إسلام ويب

العين بين الحقيقة والخيالللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد دلت نصوص الشريعة على أن العين حق، ولكنها لا يمكن أن تصيب أحداً إلا بإذن الله؛ فلا ينبغي أن يأخذ الخوف منها مأخذه في نفس الإنسان؛ فيسبب له القلق، وضعف الثقة. وقد شرع لنا ما نتقي به العين، كقراءة القرآن والتحصن بالأذكار والثقة بالله، فإن حافظ عليها العبد كفي ووقي.

    1.   

    العين بين التصديق والتكذيب

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! تحدثنا في الجمعة الماضية عن الحسد، حقيقته وكيف يدفع الإنسان عن نفسه الحسد، وفي هذه اللحظات نتحدث عن نوع خاص من الحسد، وعن حاسد من نوع خاص وهو العين، وسنتحدث عن صاحب العين، وموقف الشرع والناس من العين، والعين بين الحقيقة والخيال.

    العين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنها حق، أي: شيء ثابت، لا يقبل الجدل والمماراة، فقال عليه الصلاة والسلام كما في البخاري وغيره: ( العين حق )، العين شيء ثابت، والأمم متتابعة على إثبات هذه الخاصية في أرواح الناس، والآثار المترتبة عليها، ولا ينكر هذا إلا بعض الماديين الذين كانوا لا يؤمنون إلا بالشيء المحسوس الملموس، أما اليوم في عصر أصبح الناس يتداوون بالموجات، ويمرضون بالموجات، ويتعالجون بالأشعة، ويمرضون بالأشعة، هذا العصر الذي أصبح الناس يدركون حقيقة الإدراك أن هناك أدواء تنتشر ولا ترى، وهناك أسباباً لعلاج يتعالج بها ولا ترى، فلا مجال مع هذه الحقائق العلمية حتى للماديين من إنكار العين وأثرها، وقد أخبرنا الشرع بها، فأشار إليها القرآن، وأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم وفي قولهما كفاية، لكن ما هو موقف الناس من العين، هذا أمر في غاية الأهمية، الناس اليوم ليسوا في حاجة لأن نحدثهم عن إثبات العين، فقد أثبتوها وزيادة، ليسوا في حاجة أن نسرد عليهم النصوص الشرعية التي تثبت بأن العين حق، وأنها مؤثرة، وأنها موجودة، فإنهم قد بالغوا وزادوا على ما جاءت به الشريعة، صحيح أن العين حق، وأن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر بأنها تنزل الرجل القبر، وتورد الجمل القدر، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن العين في أحاديث كثيرة، وأن أكثر من يموت من هذه الأمة بعد قضاء الله وقدره يموتون بالعين، هذه حقائق، لكن نحن اليوم بحاجة إلى مداواة الغلو عند الناس في إثبات العين، الناس لم يثبتوا العين فقط؛ بل بالغوا في إثباتها، وتوهموا أن كل شيء يصيبهم بسببها، وردوا كل إخفاق في حياتهم إلى العين والحسد، وأصبحوا يتهمون من لا يتهم، ويتخوف الإنسان مما لا ينبغي أن يتخوف منه، هذا ما يحتاج إلى الحديث، ونحن نتحدث عن العين.

    1.   

    موقف الإنسان من العين

    الإيمان بأن كل شيء بقدر الله

    ما هو موقف الإنسان من العين؟

    ينبغي أن تثبت في قرارة قلب هذا المؤمن حقائق مهمة، قرنها النبي صلى الله عليه وسلم بالعين حين كان يتحدث عنها، فقال عليه الصلاة والسلام: ( العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين )، إذاً: العين لم تسبق القدر، العين لا يمكن أن تصيبك بشيء لم يأذن به الله، العين لا يمكن أن تحدث شيئاً لم يقدر عليك قبل أن تخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، لا يمكن أن يصيبك أحد بمكروه إلا إن كان الله عز وجل قد أذن فيه، لن تسبق العين القدر، ولن تقدر على ذلك، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وفي هذا مبالغة في إثبات العين، والتأكيد على وجودها وعلى وجود أثرها؛ لكنه مع ذلك ينبه عليه الصلاة والسلام إلى هذه الحقيقة المهمة، (ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين).

