسهما من خطايا بني آدم لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب, وما مسهما من ذي عاهة ولا سقيم إلا شفي)، فلو أن الله تركهما على حالتهما لم يطمس نورهما لكان أي إنسان يمسهما شفاه الله عز وجل, أي إنسان سقيم أو ذي عاهة, قال: (وما مسهما من ذي عاهة ولا سقيم إلا شفي) فهنا طمس الله عز وجل نورهما بسبب خطايا بني آدم, وفي رواية: (لولا ما مسهما من أنجاس الجاهلية ما مسه ذو عاهة إلا شفي, وما على الأرض شيء من الجنة غيره) أي: غير ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث.
وروى النسائي عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن مسحهما يحطان الخطيئة)، وسمعته يقول: (من طاف سبعاً فهو كعتق رقبة)، فذكر هنا مس الاثنين: الحجر الأسود والركن اليماني فقال: (إن مسحهما يحطان الخطيئة) أي: بهذا المسح كل من الاثنين يحطان الخطيئة عمن مسهما؛ ولذلك فالسنة أن تفعل ما صنعه النبي صلى الله عليه وسلم وما أرشد إليه, فالحجر الأسود تمسه بيدك وتقبله, والركن اليماني تمسه بيدك, وهذا المسح باليد يحط الخطيئات كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية لـأحمد : (إن استلام الركنين يحطان الذنوب) والمنطوق منه: استلام الركنين, والمفهوم منه: أن غير الركنين ليس فيه هذه الفضيلة, فالإنسان الذي يتعب نفسه فيمسح البيت كله عندما يمر فهذا خطأ، ولم يفعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما فعل ذلك مع الركنين, وجاءت الفضيلة في مسح الركنين دون غيرهما.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر: (والله ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما، وله لسان ينطق به، يشهد على من استلمه بالحق)، فهنا يكون النفع أن الله سبحانه يجعل له ما ينطق به, فيقول الحجر الأسود: فلان قبلني, وفلان مسني, وفلان وحد الله عز وجل عندي, قال صلى الله عليه وسلم: (والله ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد على من استلمه بالحق) وهنا قيد: (من استلمه بالحق)، وكأن هناك من يستلمه بحق ومن يستلمه بغير حق, فالذي يستلمه بالحق ذهب موحداً لربه سبحانه وتعالى، ولم يظلم أحداً, ولم يبغ منكراً في هذا المكان, استلمه لا لسمعة ولا رياء, ولا يقال: فلان استلم وفلان حج، ولم يزاحم ولم يؤذ الخلق في هذا المكان، فاستلم الحجر بحق فإنه يشهد له يوم القيامة, أما الذي يؤذي الخلق ويضرب الناس حتى يستلمه فهذا استلمه بغير حق, فقد آذى الخلق في صنيعه، فالحجر يشهد على من استلمه بحق فقط.
أما المرأة فيستحب لها ألا تدنو في حال طواف الرجال، بل تكون في حاشية المطاف, أي: خلف الرجال متأخرة ولا تكون قريبة حتى لا تؤذى ولا تختلط بالرجال فتتأذى.
ويستحب لها أن تطوف في الليل إذا كان الليل أهون في الطواف وأقل في العدد؛ فإنه أصون لها ولغيرها من الملامسة والفتنة, فإن كان المطاف خالياً من الرجال فيستحب لها أن تدنو.
والمحافظة على الرمل مع البعد من البيت أفضل من القرب بلا رمل, وهنا التخيير بين أن تكون قريباً من البيت أو بعيداً من البيت, فنقول: القرب من البيت أفضل, ولكن أن تبتعد قليلاً وتأتي بالسنن أفضل من ترك سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم مع القرب, فإذا كنت بعيداً قليلاً وتقدر على الرمل فهو أفضل، والرمل معناه: الإسراع في المشي كهيئة الذي يجري، فهذا يسمى بالخبب أيضاً.
وشرط الطواف وقوعه في المسجد الحرام, فلو أن إنساناً طاف خارج المسجد الحرام فلا يجزئ, والمسجد الحرام كلما وسع كان ما بداخله يعد من المسجد الحرام, وقد وسع المسجد حتى صار أضعاف ما كان عليه قبل، لكن لو كان في نفس المكان الآن وهو خارج المسجد الحرام من غير توسيع ولا شيء فهذا يسمى خارجاً منه, فالطواف لابد أن يكون داخل المسجد.
ولا بأس بالحائل في المسجد الحرام بين الطائف والبيت, فإن الذي يطوف في الدور الثاني أو يطوف وراء المسجد يمكن أثناء الطواف أن يكون هناك حوائل تمنعه من النظر إلى البيت ولا يرى البيت، فالطواف صحيح.
