إسلام ويب

دراسة موضوعية [3]للشيخ : عبد الرحيم السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الكتاب والسنة هما المصدران الوحيدان اللذان تؤخذ منهما الأسماء والصفات، ويستوي في ذلك آيات القرآن وصحيح السنة، سواء كانت متواترة أو آحاداً، ومنهج أهل السنة والجماعة أن ظواهر النصوص الواردة في الصفات مرادة ما لم يكن في ظاهرها مشابهة للمخلوق، وهذا لا يمكن أن يكون؛ فهي لا تقتضي المماثلة بأي وجه من الوجوه، وبذلك يتميز منهج أهل السنة والجماعة عن مناهج الفرق الضالة الأخرى.

    1.   

    من آداب الطالب في نفسه أن يعلم أن العلم عبادة

    قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد في كتابه حلية طالب العلم: [الفصل الأول: آداب الطالب في نفسه.

    الأول: العلم عبادة، أصل الأصول في هذه الحلية بل ولكل أمر مطلوب علمك بأن العلم عبادة، قال بعض العلماء: العلم صلاة السر، وعبادة القلب].

    هذه المقدمة التي بدأ بها الشيخ في آداب الطالب مع نفسه هي مقدمة مهمة جداً؛ لأن فيها تحديد الهدف من طلبنا للعلم، هل نحن نريد أن نطلب العلم لأننا نجد متعة في طلب العلم؟! أما أننا نطلب العلم من أجل أن يشار إلينا بالبنان وأن نمدح في المجالس وأن نكون فصحاء في كتابتنا ومقالتنا، أو من أجل أن يتخرج الإنسان بدرجة علمية معينة أو أي غرض من أغراض هذه الدنيا الحقيرة الدنيئة؟!

    ولهذا لا بد لطالب العلم منذ أن يضع قدمه على هذا الطريق أن يحدد الهدف الأساسي من طلبه للعلم، فإنه إذا فهم أن طلب العلم عبادة فإنه سيقوم بحق هذه العبادة، وهو أن يفرد هذه العبادة لله عز وجل، فلا يطلب العلم لأي غرض من أغراض الدنيا، بل يعطي هذا العلم حقه من حيث الاهتمام بمعرفة المنهج الشرعي الرباني في هذا العلم، وهكذا يترتب على تحديد هذا الهدف قضايا كثيرة، وخصال كثيرة، وآداب كثيرة، وإرادات كثيرة، ولهذا ينبغي للإنسان دائماً أن يستحضر في طلبه للعلم في كل أحواله أنه يؤدي عبادة لله عز وجل، وينبغي عليه أن يحتسب ذلك عند الله عز وجل فإن له به أجراً، وله عند الله سبحانه وتعالى درجة، فهو مثل العابد الذي يصوم، ويصلي، ويزكي، ويتصدق ونحو ذلك، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم) وهكذا طلب العلم عندما يتعب الإنسان نفسه بطلب العلم يكون عابداً لله سبحانه وتعالى، لكن بشرط أن يكون مخلصاً لله عز وجل وأن يبتغي بذلك وجه الله سبحانه وتعالى، وأن يجتهد غاية الاجتهاد في تخليص نيته وإرادته من الشوائب الدنيوية الحقيرة.

    1.   

    إخلاص النية لله في طلب العلم

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعليه فإن شرط العبادة الأول: إخلاص النية لله سبحانه وتعالى، لقوله: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5] الآية، وفي الحديث الفرد المشهور عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات) الحديث.

    فإن فقد العلم إخلاص النية انتقل من أفضل الطاعات إلى أحط المخالفات، ولا شيء يحطم العلم مثل الرياء، رياء شرك أو رياء إخلاص، ومثل التسميع بأن يقول مسمعاً: علمت وحفظت].

    هذه القضايا قضايا دقيقة جداً وحساسة، وينبغي للإنسان أن يتعامل معها بحساسيتها الموجودة؛ لأنه إذا جمعنا فضائل العلم سنجد أنها قوائم متعددة وكثيرة، لكن في نفس الوقت إذا جمعنا آثار تعلم العلم لغير الله سنجد أنها قوائم كثيرة أيضاً، فأفضل الناس هم أهل العلم، وأول من تسعر بهم الناس يوم القيامة ثلاثة: منهم رجل طلب العلم لغير الله عز وجل، فقارنوا بين هذا وبين هذا، الجميع عمل في مهنة واحدة وفي عمل واحد لكن الأول اشتغل بالعلم من أجل الله سبحانه وتعالى والدار الآخرة، ولهذا تضع له الملائكة أجنحتها وهو يسلك طريقاً إلى الجنة.. إلى آخر الفضائل المعروفة في طلب العلم.

    أما الآخر فهو أول من تسعر به النار والعياذ بالله، ويكون من حطب جهنم وحصبه، ولهذا ينبغي للإنسان أن يعتني بالنية غاية الاعتناء، ولهذا قال العلماء: إن الإخلاص من أصعب وأشق العبادات، وقد قال الشيخ هنا: (ولا شيء يحطم العلم مثل الرياء رياء الشرك أو رياء إخلاص) فرياء الشرك هو أن يطلب العلم من أجل أن يمدح ويثنى عليه بشكل صريح وواضح، ورياء الإخلاص هو التظاهر بالإخلاص لكن لغير الله سبحانه وتعالى حتى يقال: مخلص، وهنا تكون المشكلة، فينبغي للإنسان أن يجتهد في تصحيح نيته وتصفيتها قدر ما يستطيع.

    أما التسميع فهو أن يقول مسمعاً: علمت وحفظت، يعني: عندي علم قدره كذا وحفظ قدره كذا، يحاول أن يظهر علمه للناس.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعليه فالتزم التخلص من كل ما يشوب نيتك في صدق الطلب؛ كحب الظهور، والتفوق على الأقران، وجعله سلماً لأغراض وأعراض، من جاه، أو مال، أو تعظيم، أو سمعة، أو طلب محمدة، أو صرف وجوه الناس إليك، فإن هذه وأمثالها إذا شابت النية أفسدتها، وذهبت بركة العلم، ولهذا يتعين عليك أن تحمي نيتك من شوب الإرادة لغير الله تعالى، بل وتحمي الحمى].

    هناك علامات مميزة للعالم الرباني عن عالم السوء، لكن كيف يمكن للإنسان أن يميز بين العالم الرباني والعالم السوء؟ وكيف يمكن لنا حتى ولو كنا من العوام أن نميز بين الاثنين؟ لأن كثيراً من الناس يقول: إن محاولة التفريق بين العالم الرباني وعالم السوء أن هذا يوقع الناس في حرج، فالناس قد ترى الرجل يتكلم ويحسن الكلام، ويكون كلامه رائعاً وممتازاً ومؤثراً ثم يأتي أشخاص فيقولون: إن هذا الإنسان مثلاً من علماء السوء، وهذا يجعل الأمة تتخبط، والحقيقة أنه لا داعي للتخبط، فإن الفرق بين العالم الرباني وعالم السوء مثل الفرق بين الطائع والمخلص، والمؤمن وبين الفاسق والمنافق والضال، فهذا له علامات يعرف بها، وذاك أيضاً له علامات يعرف بها، فمن هذه العلامات إخلاص النية لله سبحانه وتعالى.

