إسلام ويب

تفسير سورة البلدللشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لا أقسم بهذا البلد)

    سورة البلد مكية بإجماعهم، وهي عشرون آية. قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ [البلد:1-3]، (لا أُقْسِمُ) فيها قولان: القول الأول: أن معناها: أقسم، وإنما أدخلت (لا) في التوكيد، فـ(لا) زائدة، وهذا معهود في لغة العرب، كما قال الله تبارك وتعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الحديد:29]، يعني: ليعلم، فهي مزيدة للتوكيد. القول الثاني: أن هذا التركيب: (لا أقسم) صيغة من صيغ القسم. فقوله تعالى: (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) يعني: أقسم بهذا البلد، وهو مكة المكرمة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأنت حل بهذا البلد)

    قال تعالى: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:2] يعني: أقسم بهذا البلد وأنت في هذا البلد، فالقسم مقيد بكون النبي صلى الله عليه وسلم حالاً بهذا البلد، وفيه عناية بالنبي صلى الله عليه وسلم، لأن الله أقسم بالبلد لأجل وجود النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وفيه الإشارة إلى عدم شرف أهل مكة، وأنهم جهلوا جهلاً عظيماً بهمهم بإخراج من هو حقيق بالبلد، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو أحق الناس أن يقيم في بلد الله الحرام، وشرف هذا البلد يتم بحلول النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فمثل هذا حقه أن يوقر وأن يؤمن به وأن يتبع وأن يصدق، لا أن يطرد ويخرج من هذا البلد. قال الشهاب: والحل صفة أو مصدر بمعنى: الحال، ولا عبرة بمن أنكره لعدم ثبوته في كتب اللغة. إذاً: قوله تعالى: (( وَأَنْتَ حِلٌّ )) أي: وأنت حال مقيم موجود في هذا البلد، وقيل معناه: وأنت يستحل فيه حرمتك، ويتعرض لأذيتك، ففيه تعجيب من حالهم في عداوته، وتعريض بتجميعهم وتفريقهم؛ لأنه لا يستحل فيه الحمام، فكيف يستحل فيه دم مرشد الأنام عليه الصلاة والسلام! وقيل: معناه (( وَأَنْتَ حِلٌّ )) به في المستقبل، أي: سيحل له القتال فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا البلد حرمه الله عز وجل، وإن مكة لم تحل لأحد قبلي، ولن تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار) يعني: ساعة الفتح، فعندما فتحها أحل الله له أن يفعل بأعدائه ما يشاء، ثم قال: (فإن ترخص أحد بقتال النبي صلى الله عليه وسلم فقولوا له: إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لك)؛ فلذلك فإن مكة البلد الحرام لا يجوز لأحد أن يستحل القتال فيها بحال من الأحوال. وهذه السورة مكية بإجماع المفسرين، وسورة النصر: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا [النصر:1-2].. إلى آخرها هي آخر سورة أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مما يدل على أن في هذه الآية إخباراً بشيء لم يكن قد وقع، فقوله: (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) يعني: سوف يأتي وقت تحل لك فيه مكة، وذلك ساعة من النهار كما حصل في فتح مكة، ثم عادت حرمتها بعد الفتح كما كانت قبل الفتح. فهذه الآية إشارة إلى ما سيقع من فتح مكة وإحلالها له صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار يقتل فيها ويأسر، مع أنها ما أحلت لأحد قبله ولا تحل لأحد بعده، ففيه تسلية له ووعد بنصره وإهلاك عدوه. والحل على هذين الوجهين ضد الحرمة، قال بعض المفسرين: هذا فيه بعد، لاسيما الوجه الأخير، فالتفسير الأول أولى، يعني: وأنت حال في هذا البلد، أي: أقسم بهذا البلد وأنت حال فيها، وفي ذلك زيادة في شرفها لوجودك وحلولك فيها. قال بعضهم: وإنما كان الأول أولى لتشريفه صلى الله عليه وسلم، بجعل حلوله به مناطاً لأعوانه، فهذا تشريف لمكة حتى أقسم الله بها؛ وإنما زاد شرفها لوجود النبي صلى الله عليه وسلم فيها، مع التنبيه من أول الأمر على تحقق مضمون الجواب بذكر بعض مواد المكابدة على نهج براعة الاستهلال، وأنه كابد المشاق، ولاقى من الشدائد في سبيل الدعوة إلى الله ما لم يكابده داع قبله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن هذا القسم: (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) جوابه في قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]، فذكر هذا القسم بالبلد مع حلول النبي صلى الله عليه وسلم فيه تحقيق لمضمون الجواب، وهو أن الإنسان بالفعل خلق في كبد، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم كابد من المشاق، ولاقى من الشدائد في سبيل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ما لم يكابده داع قبله صلوات الله عليه وسلامه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ووالد وما ولد)