    وفي الحديث الآخر يقول: ( أكثر من يموت من أمتي بإذن الله بالعين ) بإذن الله، فلن يموت أحد حتى يستوفي أجله، لن يموت أحد حتى يستوفي رزقه، من كان له في هذا الكون حصة فلا بد أن يأخذها كما قال الشاعر:

    من له في الكون سهم لم يمت حتى يناله

    إذا كان لك سهم في العافية، سهم في الرزق، سهم في الأجل، فلن تموت حتى تستوفي كامل رزقك، لن تموت إلا بإذن الله، هذه الحقيقة التي نحن أحوج ما نكون إليها ونحن نتكلم عن العين؛ لأن المجتمع فيه مظاهر عجيبة من وراء المبالغة في إثبات العين، وهذا كلام الأطباء النفسيون وليس كلام المطاوعة فقط ولا الخطباء، بل الأطباء النفسيون يقررون -وهذه تقارير منشورة في أكثر من صحيفة رسمية لا سيما في دول المنطقة- أن أكثر من خمسين في المائة من الذين يعتادون أو يرتادون الأطباء النفسيين يرتادونهم بالخوف المرضي وليس خوفاً حقيقياً، إنما هواجس، وقلق، وهموم، يلجئون معه إلى أطباء النفس ليدفعوا عن أنفسهم هذه الآفات، وهو في الحقيقة خوف مزور، ومجرد وهم، ومجرد مرض.

    والأطباء أيضاً في الوقت نفسه يؤكدون حقيقة وهي: أن العلاج الأساس لعلاج كثير من الأمراض النفسية هو علاج معرفي سلوكي، معرفي ينشأ عن المعرفة، ينشأ عن العقائد الثابتة في القلب، ينشأ عن التصورات الصحيحة، فإذا وجد في القلب تصورات صحيحة، إذا وجد في القلب عقائد صحيحة، إذا وجد في القلب إيمان بالقدر وأن كل شيء قد فرغ منه زالت عن كثير من المرضى كثير من همومهم وآلامهم وهواجسهم.

    نحن اليوم نتحدث عن العين، لكننا نقول: بأنها لن تصيب أحداً إلا بإذن الله، لأنه ورد في الحديث: (ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين).

    والله عز وجل لما حدثنا في كتابه بإشارات عن العين، لم يغفل سبحانه وتعالى هذا المعنى، أخبرنا أو أشار لنا بأن نبي الله يعقوب عليه السلام حذر أبناءه لما دخلوا مصر من أن يدخلوها من باب واحد، وكانوا في غاية الجمال وفي غاية الهيبة، فخشي أنهم إذا دخلوا من باب واحد ورآهم الناس وهم أحد عشر رجلاً وقعت عليهم عين الحساد، فقال سبحانه وتعالى: وَقَالَ يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ [يوسف:67]، وهذا من الأخذ بالسبب، والأخذ بالحيطة والحذر؛ لكنه في الوقت نفسه يخبرهم صراحة بأنه لا يمكن أن يغني عن قدر الله عز وجل حذر، كما أنه لا يمكن أن يصيبك شيء لم يأذن به الله، فقال لهم: وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [يوسف:67]، فإذا جاء قدر الله فإنه لا يمكن أن تدفعه الدافعات، وإذا كان الله قد أراد أمراً فلا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه، لكن المشكلة حين يتخوف الإنسان من غير المقدور.

    كان علي رضي الله تعالى عنه وسط المعركة، يتعجب الناس من شدة إقدامه على القتال، بينما يجبن كثيرون، فيقول لهم تلك الأبيات الجميلة:

    أي يومي من الموت أفر يوم لا يقدر أو يوم قدر

    يوم لا أقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينج الحذر

    يقول لهم: أنا في هذا اليوم واحد من رجلين: إما أن يكون الله قد كتب عليّ أن أموت في هذا اليوم، فلن ينفعني الهروب، ولن يغني عني الالتجاء، لأنه ما دام أنه قد كتب فلا محالة أنه سيأتيني، وإما رجل آخر لم يكتب عليّ الموت في هذا اليوم، ولن تكتب لي الوفاة في هذه الساعة، فورودي إلى المقحمات وورودي مواطن الهلكة لن يجلب لي شيئاً لم يقدره الله سبحانه وتعالى لي، ونحن بحاجة إلى أن نثبت في أنفسنا هذه الحقائق.