    قد يقول قائل: النية عمل قلبي كيف يمكن لنا أن نميز بين إنسان مخلص لله سبحانه وتعالى، وإنسان غير مخلص لله تعالى؟

    فنقول: نحن لم يطلب منا أن نفتش عما في قلوب الناس، بل إنه لا يجوز للإنسان أن يحكم على نية أحد من الناس هكذا دون بينة، لكن مع هذا هناك قرائن تدل على أن هذا الإنسان صادق أو ليس بصادق كما قال الله عز وجل عن المنافقين: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30]، فجعل لحن القول من الإشارات والقرائن والدلائل التي تظهر من خلال كلماتهم، وقد تكون كلمات نادرة وقليلة تفصح عن حقيقة هذا الإنسان، والمتكلم بشكل دقيق، لكن لا يصح للإنسان أن يتهم الناس لظنه أن هذا من لحن القول، فهذه مسألة حساسة ينبغي للإنسان أن يكون فيها دقيقاً، وهو أمر دقيق جداً قد يخوض الإنسان فيه بالباطل، فينبغي للإنسان أن يكون دقيقاً بعيداً عن القدح في الناس، لكن هذا لا يعني ألا نميز بين الإنسان الذي يتكلم بحق وبعدل، وسيرته وطريقته تدل على ذلك، وبين الآخر المختلف عنه في ذلك كله.

    1.   

    نهي العلماء عن الطبوليات

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وللعلماء في هذا أقوال ومواقف بينت طرفاً منها في المبحث الأول من كتاب (التعالم) ويزاد عليه: نهي العلماء عن الطبوليات، وهي المسائل التي يراد بها الشهرة].

    ونحن نجد مع الأسف أن بعض طلاب العلم بدل أن يشتغل ببناء نفسه علمياً في أنواع العلوم الشرعية في الفقه وفي العقيدة وفي الحديث وفي اللغة أو علوم الآلة مثل اللغة والمصطلح وأصول الفقه، تجده يشتغل بما يسمى بالطبوليات، وهي المسائل المشهورة، فتجد البعض مثلاً ينظر ما هي المسائل المشهورة عند طلاب العلم في جدة، قالوا: والله المسائل المشهورة عند طلاب العلم في جدة خمس مسائل يتردد الكلام عليها في المجالس، فيأتي إلى هذه المسائل الخمس ثم يجمع عشرات الكتب، ويحفظ ما يستطيع منها، ثم يأتي ويتصدر المجالس ويقول: هذه المسألة فيها كذا، وهذه المسألة فيها كذا، وقال فلان في هذه القضية كذا، وقال فلان كذا، وقال فلان كذا، علماً أنه لو خرج عن هذه الخمس المسائل إلى مسائل واضحات من الشريعة فإنه لا يجيد منها شيئاً، وهذه مشكلة!

    فهذه الطريقة التي يستخدمها بعض الناس ليست طريقة منهجية وصحيحة، بل هي علامة ضعف، فينبغي للإنسان أن يبتعد عن هذا النوع من المسائل، وعليه أن يبني نفسه مثل ما يبني البيت، بأن تأتي وتضع له أساساً ثم تبنيه بناء دقيقاً وتضع له أعمدة ثم تبنيه، وهكذا الإنسان يبني نفسه علمياً، ولذلك لو أن إنساناً تعلم جزئيات من العلوم الطبيعية لا يقال له: إنه عالم إلا إذا أخذ العلم بأصوله وبطريقته السليمة والصحيحة.

    1.   

    التعلق بالدنيا يذهب نور العلم

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قيل: زلة العالم مضروب لها الطبل.

    وعن سفيان رحمه الله تعالى أنه قال: كنت أوتيت فهم القرآن، فلما قبلت الصرة سلبته].

    سفيان هو الثوري ، وقوله: (كنت أوتيت فهم القرآن) يعني: أعطاني الله عز وجل فهماً في القرآن واستنباطه، مع أن فهم القرآن الفهم الصحيح لا يحده حد؛ لأن كلام الله عز وجل فيه من الكنوز والفوائد والمعاني ما عرفه الناس، وهناك الكثير مما لم يعرف، ولهذا يقول: (أوتيت فهم القرآن) يعني: حسن تدبر القرآن وحسن تنزيل القرآن على المسائل، وعلى أحوال النفس وعلى الناس.

    قوله: (فلما قبلت الصرة) هي: الوعاء الذي يكون فيه نقود، ويقصد بذلك أنه لما قبل الصرة من حاكم من حكام زمانه قال: (سلبته) يعني: سلبت هذا الفهم.

    وهو يريد رحمه الله أن يبين أن الإنسان إذا كان نزيهاً وبعيداً عن الدخول على السلاطين وبعيداً عن أخذ أعطياتهم، وبعيداً عن مجاملتهم، فإن الله عز وجل يوفقه ويكون أقرب إلى الإخلاص، بينما إذا كان يقبل أعطيات السلاطين وهباتهم فإن هذا يجعل عينه كسيرة عندهم، فإذا رأى منكراً من المنكرات لا يستطيع أن ينكره، وبهذه الطريقة يضعف علمه، ويخفت وهج الإخلاص لديه.

    ومسألة الدخول على السلاطين مسألة دقيقة وحساسة وفيها تفصيل، فهي ليست مسألة مطلقة، فلا يقال: لا يصح الدخول على السلطان مطلقاً، أو يصح الدخول مطلقاً، وإنما يختلف الناس باختلاف قدراتهم وإمكاناتهم.

    والأصل في ذلك أنه إذا تحققت المصلحة الشرعية واستطاع الإنسان أن يدخل على السلطان وينصحه، ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، مع استخدام الأسلوب الطيب دون مجاملة في حد من حدود الله سبحانه وتعالى، فإذا كان الوضع كذلك فإنه يجوز له أن يدخل عنده، بينما قد يوجد إنسان لا يتحمل مثل هذه الأشياء، ويخاف على نفسه أنه قد يجامل وقد يداهن في الحق، فمثل هذا لا ينبغي له الدخول.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فاستمسك رحمك الله تعالى بالعروة الوثقى العاصمة من هذه الشوائب؛ بأن تكون مع بذل الجهد في الإخلاص شديد الخوف من نواقضه، عظيم الافتقار والالتجاء إليه سبحانه.

    ويؤثر عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى قوله: ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي!

    وعن عمر بن ذر أنه قال لوالده: يا أبي! ما لك إذا وعظت الناس أخذهم البكاء، وإذا وعظهم غيرك لا يبكون؟ فقال: يا بني! ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة. وفقك الله لرشدك آمين].

    المقصود من هذا أن النائحة الثكلى -وهي النائحة التي أصابتها المصيبة- ليست مثل المستأجرة؛ لأن العرب قديماً كانوا يميزون بين العظماء وغير العظماء بأن العظيم هو الذي يكثر عليه البكاء ويشتد عليه النواح، وكلما كثر البكاء دل هذا على عظمته، ومكانته، وعدم استغناء الناس عنه، فكان بعضهم ربما استأجر نساء ينحن على والده أو أخيه أو نحو ذلك، فكان هناك بعض الناس يمتهن مثل هذا العمل، فقد تبكي وهي لا دخل لها بالقضية لا من قريب ولا من بعيد، وإنما تبكي من أجل المال، والناس الذين يأتون من الخارج لا يعرفون من القريبة له ومن المستأجرة.

    وعلاقة هذا الموضوع بكلام عمر بن ذر هو أن الإنسان الذي يتكلم وهو يشعر بكلامه يختلف عن الإنسان المستأجر الذي يتكلم من أجل أجرة ودنيا، وهذا نجده حتى على مستوى الخطباء، فتجد الخطيب الذي يتكلم وهو صادق فيما يقول ويتكلم عن حرقة ورغبة في إصلاح الناس ليس مثل الخطيب الذي يتكلم من أجل أن يبقى خطيباً، ومن أجل أن يكون له مكافأة لهذا المسجد أو نحو ذلك.

    فالإخلاص ليس له مثل أبداً، فينبغي للإنسان أن ينقب نفسه بشكل مستمر.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الثاني: الخصلة الجامعة لخيري الدنيا والآخرة؛ محبة الله تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتحقيقها بتمحض المتابعة، وقفو الأثر للمعصوم، قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]].