    قال تعالى: وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ [البلد:3] هذا عطف على قوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:1] يعني: أقسم بوالد وما ولد، قيل: يعني: آدم وذريته، وقيل: إبراهيم وولده، والصواب -كما قال ابن جرير -: أن المعني به كل والد وما ولد؛ لأن الصيغة صيغة عموم، قال ابن جرير : وغير جائز أن يخص ذلك إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل، يعني: من أراد أن يخصصه بآدم أو بإبراهيم أو غيرهما، فلابد أن يأتي بحجة نقلية أو عقلية، ولا سبيل إلى شيء من ذلك، قال ابن جرير : ولا خبر بخصوص ذلك، ولا برهان يجب التسليم له بخصوصه. وقوله تعالى: (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) عبر بما مكان من للعاقل كما في قول الله تبارك وتعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3] والمقصود: من طاب، فإذا كان التركيب على الوصف تستعمل ما، ومثله قول الله تبارك وتعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ [آل عمران:36] يعني: والله أعلم بأي مولود عظيم الشأن وضعته. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: فإدخال (ما) على (من) لإرادة الوصف، يفيد التعظيم في مقام المدح، وكأنه لا يحتمل كنهه لشدة إبهام ما؛ لأن الإبهام في (ما) أشد، فكأن هذا الشيء المعظم لا يشتبه وصفه؛ ولذا أفادت التعجيب وإن لم يكن استفهاماً كما في قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) أي: أي مولود عظيم الشأن وضعته. فقوله تعالى: (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) إن كان المقصود آدم أو إبراهيم فذكر (ما) ظاهر، فيكون المراد إبراهيم الوالد، وولده محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عظيم عجيب، أو يكون المراد آدم وذريته فالتعجب من كثرتهم يعني: وما أدراك ما هذا الذي ولد له هذا الوالد وهو: آدم وكل ذريته؟! فالتعجيب هنا من خصائص آدم وذريته التي اختصوا بها على سائر المخلوقات كالنطق والعقل وحسن السيرة.. إلى آخر تلك الخصائص.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في كبد)

    قال عز وجل في جواب القسم: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4] أي: في شدة يكابد الأمور ويعالجها في أطواره كلها، من حمله إلى أن يستقر به القرار إما في الجنة وإما في النار، من بداية ما يحصل الحمل به وهو نطفة مذرة ثم يستمر نموه شيئاً فشيئاً إلى أن يخرج من بطن أمه باكياً، ثم ينمو ويمر بالأطوار التي يمر بها كل إنسان من الطفولة، إلى الصبا، إلى الشباب، إلى الكهولة، إلى الشيخوخة، إلى الموت، إلى القبر، إلى البعث والنشور، إلى أهوال يوم القيامة، ومقداره خمسون ألف سنة، إلى الميزان، إلى الصراط، ثم إلى نهاية الرحلة وهي الاستقرار في دار القرار إما في الجنة وإما في النار، فالإنسان في كل هذه المراحل يكابد المشاق، ولا يخلو الإنسان أبداً من المشاق. قال الزمخشري : الكبد مأخوذ من قولك: كبد الرجل كبداً فهو أكبد إذا وجعت كبده وانتفخت، فاتسع في هذا التعبير حتى استعمل في كل تعب ومشقة، ومنه اشتقت المكابدة، كما قيل: كبته بمعنى أهلكه، وأصله كبده، إذا أصاب كبده، قال لبيد : يا عين هلا بكيت أربد إذ قمنا وقام الخصوم في كبد أي: في شدة الأمر وصعوبة الخطب. وفي هذه الآية الكريمة: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم مما كان يكابده من قريش من جهة أن الإنسان لم يخلق للراحة في الدنيا، وكل من كان أعظم إيماناً فهو أشد نصباً. (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) يعني: كل إنسان يعاني ويكابد المشاق، فهذه سنة الله الماضية، وهذا فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم مما كان يكابده من قريش، من جهة أن الإنسان لم يخلق للراحة في الدنيا، ولذلك لما قيل للإمام أحمد : متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: إذا خلف جسر جهنم وراءه. فالإنسان لا يجد الراحة إلا إذا مر على الصراط، ونجا من أهوال يوم القيامة، وأبصر النار بعيدة عنه، وأوشك أن يدخل الجنة، فعندها يجد طعم الراحة، أما قبل ذلك فهو في كبد، فمن يطلب الراحة في الدنيا فهو يطلب المحال؛ لأن الدار التي ليس فيها نصب هي الجنة فقط كما قال الله عنهم: لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [فاطر:35]، أما الدنيا فلا يمكن أبداً أن يجد الإنسان فيها الراحة دائماً، فكل إنسان لم يخلق للراحة، وكل من كان أعظم إيماناً فهو أشد نصباً، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه قوة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة). قال القاسمي رحمه الله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) أي: مكابدة ومشقة، ومما ابتلي به هواه فهو معه في صراع ومجاهدة كما قال الشاعر: إني ابتليت بأربع يرمينني بالنبل قد نصبوا علي شراكا إبليس والدنيا ونفسي والهوى من أين أرجو بينهن فكاكا فالعبد في مكابدة ومشقة مع نفسه وهواه والدنيا والشيطان. والكبد مصدر القوى الطبيعية، فاستعير غلظ الكبد لغلظ حجاب القلب ومرض الجهل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد)