    أخبرنا سبحانه وتعالى في سورة الرعد عن حقيقة كونية في هذا الكون، وهي أن كل إنسان، وكل أحد من بني آدم وكل الله سبحانه وتعالى لحفظه، أقام سبحانه وتعالى له من يقوم برعايته وكلاءته، فقال جل شأنه: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11] (له معقبات) يعني: له ملائكة تتعاقب عليه، يأتي فريق ويذهب فريق، كما أن الملائكة التي تكتب الأعمال هي كذلك معقبات تصعد ملائكة الليل لتنزل ملائكة النهار فتحصي عليه أعماله، كذلك له معقبات من نوع آخر، معقبات تحفظه، معقبات تحرسه من كل ما يؤذيه لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ [الرعد:11]، هذه مهمتهم، هذه وظيفتهم، يحفظونه هم من أمر الله، هم يعملون بأمر الله، هم يتحركون بأمر الله، جاء في تفسير هذه الآية عن إمام المفسرين مجاهد رضي الله تعالى عنه وأرضاه قال: (ما من آدمي إلا وقد وكل الله عز وجل به ملك، فإذا جاءه شيء من الإنس أو الجن أو الهوام يريد أن يؤذيه قال له: وراءك وراءك)، أي: ارجع وراءك لا تصل إليه بمكروه، (إلا بشيء يأذن الله عز وجل به).

    الواحد منّا كم له من الأعداء، الواحد منّا كم له ممن يريد أن يؤذيه من الجان والشياطين، ما الذي يحول بيننا وبينهم، هذا الشيطان الذي يتربص بنا الدوائر مساءً وصباحاً، ونحن نؤمن بهذا ونعتقده جازمين، لماذا لا يقدر على ضررنا؟ لماذا لا يوصل الشر إلينا؟ لماذا لا تحاول الشياطين قتلنا؟ لماذا لا تحاول إفساد أجسادنا؟ ولماذا لا تصاب الغالبية والأكثرية من الناس؟ إن وراء هذا الإنسان قدر، وراء هذا الإنسان مكتوب لا يستطيع مخلوق كائناً من كان هذا المخلوق أن يوصل إليه شراً إلا شيئاً قد كتبه الله وأراده سبحانه وتعالى.

    هذه الحقيقة المهمة، وهذه العقيدة لما ضعفت في قلوب الناس أصبحوا يتوجسون من كل شيء، ويخافون من كل شيء، وهناك بعض المظاهر المضحكة وهي في الوقت نفسه مبكية تنشر على صفحات الجرائد الرسمية، فقبل أشهر انتشر مقال في السعودية في أكبر جرائدها، أن النساء في مجمعات الأعراس في الحفلات يشترين قارورة الماء التي هي نصف لتر، تبذل المرأة في قيمة هذه القارورة مائة ريال لتشتري قارورة الماء، ما هو هذا الماء؟ أهو ماء الذهب؟ ما هو هذا الماء الذي يبذل فيه كل هذا؟ إنه الماء الذي يغسل به الناس أيديهم بعد الطعام والشراب، الماء الذي يغسل به الفناجين، وتقوم الخادمات والعاملات في الأفراح بتعبئة هذه الكميات من الماء في قوارير وجوالين، لتبيعها للناس؛ ليدفعوا عن أنفسهم العين، وبهذا وضعوا كلام رسول الله في غير موضعه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين )، ثم قال: ( وإذا استغسلتم فاغسلوا )، متى ما اتهم شخص بأنه عائن، متى ما شك الإنسان السوي، الإنسان الصحيح، الإنسان البعيد من الأوهام والوسوسة، متى ما شك هذا الإنسان السوي من شخص بأنه أصيب بعينه، فإن الشريعة كلفت هذا الإنسان أن يغتسل، وقد جاء في الروايات الأخرى تفسير هذا الغسل بأنه يغسل يديه، ويغسل مرافقه، ويغسل ركبتيه، ويغسل الأطراف المقدمة من رجليه، يعني: الأصابع وما حولها، ويغسل باطنة الإزار، يعني: أسفل باطن الثوب، كل هذا في إناء ثم يصب هذا الماء على المعيون أو من أصيب بالعين، فسيبرأ بإذن الله، إن كان الله قد كتب له الشفاء.