    الخصلة الثانية مع الخصلة الأولى هما شرطان في كل عمل من العبادات، يعني: يشترط لها إخلاص النية، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبالجملة؛ فهذان أصل هذه الحلية، ويقعان منها موقع التاج من الحلة].

    فيا أيها الطلاب! هأنتم هؤلاء تربعتم للدرس، وتعلقتم بأنفس علق (طلب العلم)، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلانية، فهي العدة، وهى مهبط الفضائل، ومتنزل المحامد، وهي مبعث القوة، ومعراج السمو، والرابط الوثيق على القلوب عن الفتن، فلا تفرطوا].

    إذاً النقطة الأولى هي: أن العلم عبادة، وأن العبادة يشترط لها الإخلاص والمتابعة، ومن أعظم الأهداف التي يبارك الله عز وجل بها لطالب العلم أن يبارك له في علمه وفيما يكتبه، مثلاً: هذا الكتاب الصغير الذي كتبه الشيخ بكر أبو زيد أنا أعتقد أنه أفضل من مئات الآلاف من الكتب الموجودة التي نلاحظها في كثير من المكتبات، إن لم تكن مليئة بالضرر، فانظروا إلى هذا الكتاب الصغير الذي كتبه هذا العالم من أجل حاجة ماسة فعلاً لدى طلاب العلم كتبه بصدق وإخلاص، هكذا نحسبه ولا نزكي على الله أحداً، ويبدو ذلك من خلال الكلمات التي يكتبها في الحقيقة، وانظر إلى عشرات الكتب بل آلاف الكتب التي ذهبت أدراج الرياح، وأصبحت مجرد أوراق استهلكها الناس، ولم يكن لها أي قيمة، وهكذا ما يبقى من علم الإنسان نلاحظ أن الأمة مضت عليها قرون طويلة ومع هذا لم يحفظ إلا أسماء معينة أصبحت مثل النجوم للناس يهتدون بها، ويستفيدون منها، وهذا من آثار الصدق وإخلاص النية لله سبحانه وتعالى.

    1.   

    قواعد مستنبطة من القاعدة العامة في باب الأسماء والصفات

    باب الصفات من أطول الأبواب التي تحدثت عنها الكتب الثلاثة إلى درجة أن من يسمع بأسماء هذه الكتب يتبادر إلى ذهنه مباشرة باب الصفات، ولذلك نجد كثيراً من المشايخ عندما يريدون أن يوصوا طلابهم بكتب أهل العلم يقولون: اقرءوا كتابين: كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وكتاب الواسطية في توحيد الألوهية والصفات، مع أن الواسطية فيها مباحث عقدية أخرى غير باب الصفات مثل باب القدر، وباب الإيمان، والصحابة، وباب الغيبيات، لكن باب الصفات هو من أبرز هذه الأبواب التي توجد في هذه الكتب.

    وقد تحدثنا مسبقاً عن القاعدة العامة للسلف الصالح رحمهم الله في باب الصفات، وقلنا: إن القاعدة العامة هي إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ونفي ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه القاعدة العامة تتضمن كثيراً من المعاني والمسائل والقواعد التي يمكن أن تكون داخل هذا الشعار، وهذا الشعار الكبير لا يمكن أن نذكر كل ما يتعلق به، لكن يمكن ذكر أهم ما يتعلق بهذا الشعار.

    الكتاب والسنة هما مصدرا الأسماء والصفات

    مصدر الأسماء والصفات هو الكتاب والسنة:

    لأن الأسماء والصفات من الأخبار التي لا تدخلها الأقيسة المجردة، بل هي من الأخبار التي تتلقى عن الصادق، وسبق أن قلنا إن تلقي الأخبار عن الصادق -وهو كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم- لا يدل على أننا نؤمن بهذه الأسماء والصفات إيماناً مجرداً دون أن يكون للعقل مدخل فيها، ولهذا فالمعتزلة، والأشعرية، والماتريدية وغيرهم ممن يعظم العقل لم يسمهم أهل السنة بالعقلانيين، وإنما كانوا يسمونهم أهل الأهواء والبدع، فإن العقل اسم شريف، وممدوح في الكتاب والسنة، وهو أيضاً ممدوح عند كل الناس، فعندما يقال: فلان عاقل، وفلان غير عاقل، أي: الممدوح منهما العاقل، ولهذا نحن نقول: إن منهج أهل السنة هو المنهج العقلاني الوحيد الصحيح؛ لأن خالق العقل هو الله، ومنزل النقل هو الله، ولا يمكن أن يختلف ما خلقه الله مع ما أنزله، ولهذا استدللنا على ذلك بقول الله عز وجل: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].

    فلا شك أنه أعلم بخلقه سبحانه وتعالى من غيره، لكن أهل البدع ظنوا أن النصوص الشرعية الموجودة في القرآن والسنة والتي جاءت في باب الغيبيات وبالذات في باب الصفات؛ ظنوا أنها مخالفة للعقل، وهذا ظن فاسد، فهي ليست مخالفة للعقل، فإن هذه النصوص مصدرها الأساسي القرآن، والقرآن عليه من الأدلة العقلية التي تثبت صدقه ما حصر لها، ولهذا سبق أن ذكرت أن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم يدل عليها أكثر من ألف دليل، منها: القرآن، فالقرآن دليل واحد، وهناك أدلة متعددة أخرى غير القرآن، وسبق أن ذكرت نماذج من الأدلة العقلية التي يمكن أن نستدل بها على أن هذا القرآن حق، ومن ثمَ على أن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وبناء على هذا فكل ما يأتي في القرآن والسنة من المعاني -ومنها الأسماء والصفات- فهي معان حقيقية صادقة لا شك فيها، ليست بحاجة إلى تحريف أو تبديل أو تغيير هذا معنى من المعاني التي يمكن أن نأخذها من القاعدة العامة.

    يقبل في باب الأسماء والصفات من الحديث ما يقبل في باب الأحكام

    سبق أن ذكرنا أن الأسماء والصفات كما أنها تؤخذ من القرآن الذي نقل بالتواتر من حيث الثبوت يمكن أن تأخذ أيضاً من السنة المنقولة بالتواتر وبالآحاد، وبناء على هذا فما يكون مقبولاً في باب الأحكام لا بد أن يكون مقبولاً في باب الأخبار وفي باب الأسماء والصفات وبقية العقائد؛ لأنه إذا تعبدنا الله سبحانه وتعالى ونحن أمرنا الناس أن يتعبدوا في الأحكام بأخبار الآحاد، فلا شك أن أخبار العقائد مثلها ولا فرق، ولهذا أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأقطار أفراداً يقررون لهم أصل الدين، وأساس الملة، وقاعدة التوحيد، ولم يرسل عدد التواتر، ولو كان عدد التواتر شرطاً في قضايا العقائد لاشترطه أهل الأقطار، ولأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل اشتراطهم؛ لكنه ليس بشرط، وأهم شيء هو أن يكون ثابتاً، وأن يكون النقل بإسناد صحيح، وأن لا يخالف ما هو أصح منه وأوثق منه.