    قال تعالى: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ [البلد:5] أي: أيحسب هذا الإنسان لغلظ حجابه ومرض قلبه واحتجابه بالطبيعة أن لن تقوم قيامته، وأن لن يقدر الله سبحانه وتعالى على مجازاته وقهره وغلبته؟! هذا مع أن ما هو فيه من المكابدة يكفي لإيقاظه من غفلته واعترافه بعجزه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يقول أهلكت مالاً لبداً)

    قال تعالى: يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا [البلد:6] يعني: يقول الإنسان: أهلكت مالاً كثيراً، (لُبَدًا) من تلبد الشيء إذا اجتمع، كما قال الله: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19] فسر أنهم كانوا طبقات بعضهم فوق بعض، وكذلك قوله هنا: (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا) يعني: مالاً كثيراً متراكماً بعضه فوق بعض، والمراد هنا: ما أنفقه للافتخار والمباهاة والرياء، فيفتخر بأنه أنفق كثيراً، مثل قول بعض الناس إذا أنفق على شخص: خسرت عليه كذا وكذا.. يعني: ضحيت بهذا المال الكثير من أجل هذا الشخص، فهذا الإنسان الجحود يتفضل على الناس بالتبذير والإسراف، ويحسبه فضيلة لاحتجابه عن الفضيلة ولجهله، فمن الجواد؟ ومن البخيل؟ الجواد هو: الذي يعطي في موضع العطاء، ويمنع في موضع المنع، والبخيل هو: الذي يمنع في موضع العطاء، فلو أن إنساناً يعطي في غير موضع العطاء، بل لأجل المفاخرة والمباهاة؛ فهذا لا يمدح، ولا يسمى هذا جوداً وكرماً، وإنما هذه سفاهة وإسراف وتبذير، فالإنفاق لا يمدح على الإطلاق، وإنما يمدح الإنفاق إذا أنفق في المحل اللائق به، أما من ينفق ماله سفاهة فهذا لا يمدح، وليس هذا من الكرم ولا من الجود في شيء، مثل هذا الذي يقول: (( أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا )) فأنفق مالاً كثيراً يباهي به الناس، ويتفضل عليهم بالتبذير والإسراف، ويحسب أن هذا الإسراف فضيلة لاحتجابه عن الفضيلة وجهله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أيحسب أن لم يره أحد)

    قال الله سبحانه وتعالى: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ [البلد:7] أي: أيحسب أن الله تعالى لم يطلع على باطنه ونيته حين ينفق ماله في السمعة والرياء والمباهاة لا على ما ينبغي في مراضي الله، وهذه رذيلة على رذيلة، من حيث التبذير في النفقة، ومن حيث أنه لا يريد بذلك وجه الله، فإن كانت رذيلة فوق رذيلة، فكيف يحسبها فضيلة؟!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ألم نجعل له عينين)

    قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ [البلد:8-9] أي: ألم ننعم عليه بالآلات البدنية التي يتمكن بها من البصر والكلام، فهذا تذكير بنعم الله على العباد، وما يسر عليهم في تكاليفهم، وما تفضل به عليهم من الآلات التي يتوصلون بها إلى منافعهم، ويدفعون بها المضار عنهم؛ لأن الحاجة إلى أكثر المنافع الدينية والدنيوية ماسة، فالحاجة إلى العينين للرؤية، واللسان للنطق، والشفتين لحبس الطعام والشراب وإمساكهما في الفم، وللنطق أيضاً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وهديناه النجدين)

    قال تعالى: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10] أي: طريقي الخير والشر كما قال تعالى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:3]، ومعنى: (( هَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ )) أي: بينا له ووضحنا له طريق الخير وطريق الشر، والنجد هو الطريق المرتفع، والمراد بهما: طريقا الخير والشر، سماهما نجدين ليشير إلى أن في كل منهما وعورة وصعوبة، فليس الشر بأهون من الخير كما يظن، وكذلك ليشير إلى أنهما واضحان جليان لا يخفى واحد منهما على سالك. فالله تعالى بين طريق الخير وطريق الشر فهما كالنجدين المرتفعين، والشيء العالي لا ينكره أحد إذا رآه، وقد بين الله الطريقين بما أوحى، فهما طريقان واضحان جليان لا يخفى واحد منهما على سالك في أحد الطريقين، فالعبد يختار أحدهما وهو على بصيرة؛ لأنه طريق غير ملتبس، بل طريق واضح. وهذه الآية: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) يفسرها قوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)، وقيل: أي: أوزعنا في فطرته التمييز بين الخير والشر، وأقمنا له من وجدانه وعقله أعلاماً تدله عليهما، ثم وهبناه الاختيار بعدما بينا له، فعليه أن يختار أي الطريقين شاء، فالذي وهب الإنسان هذه الآلات، وأودع في باطنه تلك القوى؛ لا يمكن للإنسان أن يفلت من قدرته، ولا يجوز أن يخفى عليه شيء من سريرته، فأدوات الإدراك كلها منة من الله سبحانه وتعالى، فإذا كان الله هو الذي أعطاك العينين واللسان والشفتين، وهو الذي هداك النجدين، فكيف تحسب بعد ذلك أن الله لم يطلع عليك حينما أنفقت مالاً لبداً للمباهاة والرياء والتفضل على الناس من غير ابتغاء وجه الله؟! وكيف يحسب أن الله لم ير ما في باطنه من النية الفاسدة والرياء؟! كيف يحسب ذلك والله هو الذي امتن عليه بكل آلات الإدراك، وهو المدبر الحكيم لهذه القوى، والإنسان لا يرى إلا بالله؟! وقول الله سبحانه وتعالى: وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ [البلد:9] هذا اللسان نعمة عظيمة، ولكن هذه الجارحة لها خطورة مهلكة إن لم يحترز صاحبها؛ ولهذا جعل الله أمام اللسان باباً من عظم وهو الأسنان، وباباً من لحم وهو الشفتان؛ كي يستحكم إغلاقه، ولا يخرجه إلا بحساب؛ لخطورة هذا اللسان الذي إذا خرج كان كالثعبان يلدغ خلق الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلا اقتحم العقبة)

    قال تعالى: فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [البلد:11] يعني: ألم يشكر الإنسان تلك النعم الجليلة باقتحام العقبة؟! فحق هذا الإنسان الذي آتاه الله هذه النعم أن يقتحم العقبة، لكنه لم يقتحم العقبة! والاقتحام: هو الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة، والعقبة هي: الطريق الوعرة في الجبل التي يصعب سلوكها، والتعبير بهذا اللفظ هنا لما فيه من معاناة المشقة ومجاهدة النفس. والمراد بالعقبة هنا بينه الله سبحانه وتعالى بقوله: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [البلد:12-17]، فهذا كله هو معنى اقتحام العقبة، فاقتحام العقبة يكون بالإتيان بهذه الأمور التي فيها مشقة ومجاهدة نفس. (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ) أي: أي شيء أعلمك ما اقتحام العقبة؟! والاستفهام هنا فيه زيادة تشويق لها، وأن لها عند الله تعالى مكانة. وقوله: (فَكُّ رَقَبَةٍ) أي: عتق رقبة أو المعاونة على عتقها وتخليصها من الرق وأسر العبودية، رجوعاً بها إلى ما فطرت عليه من الحرية.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أو إطعام في يوم ذي مسغبة)