    هذا التوجيه النبوي عندما يصاب الإنسان بالعين، وإنما يطلب ممن يشك فيه أنه أصاب الآخر بالعين.

    المبالغة في الخوف من العين

    لكن توسع الناس فيها، فأصبحوا يفعلونها، ويأخذون بالحيطة والحذر لها قبل أن تقع، ويغتسلون بها ويناولوها من لم يصب بالعين أصلاً، وانتشرت هذه الحوادث، وانتشرت هذه الوقائع، وأصبح الأطباء النفسيون يحذرون من ظواهر كثيرة في المجتمع تنشأ بين الوقت والوقت بسبب هذه الأوهام.

    وأنا أسرد لكم بعض الآثار التي ذكرها كبار أطباء نفسيين في المنطقة، الدكتور نزار الصالح أستاذ علم النفس بجامعة الملك سعود يتكلم عن بعض الآثار، وهو لم يحصها حقيقة، إنما تكلم عن بعضها وأهمها، يقول: أهم الآثار النفسية على الفرد والمجتمع من الخوف من العين.

    أمور منها: ضعف الثقة بالنفس، فكم من إنسان يريد أن يفعل شيئاً، وتراه محجماً متردداً خائفاً من العين.

    انتشار الخرافات والمشعوذين، وأصبح الناس يتزاحمون على أبواب الرقاة، ويعتقدون بأن رقية فلان خير من رقية فلان؛ بل ويعتقد بعضهم بأن رقية فلان هي الناجعة النافعة، فيبذل في سبيل الوصول إليها ما استطاع من أمواله.

    انصراف الأفراد عن تنمية أنفسهم، وعن تنمية مجتمعهم، وانشغالهم بأمور دون ذلك المستوى.

    ضعف المهارات الاجتماعية لدى الأفراد، وهذا من العجائب؛ فكثير من الطلاب يفشل في دراسته، فإذا سألته لماذا فشلت؟ قال: أصبت بالعين، كثير من الموظفين يحجم في عمله، فإذا سألته يقول: أصبت بالعين، كثير من التجار يحجم عن كثير من مشاريعه خوفاً من العين، ضعف في بعض الناس الإقدام وحب الرغبة في الإبداع والابتكار، كل ذلك خوفاً من العين.

    وآخرها قال: انتشار أمراض نفسية المنشأ؛ لكنها جسمية الأعراض، سببها النفس وما يداخلها من الهموم والوساوس والهواجس؛ لكن تظهر بعد ذلك على هيئة أعراض على الجسم، وكثير من الناس لا يدركون أن سبب أمراضهم في المعدة إنما هي الهواجس التي يعيشونها، وهذا ما يقوله الأطباء، يقول: انتشار أمراض نفسية المنشأ لكنها جسمية الأعراض، مثل قرحة المعدة، والصداع النصفي، والقولون العصبي، والذبحة الصدرية، والضغط والسكر وغير ذلك، كثير من الناس يمارس أنواع الرياضات في الصباح من بعد الفجر، ويأخذ بكافة التعليمات الطبية لمعالجة الجسد، ثم يصاب بأنواع الأمراض التي كان يفر منها، ربما لأنه لا يدري من أين أتي.