ويجوز الطواف في أخريات المسجد وعلى سطوح المسجد كما ذكرنا, فإن جعل سطح المسجد أعلى من سطح الكعبة وطاف على سطح المسجد صح وإن ارتفع عن محاذاة الكعبة, بمعنى: لو فرضنا أنه يوجد دوران، ثم أصبحت أربعة أدوار، ثم وصلت إلى عشرة أدوار مثلاً، وهو يطوف في الدور المرتفع, فطالما أنه داخل المسجد فالطواف صحيح حتى لو كان أعلى من سطح الكعبة.
والرمل يكون في الأشواط الثلاثة الأولى، وهي السنة، ويسن أن يمشي في الأربعة الأشواط الأخيرة، فلو فاته الرمل فقد ذكرنا في الحديث السابق أنه لا يشرع قضاؤه؛ لأن الثلاثة الأشواط الأولى هي التي فيها الرمل, والأربعة التي بعد ذلك السنة فيها المشي, فلو أنه نسي الرمل في الأولى فلا يقضيه في الثانية؛ لأنه ضيع السنة في الأشواط الأولى فلم يفعلها، وسيضيع السنة في الأشواط الأخيرة فلا يفعلها وهي المشي, فكل شيء سنته في حينه.
ويستوعب البيت بالرمل فيرمل من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود، ولا يقف إلا في حال الاستلام والتقبيل والسجود على الحجر, وإن كان الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه أنهم رملوا ما بين الركنين فقط, فعلى ذلك يرمل حتى يصل إلى الركن اليماني فإن أكمل رملاً جاز، وإن وقف كان مع ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم, وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم ما منعه أن يأمرهم بالرمل حول البيت كله إلا الإبقاء عليهم، فقد كانوا في هذا المكان مختفين عن الكفار, والكفار لم يكونوا يرون المسلمين، فأمرهم بالمشي إبقاءً عليهم, ولذلك استحب من استحب من العلماء أن يرمل في الثلاثة الأشواط بجميع البيت من الحجر إلى الحجر، وقالوا: لأن الصحابة رخص لهم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا لأنهم كانوا يختبئون من الكفار, فطالما أنه لا يوجد كفار ولا شيء من ذلك فيرجع إلى العادة، فإن أول ثلاثة أشواط يكون فيها الرمل، والأربعة بعد ذلك يكون فيها المشي حول البيت كله, فلو أنه فعل ذلك كله فرمل، أو وصل إلى الركن اليماني ثم مشى ودعا ربه جاز ذلك.
عن جابر رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف) وجابر هنا يروي هذا الحديث في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا معروف أنه كان بعد العمرة التي كان فيها الرمل على هذه الهيئة, فـجابر لم يقل: إنه ما بين الركنين مشى عليه الصلاة والسلام, فعلى ذلك إذا مشى بين الركنين ودعا جاز، ولكن الأولى أن يستوعب الثلاثة الأشواط الأولى بالخب أو بالرمل؛ لحديث جابر ، وقد جاء عن ابن عمر مثل ذلك، وهذا كان في حجة الوداع.
فيسن الرمل في طواف القدوم مطلقاً، والاضطباع ملازم للرمل, أي: أن الطواف الذي فيه الرمل سيكون فيه اضطباع، وطواف ليس فيه رمل ليس فيه اضطباع.
وطواف القدوم هو أول طواف تطوفه بالبيت، فإذا كنت حاجاً فتطوف طواف القدوم, وإذا كنت قارناً طفت طواف القدوم, وإذا كنت معتمراً فتطوف طواف العمرة, فعلى ذلك الطواف الذي تقدم فيه وتطوف بالبيت سيكون فيه رمل واضطباع.
ولو كان في حاشية المطاف نساء ولم يأمن ملامستهن لو تباعد فالقرب بلا رمل أولى من البعد مع الرمل, أي: لو كان النساء يطفن متأخرات في الخلف في حاشية المطاف, وهو أراد أن يرمل وتأخر من أجل أن يأتي بهذه السنة، فإذا كان سيخالط النساء وسيكون هناك شيء من الأذى أو الاختلاط فعلى ذلك يقرب من البيت حتى ولو لم يكن يقدر على الرمل.
ومتى تعذر الرمل استحب أن يتحرك في مشيه ويري من نفسه أنه لو أمكنه الرمل لرمل, والنبي صلى الله عليه وسلم إذا أمرنا بشيء فنأتي منه ما استطعنا, فالذي يطوف بالبيت طواف القدوم قلنا: يشرع له الرمل, فإذا كان في شدة الزحام كموسم الحج مثلاً أو في العمرة في رمضان ونحو ذلك، فلعلك لا تقدر على الرمل فتكون ماشياً مثل هيئة المحمول من شدة الزحام الذي حولك, فهنا يستحب أن يري من نفسه ذلك، أي: أنه لو لم يكن هناك زحام لكان رمل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
ولو طاف راكباً أو محمولاً فيستحب أن يحرك الدابة فيسرع كإسراع الرامل, والمريض الذي يكون يطوف كرسي أو محمولاً في محمل فيستحب لمن يمر به أن يسرع في الوقت الذي فيه الرمل ويرمل به.