    قال تعالى: أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ [البلد:14] يعني: إطعام في يوم مجاعة. وإطعام مصدر، مفعوله يتيماً، أي: إطعام يتيماً، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ [البلد:15] يعني: ذا قرابة، وهذا حض على تقديم ذوي النسب والقربى المحتاجين على الأجانب في الإطعام؛ لأن الصدقة على المسكين صدقة، أما الصدقة على القريب فهي صدقة وصلة، وثوابها أكثر؛ لأنها صدقة من جهة، وصلة رحم من الجهة الأخرى، وهذه الآية يفهم منها أن الإحسان إلى القريب المحتاج أولى وأفضل وثوابه أعظم من الإحسان لغير القريب. وقيل: المقربة هنا غير مأخوذة من القرابة والقربى، بل من القرب، والقرب: هو الخاصرة، فكأن المعنى: أنه يطعم من خاصرته لصقت من شدة الجوع والضر، وهذا أشبه بقوله تعالى: (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ)، والآية تحتمل أنه من ذوي القرابة، وتحتمل التفسير الآخر؛ لأن كل ذلك مبالغة في وصفه بالقرب. وقوله تعالى: أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد:16] أي: ذا فقر شديد لا يواريه إلا التراب، يقال: ترب يعني: لصق بالتراب، ويقال: الفقر المدقع أو فقير مدقع بمعنى: لاصق بالدقعاء وهي: التراب، فالفقر المدقع الذي يلصق صاحبه بالتراب. وذهب الأكثرون إلى أن (لا) نافية في قوله تعالى: فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [البلد:11]، وإنما لم تكرر مع أن العرب لا تكاد تفردها كما في آية: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى [القيامة:31] وكقوله تعالى: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38]؛ وكما تقول: لا في العير ولا في النفير، استغناء بدلالة بقية الكلام على تكراره، فسياق الكلام يفيد تكرارها؛ لأن التقدير: لا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً. وفي الآية أجوبة أخرى منها أنه لما عطف عليه كان هو منفي أيضاً، فكأنها كررت، وقيل: لا للدعاء، كما تقول: فلان لا نجا ولا سلم، يعني: أسأل الله ألا يسلمه ولا ينجيه، وقيل: أصلها ألا للتحضيض، وقيل: إنها للنفي فيما يستقبل، وقال بعضهم: قولهم: (لا) إذا دخلت على الماضي وجب تكرارها؛ قول لا يلتفت إليه؛ لأن القرآن نفسه حجة في الفصاحة، ولم تتكرر (لا) في هذه الآية، وقد ورد في كلامهم عدم تكرارها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة)

    هذه الأعمال التي ذكرها الله في قوله: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد:12-16] لا تنفع إلا مع الإيمان، فلا تنفع صاحبها في الآخرة إلا إذا كان مؤمناً، قال الله: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النحل:97] فيشترط الإيمان حتى تنفع الأعمال الصالحة؛ ولهذا قال سبحانه هنا: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [البلد:17]، و(ثم) هنا بمعنى: الواو، يعني: هو يفعل هذه الأشياء، ثم بعد ذلك يؤمن. قوله تعالى: (( ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا )) أي: بالحق الذي جاءهم. (( وَتَوَاصَوْا )) أي: أوصى بعضهم بعضاً. (( بِالصَّبْرِ )) أي: على ما نالهم في سبيل الدعوة إلى الحق. (( وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ )) أي: بالرحمة على بعضهم كقوله تعالى: رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]، أو المعنى: بموجبات رحمته تعالى من القيام بالحق والصدع به، فالمرحمة هنا: أن يرحم بعضهم بعضاً، وكما قال سبحانه: رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29] أي: يتواصوا فيما بينهم بالأشياء التي إن فعلوها توجب لهم رحمة الله إياهم، وهي الأعمال الصالحة، والجهاد، والدعوة، والصدع بالحق، والصبر على ذلك. وقوله: الْمَيْمَنَةِ [البلد:18] أي: اليمين، أو المراد جهة اليمين التي فيها السعداء أصحاب اليمين.

    1.   

    فوائد في قوله تعالى: (فلا اقتحم العقبة..)