    نحن بحاجة أن نعود إلى الصحة النفسية في المجتمع، بإرساء القواعد الدينية في العقائد؛ فالعين حق لكنها لن تسابق قدر الله، العين حق لكنها لن توصل إليك شيئاً لم يأذن به الله، وإن كان يشرع للعائن أن يأخذ بأدب الله، ويشرع لمن أصيب بالعين أيضاً، ولمن لم يصب أن يأخذ بالأسباب، وهذا ما ستسمعوه في الخطبة التالية.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

    1.   

    حقيقة العين

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    إخوتي في الله! العين حقيقتها كما يقول العلماء: تكيف الروح بكيفية معينة خبيثة تجعل العين مصدراً لوصول ذلك الخبث، وليس هذا بالأمر العجيب في مخلوقات الله، فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن سم الحيات، وأنه سم قاتل، أخبرنا من عجائب خلق الله أن بعض الحيات ربما أوصلت أنواعاً من سمومها بنظرة فقط، مع أن المألوف لدى الناس أن الحية إذا لدغت اللديغ وتكيفت بكيفية الغضب على هذا الذي لدغته أفرزت السم فأوصلت سمه إلى اللديغ؛ لكن من عجائب خلق الله أن هناك أنواعاً من الحيات توصل سمومها بنظرة، قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم وغيره: ( اقتلوا ذا الطفيتين والأبتر )، (ذو الطفيتين) نوع من الحيات له خطان في ظهره، و(الأبتر) يعني: قصير الذيل، ثم قال: ( فإنهما يلتمسان البصر ويسقطان الحبالى )، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

    يخطف البصر بنظرة، ويسقط حبل المرأة الحبلى بنظرة، وليس بشيء عجيب في خلق الله، لا سيما في هذا العصر الذي نجد فيه أنواعاً من المخترعات والتقنيات.

    عين الحاسد كذلك تتكيف بروح خبيثة موجودة قد يصاحبها حسد، وقد لا يصاحبها حسد؛ لكنه يستحسن الشيء فينظر إليه نظر استحسان وإعجاب، وتتكيف روحه بكيفية خبيثة، فيجعل الله سبحانه وتعالى هذه النظرة بهذه الكيفية سبباً لإيقاع الأذى والألم لهذا المنظور، قد يكون الضرر في ماله، وقد يكون في جسمه، وقد يكون في بدنه فيموت إلى غير ذلك.

    1.   

    أسباب الوقاية من العين

    التحصن بالأذكار

    أما أسباب الوقاية من العين التي جاءت بها الشريعة فأولها: التحصن بأذكار الله، لا سيما أذكار الصباح وأذكار المساء، فذكر الله بمثابة الدرع الواقي الذي يلبسه الإنسان على جسده، والنظرة التي نتكلم عنها إنما مثلها كمثل السهم الذي يرمى به، فإذا جاء السهم إلى الجسد الذي قد غطي بالحديد فإنه لن يضره، وإذا صادف هذا السهم جسداً عارياً مكشوفاً أصابه بقدر ما قدره الله عز وجل له، قد يكون جرحاً، وقد يكون إعاقة، وقد يكون قتلاً، فخير ما يتحصن به الإنسان الأذكار في الصباح والمساء، والنبي صلى الله عليه وسلم كان هذا دأبه ومسلكه، فإنه كان يحافظ على الأذكار في نفسه، ويحافظ على الأذكار في بنيه الصغار، فقد كان يعوذ الحسن و الحسين كما جاء في الحديث الصحيح: ( كان يقول لهما كل يوم: أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة )، وكان يتحرز عليه الصلاة والسلام من أعين الإنس، ومن أعين الجن، ويرقي نفسه برقية تدفع عن نفسه الشرين: أعين الإنس وأعين الجن، قال الراوي: فلما نزلت المعوذتان (قل أعوذ برب الفلق) و(قل أعوذ برب الناس) أخذ بهما وترك ما سوى ذلك، هاتان السورتان بإذن الله إن قرأتها عن اعتقاد تحميانك من أعين الجن ومن أعين الإنس.

    هذه هي أهم الأسباب التي ينبغي أن نأخذ بها، وهي المحافظة على الأذكار، والمحافظة على الرقية لمن أصيب ولمن لم يصب.