ويستحب أن يدعو أيضاً في الأشواط الأربعة الأخيرة التي يمشيها, وفي كل طواف بين الركنين يدعو بقوله: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] وفي باقي الطواف يدعو بما شاء من غير أن يؤذي أحداً برفع الصوت بالدعاء.
وأفضل الدعاء أن يقول: اللهم اغفر وارحم، واعف عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم، فكأنه أفضل الدعاء لأنه دعاء بالمغفرة والرحمة ودعاء بالعفو, والإنسان يسأل ربه سبحانه العفو والعافية كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم (ما سأل عبد ربه خيراً له من سؤاله العفو والعافية)، فيدعو بالمغفرة والرحمة والعفو، وهذا أيضاً ليس ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما ثبت عن ابن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما أنه كان يدعو بذلك: (اللهم اغفر وارحم، واعف عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم) كذلك دعاء القرآن: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].
ولو ترك الاضطباع والرمل والاستلام والتقبيل والدعاء في الطواف فما الحكم؟ كل هذه سنن لو تركها عمداً أو ناسياً فلاشيء عليه، ولكن فاتته الفضيلة.
ولعله لم يقصد ذلك ولكن يقصد أنه لا يبعد عنه ابنه فيضيع منه, فهنا أيضاً الحبل الذي يكون ممدوداً بينه وبين ابنه سيمنع الناس من المرور، فإذا أردت ذلك فأمسك الإنسان بيده.
ويكره له الأكل والشرب أثناء الطواف، ولو فعل ذلك فطوافه صحيح, وكراهة الشرب أخف من كراهة الأكل في طوافه, ولا يبطل الطواف بواحد منهما.
ويكره للطائف أن يشبك أصابعه أو يفرقعها, فالطائف مشغول بالدعاء وليس مشغولاً بالتسلية بحيث يفرقع أصابعه أو يتمطى أو يشبك بين أصابعه في الطواف.
ويكره أن يطوف وهو يدافع البول أو الغائط, كما يكره ذلك في الصلاة، والعلة في ذلك: أن المصلي مشغول بذكر الله عز وجل، فإذا انشغل ببطنه ببول أو غائط فلن ينتبه لما يدعو به أو لما يقوله, فهو يريد أن ينتهي من الصلاة من أجل أن يخرج، وكذلك في الطواف.
والطواف عبادة وتوحيد لله سبحانه وتعالى، وإظهار للتضرع والخشوع بين يديه سبحانه, وهذا كله ينافيه أن الإنسان يدافعه البول أو الغائط، فيريد أن ينتهي بسرعة من غير دعاء ولا خشوع حتى يذهب إلى قضاء حاجته، فنقول: اذهب واقض حاجتك، ثم بعد ذلك طف بالبيت.
ويلزمه أن يصون نظره عمن لا يحل له النظر إليه, وليس هذا للطائف فقط، بل الطائف وغير الطائف, فالمؤمن يصون نظره عن أن ينظر إلى الحرام، أو أن ينظر إلى النساء والمردان، فيحرم عليه أن ينظر نظرة توقعه في النار, فإذا كان هذا في غير الحج والعمرة فيكون في بيت الله الحرام من باب أولى أن يجتنب ما حرم الله سبحانه وتعالى.
ويصون نظره وقلبه عن احتقار من يراهم من الضعفاء وغيرهم, فلعل الإنسان في أثناء الطواف وهو في حرم الله يرى إنساناً ضعيفاًً عاجزاً فينظر إليه بنظرة الاحتقار, والذي جعله كذلك هو الله سبحانه القادر على أن يجعلنا مثله, فالإنسان لا يحتقر إنساناً ضعيفاً أو إنساناً عاجزاً، سواء أوقعه هذا في أشياء من الخطأ أو أنه أوقعه في شيء مما يبغض الناس, فعلى ذلك ارحم خلق الله سبحانه وتعالى، ومر بالمعروف وانه عن المنكر من غير أن تزدري إنساناً, والإنسان الذي ترى فيه شيئاً من الضعف في عمله وجسده، أو جهل شيئاً من المناسك علمه برفق، ولا داعي لأن تستكبر عليه، وأن تنظر إليه أنه جاهل وأحمق وكذا, ولكن علم الإنسان الجاهل في مثل هذا الموسم.
ولو أقيمت الصلاة المكتوبة وهو في أثناء الطواف استحب له قطعه ليصليها ثم يبني على الأول, فهنا إذا أقيمت الصلاة المكتوبة فلا يقل: سأكمل الطواف، وإلى أن يقرأ الإمام الفاتحة أكون قد انتهيت، بل المستحب أن تقف في هذه الحالة عندما تقام الصلاة وتصلي مع الناس، ثم بعد ذلك أكمل, لكن لا يجوز له أن يسمع الإمام يصلي بالناس ويقول: أكمل الطواف حتى ولو فاتتني الصلاة, ولكن يجب عليه أن يقطع طوافه ويصلي، ثم يكمل طوافه بعد الصلاة؛ لأنه يجب عليه أن يصلي مع الجماعة.