    التوافق الوارد في أسماء الله وأسماء صفاته مع أسماء المخلوقين وأسماء صفاتهم لا يقتضي التماثل

    من المعاني التي تدخل في هذه القاعدة ما سبق أن أشرنا إليه، وهو أن التوافق الوارد في أسماء الله وفي أسماء صفاته مع أسماء المخلوقات لا يقتضي التماثل، وإنما هو اتفاق في أسماء بينها قدر مشترك، هذا القدر المشترك إذا ذكرته على الإضافة لا يكون له حقيقة خارجية، وإنما حقيقته في الذهن فقط، فإن الذهن يربط بين المعاني برابط كلي عام لا يمكن أن يكوم موجوداً في الخارج إلا إذا أضفته، فاليد أو القدم أو العلم أو الوجود أو أي اسم من هذه الأسماء له معنى في الذهن، لكن إذا أضفته فقلت: يد الله، وعلم الله، ووجود الله اختلفت تماماً عن يد المخلوق، وعلم المخلوق، ووجود المخلوق؛ مع كونها تتفق في الاسم العام، وهذا الاتفاق لا يقتضي التماثل بأي وجه من الوجوه.

    كذلك نحن ننفي عن الله التشبيه، ولـشيخ الإسلام رحمه الله تحقيق دقيق جداً في هذه المسألة حيث قال رحمه الله: إن كلمة التشبيه كلمة مجملة، فإن أرادوا بالتشبيه التماثل فلا شك أنه ليس هناك تماثل بين أسماء الله وصفاته وبين أسماء المخلوقين؛ لأنه ليس هناك تماثل بين الخالق والمخلوق.

    أما إذا أرادوا بالتشبيه مجرد التشابه في الأسماء، فنحن لا ننفي هذا بل نثبته ونرى أن إثباته أساسي لفهم معاني أسماء الله وصفاته.

    ولهذا سبق أن ناقشنا مسألة الاشتراك في الألفاظ وقلنا: إنها قطعاً ليست من الأسماء المشتركة، مثل لفظ (العين) الذي يطلق على الجاسوس، ويطلق على العين الباصرة، ويطلق على العين الجارية، وهي كذلك ليست من التواطؤ الذي يجتمع في الحقيقة مثل لفظة (إنسان) الذي يوجد أفراده في الخارج، لكن حقيقته واحدة، وإنما قلنا: إنه يطلق بالتشكيك كما يسميه بعض أهل الأصول أو بالتواطؤ العام الذي يفهم منه المعنى الكلي العام، لكن لا وجود له في الخارج إلا مختصاً.

    وسبق أن قلنا: إن هذا يعتبر مأزقاً وإن هذه المسألة تعتبر من نقاط الارتكاز التي اختلف فيها أهل السنة مع المعطلة من جهة أخرى، فالمعطلة ظنوا أنه إذا قلنا: إن لله يداً، ولله وجهاً، ولله علماً، وإن لله سبحانه وتعالى صفات متعددة، وهذه الأسماء موجودة في المخلوقات؛ أن هذا يقتضي التماثل من كل وجه، ونحن نقول: لا يقتضيه، فقالوا: أنتم تكابرون!

    فقلنا لهم: إذا كان يقتضيه فلا بد أنكم -أيها المعطلة- تثبتون قدراً من أسماء الله أو من صفاته أو على الأقل وجوده، فالمعتزلة مثلاً ينفون صفات الله عز وجل جميعاً ويثبتون الأسماء، فنقول لهم: كيف تثبتون الأسماء وبعض المخلوقين لهم أسماء كأسماء الله عز وجل، فالله هو العزيز سبحانه وتعالى، والله عز وجل يقول: وقَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ [يوسف:51]، فهذا عزيز وذاك عزيز، فلماذا تعتبرون أسماء الله مختصة به، وأسماء المخلوقين مختصة بهم، والصفات لا تطبقون عليها القاعدة؟ هذا تناقض!

    وإذا كان المناقش والمجادل من الأشعريين الذين يثبتون لله عز وجل سبع صفات عقلية: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، وينفون عن الله سبحانه وتعالى بقية الصفات الفعلية والصفات الخبرية الأخرى، نقول لهم: ما نفيتموه مثل ما أثبتموه، فإن قلتم: إن علم الله عز وجل لا يشبه علم المخلوق، قلنا: وكذلك غضبه، وكذلك ضحكه، وكذلك نزوله، وكذلك بقية الصفات التي نفيتموها.

    فإن قلتم: إن هذا يليق بجلال الله، قلنا: وذاك أيضاً يليق بجلال الله.

    فإن قالوا: إن الغضب لا يفهم إلا من المخلوق، قلنا: وكذلك المخلوق عنده علم، والمخلوق عنده حياة، والمخلوق موجود!

    وهذا تناقض كبير؛ فهم في الحقيقة لم يحققوا هذه المسألة، ولم يبحثوها بشكل جيد، فاضطربوا فيها اضطراباً كبيراً، فلا يستطيعون القول بأن هذه الكلمات مطلقة من باب الاشتراك اللفظي، فجمهورهم يقولون: إنها من باب المتواطئ العام الذي سبقت الإشارة إليه.

    أما الرازي والآمدي فتجد أن هناك اضطراباً في كلامهم حول هذه المسألة، ومع ذلك لما قالوا بها شن عليهم عدد كبير من أهل السنة، وحتى من المتكلمين أنفسهم؛ بسبب أن هذا يقتضي أن لا نفهم شيئاً من صفات الله، وأن لا نفهم معاني أسمائه، وأنه يحتمل أن يكون لها معنى مختلف اختلافاً كلياً مائة بالمائة. وهذا لا يقول به عاقل، فإن الله عز وجل خاطبنا بلغة واضحة وبينة، يمكن للإنسان أن يفهمها ويدركها ولهذا كان كتاباً مبيناً، وكان شفاءً وقد سبق أن وضحنا هذه القضايا بشكل تفصيلي.

    كيفية التعامل مع ظواهر النصوص التي وردت في الصفات

    هنا قضية مهمة وهي قضية ظواهر النصوص التي وردت في الصفات هل ظواهرها مقصودة أو ليست مقصودة؟ أو هل هناك معان باطنية في هذه الظواهر ينبغي أن نبحث عنها، وننقب عنها، ونرد معاني أسماء وصفات الله عز وجل إليها، وأن ننتقد كل من يفهم الظواهر التي تأتي في النصوص؟

    لا شك أن منهج أهل السنة والجماعة هو أن ظواهر هذه الأسماء والصفات مرادة لكن بشرط إلا يكون ظاهرها مشابهة المخلوق، ولا يمكن أن يكون ظاهرها كذلك؛ لأن الله عز وجل الذي أثبت لنفسه الصفات نفى عن نفسه مماثلة المخلوقات فقال: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، وقال: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، وهذا استفهام إنكاري معناه: ليس له سبحانه وتعالى سمي.

    وقال: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ [النحل:74]، وقال: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، فالله عز وجل ليس له شبيه ولا مثيل.

    وبناء على هذا فكل ما نقرؤه في القرآن أو في السنة من أسماء الله ومن صفاته فهي على ظواهرها، لكن لا يجوز للمسلم أن يظن أن ظواهرها مماثلة المخلوقات، لكن قلوبهم اشتملت على الشبهات فإذا قرءوا آية من آيات الله عز وجل في القرآن أو حديثاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ظنوا مباشرة أن هذا يقتضي المماثلة، فاتفقوا على أنها ليست على ظاهرها، ثم اختلفوا: هل نعين المعنى المراد بهذه النصوص، أم نكتفي بأن نقول: ليست على ظاهرها ونترك معانيها؟

    فالقسم الأول: هم المعطلة المؤولة، والقسم الثاني: هم المعطلة المفوضة. فهم جميعاً اتفقوا على نفي مدلول معاني أسماء الله وصفاته عن الله عز وجل، ثم اختلفوا فيما يترتب على ذلك:

    مثلاً قوله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22] يقولون: هذه قطعاً لا تدل على إثبات المجيء لله عز وجل، فلا يصح أن ننسب لله عز وجل صفة المجيء؛ لأن المجيء من صفات المخلوق، والله عز وجل مخالف للمخلوق، فلا نثبتها لله، ثم اختلفوا: هل نأتي بمعنى ملائم للآية وهو ما يسمى (التأويل) وهو صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى معنى مرجوح لوجود قرينة.