    يقول القاشاني : يشير قوله تعالى: فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [البلد:11].. إلى آخره إلى قهر النفس بتكلف الفضائل، والتزام سلوك طريقها، والتزامها حتى يصير ذلك طبعاً، فهذه الآية إشارة إلى أن يقهر الإنسان نفسه وأن يجاهد نفسه، ويتكلف الفضائل حتى لو لم يكن متحلياً بالفضائل كلها، لكن يجاهد نفسه؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد أن يجاهد العبد نفسه وهواه في ذات الله) أو كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا يستفاد من قوله: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ)، فإن العقبة المرقى الوعر جداً في جبل، وصعود الجبال يترتب عليه مشقة كبيرة؛ لأن التنفس يصعب كلما ارتفع الإنسان إلى أعلى، فهو يقتحم هذه العقبة، ويتكلف المشقة في الارتفاع في هذه الطريق الوعرة، فالله سبحانه وتعالى يرشدنا في هذه الآية إلى مجاهدة النفس، وتحمل المشقة في جهاد النفس، فقال: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) فكأنه يقتحمها بقوة وجرأة، والمقصود أن الإنسان يغالب نفسه ويقهرها، ويعودها الفضائل، ويلزم نفسه سلوك طريقها واكتسابها حتى يصير التطبع طبعاً، فيتطبع أولاً ومع المداومة يستطيع أن يغير طبعه إلى الخير وإلى الأحسن. وقال بعض المفسرين: الإطعام في وقت شدة الاحتياج للمستحق هو من باب وضع النفقة في مستحقها، بخلاف الذي ينفق مالاً كثيراً مفاخرة ومباهاة ورياء، ويظن أن ذلك فضيلة، بل هي رذيلة فوق رذيلة، فضلاً عن كونها تبذيراً وإسرافاً من أجل المراءاة والتباهي؛ ولذلك نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن إجابة دعوة المتباريين وقال: (إن المتباريين لا يجابان ولا يؤكل طعامهما)، فإذا كان غنيان كل واحد منهما يعمل الوليمة، ويدعو الناس إليها مباهاة، وكانا يتباريان ويتنافسان، فإنهما يعاقبان بألا تجاب دعوتهما، ولا يؤكل طعامهما، فالمتباريان لا تجاب دعوتهما ولا يؤكل طعامهما؛ لأنهما لا ينفقان ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى، وهذا يعلم بالقرائن، فإذا عرف أنهما يريدان المباهاة لا النفقة في سبيل الله تبارك وتعالى فلا يجيبهما، أما هذا فيخرج الطعام في وقت المجاعة: (( فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ))، يطعم الطعام في وقت شدة احتياج الشخص المستحق للصدقة وللطعام، وهذا من باب فضيلة الإيثار، بل هو أفضل أنواعها؛ لأن المجاعة في الغالب تعم، فيكون هو محتاجاً للطعام، لكنه يطعم مع ذلك في وقت المجاعة.