والمستحب أن يصليهما خلف مقام إبراهيم, وإذا كان قريباً فهذا هو الأفضل، لكن لو فرضنا أن قربك مع ازدحام الطواف سيؤذي الطائفين ويعطل الطواف، فترجع وتتأخر قليلاً بحيث يكون أمامك مقام إبراهيم فتصلي وتتوجه إليه, لكن لو فرضنا أنك كنت في الداخل وبعدما انتهيت من الطواف يصعب عليك أن ترجع إلى مقام إبراهيم، فيجوز لك أن تصلي ركعتين داخل الحجر, وفي أي مكان من المسجد صليتهما جاز لك ذلك, فإن صلاهما خارج الحرم في وطنه أو غيره من أقطار الأرض صحت وأجزأته, فيكون قوله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] ليس على الوجوب، فإذا فاته أن يصلي خلف مقام إبراهيم لشدة الزحام وخرج حتى صار خارج الحرم أو خارج المسجد الحرام فصلاهما جاز له, وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه صلاهما بذي طوى كما سيأتي.
ولو أنه نسيهما فلم يصلهما وتذكرهما بعدما رجع إلى فندقه أو إلى بلده فليصليهما قضاءً, وليستا واجبتين.
ويصح السعي قبل صلاة ركعتي الطواف, فلو أنه طاف بالبيت وخرج إلى المسعى فسعا، ثم تذكر أنه لم يصل الركعتين فليصليهما وهو في ذلك المكان.
وإذا أراد أن يطوف في الحال طوافين أو أكثر استحب له أن يصلي عقب كل طواف ركعتين, وقد قلنا: من السنة للذي يذهب إلى بيت الله الحرام أن يكثر من الطواف, فإذا انتهيت من طواف العمرة أو طواف الحج وأنت موجود هناك في مكة فالسنة أنك كلما توجهت إلى البيت تطوف بالبيت كلما قدرت على ذلك.
ولو أن إنساناً طاف بالبيت وأحب أن يطوف طوافاً أو طوافين أو ثلاثة أطوفة فيجوز له ذلك, ولكن يستحب هنا إذا طفت سبعة أطواف بالبيت أن تصلي ركعتين, وإذا طفت ثانيةً فصل ركعتين أخرى, ولو فرضنا أنه جمع هذا كله فطاف ثلاث مرات في كل مرة سبع أشواط، ثم صلى ركعتين عن الجميع, أو صلى لكل طواف ركعتين فإنه يصح ذلك, ولو طاف أسابيع متصلة ثم ركع ركعتين جاز له, والأسابيع: جمع أسبوع، وكل أسبوع منها سبعة أطواف بالبيت, يقال: طاف أسبوعياً بالبيت، ومعناه: طاف سبعة أشواط، فيصلي بعدها ركعتين, وإذا لم يفعل وطاف سبعة أشواط أخرى ثم سبعة أشواط ثالثة فهنا طاف ثلاثة أسابيع فهذا هو معنى الأسابيع.
وتمتاز هذه الصلاة عن غيرها بأنه يدخلها النيابة, وذلك عندما يأتي إنسان يحج عن إنسان آخر فيصلي ركعتي الطواف، فهذه سنة يصليها عن المحجوج عنه, فهنا دخلت النيابة في هذه الحالة, أو يعتمر عن إنسان ميت فهنا هذه الصلاة تكون لهذا الإنسان المتوفى, فإن الأجير في الحج يصليهما عنه، وليس في الشرع صلاة تدخلها النيابة غير هذه, ويلتحق بالأجير ولي الصبي، فلو أنه كان معه صبي صغير دون التمييز فطاف بالصبي سبعة أطواف، فلن يقول للصبي: صل ركعتين عن نفسك؛ لأن الصبي يؤمر بالصلاة إذا كان له سبع سنوات, وإذا كان دون ذلك فإن الولي يصلي الركعتين, فإن كان الصبي مميزاً فهذا المحرم يطوف به ويصلي ركعتين، وإلا صلى عنه الولي إذا كان دون ذلك.
ويستحب أن يدعو عقب صلاته هذه خلف المقام بما أحب من أمر الآخرة والدنيا, فبعدما يصلي ركعتين خلف المقام يستحب أن يدعو بالدعاء الذي كان يدعو به ابن عمر وسيأتي.
ولو طاف المحرم وهو لابس المخيط ونحوه صح طوافه، وتحريم لبس المخيط لا يختص بالطواف, فعلى ذلك لو أنه نسي أو تعمد فطاف بالبيت وهو محرم ولابس الثياب أو المخيط فالطواف صحيح، ولكن عليه دم لتقصيره في الواجب.