    والقرينة عندهم جميعاً هي أن هذه الظواهر تقتضي التمثيل، فالمؤولة قالوا: لا بد أن نحدد المعنى على سبيل التبرع، كما قال بذلك الرازي في القانون الكلي في كتاب له اسمه أساس التقديس؛ يقول: نحن نؤول هذه النصوص من باب التبرع، يعني: حتى يفهم الإنسان معانيها.

    وقالت المفوضة: نمرها كما جاءت. ثم فسروا آية آل عمران في المتشابه على نحو ما يريدون وبالطريقة التي يريدون، وسيأتي معنا إن شاء الله عند القراءة وقوع أحد علماء هذه الكتب الثلاثة وهو ابن قدامة رحمه الله في خطأ لكنه خطأ جزئي وليس هو حقيقة مذهب المفوضة.

    ونحن نقول: لا شك أن هذه الظواهر على حقيقتها، وأن ظواهر هذه الأسماء والصفات لا تقتضي المماثلة بأي وجه من الوجوه.

    إذاً الطريقة التي ندرس بها العقيدة الآن تسمى: (طريقة التصحيح)، أعني: تصحيح المفاهيم العقدية مما خالطها من شوائب البدع؛ لأن هناك مدارس كلامية سابقة ألف علماؤها كتباً وانتشرت في الأمة، وصار لديها معاهد، ومدارس دينية، وظهر على أثر هذا علماء ينشرون هذه العقائد بشكل كبير، فاقتضى ذلك تصحيح العقيدة مما وقع حولها من الشوائب، وإلا فإن الواجب أن تكون دراستنا في الأسماء والصفات هي دراسة أثرها التربوي والإيماني على القلوب.

    ويدل لذلك أنه عندما جاء لقيط بن صبرة رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسمع منه قوله: (يضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره) (القنوط) هو: اليأس، (وقرب غيره) يعني: قرب انفراج هذا اليأس، فيضحك الله عز وجل من ذلك لضعف العبد قال لقيط : (يا رسول الله! أيضحك الرب؟) ما كان يعرف هذه الصفة، قال: (نعم، قال: لن نعدم من رب يضحك خيراً).

    فهو استفاد منها أثراً تربوياً وإيمانياً، يعني: هذا الرب الذي يضحك لا نعدم منه خيراً، فأثر في نفس لقيط بن صبرة أن ربه يضحك، واستفاد منه أثراً إيمانياً ضوعبادة إيمانية ضرورية عند أهل السنة وهي الرجاء.

    يعني: ينبغي للإنسان أن يرجوه وأن يطلب منه الخير مادام يضحك، وهذه من صفاته، ولم يخطر في بال لقيط بن صبرة ما يخطر في عقول المتكلمين في زماننا وفي الزمان الذي قبله، لم يقل: هل الضحك يقتضي أن يكون مماثلاً لضحك المخلوق؟ وهل يقتضي أن يكون هناك لهاة؟ وهل يقتضي أن يكون هناك أسنان؟ وهل يقتضي أن يكون هناك لسان مع الفارق بين الخالق والمخلوق؟

    إذاً: لقيط لم يقس ربه على خلقه، وإنما عرف أن ربه مختلف، لكن له هذه الصفة التي تدل على معنى، فاستفاد من هذا المعنى، ولم يشبه ولم يمثل في صفته سبحانه وتعالى، وأيضاً لم يدفعه ذلك لنفي هذه الصفة عن الله سبحانه وتعالى، هذا ما يتعلق بالمنهج السلفي في هذه المسألة.

    1.   

    كلام ابن أبي داود في الحائية في وجوب التزام الكتاب والسنة في باب العقائد

    قال الشيخ أبو بكر بن أبي داود رحمه الله:

    [تمسك بحبل الله واتبع الهدى ولا تك بدعياً لعلك تفلح

    ودن بكتاب الله والسنن التي أتت عن رسول الله تنج وتربح]

    هذه قاعدة عامة في باب الأسماء والصفات وفي غيره من الأبواب، وهي أن الالتزام بالكتاب والسنة هو الموصل إلى العقيدة الصحيحة في كل باب.

    وينبغي البعد غاية البعد عن البدع، والبدعة هي الاختراع في الدين والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بهذا الاختراع الذي يخترعه العبد، سواء في باب العلميات وهي العقائد أو في باب العمليات وهي العبادات.

    فليست البدعة هي مطلق الاختراع، وإنما الاختراع ما كان منسوباً إلى الدين وليس عليه دليل من الكتاب والسنة، فلا شك في كونه حينئذٍ من البدع.

    ونحن لا نسمي المصطلح مصطلحاً شرعياً إلا إذا كان هذا المصطلح في القرآن أو السنة؛ لأن الشرع هو كلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا كان هناك مصطلح معناه صحيح وليس فيه معان باطلة فهذا لا إشكال فيه، ولهذا لا يزال أهل العلم منذ زمن الصحابة يفصلون المسائل ويقسمونها، فأصول الفقه فيه تقسيمات، ومصطلح الحديث فيه تقسيمات، واللغة فيها تقسيمات وكذلك كافة العلوم.

    ومن الطبيعي أن الإنسان إذا كان لديه معنى من المعاني يمكن له أن يقسمه وأن يفصله وأن يسمي كل قسم من الأقسام باسم، وليس في التسمية مشكلة إذا كان المعنى صحيحاً، ولهذا لم ينكر السلف مصطلحات الفناء والكشف والجوهر والحيز والجهة على الصوفية والمتكلمين بسبب أنها مصطلحات جديدة، وإنما أنكروها لأنها تتضمن معاني تناقض المعاني الشرعية، فالسلف لم ينكروا مصطلح الفاعل والمفعول به والمفعول المطلق، والمرسل، والمقيد، والمعنعن، والمعلل أو المعل ونحو ذلك؛ لأن المعاني التي تضمنتها معان صحيحة، وإنما أنكروا المصطلحات التي تكون معانيها باطلة.

    وبهذا نعلم فساد قول من يرى أن مصطلح (العقيدة) مصطلح بدعي؛ لأن كلمة (العقيدة) لم ترد في الكتاب ولا في السنة، فأنتم بهذا قد وقعتم في بدعة! نقول: كلمة (العقيدة) أصلاً مأخوذة من عقد الحبل إذا وثقته، فالمقصود منه: هل عقدتم الأيمان، يعني: وثقتموها، فالعقد المقصود به التوثيق الذي يدل على معنى اليقين، فالمقصود أن ما يعتقده الإنسان ويوقن به يمكن تسميته عقيدة، فهل هذا يتضمن معنى فاسداً؟

    لا يتضمن معنى فاسداً، ولهذا لا يصح الإنكار من هذه الزاوية، فهو إنكار ناقص، ويدل على ضعف علم عند مثل هذا الشخص.

    1.   

    شرح مقدمة لمعة الاعتقاد

    قال الشيخ الموفق ابن قدامة رحمه الله:

    [بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل زمان، الذي لا يخلو من علمه مكان، ولا يشغله شأن عن شأن، جل عن الأشباه والأنداد، وتنزه عن الصاحبة والأولاد، ونفذ حكمه في جميع العباد، لا تمثله العقول بالتفكير، ولا تتوهمه القلوب بالتصوير: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، له الأسماء الحسنى والصفات العلى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:5-7]، أحاط بكل شيء علماً، وقهر كل مخلوق عزة وحكماً، ووسع كل شيء رحمة وعلماً: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]، موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم وعلى لسان نبيه الكريم].