    اقتحام الأهوال في سبيل الله

    قوله تعالى: (( ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ))، الإيمان هو العلمي اليقيني (( وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ )) الصبر على الشدائد من أعظم أنواع الشجاعة، والإيمان مقدم الشجاعة، فالإنسان يكون عنده يقين ثم تكون عنده الشجاعة، كما في الجهاد، فالمجاهد يضحي بنفسه وبروحه وعنده يقين بأن له عند الله الجنة، وهذا غيب، ولو لم يكن عنده يقين بالغيب لما أقدم، ولما حصلت له هذه الشجاعة، وهذه هي المشكلة التي تؤرق أعداء الإسلام في كل زمان، فالكفار الذين حاربوا المسلمين منذ العصر الأول إلى يومنا هذا مشكلتهم أن المسلمين يحبون الموت أشد من حب الكفار للحياة! وهذا هو الذي يقض مضاجع اليهود، وشواهد هذا من التاريخ كثيرة جداً، وما أكثر فزع الكفار من شدة حب المسلمين للموت! ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد في عهد ريجن حصلت في لبنان عملية دك المبنى الأمريكي، ومات عدد كبير جداً من العسكريين الأمريكان في هذه الحادثة في بيروت، وعلى أثرها فرت أمريكا من لبنان كالجرذان الهاربة، وعاتبوا ريجن وقالوا له: كيف أن أمريكا أقوى دولة في العالم وعندها تكنولوجيا وكذا وكذا، ومع هذا يحصل هذا التفجير؟! فرد عليهم رداً منطقياً فقال: إن أقوى إجراءات الأمن في العالم لا تقف في وجه رجل يريد أن يموت! فالشاهد أن هذا هو الذي أقض أعداء الإسلام في كل وقت، وهذا من خصائص هذه الأمة، وما هو السر؟! الكفار لا يفقهون؛ لأنهم لو فقهوا لعلموا السر، السر هو أنه لا يقدم على هذا إلا وهو موقن بأنه سوف ينتقل إلى ما هو أفضل؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه)، والذنوب دائماً تصيب الإنسان بالجبن والهلع والخوف، فيخشى من الموت فيلقى الله بذنوبه، لكن الله سبحانه وتعالى يزيل من أمامه هذه العقبة، فيقول له: ضمنت لك إذا استشهدت في سبيلي أن أمحو عنك ذنوبك في أول دفعة من دمك، فتمسح منه كل الخطايا التي ارتكبها تماماً، فمن منا لا يحرص أن تمحى خطاياه بهذه السرعة؟! قال عليه الصلاة والسلام: (يغفر له في أول دفعة من دمه، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويحلى حلية الإيمان، ويزوج سبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه)، فهذا هو سر هذه القوة عند المسلمين، مع أنهم قد يدخلون في كثير من المعارك وهم في حالة شديدة من الضعف مادياً، لكن هذه النقطة بالذات هي التي أقضت الروم وأقضت الفرس وأقضت كل من يتصدى للمسلمين. في حرب فلسطين سنة 1948م كان اليهود أخوف ما يخافون من المجاهدين من الإخوان المسلمين، فكانوا يخافون منهم جداً، ويهربون من أي مكان يجدونهم فيه، قال أحد الضباط اليهود في ذلك الوقت: نحن أتينا إلى فلسطين لنعيش، وهم جاءوا إلى هنا من أجل أن يموتوا! فهم معترفون أنهم من أشتات الأرض، منهم اللصوص المجرمون، فالحل أن يرجع كل واحد إلى وطنه، يرجع الفلسطينيون إلى بلادهم، ويرجع اليهود من حيث جاءوا من أشتات الأرض التي كانوا فيها. وإلى الآن يفزع اليهود من المجاهدين الفلسطينيين مع أنه لا وجه للمقارنة بين قوة هؤلاء المساكين أطفال الحجارة، وبين جيش عرمرم، ومع ذلك يضجون ويخافون ويفزعون! ولا أريد الآن الدخول في تفاصيل موضوع ما يسمى بالعمليات الانتحارية، فهو يحتاج إلى شيء من التفصيل من ناحية فقهية، لكن هي تدل على أن الشجاعة تأتي بعد اليقين، فلابد أولاً من اليقين، فالمجاهد يعلم أنه إذا قتل في سبيل الله فهو حي عند الله كما قال سبحانه: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، فهو يصدق خبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، ووعد الله لا يمكن أن يخلف، فإن الله لا يخلف الميعاد، قال الله حاكياً عن المؤمنين قولهم: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22]، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الشهيد لا يجد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة) فألم السيف أو الرصاص أو العذاب لا يشعر به. وقال النبي عليه السلام: (كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة)، فلذلك الشهيد يجار من عذاب القبر، ولا يفتن في قبره، ويحلى حلية الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه، فماذا يريد الإنسان أكثر من هذا، وهو سيموت ولا بد بأي سبب؟ تعددت الأسباب والموت واحد ولن يموت إلا بأجله، قال خالد رضي الله تعالى عنه وهو على فراش الموت: ما في جسدي موضع شبر إلا وفيه طعنة برمح أو ضربة بسيف، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء! ومن الحكم: احرص على الموت توهب لك الحياة. إذاً: فضيلة الشجاعة لا تأتي إلا مترتبة على فضيلة اليقين، فلابد من اليقين أولاً، ثم اليقين هو الذي يجعل الإنسان شجاعاً، أما إذا لم يوجد عند الإنسان يقين، فهو يريد الدنيا ولا يريد الآخرة، وهذا يجعله يرفع شعار: الجبن سيد الأخلاق كما يقولون.