وأوقات النهي المحرمة ثلاثة: وقت طلوع الشمس حتى ترتفع قيد رمح، وهو حوالي ربع ساعة من وقت طلوع الشمس إلى أن ترتفع تقريباً, وكذلك وقت غروب الشمس حتى تغيب، فإنها تطلع بين قرني شيطان وتغرب بين قرني شيطان، فيجتنب في هذين الوقتين من ربع ساعة إلى عشر دقائق فلا يصلي فيها ركعتي الطواف, فيؤخرها قليلاً ثم يصلي بعد ذلك, وقبل غروب الشمس إذا طاف وبقي عشر دقائق على غروب الشمس فلا يصلي، وإنما ينتظر, فإذا غربت الشمس صلى ركعتين بعد ذلك.
وكذلك قبيل صلاة الظهر بقدر يسير جداً لا يكفي لركعتين، وهو وقت استقلال الظل بالرمح قبل صلاة الظهر مباشرة, فلا يصلي في هذا الوقت.
فأوقات المنع يسيرة جداً وسهلة، وعليه أن ينتظر إلى أن تعدي الشمس ويخرج من الخلاف ثم يصلي, وغير ذلك في باقي الأوقات من ليل أو نهار فله أن يصلي في ذلك, وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع)، فمن وقت طلوع الشمس إلى أن ترتفع في نظر الناظر، حيث إذا نظر إلى الأفق يجد الشمس طالعة من تحت الأفق, وبدأ حاجب الشمس المنحنى العلوي للشمس يطلع إلى أن يصبح قرص الشمس فوق الأرض، هذا الوقت كله أنت ممنوع من الصلاة في, وهو حوالي ربع ساعة فهو مقدار يسير, فتكون الشمس ليست ملامسة للأرض، فتجوز الصلاة بعد ذلك, قال: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع, وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس, وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب)، فالشمس عندما تبدأ تشرق كانت تحت الأفق, ويبدأ حاجب الشمس المنحنى العلوي لقرص الشمس يظهر, والعكس في ذلك: الشمس في وقت الغروب تكون فوق الأرض، ويبدأ المنحنى السفلي لها ينزل إلى تحت, وهنا في وقت الطلوع تطلع الشمس شيئاً فشيئاً إلى أن تكون فوق الأرض, وفي الغروب تنزل الشمس شيئاً فشيئاً إلى أن تكون تحت خط الأفق في الأرض, ففي هذين الوقتين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة؛ لأنها تطلع بين قرني شيطان، وتغرب بين قرني شيطان, فهذه أوقات يسيرة, وفي الظهر ذكر هنا في الحديث: (حين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس)، فالشمس في وقت الظهر تكون فوق الرءوس، وبعد ذلك ستميل إلى ناحية الغرب, وعندما تكون الشمس فوق رأسك سيكون ظلك كله على جسدك، وحين يقوم قائم الظهيرة تكون الشمس فوقك مستقيمة حتى تميل, فإذا مالت الشمس شيئاً إلى ناحية الغرب يبدأ ظلك يذهب إلى ناحية الشرق، ففي هذا الوقت لك أن تصلي، وهذا وقت يسير حوالي دقيقة أو نحو ذلك, فهذا هو الوقت الممنوع من الصلاة فيه وهو قبل صلاة الظهر.
وجاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا طلع حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تبرز, وإذا غاب حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تغيب, ولا تحينوا بصلاتكم) قوله: (لا تحينوا) فيه إدغام، والأصل: لا تتحينوا, فلا تختار هذا الوقت لتصلي فيه, قال: (ولا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان).
وكذلك جاء في صحيح مسلم عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: قلت: (يا رسول الله! هل من ساعة يبتغى ذكرها؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم, إن أقرب ما يكون الرب عز وجل من العبد جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله عز وجل في تلك الساعة فكن؛ فإن الصلاة محضورة مشهودة إلى طلوع الشمس، فإنها تطلع بين قرني الشيطان, وهي ساعة صلاة الكفار، فدع الصلاة حتى ترتفع قيد رمح, ويذهب شعاعها, ثم الصلاة محضورة مشهودة حتى تعتدل الشمس اعتدال الرمح بنصف النهار؛ فإنها ساعة تفتح فيها أبواب جهنم وتسجر)، فالعلة في المنع من الصلاة قبيل الظهر مباشرة أنها تسجر فيها جهنم والعياذ بالله، أي: تسعر فيها نار جهنم, قال: (فدع الصلاة حتى يفيء الفيء) أي: حتى يرجع الظل إلى المكان الآخر، قال: (ثم الصلاة محضورة مشهودة حتى تغيب الشمس؛ فإنها تغيب بين قرني شيطان، وهي صلاة الكفار)، هذا الحديث رواه الإمام مسلم والنسائي ، وهذا النص الذي رواه النسائي .