    الرقية الشرعية ومعرفة آدابها

    وينبغي أن نلتزم الآداب الشرعية في الرقية، فإن الرقية لا تشرع؛ بل قد تكون معصية، وقد تكون إثماً عظيماً، وقد تكون كفراً، فقد يكفر الإنسان بسبب الرقية، فيريد جلب الشفاء لنفسه فيجلب الدمار والهلاك لدينه ويفسد آخرته، إذ الرقية لا بد فيها من موازين شرعية، لا بد أن تكون بكلام عربي واضح، وأن تكون خالية من الشرك، خالية من كل كلمة فيها إشراك بالله، أو اعتماد على غير الله، أو استغاثة بغير الله.

    وهناك أمر لا بد منه وهو أن يعتقد الراقي بأن الرقية لا تنفعه بنفسها، وإنما النفع والضر بيد الله سبحانه وتعالى وحده، فنجد كثيراً من الناس يلجأ إلى أساليب ملتوية للدفاع عن نفسه، ومن الأسباب الشرعية أن يكتم الإنسان المحاسن التي قد يخاف بسببها أن يصاب بالعين، لكن من غير مبالغة، لكن من غير خوف، لكن من غير قلق؛ فهناك كثير من الناس من يضطر إلى أن يكذب إذا سئل عن شيء حتى يكتم ذلك عن الناس، وليس هذا من الأسباب المشروعة، كل قدر له أسباب حلال مشروعة تؤدي إليه، لا يجوز لك أبداً أن تقفز على هذه الأسباب لتأخذ بالأسباب الحرام، وتدعي أنك تريد الوصول إلى قدر الله، وكذلك من الأسباب الحلال أن يفعل بما يخشى عليه العين، لا أن يتوسع فيصيب الإنسان هلع وخوف من أن تصيبه العين لكل شيء؛ لأن بعض الناس يخاف أن تصيبه العين لأنه رقي في منصب، وينسى أن العالم كله في مناصب أعلى منه، لماذا لم يصب هؤلاء كلهم بالعين، فكيف تخشى أنت أن تصاب به، وبعض الناس يخشى أن يصاب بالعين لأن لديه كذا مليون، لماذا تنسى أصحاب المليارات، لماذا لم يصابوا بالعين وهم أكثر منك مالاً؟ وبعض الناس قبيح الخلقة ويخشى أن يصاب بالعين لأنه جميل، وينسى أن أناساً يتمتع بصورهم على أغلفة المجلات وغيرها، ولم يصابوا بالعين، كثير من الناس يصاب بأوهام لا حقيقة لها، لكن إذا وجد ما يدعو فعلاً إلى الخوف فإن الشريعة جاءت بكتم هذه المحاسن، إما بتغييرها أو محاولة طمسها إذا كان مما يظهر، كما أمر عثمان رضي الله تعالى عنه بأن يدسموا نونة الصبي، النونة النقرة التي تظهر عند الابتسامة، صبي جميل المنظر حسن الصورة خشي عليه أن يصاب بالعين، فأمر عثمان بأن يوضع شيء من السواد في هذه النقرة لتصرف العين عن الاستحسان إذا نظرت إليه، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: ( استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود )، لكن ينبغي التوسط والاعتدال.

    1.   

    وسائل غير مشروعة لدفع العين

    أيها الإخوة! هناك أسباب مردية اتخذها الناس لوقاية العين، لا يتسع المقام لذكرها والحديث عنها، لكن من أهمها: الاعتماد على الشعوذة والدجل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن التمائم والتولة والرقى شرك ) (التمائم) الأشياء التي يعلقها الناس بقصد دفع العين، وهذا مظهر من مظاهر مدافعة العين، لكنه مظهر خاطئ قد يوقع الإنسان في الشرك بالله، وهو اعتماده على غير الله لدفع هذا الأذى والمكروه.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

    رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم أعنهم ولا تعن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، وكن لهم ولا تكن عليهم، اللهم عليك بأعداء الإسلام فإنهم لا يعجزونك يا قوي يا عزيز.

    اللهم صل وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    1.   

    ما ينبغي للعائن وواجب ولي الأمر نحوه

    ينبغي على هذا الرجل الذي يصيب بالعين، الذي ينظر إلى الآخرين نظر إعجاب واستحسان، وقد تتكيف روحه بهذه الروح، يطالب أولاً بأن يتحصن بأذكار الله حتى يكف شره عن الناس، وقد يكون هذا الشر يصيب به نفسه، فالعائن قد يعين نفسه، وقد يعين ماله، وقد يعين ولده؛ لأن العين كما قلنا: إنما هو استحسان إلى المنظور إليه بكيفية معينة، فقد ينظر نظرة استحسان إلى جسمه، إلى ماله، إلى ولده، فيجعل الله عز وجل تلك النظرة سبباً للأذى والداء والهم والقلق، وحتى يدفع عن نفسه هذا هو مطالب بأن يلازم ذكر الله، فإن ذكر الله عز وجل عليه تتفتت الأخطار، وبه تزول الكوارث، وهذا ما أرشد إليه القرآن، قال سبحانه وتعالى في سورة الكهف، وهو يتحدث عن الرجلين، إذ لما دخل الرجل الغني جنته ورآها بمنظر حسن جميل أعجبته، وأورثته الكبر والخيلاء والزهو، قال له صاحبه: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [الكهف:39].

    فملازمة ذكر الله تدفع هذا الخبث عن النفس، تدفع هذا الشر عن النفس، فيتفتت هذا الخطر، هو مأمور بأن يدعو بالبركة، إذا رأى شيئا ًيقول: اللهم بارك عليه، يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، مأمور بهذا، هكذا جاء الشرع، قال عليه الصلاة والسلام لما رفع إليه أمر سهل بن حنيف و سهل بن حنيف أحد الصحابة خرج مع النبي عليه الصلاة والسلام في سفر، فلما وصلوا الجحفة ذهب في شعب من الشعاب فيه ماء يغتسل، فرآه صاحبه رآه عامر بن ربيعة وقد وضع عنه الثياب، فرأى جلداً أبيض حسناً، قال: (ما رأيتك اليوم ولا جلد مخبأة) وهو لا يريد إصابته بالشر، لكن جعل الله عز وجل تلك النظرة المستحسنة لذلك المنظر سبباً للصرع الذي أصيب به الرجل، قال الراوي: (فلبط) أي: صرع من توه، فرفع أمره إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( هل تتهمون من أحد؟ قالوا: نعم. عامر بن ربيعة فدعا به لما جاء عامر واحتد عليه النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: علام يقتل أحدكم أخاه، هلا بركت )، يعني: لماذا لا تبرك؟ إذا رأيت شيئاً حسناً قل: اللهم بارك عليه، وهذا ما ينبغي أن يطالب به من يتهم بالعين وهذا ما ينبغي أن يقال له بكل علو، وبكل ترفع، وبغير ذلة، وبغير خوف من أحد غير الله، ولا تخش أحداً أن يصيبك بمكروه فإنه لن يصيبك إلا بإذن الله، لا تخش أحداً، ولا تتخوف من أحد، فإنك خشيت من أحدٍ فقل له بلسان الطالب العالي: بارك على ما ترى يا أخي، (هلا بركت)، قل: اللهم بارك عليه.

    هذا من الآداب الشرعية التي ينبغي أن يلتزم بها من يظن أنه قد يصيب الناس بالعين، أما من تحقق منه أنه يصيب الناس بالعين فإن الشريعة كما قرر الفقهاء تكلف ولي الأمر بأن يحول بينه وبين إصابته للآخرين بالأضرار فتحبسه في بيته، وتجري عليه رزقه يعني: تجري له الراتب، وتجري له ما يستحقه وما يحتاجه من أسباب العيش دفعاً للأذى عن الناس، أما من يخاف عليه أن يصاب بالعين، فهناك وسائل صحيحة، وأساليب صحيحة، وأسباب مشروعة لدفع هذا الأذى عن النفس، وهناك في المقابل أسباب غير شرعية يمقتها الله ولا تؤدي إلى النفع المرجو منها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756597745