    الصبر على الشدائد

    الصبر على الشدائد من أعظم أنواع الشجاعة، وأخره الله عن الإيمان في قوله: (( ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ))؛ لامتناع حصول فضيلة الشجاعة بدون اليقين، فأولاً يؤمن فإذا آمن يكون واثقاً من ثواب الصبر، وعنده يقين بالعاقبة الحسنة لهذه الشجاعة والإقدام. وقوله تعالى: (( وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ )) أي: بالتراحم والتعاطف، وهذا من أفضل أنواع العبادة. قال بعض المفسرين: هنا عدد الله أجناس الفضائل الأربع التي يحصل بها كمال النفس، بدأ بالعفة التي هي أولى الفضائل، وعبر عنها بمعظم أنواعها وأخف خصالها الذي هو السخاء، ثم أورد الإيمان الذي هو الأصل والأساس، وجاء بلفظة (ثم) لبعد مرتبته عن الأولى في الارتفاع والعلو. ثم رتب عليه الصبر لامتناعه بدون اليقين، فالصبر واليقين توءمان، والصبر أعلى درجات الشجاعة، والقرآن يربط رباطاً وثيقاً بين الصبر والإيمان، كقوله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]، يقول العلماء: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، لا يمكن أن يصل الإنسان إلى مرتبة الإمامة إلا ومعه الصبر واليقين، وكذلك هنا ربط بينهما فقال: (( ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ )) فالإيمان هو اليقين، ثم ذكر الصبر، ولا يمكن أن يحصل صبر إلا باليقين، ولذلك تجد المؤمن أقل الناس جزعاً عند المصائب، فالمؤمن لا يجزع عند المصائب، حتى يعجب الناس من حاله إذا نزلت به مصيبة؛ لأنه يوقن أن ما عند الله خير وأبقى. أحد الإخوة الشباب كان راكباً في طائرة فاختطفت، فكان يجلس بجواره بالطائرة رجل أمريكي، وكانت تحصل مفاوضات بين الخاطفين للطائرة وغيرهم، وكان الركاب في فزع وهلع وجزع؛ لأنهم يخافون من الموت، أما هذا الأخ فكان عنده سكينة ويقين وبرد وسلام، يذكر الله سبحانه وتعالى وكأن شيئاً لا يحصل، راضياً بما يقدره الله سبحانه وتعالى من موت أو حياة، فهو يستغفر الله ويذكر الله في غاية من الاطمئنان والهدوء والسكينة، فكان هذا يستفز الرجل الأمريكي الذي بجانبه، فقد كان في غاية من القلق والفزع والهلع من هذا الذي يحدث، فما صبر الأمريكي وكان كبيراً في السن، فقال له: ما هذا؟! نحن في هذه الحالة من الفزع وأنت جالس تتمتم بالأذكار مطمئناً! فقال له: لأنني مسلم، فقال له: ماذا تعني؟ فشرح له أن كل شيء سيكون بقضاء الله وقدره، والمسلم كل أمره له خير، ومهما حدث له فسيكون خيراً له... إلى آخره، فالرجل من شدة إعجابه قال: لو نجوت من هذه الحادثة فسوف أدخل في الإسلام الذي يجعل أتباعه يصمدون أمام الشدائد بهذه الطريقة، فنجوا ولكن للأسف الشديد لم يسلم هذا الرجل! والله أعلم بحاله، وحسابه على الله. الشاهد أن المؤمن بما عنده من اليقين لا يجزع عند الشدة ولا يخاف، بسبب ما عنده من اليقين، فاليقين هو أصل الشجاعة. واستغنى بذكر المرحمة التي هي: صفة الرحمن عن سائر أنواعها كما استغنى بذكر الصبر عن سائر أنواع الشجاعة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة ...)

    قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ [البلد:19] أي: كفروا بأدلتنا من الكتب والرسل وغير ذلك من آيات الأنفس والآفاق التي يرتقى بها إلى معرفة الصراط الذي تجب الاستقامة عليه في الاعتقاد والعمل، (( هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ )) أي: الشؤم على أنفسهم، أو الذهاب بهم إلى الشمال التي هي النار، قال الله: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ [الواقعة:41]، واليمين في لسان الإسلام هو: عنوان السعداء، والشمال هو: عنوان الأشقياء والعياذ بالله. عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ [البلد:20] أي: مطبقة أبوابها، كناية عن لبثهم المخلد فيها، وسد سبل الخلاص منها، أجارنا الله بفضله وكرمه منها!

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756629847