فبعدما تطوف بالبيت تصلي في أي وقت, فقد جاء في سنن الترمذي عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار)، هذا الحديث فيه العموم في الناس، والحديث الآخر فيه العموم في الزمان, فكأنه تعارض عمومان: الأول: أنه نهى عن الصلاة في ثلاثة أوقات، فهو عموم في الزمان, ولكل الناس المصلين في هذه الأوقات الثلاثة, فممنوع أن تصلي فيها صلاة النافلة أو أن تؤخر الفريضة إليها, فهذا الحديث الذي وجهه لبني عبد مناف فيه العموم في هذا المكان لجميع الناس، فكل من أتى إلى هذا البيت من الناس يريد الطواف والصلاة في أي وقت شاء فله ذلك، وعموم الأوقات أيضاً في أي وقت في أي ساعة من ليل أو نهار, والحديث الأول فيه: أنه ثلاث ساعات مخصوصات لا تصلوا فيها, فهل يحمل أحد العمومين على الآخر فيخص به أو يترك كل على حاله؟ فيقال: إن عموم الزمان خص بمكة وحدها في الطواف بالبيت, وفي هذه الحالة من طاف وأراد أن يصلي فليصل، وهذا مخصوص من عموم النهي, أو يقال: لا، هنا أي ساعة من ليل أو نهار عموم، وهو مخصوص بالنهي عن الصلاة في الثلاثة الأوقات, فهنا تعارض النهي عن الصلاة مع الأمر بها، وقوله: (اتركوا) هنا النهي يكون جانبه أقوى, فعلى ذلك اخترنا فيها جانب النهي (اتركوا)، خاصة أن النهي سيكون في أوقات يسيرة قليلة سهلة على من كان هنالك أن يترك الصلاة فيها, ولو أخذ بهذا العموم وصلى في أي وقت فلا ينكر عليه, ولكن الأولى ما ذكرنا: أنه لو طاف بالبيت في أي ساعة من ليل أو نهار وأراد الصلاة صلى في أي ساعة من ليل أو نهار، سواء صلاة ركعتي الطواف وغيرها، إلا أن تكون في هذه الأوقات اليسيرة, قبل الظهر بدقيقة, وبعد طلوع الشمس بحوالي عشر دقائق أو ربع ساعة، وعند غروب الشمس إلى أن تغرب حوالي عشر دقائق أو ربع ساعة, فليؤخر الصلاة حتى يصليها بعد ذلك.
ولذلك جاء عن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه كان يصنع ذلك, فجاء أنه طاف بعد صلاة الصبح فلم يصل، وخرج من مكة حتى نزل بذي طوى فصلى بعد ما طلعت الشمس, وهذا رواه الإمام مالك في موطئه بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن عبد القاري : (أنه طاف بالبيت مع عمر رضي الله عنه بعد صلاة الصبح، فلما قضى عمر طوافه نظر فلم ير الشمس طلعت فركب حتى أناخ بذي طوى فصلى ركعتين سنة الطواف وفيه أنه يجوز تأخير الركعتين لسبب من الأسباب.
وروى أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيها الناس! اسعوا فإن السعي كتب عليكم) ، فجاء في القرآن إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158] لكن التعبير بقوله سبحانه: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ وإذا قال: لا حرج عليك أن تصنع كذا, فيكون لا حرج أن أصنع أو لا أصنع، إلا أن يكون نفي الحرج نزل لسبب من الأسباب، فإذا قال ابتداءً: لا حرج أن تصنع كذا، فهذا الفعل مباح أن تصنعه، ولك أن تتركه, لكن إذا سئل الشارع الحكيم: نحن كنا نفعل كذا في الجاهلية فهل نفعله الآن في الإسلام؟ فقال: لا حرج, فليس معناه: أنه مباح يستوي فيه الفعل والترك, وإنما دليل الفعل يؤخذ من دليل آخر، وهو كون النبي صلى الله عليه وسلم فعله وأمر به، فيكون هذا الدليل فيه: أن ما صنعتموه في الجاهلية ستصنعون مثله في الإسلام ولا إثم عليكم من مشابهة أفعال الجاهلية؛ فإنها كان المقصود بها الشرك، والآن أفعال الإسلام المقصود بها التوحيد، فلا حرج عليكم في مشابهة الفعل للفعل، ولكن النية غير النية في ذلك.
تقول عائشة رضي الله عنها: (طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون -تقصد بين الصفا والمروة- فكانت سنة -أي: سنة النبي صلى الله عليه وسلم ذلك- فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة)، وهذا في صحيح مسلم , فـعائشة ترى أنه لا يتم حج إنسان لم يسع بين الصفا والمروة, فيكون الحج الذي يتعمد صاحبه أن يكون ناقصاً ليس بحج، فيلزمه أن يتم ذلك.