    هذه المقدمة حسنة الاستهلال؛ لأنه بدأها بالحديث عن الله سبحانه وتعالى، وعما يتعلق بأسمائه وصفاته.

    شرح قوله: (وترك التعرض له بالرد)

    قال المؤلف رحمه الله: [وكل ما جاء في القرآن أو صح عن المصطفى عليه السلام من صفات الرحمن، وجب الإيمان به وتلقيه بالتسليم والقبول، وترك التعرض له بالرد والتأويل، والتشبيه والتمثيل].

    قوله: (وترك التعرض له بالرد) يعني: أن يكذب الإنسان هذا الوحي، ولا شك أن تكذيب القرآن أو تكذيب شيء مما في القرآن كفر بالله رب العالمين، لكن الحقيقة أن الخطر على عقائد المسلمين ليس من المكذبين، لأنه يسهل على الإنسان أن يكتشف أمرهم وحالهم، فالذي يبارز أهل الدين العداء بشكل صريح وواضح فهذا لا إشكال فيه حيث يعرفه المسلمون، لكن المشكلة في الذي يقر بالألفاظ الموجودة في القرآن وفي السنة لكن يقول: إن معانيها ليست كما تقولون، وإنما لها معان أخرى، ثم يأتي بمعان مبتدعة، ثم يأخذ هذه الألفاظ الموجودة فيها ويلوي أعناقها، ويحرفها حتى تكون موافقة لهذا المعنى الجديد الذي جاء به.

    وهذا يعتبر من أخطر الأمور على المسلمين لأنه هو الذي فرق المسلمين وجعلهم شيعاً وأحزاباً، وهو المعنى الوارد في قول النبي صلى الله عليه وسم: (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة)، يعني أمة الإجابة وهم المسلمون، وفي بعض الألفاظ: (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)، فبين أن الفرق تفترق، ولا يتصور من فرق تنتسب إلى الإسلام -وهم من المسلمين في الجملة- أن يكذبوا بالنصوص، وإنما المشكلة التي وقعوا فيها أنهم آمنوا بألفاظها وحرفوا معانيها، وسموا هذا التحريف اسماً لطيفاً جميلاً وهو التأويل، والحقيقة أن التأويل في المصطلح الشرعي يأتي بمعنيين:

    المعنى الأول: يأتي بمعنى التفسير.

    والمعنى الثاني: يأتي بمعنى حقيقة الشيء.

    فالتأويل في الاصطلاح الشرعي لا يكون إلا بهذين المعنيين، فالأول: معناه تفسير المعاني الموجودة ضمن هذه الألفاظ بما يقتضيه المعنى الشرعي الصحيح، والثاني: وهو حقيقة الشيء وذاته في نفس الأمر، ولهذا عندما كان يركع النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي) قالت عائشة : (كان يتأول القرآن) يعني: يفسر القرآن بعمله، وذلك أن الله يقول: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3]، فتقول عائشة : إنه كان يتأول القرآن، يعني يفسر بفعله فيقول في ركوعه: (سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي).

    وأما حقيقة الشيء فهذا هو الذي سيأتي معنا إن شاء الله عند الحديث عن آية المتشابه في سورة آل عمران.

    شرح قوله: وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً وترك التعرض لمعناه

    قال ابن قدامة : [وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً، وترك التعرض لمعناه].

    قوله: (وما أشكل من ذلك) يعني: ما كان من المتشابه، ولهذا فالنصوص الشرعية تنقسم إلى قسمين: محكم ومتشابه.

    المحكم: هو الواضح البين، ولهذا قال تعالى: آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7] يعني: هن أصل الكتاب وأساس الكتاب. قال: وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]، المتشابهات هي التي تكون خفية الدلالة وغير واضحة المعاني.

    وهناك نصوص فيها إشكال، ونصوص اختلف العلماء فيها هل هي من نصوص الصفات أو ليست من نصوص الصفات، كالآية التي وردت في إثبات الساق يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42] اختلف العلماء فيها هل تتضمن إثبات صفة الساق لله عز وجل أو لا تتضمن؟

    أما الصفة نفسها فقد دل عليها حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وعلى كل حال هذه الصفة بشكل خاص هي الصفة الوحيدة التي وقع فيها الخلاف، لكن الكلام في القاعدة العريضة العامة.

    ومن هنا فباب الصفات يعتبر من المحكم في أصله وفي قاعدته، لكن قد تكون بعض النصوص مورد إشكال، وتكون غير واضحة في الدلالة والمعنى، وحينئذٍ إذا وقعت مثل هذه النصوص نردها إلى المحكم، ولهذا انقسم الناس في التعامل مع المتشابه إلى فريقين:

    الفريق الأول: (الذين في قلوبهم زيغ) وهم الذين يتبعون المتشابه، يأخذون النص ويبترونه، ثم يوظفونه في الشيء الذي يريدونه من الأفكار والعقائد، وأما أهل العلم فإنهم إذا وجدوا النص المشكل ردوه إلى أساسه المحكم الواضح.

    قال ابن قدامة رحمه الله: [وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً، وترك التعرض لمعناه، ونرد علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله اتباعاً لطريق الراسخين في العلم، الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين بقوله سبحانه وتعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، وقال في ذم مبتغي التأويل لمتشابه تنزيله: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، فجعل ابتغاء التأويل علامة على الزيغ، وقرنه بابتغاء الفتنة في الذم، ثم حجبهم عما أملوه، وقطع أطماعهم عما قصدوه بقوله سبحانه: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]].

    هذه الآية وهي آية المتشابه في سورة آل عمران اختلف أهل العلم في تفسيرها اختلافاً كبيراً، ولـشيخ الإسلام رحمه الله رسالة مستقلة في هذا الموضوع بعنوان: الإكليل في المتشابه والتأويل، وهي مطبوعة ضمن مجموع الفتاوى الكبير.

    هذه الآية يقول الله عز وجل في بدايتها: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]، فإلى هذا الحد متفق عليه وليس فيه اختلاف، والمقصود بهذه الآية أن القرآن مشتمل على محكمات واضحات بينات هن أم الكتاب، (وأخر) يعني: نصوص أخرى فيها اشتباه وإشكال في المعنى، فينبغي أن ترد إلى المعنى المحكم.

    هناك خلاف دقيق لا يعنينا الآن في تفسير معنى المحكم، فبعضهم مثلاً يقول: المحكم هو الناسخ، والمتشابه هو المنسوخ، وبعضهم يقول: المحكم هو الواضح، والمتشابه هو غير الواضح المبهم، وبعضهم يرى أن المحكم هو الخاص، والمتشابه هو العام ونحو ذلك، لكن الذي يهمنا هو الفهم العام لهذه الآية.

    قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [آل عمران:7]، يعني: أهل الأهواء فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7]، يعني: يذهبون إلى النصوص التي في معانيها إشكال ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ [آل عمران:7] يعني: طلب الفتنة، والمقصود بالفتنة هو الشرك أو البدعة أو العقيدة الفاسدة عموماً وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7] يعني ابتغاء حقيقته.

    فهؤلاء الذين في قلوبهم زيغ يريدون باتباعهم للمتشابه وإعراضهم عن المحكم يريدون الفتنة من جهة، ويريدون الوصول إلى حقيقة الشيء من جهة أخرى!

    لو قال قائل: لماذا لا يكون معنى وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7] تفسيره؟ نقول: ليس في هذا ذم، يعني: لو كان المقصود أنهم يبتغون تفسير القرآن، فإن كل المسلمين يبتغونه، ولهذا أمرنا الله عز وجل أن نتدبر القرآن فقال: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، ولا يمكن تدبر الآيات إلا بفهم تفسيره، ولهذا ذم الله عز وجل الذين لا يتدبرون فقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، فليس المقصود بقوله: ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ التفسير، وإنما المقصود منها ابتغاء حقيقة الشيء؛ لأن الحقائق منها ما وضحها الله لنا، ومنها ما أخفاها الله عنا، كحقائق الجنة والنار، وحقائق الساعة، وحقائق الملائكة ونحو ذلك من مخلوقات الله عز وجل الكبرى التي لم يوضحها الله لنا كحقائق، وإنما بين الله عز وجل لنا معاني، وأمرنا بالإيمان بها، وإلا فإن الحقائق -ومنها صفات الله عز وجل- لم يبين الله لنا عز وجل حقائقها، وإنما بين لنا معاني نستفيد منها في حياتنا.

    ثم قال: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7] اختلف العلماء في الوقوف هنا على لفظ الجلالة: هل هو وقوف ملزم، أم أنه وقوف جائز بحيث يصلح للإنسان أن يقف ويصلح له الوصل؟

    اختلفوا على قولين:

    القول الأول: أن الوقوف هنا إلزامي، وهو قول الجمهور.

    والقول الثاني: أن الوقوف هنا جائز وليس بإلزامي.

    وكل قول يختلف مفهوم التأويل عنده بناء على ذلك، فقوله مثلاً: ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، يصير التأويل الثاني هنا بمعنى حقيقة الشيء، يعني: هم يبتغون تأويله، وتأويله لا يعلمه إلا الله عز وجل، ثم الواو هنا استئنافية: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ.. [آل عمران:7] إلى آخر الآية.

    وأما الذين رأوا جواز الوصل فإن التأويل عندهم هنا يكون بمعنى التفسير، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7] يعني: الراسخون في العلم يعلمون تأويله، ولهذا روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: [أنا ممن يعلم تأويله] فبين بهذا القول أن معنى التأويل هنا التفسير، ولهذا سماه العلماء ترجمان القرآن، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم بمعرفة التأويل، يعني: التفسير، وإلا فحقائق الأشياء لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.

    هذا هو شأن أهل السنة مع هذه الآية بشكل مختصر، أما شأن أهل البدع فهم نشاز؛ جاءوا إلى كلمة (تأويل) فقرروا لها معنى مبتدعاً من عندهم، ثم فسروا الآية بمعناهم المبتدع، فجاءوا إلى التأويل وقالوا: إن معنى التأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى ظاهره المرجوح لوجود قرينة من القرائن.

    وقضية التأويل عندهم مبنية على أساس فاسد، وهذا الأساس هو أن النصوص فيها مجاز، وأن المعاني وضعت أول الأمر على الحقيقة ثم استعملت في المجاز، فترتب على هذا أن الكلمات لها حقيقة ولها مجاز، فحقيقتها هو أول ما وضعت له، وهذه المسألة طويلة الذيل.

    والذي يهمنا هو أن تعريف التأويل عند أهل الكلام فسر به معنى الآية، فجاءوا إلى الآية وقالوا: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7] يعني: هو صرف اللفظ عن ظاهره، لكن لا يعرف التأويل الذي قال به بعض الأشعريين إلا الله، ولهذا ذهبوا إلى التفويض، فقوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران:7] يعني: أن المفوضة هم الراسخون في العلم، والمفوضة هم الذين ينفون الصفات ويتركون التأويل، فانظروا كيف أنهم أسسوا معنى وأسقطوه على لفظ معين اصطلحوا عليه، ثم بعد ذلك فسروا الآية باصطلاحهم.

    وحتى نقرب هذه المسألة نقول: المحرم، والواجب، والمندوب، والمكروه، والمباح، هذه الاصطلاحات ظهرت متأخرة عندما ظهر علم أصول الفقه، فلو أن إنساناً أخذ مصطلحاً من هذه المصطلحات وبدأ يسقطه على أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، كما لو جاء إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) وتعريف الواجب: هو ما أمر الله سبحانه وتعالى به أو أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه الإلزام، وهذا التعريف لأناس متأخرين عن زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يسقط على قوله: لكن يفهم لفظ الرسول على ضوء معناه اللغوي، وليس على ضوء معناه الاصطلاحي المتأخر.

    كذلك المكروه عندهم: هو الشيء الذي نهى عنه الشرع لا على سبيل الإلزام والحتم، فيجوز للإنسان أن يفعله لكن تركه أفضل، والله عز وجل عندما ذكر الشرك قال: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:38] فهل معنى (مكروهاً) هنا أنه يجوز للإنسان أن يشرك ويجوز له أن لا يشرك؟! الجواب: لا.

    ولهذا فالمصطلحات المتأخرة لا يجوز إسقاطها على النصوص، وهكذا أهل الكلام هنا اصطلحوا مصطلحاً خاصاً في التأويل ثم أسقطوه على النصوص وفسروا الآيات بناء على ذلك، ووقعوا في هذا الانحراف.

    1.   

    الأسئلة

    أمثلة على الغلو في القول والاعتقاد

    السؤال: يعرف العلماء الغلو بأنه الإفراط في التعظيم بالقول والاعتقاد بالعمل، فما مثال الغلو بالقول؟

    الجواب: الغلو بالقول مثل دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: يا رسول الله اغفر لي، والغلو في الاعتقاد كأن يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب، والغلو في العمل مثل السجود لقبر أو نحو ذلك.

    تنوع الغلو

    السؤال: يرى العلماء أن الغلو تارة يكون شركاً وتارة يكون وسيلة إلى الشرك، فهل من تفصيل في ذلك؟

    الجواب: من الغلو مثلاً عبادة غير الله عز وجل والطواف حول القبور، والذبح لغير الله، والاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، ومن الغلو ما هو أقل من ذلك مثل تقبيل يد الفاضل أو التمسح ببعض الأماكن الفاضلة والمباركة لكن على غير وجهها الشرعي، فهذه من البدع وليست من الكفريات.

    منزلة العمل من الإيمان

    السؤال: بعض أهل العلم يقول: العمل جزء تكميلي في الإيمان، وليس من أصل الإيمان، فلو كان العمل من أصل الإيمان لكان ترك العمل ناقضاً من نواقض الإيمان، فما رأيكم في هذا القول؟

    الجواب: هذا القول مبهم، إذا كان المقصود بالعمل جزء العمل كأن يترك الإنسان بعض الأعمال الواجبة فهذا لا شك أنه لا ينقض الإيمان، لكن إذا كان المقصود ترك العمل بالكلية بحيث إنه لا يعمل شيئاً من أعمال الظاهر والباطن أو من أعمال الظاهر مطلقاً فلا شك أن هذا ينقض أصل الإيمان.

    المقصود بقوله تعالى: (فلا تزكوا أنفسكم)

    السؤال: ما هي تزكية النفوس في قوله: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32]؟

    الجواب: ليس المقصود بها النماء والطهارة، بل المقصود بتزكية النفس في هذه الآية الثناء عليها ومدحها.

    حكم الإيمان بالأسماء والصفات بعيداً عن العقل

    السؤال: أود أن أستفسر عن الإيمان بالأسماء والصفات هل هو إيمان مجرد عن العقل وليس له دخل فيه أو نؤمن بها مع العقل، وهل هذه العقيدة سليمة؟

    الجواب: هذا الكلام عام، إذا كان الأخ يقصد أن نؤمن بها مع العقل، أي: مع فهم معانيها؛ نقول: نعم لا بد أن نؤمن بها مع العقل، لكن إن كان يقصد أن يدرك الإنسان كل معانيها وحقائقها وكيفيتها؛ فلا شك أن هذا من علم الغيب الذي لا نعرفه، وإنما نؤمن بمعانيها العامة والإجمالية، فلا بد من تفصيل المعاني؛ لأن كلمة العقل قد تستخدم في معنى، وقد تستخدم في صيغه أخرى بمعنى آخر، فينبغي أن نتعود على تدقيق الألفاظ.

    الأشاعرة ليسوا من أهل السنة

    السؤال: هل الأشاعره الموجودون الآن هم من أهل السنة؟

    الجواب: لا شك أن الأشاعرة الآن وقديماً ليسوا من أهل السنة، فأهل السنة يختلفون عنهم تماماً، وهم يخالفون أهل السنة في أبواب متعددة: فيخالفونهم في الصفات، في مسائل الإيمان والتكفير، وفي مسائل القدر، وفي كثير من المسائل، والأشاعرة ليسوا كفاراً، بل هم من المسلمين لكنهم من أهل البدع.

    حكم الطعن في عقائد بعض العلماء والفاتحين

    السؤال: نرى بعض طلبة العلم يطعن في عقائد بعض العلماء مثل الحافظ ابن حجر وبعض رواد المسلمين والفاتحين مثل صلاح الدين الأيوبي ، فما تعليقكم على هذا؟

    الجواب: لا شك أن الحافظ ابن حجر رحمه الله كان من أهل السنة، ومن علماء السنة، لكنه أخطأ وزل في بعض المسائل العقدية في الصفات وفي غيرها، وكذلك صلاح الدين كان مجاهداً وصادقاً ونفع الله عز وجل به المسلمين لكنه كان على طريقة الأشاعرة في الجملة، لكن ينبغي أن ننبه لعدة أمور:

    الأمر الأول: أنه في بعض الأحيان قد يكون الإنسان عالماً في الحديث أو في الفقه ثم يكون عنده خلل في مسألة عقدية، فهذا الإنسان غير متخصص في هذا الباب، لكنه أخطأ أثناء شرح لحديث أو أثناء تفسيره للآية، فهذا الإنسان إذا أخطأ في شرحه لحديث أو في تفسيره لآية لا يعتبر خارجاً عن السنة، وإنما هو من أهل السنة إذا كانت أصوله هي أصول السنة، ويعتبر مخطئاً في هذه المسألة.

    أما صلاح الدين فإنه لم يكن عالماً وإنما كان مجاهداً صادقاً، وأي مجاهد لا بد أن يكون عنده قدر من العلم، فعندما كان يقرأ كان العلماء في تلك الفترة هم علماء الأشعرية، فدرس على علماء الأشعرية فصار عنده أخطاء بسب ذلك.

    الأمر الثاني: أن مقام النقد ومقام الاعتراض ومقام المواجهة يختلف من حال إلى حال، يعني: عندما يكون المقام مقام تدريس للعقيدة، وتربية الأمة على العقيدة ينبغي أن ندرس الأمة على العقيدة السلفية الصحيحة التي هي عقيدة أهل السنة والجماعة، التي نعتقد عن علم ويقين أنها هي الحق وما سواه ضلال وانحراف، هذا مقام، أما عندما يجاهد الكفار، وعندما نقاتل الأعداء، وعندما نواجه طواغيت العالم الكافرين حينئذٍ يجب أن نلتزم باسم الإسلام العام.

    ولهذا فإن ابن قدامة رحمه الله الذي ندرس عقيدته كان في جيش صلاح الدين الأيوبي عندما دخلوا بيت المقدس، وكان في جيشه آلاف من علماء أهل السنة، وطلاب العلم، وعوام أهل السنة، ففي مقام الجهاد في سبيل الله يجب أن تشرك الأمة جميعاً في حماية بيضة الإسلام؛ لأن هؤلاء الأشاعرة حتى لو كانوا أشاعرة أليسوا مسلمين؟! بلى هم مسلمون.

    وأذكر أنني سمعت فتوى للشيخ محمد ناصر الدين الألباني هذا العالم الذي كان كثيراً ما يتكلم عن البدع ويحذر منها، وكثيراً ما يتكلم عن بعض الأعيان من المبتدعة ويحذر منهم، فأحد الشباب كان مشحوناً جداً على سيد قطب فجاءه يستفتيه يقول له: هل نترحم على سيد قطب ؟ فسأله الشيخ سؤالاً موضوعياً دقيقاً جداً قال: هل سيد قطب مسلم أو كافر؟ فسكت السائل وانبهر بالسؤال فقال: مسلم!

    قال: إذا كان مسلماً يجوز الترحم عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (حق المسلم على المسلم خمس) وذكر منها رد السلام عليه، والصلاة على جنازته ومن باب أولى الترحم عليه.

    ولهذا ينبغي أن ندرك المقامات، مثلاً بعض الشباب يقرأ في الكتب القديمة أنهم كانوا يهجرون أهل البدع، وأنهم كانوا يذمونهم، ويتكلمون عليهم وما كانوا يصلون على جنائزهم، ثم يطبقها تطبيقاً خاطئاً في الحياة، وهذا خطأ كبير جداً، فالهجر الذي كان يمارس بعض الأحيان فيه نصوص مجردة كانت مرتبطة بالمصلحة، فمثلاً جاء عن الشافعي رحمه الله أنه جاءه حفص الفرد فطلب منه المناظرة فقال: لا أتكلم معك. قال: بكلمة؟ قال: ولا بنصف كلمة. وذلك لأن في هذا عدة مصالح، أولها عدم تنبيه العامة، وقد كان الشافعي رأساً في الناس، ولهذا لا يصلح أن نناقش كل من انحرف حتى لو كان مجهولاً أو سفيهاً أو أحمق أو لا يحسن العلم؛ لأن كثيراً من الناس يريد أن يصعد ويشتهر على حساب أهل العلم.

    لكن الأصل في المسلمين عموماً أن نرد عليهم السلام إذا سلموا وأن نسلم عليهم، وأن نشهد جنائزهم، وأن نصلي عليها، وأن نستجيب لدعوتهم إذا دعوا، إلا إذا كان هناك مصلحة من المصالح، فينبغي علينا أن نوفق بين كون هذا الإنسان مسلماً وله حقوق، وبين كونه مبتدعاً يجب التحذير منه، فليس هناك تناقض بينهما، لكن لكل مقام مقال وحال.

    فينبغي إدراك هذه القضية وفهمها فهماً جيداً؛ لأن البعض مثلاً إذا سمعك تقول هذا الكلام قال: أنت تدافع عن أهل البدع، فأقول: معاذ الله، كيف ندافع عن أهل البدع؟! لكن يمكن لشخص آخر أن يتطرف في جهة أخرى: إذاً أنت تكفر أهل البدع، فأنت ستقول: أنا لا أكفر الأشاعرة، يقول: إذاً أنا أرى أنهم مسلمون ولهم حقوق الإسلام المعروفة، فكونهم مبتدعة لا يعني أنهم ليسوا مسلمين، وأنهم ليس لهم حقوق الإسلام العامة، وهذا أيضاً لا يعني أن نذوب في هذه الفرق ولا نميز بين الحقائق الشرعية، ولهذا فمنهج أهل السنة في غاية الاستقامة، وفي غاية العدل، وهم أرحم الخلق بالخلق، لا يكفرون تكفيراً مطلقاً بدون بينة، ولا يبدعون تبديعاً مطلقاً بدون بينة، وإنما يلتزمون بالنصوص الشرعية وينزلونها في منازلها الحقيقية، وهؤلاء هم الذين يعبدون الله عز وجل على بصيرة.

    حكم تسمية علم العقيدة بعلم الفلسفة

    السؤال: هل يصح تسمية علم العقيدة بعلم الفلسفة؟

    الجواب: لا؛ لأن علم الفلسفة علم فاسد يتضمن عقائد فاسدة، ولا يصح أيضاً أن نسمي علم العقيدة علم الكلام؛ فينبغي الانتباه لهذه القضية.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756580282