وعن حبيبة بنت أبي تجراة مرفوعاً: (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي)، وهذا من الأدلة على وجوب السعي, فقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك, وسعى في عمره كلها، وسعى في حجه صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة, وكذلك قال في الحديث: (إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا)، فيكون قد سعى فنفذ ما أمر الله عز وجل به, وأخبر أن هذا مكتوب، والمكتوب فرض من الفرائض, وقد النبي صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني نسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد عامي هذا)، ففعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم, وطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، فدل فعله صلى الله عليه وسلم على أن هذا من لوازم الحج والعمرة.
وجمهور أهل العلم على أن السعي بين الصفا والمروة ركن من الأركان, وعند أبي حنيفة أنه واجب.
والفرق بين الركن والواجب: أنه لو قلنا لأنه ركن فمن لم يأت بالسعي بين الصفا والمروة فيلزمه أن يرجع مرة ثانية ليأتي به، وإذا كان هذا الإنسان محرماً بالحج أو بالعمرة ولم يأت بهذا الركن فما زال محرماً عليه أن يأتي النساء حتى يسعى بين الصفا والمروة ويكمل حجه, وكذلك الذي اعتمر فطاف بالبيت ولم يسع وذهب إلى بيته نقول له: إنه فرض عليك أن ترجع وتأتي بالسعي بين الصفا والمروة, وما زلت محرماً، فلا يجوز لك أن تأتي النساء.
وإن قلنا: إن السعي بين الصفا والمروة واجب فيرى الأحناف أنه يجبر بدم, فلو أنه تركه وانصرف فيأتي ويذبح شاة أو يهدي هدياً، ولا شيء عليه أكثر من ذلك, لكن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم) وقوله: (إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا)، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن يتعلموا منه, وفعل ذلك في حجه وعمرته, كل هذا يدل على أنه ركن، ولذلك نميل في ذلك إلى قول الجمهور: أنه لابد منه، وأنه من أركان الحج والعمرة.
فيبدأ بالصفا فيرقى عليه قدر قامة, أي: أنه يصعد على الصفا قليلاً حتى إذا رأى البيت كبر الله وهلله وحمده, فينظر ويتوجه إلى البيت وهو فوق الصفا، وهذا بحسب الاستطاعة, فالزحام أحياناً يكون شديداً فيصعب عليه أن يقف في مكان يرى البيت وخاصة مع الأبنية الموجودة، ومع السلالم التي تمنع الرؤية من جهة وتسمح بها من جهة أخرى, فعلى ذلك بحسب ما يتيسر للإنسان أن يقف ويستقبل البيت وينظر إلى الكعبة، ثم يكبر الله: الله أكبر, ويهلل الله: لا إله إلا الله, ويحمد الله: الحمد لله, ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير, لا إله إلا الله وحده لا شريك له, أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده, ثم يدعو بما أحب من خير الدين والدنيا والآخرة لنفسه ولمن شاء.
واستحب العلماء أن يدعو بما دعا به ابن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه, فقد كان له دعاء يدعو به بعد أن ينتهي من الركعتين خلف مقام إبراهيم، وأيضاً وهو واقف على الصفا والمروة, فعن نافع عن ابن عمر أنه كان يقول على الصفا: (اللهم إنك قلت ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] وإنك لا تخلف الميعاد، وإني أسألك كما هديتني إلى الإسلام ألا تنزعه مني حتى تتوفاني وأنا مسلم, اللهم اعصمنا بدينك وطواعيتك وطواعية رسولك، وجنبنا حدودك, اللهم اجعلنا نحبك ونحب ملائكتك وأنبياءك ورسلك ونحب عبادك الصالحين, اللهم حببنا إليك وإلى ملائكتك وإلى أنبيائك ورسلك وإلى عبادك الصالحين, اللهم يسرنا لليسرى وجنبنا العسرى، واغفر لنا في الآخرة والأولى، واجعلنا من أئمة المتقين)، فإذا قال هذا الدعاء الذي كان يدعو به عبد الله بن عمر فحسن, وإذا قال أي دعاء آخر فجائز.
ولا يلبي فوق الصفا والمروة, فقد انقطعت التلبية بالبدء بالطواف بالبيت، فلا يلبي على الصفا ولا على المروة، ولكن المستحب أن يدعو كما ذكرنا, وأن يقول هذا الذكر الذي ذكرناه ويكرر ذلك ثلاث مرات، يحمد الله سبحانه ويكبر الله ويوحده, ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير, لا إله إلا الله وحده لا شريك له, أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده, ثم يدعو بما شاء ويكرر ذلك مرة ثالثة.
وإذا فرغ من هذا الذكر والدعاء نزل من الصفا متوجهاً إلى المروة، فيمشي على سجية مشيه المعتادة, إلى أن ينتهي إلى الميل الأخضر على ما هو معلم وموجود على بلاط الأرض وعلى الجدران، فسيرى عموداً ملوناً باللون الأخضر، وفوق سيرى كاميرا باللون الأخضر ليعرف أن هذا المكان يبدأ منه السعي, وهو المكان الذي كانت تسعى فيه هاجر وهي تطلب الغوث من الله سبحانه وتعالى، فتتذكر ذلك وأنت تسعى في هذا المكان, حتى يبقى بينه وبين الميل الأخضر المعلق بركن المسجد على يساره قدر ستة أذرع، ثم يسعى سعياً شديداً حتى يتوسط بين الميلين الأخضرين اللذين أحدهما في ركن المسجد والآخر متصل بدار العباس, وهو معروف الآن هذا المكان، فسترى جميع الناس في هذا المكان يبدءون بالسعي الشديد إلى أن يصلوا إلى الميل الآخر, ثم يتركون شدة السعي ويمشون على عادتهم.
ولو أنه نسي وبقي ماشياً ما بين الميلين بعد ذلك فلا يشرع له أن يستدرك, ففي مكان المشي يمشي فيه، وفي مكان السعي يسعى فيه, حتى يأتي المروة فيصعد عليها حتى يظهر له البيت إن ظهر؛ لأنه فوق المروة الآن شبه مستحيل أن ترى البيت، فسابقاً كان من الممكن أن تقف في مكان معين وتنظر منه حتى ترى البيت, ولكن الآن مع الأبنية لن ترى البيت، ولكن تتوجه تجاه البيت وتدعو ربك سبحانه وتعالى بهذا الذكر الذي ذكرناه ثلاث مرات, ثم ترجع من المروة إلى الصفا، فإذا وصلت بين الميلين أيضاً تسعى، وبعدما تنتهي من الميل الثاني تبدأ تمشي إلى أن تصل إلى الصفا, فترقى فوق الصفا وتقف وتتوجه إلى البيت، وتدعو في ذهابك من الصفا إلى المروة مرة, ثم ترجع إلى الصفا في الثانية, ثم ترجع إلى المروة في الثالثة, وهكذا حتى ينتهي الشوط السابع وأنت على المروة.
فيستحب أن يدعو بين الصفا والمروة في مشيه وسعيه, ويستحب له قراءة القرآن، وهو من أفضل الذكر, وعلى ذلك تكون قد انتهيت من السعي بين الصفا والمروة.
الواجب الثاني: الترتيب, فتبدأ بالصفا ثم تذهب إلى المروة وهكذا, فلو أن إنساناً بدأ بالمروة وتوجه إلى الصفا فهذا غير محسوب, فلا بد أن يكون البدء من الصفا, ويعد الأطواف من بعد ذلك, فيشترط أيضاً في المرة الثانية أن يكون ابتداؤها من المروة, وفي الثالثة أن يكون من الصفا.. وهكذا.
والواجب الثالث: إكمال الأشواط سبع مرات بين الصفا والمروة, فيحسب الذهاب مرة والرجوع مرة, ولو سعى وطاف وشك في العدد قبل الفراغ لزمه الأخذ بالأقل, فلو فرضنا أنه الآن عند الصفا وقد نسي هل هو في الشوط الثالث أو الرابع، فيبني على الأقل ويأتي بالزائد حتى ينتهي وهو على يقين أنه أكمل.
الواجب الرابع: أن يكون السعي بعد طواف صحيح للذاكر, فمن لم يذكر ونسي الطواف بالبيت وبدأ بالسعي، فالراجح أنه يطوف بعد ذلك ولا شيء عليه, فلو سعى ثم تيقن أنه ترك شيئاً من الطواف لزمه أن يأتي ببقية الطواف, وقد قلنا: إذا شككت أثناء الطواف فتبني على اليقين, فلو شككت أنها ستة أشواط أو خمسة أشواط فتبني على أنها خمسة.
وإذا انتهيت من الطواف بالبيت وشككت في أثناء السعي فلا تلق بالاً لهذا الشك, ولكن أثناء السعي استيقنت أنه بقي عليك شيء من الطواف فترجع لتأتي بالطواف ثم ارجع لتكمل السعي بعد ذلك.
والموالاة بين أشواط السعي سنة وليست فرضاً, وإذا سعيت فلا يشترط أن تكون على وضوء وأنت تسعى, والموالاة سعي وراء سعي آخر, والموالاة ليست شرطاً لصحة السعي، إنما هي مستحبة, فإذا تعذر على الإنسان فسعى مثلاً ثلاثة أشواط ثم تعب ولم يقدر أن يكمل, فرجع إلى الفندق فنام واستراح، ثم بعد ذلك رجع، فله أن يكمل الأشواط سواء في نفس اليوم أو في اليوم الذي يليه، فإن الموالاة في السعي ليست واجبة ولا شرطاً لصحته, فلو فرق بين الطواف والسعي تفريقاً طويلاً أو قصيراً فلا شيء عليه, ولو فرق بين أشواط السعي تفريقاً طويلاً أو قصيراً فلا شيء عليه في ذلك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم, وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر