إسلام ويب

تفسير سورة الفتح [25-29]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام...)

    قال تعالى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح:25]. قوله تعالى: ((هم الذين كفروا)) إشارة إلى أن كف الله الأيدي عنهم لم يكن لأمر فيهم؛ لأنهم كفروا وصدوا المسلمين عن المسجد الحرام، وهذا يقتضي قتالهم، فلا يقع ظن لأحد أن الفريقين اتفقوا ولم يبق بينهم اختلاف أو اصطلحوا ولم يبق بينهم نزاع، فالاختلاف باق مع كف أيدي الفريقين بعضهم عن بعض، فهم ما زالوا كافرين، فالاختلاف باق، والنزاع مستمر؛ لأنهم هم الذين كفروا وصدوكم ومنعوا الهدي فازدادوا كفراً وعداوة، والسبب والعلة في الكف ليس لأنهم زال عنهم وصف الكفر، ولكن لعلة أخرى وهي: ((ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات)) هذه كانت حكمة الكف، كف الله الفريقين عن القتال؛ كي لا يقتل المؤمنون الذين يخفون إيمانهم بمكة إذا أخرجوا معهم مضطرين، فهذه هي العلة، وليست العلة زوال وصف الكفر عنهم، بل الاختلاف بينكم وبينهم باق، وهم يستحقون أن يقاتلوا وأن يؤدبوا، ولكن سبب الكف هو ما ذكره الله في قوله تبارك وتعالى: وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا . قوله تعالى: ((ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات)) أي: موجودون بمكة مع الكفار، ((لم تعلموهم)) يعني: لم تعلموهم بصفة الإيمان وهم بمكة، حبسهم المشركون بها عنكم، فلا يستطيعون من أجل ذلك الخروج إليكم. ((أن تطئوهم)) أي: أن تقتلوهم مع الكفار، لو أن الله سبحانه وتعالى قدر لكم أن تقتلوهم في تلك الغزوة -غزوة الحديبية- وتفتحوا مكة؛ لقتل المؤمنون المذكورون. قال بعض المفسرين: ((أن تطئوهم)) يجوز أن تكون بدلاً من رجال ونساء غير معلومين، ويجوز أن يكون بدل المفعول ((لم تعلموهم))، فالتقدير على الأول: ولولا وطء رجال ونساء غير معلومين، وتقدير الثاني: لم تعلموا وطأهم، والخبر محذوف تقديره: ولولا رجال ونساء موجودون أو بالحضرة.

    معنى المعرّة

    قوله تعالى: ((فتصيبكم منهم معرة بغير علم)) أي: معرة إثم وغرامة من عره إذا عراه ما يكرهه، ((فتصيبكم منهم معرة بغير علم)) يعني: تطئوهم غير عالمين بهم، والمعنى: ولولا كراهة أن تهلكوا ناساً مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين بهم، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة؛ لما كف أيديكم عنهم، ولأذن لكم في دخول مكة مقاتلين لهم. ((لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً)) يعني: لو تميز الكفار عن المؤمنين الذين بين أظهرهم لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً يعني: لسلطناكم عليهم فقتلتموهم قتلاً ذريعاً، وعن جنيد بن سبع قال: قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول النهار كافراً، وقاتلت معه آخر النهار مسلماً، وفينا نزلت: ((ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات)) قال: كنا تسعة نفر: سبعة رجال، وامرأتين. (( لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا )) يعني: بقتل المؤمنين إياهم. وفسر ابن إسحاق المعرة: بالدية، فتصيبكم منهم معرة يعني: دية، ذهاباً إلى أن دار الحرب لا تمنع من الدية، وهو مذهب الشافعي ، وذهب غيرهما إلى أنها تمنع من الدية، وقال ابن جرير: المعرة: هي كفارة قتل الخطأ، وذلك عتق رقبة مؤمنة لمن أطاق ذلك، ومن لم يطق فصيام شهرين، قال ابن جرير : وإنما اخترت هذا القول دون الذي قاله ابن إسحاق لأن الله إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ولم يكن قاتله علم إيمانه الكفارة دون الدية؛ لأن الله تعالى قال: فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92]، ولم يوجب على قاتله خطأً ديته؛ فلذلك قلنا: معنى المعرة في هذا الموضع: الكفارة. (( لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ )): كأنه قال: لكن كفها عنكم ولم يأذن لكم في مقاتلتهم ليدخلكم في رحمته الكاملة بحفظكم من المعرة. وهناك تفسير آخر لقوله: ((ليدخل الله في رحمته من يشاء))، وهو: أن هذه الآية فيمن رغب في الإسلام من المشركين، وعليه اقتصر شيخ المفسرين ابن جرير أي: ليدخل الله في الإسلام من أهل مكة من يشاء قبل أن تدخلوها. ((لو تزيلوا)) أي: لو تميز مشركو مكة من الرجال المؤمنين والنساء المؤمنات الذين لم تعلموهم منهم ((لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً)) من قتل أو أسر أو نوع آخر من العذاب الآجل. قال الكياالهراسي : في الآية دليل على أنه لا يجوز حرق سفينة الكفار إذا كان فيها أسرى بعض المسلمين، وكذلك رمي الحصون إذا كانوا بها، والكفار تترسوا بهم، وهذا مذهب من يرى أن الترس لا يقتلون، يعني: لو أن الكفار أسروا من المسلمين وتترسوا بهم بما يسمى الآن بالدرع البشري، أخذوا بعض الأسرى من المسلمين ووضعوهم كدرع بشري بحيث إذا ضربهم المسلمون يصيبون المسلمين، وهذا بحث يستحق التفصيل، ولكن نقول باختصار: لا يجوز ذلك إلا إذا كان لمصلحة ضرورية كلية قطعية، وبين ذلك الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية، وفصل الكلام فيما يتعلق بمسألة التترس بالمسلمين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية...)

    قال الله تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الفتح:26]. ((إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية)) وذلك حين جعل سهيل بن عمرو في قلبه الحمية التي جعلته يمتنع من أن يكتب في كتاب المقاضاة الذي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين: بسم الله الرحمن الرحيم، فحمية الجاهلية منعته أن يقر باسم الرحمن سبحانه وتعالى، وأن يكتب فيه أيضاً محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتنع هو وقومه من دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عامه ذلك، والحمية هي: الأنفة والاستكبار. ((إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين)): هذا عطف على منوي، يعني: ((إذ جعل الذي كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية)) فهم المسلمون أن يأبوا ذلك ويقاتلوا، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، فقوله: ((فأنزل الله سكينته)) عطف على شيء مفهوم وإن لم يكن مذكوراً في الآية، لكن نزول السكينة كان لكف المؤمنين عن أن يقاتلوهم لما منعوهم بسبب حمية الجاهلية، وحينما أصروا على أن يكتب: باسمك اللهم، وأن يكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله بدلاً من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمسلمون هموا أن يأبوا الانقياد لهذه الحمية الجاهلية، وأن يقاتلوا على ذلك ((فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين)) يعني: الوقار والتثبت حتى صالحوهم على أن يعودوا من قابل، وعلى ما تقدم ذكره. ((فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى)) أي: اختارها لهم، فالإلزام مجاز عما ذكر من اختيارها لهم، وأمرهم بها، وهي كلمة التوحيد، ((وكانوا أحق بها)) يعني: متصفين بمزيد استحقاق لها، وكانوا أحق بها من الكفار. وقوله: ((وأهلها)) يعني: كانوا مستأهلين لها، ((وكان الله بكل شيء عليماً)) يعلم حق كل شيء فيسوقه إلى مستحقه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق...)

    قال تبارك وتعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:27]. قال شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله: أي: لقد صدق الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم رؤياه التي أراها إياه أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين، لا يخافون أهل الشرك، مقصراً بعضهم رأسه ومحلقاً بعضهم. ثم روى عن مجاهد أنه قال: أري بالحديبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين يعني: الرسول عليه السلام أري هذه الرؤيا وهو في الحديبية أنه يدخل مكة هو وأصحابه محلقين، ورؤيا الأنبياء حق، فقال أصحابه حين نحر بالحديبية: أين رؤيا محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟! وعن ابن زيد : قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إني قد رأيت أنكم ستدخلون المسجد الحرام محلقين رءوسكم ومقصرين) ولم يقل: ذلك العام، فلما نزل بالحديبية طعن المنافقون في ذلك فقالوا: أين رؤياك؟! فهذه الرواية تذكر أن المنافقين هم الذين قالوا: أين رؤياك؟ فقال الله تعالى: ((لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ)) يعني: كأن الله سبحانه وتعالى يرد على هؤلاء الذين قالوا: أين رؤياك؟ بهذه الآية: ((لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق)) يعني: إني لم أر أنكم تدخلونها هذا العام، فهو رأى في المنام أنه وأصحابه يدخلون مكة بالصفة المذكورة في الآية، ولكن لم ينص على السنة التي يدخلون فيها مكة، ولم يقل: إنه يدخلها هذا العام أو في هذه الغزوة غزوة الحديبية. ((لقد صدق الله رسوله الرؤيا)) الرؤيا: منصوب بنزع الخافض، أي: صدقه في رؤياه، أي: حقق صدقها عنده كما هو عادة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولم يجعلها أضغاث أحلام.

    الاستثناء بقول: إن شاء الله

    قوله تعالى: ((لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق)) هذا حال من الرؤيا، أي: متلبسة بالحق، ليست من قبيل أضغاث الأحلام، ((لتدخلن)) هذا جواب قسم محذوف، يعني: والله لتدخلن ((المسجد الحرام إن شاء الله آمنين))، إن شاء الله تعليق واستثناء بالمشيئة؛ لتعليم العباد أنهم إذا أرادوا أن يتكلموا عن شيء مما يقع في المستقبل فمن الأدب أنهم يستثنون، فيقول أحدهم: إن شاء الله، كما قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24]، وسبب نزولها الأسئلة المعروفة التي وجهت للنبي عليه الصلاة والسلام عن الروح والفتية وذي القرنين . وفي حديث يأجوج ومأجوج: (إن يأجوج ومأجوج يحفرون كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غداً، فيعيده الله أشد ما كان، حتى إذا بلغوا مدتهم، وأراد الله تعالى أن يبعثهم على الناس؛ حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال: ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء الله، فاستثنوا فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه؛ فيحفرونه ويخرجون على الناس). ويقول الله تعالى: إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ [القلم:17-18] حلفوا أنهم يصرمون الثمر مصبحين ولا يستثنون أي: ولم يقولوا: إن شاء الله، فعوقبوا بما عوقبوا به. وفي حديث سليمان عليه السلام أنه قال: (لأطوفن الليلة على مائة امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله فلم يقل -يعني: أنه نسي أن يقول: إن شاء الله- فلم تحمل منهن إلا امرأة جاءت بشق رجل، والذي نفس محمد بيده! لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون).

    خطأ بعض الناس في الاستثناء

    بعض الناس يسيء استعمال أدب الاستثناء أو يخطئ فيه، مثلاً يسأل عن شيء هو حقيقة مثل: ما اسمك؟ فيقول: إن شاء الله أخوك فلان! وهذا ليس موضعه. وبعض الناس يستعملونها كشماعة يعلقون عليها التعريض والمراوغة في الكلام، والمعنى الصحيح للاستثناء هو تعليق الأمور المستقبلة بمشيئة الله سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24]، فبعض الناس يستعملونها في المراوغة والتعريض واللف والدوران في الكلام كالثعالب، ويعلق ذلك بكلمة: إن شاء الله، وما ينوي بها إلا خداع من يكلمه. ينبغي استعمال الاستثناء في الموضع اللائق به، فإذا قيل مثلاً: أين ذهبت بالأمس؟ لا تقل: إن شاء الله ذهبت إلى المكان الفلاني، فهذا فعل ماض وقع، فليس للاستثناء هنا موضع، والله جل وعلا ذكر الاستثناء هنا: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27]، مع أنه تعالى قال: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ [الفتح:27]، تأكيداً لما وعدهم النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك قال: (إن شاء الله)، فهذا تعليم من الله سبحانه وتعالى، فإنه أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وأخبر أنه صدقه في هذه الرؤيا، وأقسم أنهم لابد داخلون في المستقبل؛ ومع ذلك يقول الله تعالى: (إن شاء الله)، وإذا كان الله قال ذلك فنحن أولى أن نتعلم هذا الأدب، وأن نعلق العمل بالمشيئة. أيضاً قال: (إن شاء الله) للإشعار بأن بعضهم لا يدخل، ربما بعضهم يكون قد مات حينما يأتي موعد تحقيق هذا الوعد، أو يتخلف لعذر من الأعذار أو غير ذلك، فليس كل المؤمنين الحاضرين في الحديبية سوف يدخلون. إذاً: إما إنها لتعليم العباد، أو للإشعار بأن بعضهم لا يدخل، فهو في معنى: لتدخلنه من شاء الله دخوله منكم، أو أنه حكاية لما قاله له الملك الذي أراه الرؤيا في المنام، فقال له نفس العبارة: (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) أو حكاية لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه؛ لأنهم لما يكونوا قد دخلوا بعد، فلما حكى لهم الرؤيا قال لهم: إن شاء الله.

    معنى قوله تعالى: (محلقين رءوسكم ومقصرين)

    قوله تعالى: (محلقين): حال مقدرة؛ لأن الدخول في حال الإحرام لا في حال الحلق والتقصير، يعني: هل يحلقون ويقصرون وقت دخولهم مكة أم يدخلون محرمين؟ يدخلون محرمين، (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين) فمحلقين حال مقدرة؛ لأن الدخول في حال الإحرام لا في حال الحلق والتقصير، وفي الكلام نسبة ما للجزء إلى الكل: (محلقين رءوسكم ومقصرين) يعني: محلقاً بعضكم ومقصراً بعضكم، والقرينة عليه: أن الحلق والتقصير لا يجتمعان، فالمحرم إما أن يحلق وإما أن يقصر، ولا يجتمعان؛ فلذلك لابد من نسبة كل منهما لبعض منهم، فالبعض يحلق والبعض يقصر، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟! قال: رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟! قال: رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟! قال صلى الله عليه وآله وسلم: والمقصرين!).

    معاني المسجد الحرام

    المسجد الحرام يطلق في القرآن الكريم ويراد به أربعة معان: الأول: الكعبة المشرفة كما قال تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:149] يعني: جهة الكعبة المشرفة، وقال تبارك وتعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ [المائدة:97]. الثاني: يطلق المسجد الحرام على المسجد كله، يقول صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى). الثالث: يطلق المسجد الحرام على مكة المكرمة كما قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1]، وكان الإسراء من بيت أم هانئ من مكة وليس من المسجد نفسه. الرابع: يطلق المسجد الحرام على الحرم كله، يعني: مكة وما حولها من الحرم؛ لأن حدود الحرم أوسع من حدود مدينة مكة، وحدود الحرم تبدأ من العلامات المنصوبة التي تفصل بين الحل والحرم، فالمسجد الحرام قد يطلق على الحرم كله، يعني: مكة وما حولها من حدود الحرم، والدليل قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28] والمراد منعهم من دخول الحرم نفسه.

    الحلق أفضل من التقصير في النسك

    أخر النبي عليه الصلاة والسلام الدعاء للمقصرين، وكرر الدعاء ثلاثاً للمحلقين، وهذا يدل على أن التقصير مفضول لكنه يجزئ بدلالة الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تبارك وتعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح:27] فهذا يدل على أنه يجزئ التحلل بمجرد التقصير. وقد روى الشيخان وغيرهما التقصير عن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فمن الخطأ أن بعض الإخوة ينظر بنظرة الازدراء أو الاحتقار لمن يحج أو يعتمر ثم يقصر شعر رأسه، مع أن هذا ليس منكراً، نعم بلا شك أن الحلق أفضل، ولكن التقصير يجزئ، وبعض الناس لسبب أو لآخر لا يحلق عند التحلل، فلا ينبغي أبداً لمن يحلق أن ينظر إلى أخيه الذي يقصر على أنه مقصر، مقصر شعره ومقصر في طاعة الله سبحانه وتعالى، فلا ينظر إليه نظرة ازدراء. وأيضاً بعض الأخوات تزدري من تلبس جلباباً أو حجاباً يستوفي شروط الحجاب الشرعي لكنه بغير اللون الأسود، ومن قال: إننا نتعبد بالألوان؟ والتعبد بالألوان شيء من بدع الأخوات، وقد يقلن: هذه التزامها فيه ضعف؛ لأنها تلبس حجاباً بغير اللون الأسود! هذا من تنطع بعض الأخوات، وهذا من عندهن وليس من الشرع.

    ليس على النساء حلق

    قولنا: الحلق أفضل من التقصير، هذا خاص بالرجال، أما النساء فليس عليهن حلق، وإنما عليهن التقصير فقط؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس على النساء حلق إنما على النساء التقصير)، يعني تجمع شعرها كله ثم تقص منه قدر الأنملة.

    حكم حلق الشعر في غير النسك

    ما حكم حلق شعر الرأس في غير النسك؟ حلق الرأس في الحج والعمرة مما أمر به الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وحلق الرأس لحاجة مثل التداوي جائز، فيجوز أن يحلق الإنسان رأسه للتداوي من بعض الأمراض الجلدية أو من بعض الحشرات كالقمل مثلاً، وهذه الأشياء قد تعالج بأن يزيل شعر رأسه تماماً، فهذا جائز للحاجة. أما حلق شعر الرأس على وجه التعبد والتدين والزهد فهذا بدعة لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم. إذً: يحلق الإنسان رأسه في الحج والعمرة، وهذا مما أمر به الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ويحلق رأسه للحاجة كالتداوي، وهذا جائز، أما أن يحلق رأسه في غير النسك لغير حاجة، يعني: من غير حج ولا عمرة ولا مرض فهذا فيه قولان: الأول: أنه مكروه، وهو مذهب مالك وغيره؛ لأنه شعار أهل البدعة من الخوارج الذين كانوا يحلقون رءوسهم. الثاني: أنه مباح، وهو المعروف عن أصحاب أبي حنيفة والشافعي ، فله أن يحلقه بلا تعبد في الحج والعمرة، ولا لحاجة كمرض، فلا بأس أن يحلق، لكن لو نوى به التعبد فهذا بدعة لم يأمر الله سبحانه وتعالى بها ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وليست واجبة ولا مستحبة عند أحد من الفقهاء؛ لأن التعبد بحلق الرأس من سيما الخوارج، وهذه علامة من خصائص الخوارج كما في الحديث: (سيماهم التحليق).

    معنى قوله تعالى: (لا تخافون)

    يقول القاسمي رحمه الله تبارك وتعالى: قوله تعالى: آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح:27] لا تخافون: هذه حال مؤكدة لقوله: آمنين، أي: لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين لا تخافون، فهذه حال مؤكدة لقوله تعالى: (آمنين)، أو مؤكدة لأن اسم الفاعل للحال والمضارع للاستقبال، آمنين يعني: في الحال، لا تخافون يعني: في المستقبل، فيكون قد أثبت لهم الأمن حال الدخول، ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد، لا يخافون من أحد.

    خبر عمرة القضاء

    قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وهذا كان في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة رجع إلى المدينة، فأقام بها ذا الحجة والمحرم، وخرج في صفر إلى خيبر ففتحها الله عليه بعضها عنوة وبعضها صلحاً، وهي إقليم عظيم كثير النخل والزروع، فاستخدم من فيها من اليهود عليها على الشطر، وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم، ولم يشهدها أحد غيرهم، إلا الذين قدموا من الحبشة جعفر بن أبي طالب وأصحابه وأبو موسى الأشعري وأصحابه رضي الله عنهم، ولم يغب منهم أحد. قال ابن زيد : إلا أبا دجانة سماك بن خرشة كما هو مقرر في موضعه، ثم رجع إلى المدينة فلما كان في ذي القعدة من سنة سبع خرج صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمراً هو وأهل الحديبية، فأحرم من ذي الحليفة وساق معه الهدي، قيل: كان ستين بدنة، فلبى وسار وأصحابه يلبون، فلما كان قريباً من مر الظهران بعث محمد بن مسلمة بالخيل والسلاح أمامه، فلما رآه المشركون رعبوا رعباً شديداً، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه من وضع القتال عشر سنين، فذهبوا فأخبروا أهل مكة، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم -وهي العلامات التي توضع تحدد حدود للحرم- بعث السلاح من القسي والنبل والرماح إلى بطن يأجج، وسار إلى مكة بالسيوف مغمدة في قربها كما شارطهم عليه، فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش مكرز بن حفص فقال: يا محمد! ما عرفناك تنقض العهد، فقال صلى الله عليه وسلم: (وما ذاك؟!) قال: دخلت علينا بالسلاح والقسي والرماح، فقال صلى الله عليه وسلم: (لم يكن ذلك، وقد بعثنا به إلى يأجج) فقال: بهذا عرفناك بالبر والوفاء، وخرج رءوس الكفار من مكة -أي: من شدة الحقد والغيظ خرجوا من مكة- لئلا ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه رضي الله عنهم غيظاً وحنقاً. وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فدخلها عليه الصلاة والسلام وبين يديه أصحابه يلبون، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى وهو راكب ناقته القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية، وعبد الله بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه آخذ بزمام ناقة رسول الله يقودها وهو يقول : باسم الذي لا دين إلا دينه باسم الذي محمد رسوله خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تأويله كما ضربناكم على تنزيله ضرباً يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله قد أنزل الرحمن في تنزيله في صحف تتلى على رسوله بأن خير القتل في سبيله يا رب إني مؤمن بقيله وروى الإمام أحمد من طريق أبي الطفيل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مر الظهران في عمرته بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشاً تقول: ما يتباعثون من العجف -أي: من الهزال والضعف الذي نزل بهم- فقال أصحابه: لو انتحرنا من ظهرنا، فأكلنا من لحمه، وحسونا من مرقه، فأصبحنا غداً حين ندخل على القوم وبنا جمامة -يعني: نتقوى بها- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تفعلوا، ولكن اجمعوا لي من أزوادكم)، فجمعوا له وبسطوا الأنطاع، فأكلوا حتى تركوا، وحثا كل واحد منهم في جرابه، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل المسجد وقعدت قريش نحو الحِجْر، فاضطبع رسول صلى الله عليه وسلم بردائه ثم قال: (لا يرى القوم فيكم غميزة)، فاستلم الركن ثم رمل حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الأسود، فقالت قريش: ما يرضون بالمشي، أما إنهم لينقزون نقز الظباء، ففعل ذلك ثلاثة أشواط؛ فكانت سنة، والمقصود بذلك الرمل، وقد كان المشركون جلسوا في الجهة الشمالية التي تقابل الحِجْر يراقبون الصحابة وهم يطوفون، فالصحابة رملوا الثلاثة الأشواط الأولى؛ ليظهروا الجلد والقوة لئلا يشمت بهم الكفار، وقد كان الصحابة متعبين، فكانوا يرملون في الجهات الثلاث، ثم في الجهة الرابعة التي هي الجهة اليمانية، كانوا يستترون بالكعبة، فمن ثم كانوا بين الركنين يمشون ليستريحوا من هذه الهرولة، حتى لا يشمت بهم المشركون، فصارت سنة بعد ذلك، فهذا هو سبب هذه السنة، وهذا مثل سبب مشروعية السعي حينما سعت هاجر . وروى الإمام أحمد من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم حمى يثرب -أي: أضعفتهم- ولقوا منها سوءاً، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، ولقوا منها شراً، وجلس المشركون من الناحية التي تلي الحِجْر، فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة ليرى المشركون جلدهم، قال: فرملوا ثلاثة أشواط، وأمرهم أن يمشوا بين الركنين حيث لا يراهم المشركون). وفي رواية: (ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم) يعني: كانوا يمشون في المنطقة اليمانية؛ لأنه لو أمرهم أن يرملوا الأشواط كلها لكان في ذلك مشقة شديدة عليهم، ولم يستطيعوا أن يكملوا، ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.

    معنى قوله تعالى: (فعلم ما لم تعلموا)

    قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أي: من الخيرة والمصلحة في صرفكم عن مكة ودخولكم عليها عامكم ذلك، يعني: علم ما لم تعلموا حينما تم صلح الحديبية، ثم قدر وقضى أن تعودوا، وذلك لما علمه الله من الخير الكثير في صرفكم عن مكة، ودخولكم إليها في عامكم ذلك. قال ابن جرير: (فعلم ما لم تعلموا) وذلك علمه تعالى ذكره بما في مكة من الرجال والنساء المؤمنين الذين لم يعلمهم المؤمنون، ولو دخلوها في ذلك العام لوطئوهم بالخيل والرجل، فأصابتهم منهم معرة بغير علم، فردهم الله عن مكة من أجل ذلك، وليدخل في رحمته من يشاء ممن يريد أن يهديه.

    معنى قوله تعالى: (فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً)

    قوله تعالى: ((فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا)): فجعل من دون ذلك -يعني: قبل دخولكم الذي وعدتم به في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم- فتحاً قريباً، وهو الصلح الذي جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش. أو (فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً) وهو فتح خيبر، (من دون ذلك) يعني: قبل تحقق الرؤيا، ففتح خيبر لتستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر الفتح الموعود، وإلى الأول ذهب الزهري فقال: يعني صلح الحديبية، وما فتح في الإسلام فتح كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب، أمن الناس بعضهم بعضاً، فالتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد من الناس يعقل شيئاً إلا دخل فيه، فلقد دخل في ذينك السنتين في الإسلام مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر، ووافقه مجاهد ، وقال ابن جرير : والصواب أن يعم فيقال: جعل الله من دون ذلك كليهما -يعني: فتح خيبر وأيضاً صلح الحديبية- ما ترتب عليه من الخيرات العظيمة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله...)

    قال تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح:28]. (بالهدى) أي: البيان الواضح، (ودين الحق) أي: دين الإسلام، وقال المهايمي : (بالهدى) أي: الدلائل القطعية، (ودين الحق) أي: الاعتقادات الصائبة المطابقة لما هو الواقع أشد مطابقة. وقال ابن كثير : (بالهدى): بالعلم النافع، (ودين الحق): العمل الصالح، فإن الشريعة تشتمل على شيئين: علم وعمل، فالعلم الشرعي صحيح، والعمل الشرعي مقبول، فإخباراتها حق وإنشاءاتها عدل. (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) يعني: ليعليه على الدين كله أي: ليبطل به الملل كلها حتى لا يكون دين سواه، وذلك حين ينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيقتل الدجال، فحينئذ تبطل الأديان كلها غير دين الله الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، ويظهر الإسلام على الأديان كلها. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: قد أظهره الله تعالى علماً وحجة وبياناً على كل دين، كما أظهره قوة ونصراً وتأييداً، وقد امتلأت الأرض منه ومن أمته في مشارق الأرض ومغاربها، وسلطانهم دائم لا يقدر أحد أن يزيله كما زال ملك اليهود وزال ملك من بعدهم عن خيار الأرض وأوسطها، هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. (وكفى بالله شهيداً) أي: على أن ما وعدهم من إظهار دينه على جميع الأديان أو ما وعدهم من الفتح أو المغانم كائن، قال الحسن : شهد الله على نفسه أنه سيظهر دينك على الدين كله وكفى بالله شهيداً. قال ابن جرير : وهذا إعلام من الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، والذين كرهوا الصلح يوم الحديبية من أصحابه: أن الله فاتح عليهم مكة وغيرها من البلدان مسليهم بذلك عما نالهم من الكآبة والحزن بانصرافهم عن مكة قبل دخولها وقبل طوافهم بالبيت.

    معنى قوله تعالى: (ليظهره على الدين كله)

    نقف وقفة مع هذه الآية الكريمة: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح:28] أكثر المفسرين على أن الهاء في قوله: (ليظهره) راجعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: ليظهر رسوله عليه الصلاة والسلام، والأظهر أنه راجع إلى دين الحق، يعني: يظهر دين الحق على الدين كله، أي: أرسل الرسول بالدين الحق ليظهر الدين الحق على كل الأديان، وعلى هذا فيحتمل أن يكون الفاعل للإظهار هو الله سبحانه وتعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره يعني: ليظهر الله هذا الدين، أو ليظهر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الدين، وجوز غير واحد -وهو الذي استظهره الآلوسي رحمه الله تعالى- أن يكون المعنى: ليظهر الله الإسلام على الدين كله في تسليط المسلمين على جميع أهل الأديان، وقالوا: ما من أهل دين حاربوا المسلمين إلا وقد قهرهم المسلمون، ويكفي في ذلك استمرار ما ذكرنا زماناً معتداً به كما لا يخفى على المطلعين على كتب التاريخ والوقائع، وقيل: إن تمام هذا الإعلاء عند نزول عيسى عليه السلام وخروج المهدي حيث لا يبقى حينئذ سوى دين الإسلام. ووقوع خلاف ذلك بعد لا يضر إلا لنحو ما سمعت، وإما لأن الباقي من الدنيا إذ ذاك كلا شيء. وفي الجملة فضل تأكيد لما وعد الله تعالى به من الفتح، وتوطيد لنفوس المؤمنين على أنه تعالى سيفتح لهم البلاد، ويتيح لهم من الغلبة على الأقاليم ما يستقلون بالنسبة إليه فتح مكة، فيظهره على الدين كله، فكلمة (كله) بشارة لما هو أعظم وأكبر من فتح مكة؛ لأن مكة مدينة واحدة، لكن الآية فيها إشارة إلى أن البلاد كلها سوف تفتح بالإسلام. قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة:33]، ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة ذكره في سورة التوبة وسورة الصف، وزاد فيهما أنه فاعل ذلك ولو كان المشركون يكرهونه، فقال في الموضعين: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:9]، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يتهدد أعداءه بالسيف قبل الهجرة، وكان صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت، وأشراف قريش قد اجتمعوا بالحجر وقالوا: ما رأينا مثل صبرنا على هذا الرجل، قد سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فلما مر بهم النبي صلى الله عليه وسلم غمزوه ببعض القول، فعرف ذلك في وجهه صلى الله عليه وسلم، وفعلوا به ذلك ثلاث مرات فوقف فقال: (أتسمعون يا معشر قريش؟! أما والذي نفس محمد بيده! لقد جئتكم بالذبح) يعني: بالسيف، فأخذت القوم كلمته حتى ما فيهم رجل إلا كأنما على رأسه طير واقع، وحتى أن أشدهم عليه قبل ذلك ليلقاه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف -يا أبا القاسم- راشداً، فوالله! ما كنت جهولاً. وقال محمد بن كعب : بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا جهل يقول: إنكم إن بايعتموه عشتم ملوكاً، فإذا متم بعثتم بعد موتكم، وكانت لكم جنان خير من جنان الأردن، وإنكم إن خالفتموه كان لكم منه الذبح، ثم بعثتم بعد موتكم، وكانت لكم نار تعذبون فيها، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم قوله فقال: (وأنا أقول ذلك: إن لهم مني لذبحاً، وإنه لآخذهم). فالإخبار بظهور الإسلام وعلوه على العالمين كان في ذلك الوقت مستقبلاً، يعني: حينما نزلت هذه الآية ونحوها من الآيات، وحينما نطق النبي صلى الله عليه وسلم بالأحاديث التي سنشير إليها، كان هذا إخباراً عن المستقبل، والمستقبل مجهول للإنسان، فإذا تصوره كان تصوره مجرد توقعات قد تعتمد على مقدمات تؤدي إلى نتائج، ومهما أوتي الإنسان من صدق الحدس وقوة الإدراك، فإنها لا تزيد على كونها مجرد توقعات، وأما في حالة عدم وجود مقدمات، كان توقع حصول النتائج مجرد عبث وتخرص وتوهم، ووقوعه في هذه الحالة هو من قبيل ما يسميه البعض بالمصادفات وعدم وقوعها هو الأصل. أحد العلماء من باكستان ألف كتاباً جرده لذكر مئات الأخبار عن النبي عليه السلام بأمور مستقبلية كلها أو معظمها وقع تماماً كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا ما تحدث إنسان عن المستقبل بتفاصيل مسهبة ولم يخرمها المستقبل حتى ولا في جزء من أجزائها، مع كثرة أعدائه المتربصين الحريصين على الطعن في صدقه، إذاً لابد من استبعاد التوقعات والتكهنات والنبوءات الكاذبة، واستبعاد ما كان مبيتاً، واستبعاد ما تحقق بعضه وكذب بعضه، واستبعاد ما كان عن منام وقع أو كرامة صالح، ولكن صدق الإخبار عن المستقبل المجهول الذي يتحقق تحققاً تاماً فهذا بلا شك نبوة لا شك فيها، وهو الوحي الذي يصل عالم الغيب بعالم السماء، قال تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن:26-27]؛ فلذلك كان الإخبار بالبشارات التي تتعلق بظهور دين الإسلام في وقت كان المسلمون فيه في أشد مراحل الضعف، وكان النبي عليه السلام مع ذلك يجزم ويقطع بالتمكين لهذا الدين؛ دليل من دلائل النبوة.

    علامات صدق النبوة

    ما هي العلامات الخمس التي تدل على صدق النبوة؟ لو أن كافراً قال لك: أثبت لي صدق محمد، وما هي الأدلة والصفات الشخصية لصاحب الرسالة؟ فنقول: الثمرات، والمعجزات، والبشارات وهي التي تبشر بظهور النبي في الكتب السابقة، والنبوءات، والصفات الشخصية، فإن للأنبياء صفات لا تشتبه أبداً بصفات غيرهم حتى لو كانوا من الصديقين والشهداء والصالحين، لا يمكن أن تشتبه خصائص النبي بخصائص غيره من البشر، فللأنبياء صفات مميزة؛ لأن الله سبحانه وتعالى يصطفيهم من أعلى الدرجات، ومن قمة البشر، سواء في حسبهم ونسبهم أو كمال أجسادهم وقوتهم وجمالهم وأخلاقهم، وغير ذلك من الصفات، فالأنبياء يمثلون قمة متميزة في صفاتهم الشخصية الحسية والنفسية، ولا يشاركهم فيها أحد. فمن هذه العلامات: الثمرات؛ لأن للأنبياء انطباعات وثمرات في الوجود وفي العالم لا تشتبه بغيرهم ممن يسمونه المصلحين أو الدعاة أو نحو ذلك، فالأنبياء لهم ثمرات يتركونها في واقع البشرية لا تشتبه بثمرات غيرهم، وليس لنبينا صلى الله عليه وسلم في هذا كله نظير على الإطلاق، فهو أعظمهم ثمرة وأثراً. ومنها: النبوءات، وهي نبوءات كثيرة عما يحصل في المستقبل. ومنها: البشارات، أي: بشارة النبي السابق بالنبي اللاحق، كما يوجد في التوراة والإنجيل من بشارات كثيرة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. ومنها: المعجزات، وهي الخوارق التي تقترن بادعاء النبوة، وهذه أيضاً من خصائص الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. قال الله تبارك وتعالى: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]، الحق في لغة العرب هو الثابت الذي ليس بزائل ولا مضمحل، أما الباطل فمعناه: الذاهب المضمحل. والمراد بالحق في قوله تعالى: (وقل جاء الحق) هو ما في هذا القرآن العظيم والسنة النبوية من الدين الإسلامي، والمراد بالباطل الزاهق: الشرك بالله والمعاصي المخالفة لدين الإسلام. (إن الباطل كان زهوقاً) يقال: زهقت نفسه إذا خرجت وزالت من جسده، (إن الباطل كان زهوقاً) كان هي صيغة للماضي، لكن كان هنا تفيد الاستمرار والثبات، يعني: إن الباطل كان زهوقاً في كل وقت، وقد ذكر الله تعالى أن الحق يزيل الباطل ويذهبه في قوله: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [سبأ:48-49]، وقال تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [الأنبياء:18]، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: (( جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ))[الإسراء:81]، (( جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ))[سبأ:49]) متفق عليه.

    المستقبل لهذا الدين

    قال تبارك وتعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55] هذه الآية من البشارات للتمكين للمسلمين، وقال تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأعراف:137]، وقال الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105] (الزبور) هنا: جنس الكتاب، أي: في التوراة والإنجيل وزبور داود وغير ذلك، (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر) يعني: أم الكتاب، فالمقصود: كتبنا في الكتب المنزلة على الأنبياء أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، بعد أن كنا قد كتبنا ذلك في أم الكتاب. قيل في العباد الصالحين: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن النصارى الذين أسلموا قالوا: وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ [المائدة:84] وهم قطعاً أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام. وقوله عز وجل: (أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) قيل: هي الجنة كما قال تعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر:74]، وقال تعالى: أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:10-11]، فمعنى الإيراث: الإنعام عليهم بالخلود فيها في أكبر نعيم وسرور، وقال تعالى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43]. وقيل: إن الأرض أرض العدو، يورثها الله المؤمنين في الدنيا كما قال تعالى: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [الأحزاب:27]، وقال تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأعراف:137]، وقال عز وجل: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، وقال تعالى: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ [إبراهيم:13-14].

    بشارات نبوية بالتمكين لهذا الدين

    روى مسلم بسنده عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى، فقلت: يا رسول الله! إن كنت لأظن حين أنزل الله: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:9] أن ذلك تاماً قال: إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحاً طيبة تقبض كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم). وروى مسلم أيضاً بسنده عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي ألا يهلكها بسنة عامة، وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد! إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها -أو قال- بين أقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً) أي: أن ربنا سيحفظهم من أن يسلط عليهم عدواً يستبيح بيضتهم حتى لو اجتمع عليهم كل الناس في الأرض، وهذا الوعد مستمر حتى يبدءوا هم في انتهاك حرمات بعضهم بعضاً، فإذا تقاتل المسلمون، واستباح بعضهم حرمات بعض؛ حينئذ يزول هذا الضمان وهذا الأمان. والمراد بالكنزين: الذهب والفضة، والمراد كنز كسرى وقيصر ملكي العراق والشام. وفيه إشارة إلى أن ملك هذه الأمة يكون معظم امتداده في جهتي المشرق والمغرب لقوله: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها) فهذا وعد من الله سبحانه وتعالى أن ملك هذه الأمة يبلغ مشارق الأرض ومغاربها، وهذا هو الواقع كما نلاحظ، فإن البلاد الإسلامية الآن ممتدة الأفق في جهة الشرق والغرب، أما في جهة الجنوب والشمال فامتدادها قليل بالنسبة إلى المشرق والمغرب. وقال صلى الله عليه وسلم: (إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عمالها في النار إلا من اتقى الله وأدى الأمانة). وقال عليه الصلاة والسلام: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر). وكان تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان كافراً منهم الذل والصغار والجزية. وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: بينما أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، وأتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: (يا عدي بن حاتم ! إن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله، -قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دعار طيء الذين سعروا البلاد؟- ولتفتحن كنوز كسرى ، قلت: كسرى بن هرمز ؟ قال: كسرى بن هرمز ، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفيه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد، قال عدي : قد رأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى ولئن طالت بكم حياة سترون الثالثة)، قال البيهقي : قد وقع ذلك في زمن عمر بن عبد العزيز . وعن عمر بن أسيد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال: إنما ولي عمر بن عبد العزيز سنتين ونصفاً، والله ما مات عمر بن عبد العزيز حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يطرح حتى يرجع بذلك، فيتذكر من يضعه فيه، فلا يجده، فيرجع بماله، قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس رحمه الله تعالى. وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا عدي ! أسلم تسلم، فقلت: إني من أهل دين، قال: أنا أعلم بدينك منك، فقلت: أنت أعلم بديني مني؟! قال: نعم، ألست من الركوسية؟ وأنت تأكل مرباع قومك؟ قال: قلت: بلى، قال: فإن هذا لا يحل لك في دينك، قال: فلم يعد أن قالها فتواضعت لها، قال: أما إني أعلم ما الذي يمنعك عن الإسلام؟ تقول: إنما تبعه ضعفة الناس، ومن لا قوة له، وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة؟ قلت: لم أرها وقد سمعت بها، قال: فوالذي نفسي بيده! ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز ، قلت: كسرى بن هرمز ؟! قال: نعم كسرى بن هرمز ، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد، قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز ، والذي نفسي بيده! لتكونن الثالثة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها). وروى مسلم عن نافع بن عتبة رضي الله عنه أنه حفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع كلمات أعدهن في يدي، قال: (تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله)، فقال نافع : يا جابر! لا نرى الدجال يخرج حتى تفتح الروم.

    حديث: (وعدتم من حيث بدأتم)

    روى مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم)، شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه. قال الرسول عليه السلام هذا الحديث أمام أبي هريرة ، (منعت العراق درهما وقفيزها) القفيز: مكيال معروف لأهل العراق، (ومنعت الشام مديها ودينارها) المدي: مكيال معروف لأهل الشام، (ومنعت مصر إردبها ودينارها) الإردب: مكيال معروف لأهل مصر. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: وفي معنى قوله: منعت العراق وغيرها قولان مشهوران: أحدهما: لإسلامهم، أي: أن هؤلاء يسلمون فتسقط عنهم الجزية، وهذا قد وجد، بعدما كانوا يرسلون الجزية ثم أسلموا فامتنع مجيء هذه الأشياء. القول الثاني -وهو الأشهر-: أن العجم والروم يستولون على البلاد في آخر الزمان، فيمنعون حصول ذلك للمسلمين، يعني بعدما كانت هذه البلاد تجبى منها الجزية والخراج إلى دار الخلافة، سوف تعود هذه البلاد إلى الوضع الذي تمنع فيه أداء الجزية والخراج، وهذا هو الواقع الآن، وفي ضمن هذا الحديث أن هذه البلاد سوف تفتح حتى تبذل الجزية والخراج. وروى مسلم عن جابر : (يوشك ألا يجيء إليهم قفيز ولا درهم، قلنا: من أين ذلك؟ قال: من قبل العجم يمنعون ذلك)، وذكر منع الروم لذلك في الشام، وهذا قد وجد في زماننا في العراق، وقيل: لأنهم يرتدون في آخر الزمان فيمنعون ما لزمهم من الزكاة وغيرها، وقيل: معناه أن الكفار الذين عليهم الجزية تقوى شوكتهم في آخر الزمان فيمتنعون مما كانوا يؤدونه. وقوله: (وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم) هذه أشارة إلى عودة غربة الإسلام كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ)، فهذا معنى (وعدتم من حيث بدأتم)، وفيه الإخبار بغربة الإسلام من جديد.

    فتح القسطنطينية ورومية

    عن أبي قبيل قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وسئل: أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية؟ -رومية هي روما عاصمة إيطاليا- فدعا عبد الله بصندوق له حلق فأخرج منه كتاباً، فقال عبد الله : بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولاً قسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مدينة هرقل تفتح أولاً)، يعني: قسطنطينية، وقد تحقق الفتح الأول على يد محمد الفاتح العثماني بعد أكثر من ثمانمائة سنة من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وسيتحقق الفتح الثاني بإذن الله تعالى ولا بد، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص:88]. فنحن ليس بيننا خلاف بأن هذا سوف يقع، لكن المشكلة أننا لا نفكر بهذه الأمور دائماً، ونظن أن السنن تحابينا، فيوجد ربط غير طبيعي عند بعض الناس، يقول بعضهم مثلاً: لعل أمريكا تنهار الأرض بهم، وكذا وكذا، وعند ذلك ينتصر المسلمون! يعني ننتظر مجرد انهيارهم، لا، هذا لا يكفي حتى يظهر المسلمون، لابد للمسلمين أيضاً أن يشتغلوا بالبناء، وأن يأخذوا بأسباب القوة، أما أن نبقى نقول: إن أمريكا سيحدث فيها كذا وكذا، وإنها سوف تنهار، وبعضهم يتوقع خراب العالم، وأنه ستحصل حرب نووية تدمر البشرية! لماذا نحن المسلمين نكون هكذا؟! لابد من المواجهة، والعمل بالأسباب الحقيقية التي ينبغي على المسلمين أن يأخذوا بها، فالسنن لا تحابي أحداً، الكافر إذا أراد أن يزرع الأرض، فحرثها ونقاها وسقاها بالماء ووضع فيها البذور السليمة وتعاهدها إلى أن نبتت؛ هل الأرض تقول له: أنت كافر، ولن أنبت لك؟! لا، وهل المؤمن ستقول له الأرض: لأنك مؤمن سوف أكرمك وأوتيك الثمار بدون أسباب؟ لا، هذا خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالربط بين انهيار الغرب وبين تحقق وعود المسلمين خطأ، فلابد من الأخذ بالأسباب كالآخرين.

    من دلائل النبوة

    روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه وهي من خالاته من الرضاعة، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت رضي الله عنه، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمته، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: ما يضحكك يا رسول الله؟! قال: (ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة) فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: ما يضحكك يا رسول الله؟! قال: (ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله ..) كما قال في المرة الأولى، قالت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم قال: (أنت من الأولين)، ثم غزا معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما قبرص في سنة ثمان وعشرين هجرية، ومعه من كبار الصحابة أبو ذر وأبو الدرداء وعبادة بن الصامت ، وكانت مع عبادة زوجه أم حرام بنت ملحان . وأخرج مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيراً، فإن لهم ذمة ورحماً)، وهذه بشارة بفتح مصر، والمقصود بالرحم أنهم أخوال إبراهيم عليه السلام ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأقباط أخواله؛ لأن مارية القبطية أمه، فالمقصود أرض مصر، والآثار في الأسفار عن مدح مصر كثيرة. وقال تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2] الأميون هم: العرب كلهم، ثم قال تعالى: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ [الجمعة:3] يعني: وبعث في آخرين من الأميين أو يعلمهم ويعلم آخرين من المؤمنين لما يحلقوا بهم، أي: لم يكونوا في زمنهم وسيجيئون بعدهم، قال ابن عمر وسعيد بن جبير : هم العجم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه سورة الجمعة، فلما قرأ: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ [الجمعة:3] قال رجل: من هؤلاء يا رسول الله؟! فلم يراجعه النبي صلى الله عليه وسلم حتى سأله مرة أو مرتين أو ثلاثاً، قال: وفينا سلمان الفارسي ، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال: (لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء) . وفي رواية: (لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس -أو قال- من أبناء فارس حتى يتناوله) وهذا لفظ مسلم . وليس المقصود بهذا الرافضة الخبثاء الضالون، إنما المقصود بفارس علماء المسلمين من أهل السنة الذين دخلوا في الإسلام وكانوا من أهل فارس. وأخرج مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والله! ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون). وهذه إشارة إلى موعود الله سبحانه وتعالى الذي وعد به في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من التمكين لهذا الدين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (محمد رسول الله...)

    قال الله تبارك وتعالى في الآية الأخيرة من سورة الفتح: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:29]. (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) عليه الصلاة والسلام، (وَالَّذِينَ مَعَهُ) أي: أصحابه رضي الله عنهم، (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) أي: لهم شدة وغلظة على الكفار المحاربين لهم الصادين عن سبيل الله وعندهم تراحم فيما بينهم كقوله تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]، وجوز في قوله عز وجل: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ): أن يكون مبتدأً وخبراً، يعني: إن هذه شهادة من الله بأن محمداً هو رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأن يكون (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) صفة أو عطف بيان أو بدلاً، (وَالَّذِينَ مَعَهُ) عطف عليه، وخبرهما: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) وهذا تكليف، ولو لم يذكر الله قوله تعالى: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) ربما توهم متوهم أنهم باعتيادهم الشدة على الكفار قد صار ذلك لهم سجية في كل حال، وعلى كل أحد، وأن هذه الصفة صارت ذاتية لهم في كل حال، ومع كل أحد، فلما قال تعالى: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) اندفع ذلك التوهم، فعندهم تكريم واحترام للمؤمنين، ولما قال في الآية الأخرى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [المائدة:54] ربما توهم أن مفهوم القيد غير معتبر، ومفهوم القيد هو (على المؤمنين) فربما توهم أنهم موصوفون بالذلة دائماً لكل أحد، وأن الذل صفة لازمة لهم على كل حال لكل الناس، فدفع الله هذا الوهم بقوله تعالى: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]. ((أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)) فهو كقوله: حليم إذا ما الحلم زين أهله على أنه عند العدو مهيب قال المهايمي : تفيد الآية أن دين الحق قد ظهر في أصحابه صلوات الله عليه، إذ اعتدلت قوتهم الغضبية بتبعية اعتدال الفكرة، إذ هم أشداء على الكفار لرسوخهم في صحة الاعتقاد، بحيث يغارون على من لم يصح اعتقاده. (رحماء بينهم): لعدم ميلهم إلى الشهوات، هذا باعتبار الأخلاق، فهم من حيث أخلاقهم أشداء على الكفار رحماء بينهم، قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123]، وأما باعتبار الأعمال فأنت: (( تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا )). قال ابن كثير : وصفهم بكثرة العمل: (ركعاً سجداً) ووصفهم بكثرة الصلاة التي هي خير الأعمال، ووصفهم بالإخلاص فيها لله عز وجل، فالآية تمدح ظاهرهم وتمدح باطنهم، تمدح ظاهرهم لقوله: (تراهم ركعاً سجداً)، وتمدح باطنهم؛ لأنهم ما يريدون من العبادة إلا وجه الله عز وجل: (يبتغون فضلاً من الله ورضواناً)، فوصفهم بالإخلاص لله عز وجل، والاحتساب عند الله تعالى، فلهم جزيل الثواب، وهو الجنة المشتملة على فضل الله سبحانه وتعالى، وعلى سعة الرزق عليهم، ورضاه تعالى عنهم، وهو أكبر كما قال تعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72].

    معنى قوله تعالى: (سيماهم في وجوههم من أثر السجود)

    قوله تعالى: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ): هذا مبتدأ وخبر يعني: علامتهم كائنة فيهم رضي الله تعالى عنهم، (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) هذا بيان للسيما كأنه قيل: سيماهم التي هي أثر السجود أو حال من المستكن في وجوههم، كأن المقصود هي من أثر السجود. قال ابن عباس : سيماهم في وجوههم يعني: السمت الحسن، وقال مجاهد وغير واحد: يعني الخشوع والتواضع، وقال منصور لـمجاهد : ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه، يعني العلامة التي تكون في الوجه فقال مجاهد : ربما كان بين عيني من هو أقسى قلباً من فرعون، يعني: ربما كان هذا الأثر الذي يكون في الوجه علامة الصلاة بين عيني من هو أقسى قلباً من فرعون. وقال بعض السلف: من كثرت صلاته بالليل، حسن وجهه بالنهار، وقد رفعه شريك والصحيح أنه موقوف، وتوجد قصة فيها سبب الوهم الذي حصل في رواية هذا الحديث. وقال بعضهم: إن للحسنة نوراً في القلب، وضياءً في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الناس. وقال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه. وروى الطبراني مرفوعاً: (ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله تعالى رداءها، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر)، وإسناده واهٍ؛ لأن فيه العذراني وهو متروك. وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائناً ما كان). وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً: (إن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة) رواه أبو داود . التأويل الثاني في الآية: أن فيهم آثار ترى في الوجه من ثرى الأرض، أو ندى الصخور، وروي ذلك عن ابن الزبير وعكرمة ، وقد كان ذلك في العهد النبوي حيث لا فراش للمسجد إلا ترابه وحصباءه، (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) يعني: تراب كان يعلق بالجبهة، وهذا كان موجوداً في زمن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن المسجد كان يفرش بتراب وحصباء؛ فلذلك كان يعلق التراب في جباههم، أما الآن فالمساجد تفرش بالفرش، فالسيما هي علامة السجود المعروفة أو أنها التراب الذي كان يعلق في جباههم أو أنها السمت الحسن والخشوع، وهذا هو الأقرب، والله تعالى أعلم.

    شدة الصحابة على الكافرين ورحمتهم بالمؤمنين

    قوله عز وجل: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار) قوله هنا:( والذين معه) يعني: جميعهم، فجميعهم (أشداء على الكفار رحماء بينهم)؛ لأن وصف الشدة والرحمة وجد في جميعهم، أما في المؤمنين فكما في قوله تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]، وأما في حق النبي عليه الصلاة والسلام فكما في قوله: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73]، في حين قال عنه في حق المؤمنين: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] صلى الله عليه وآله وسلم. ومن الطرق التي تستطيع أن تميز بها مذهب مؤلف كتاب، وأردت أن تعرف هل هو شيعي أو غير شيعي، فانظر في المقدمة، هل ترضى عن الصحابة أم لا، تجد الشيعة لا يترضون عنهم، وبعضهم لا يعمل مقدمة، بل يدخل في موضوعه مباشرة تجنباً لذكر الصحابة حتى لا يترضى عنهم، وإما أن يترضى على آل البيت فقط، وأهل السنة في مقدمة الكتب يقولون: ورضي الله عن أصحابه أجمعين، لماذا؟ حتى لا يظن أحد أنه ترضى عن بعض أصحابه، فنجد علماء السنة في المقدمات يقولون: ورضي الله عن أصحابه أجمعين، ومنهم من يزيد ويقول: ورضي الله عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والمهاجرين والأنصار، فهذا كله من أجل ما زرعه الشيعة -قبحهم الله- من الأحقاد والسباب للصحابة رضي الله عنهم أجمعين. روي عن الحسن أنه قد بلغ من شدتهم على الكفار أنهم كانوا يتحرجون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم، وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمناً إلا صافحه وعانقة، والمصافحة لم يختلف فيها الفقهاء، لكن المعانقة تشرع عند القفول من السفر، قال بعض المفسرين: وينبغي التأسي بهم رضي الله تعالى عنهم في التشدد على أعداء الله، والرحمة على المؤمنين. وعن عبد الله بن عمرو مرفوعاً: (من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا). وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تنزع الرحمة إلا من شقي). ولا بأس بالبر والإحسان إلى عدو الدين إذا تضمن ذلك مصلحة شرعية، كما أفاد ذلك ابن حجر في فتاويه الحديثية فلتراجع.

    معنى قوله تعالى: (ذلك مثلهم في التوراة)

    قوله تبارك وتعالى: (ذلك مثلهم في التوراة) أي: ذلك الوصف مثلهم -رضي الله تعالى عنهم- في التوراة، أي: صفتهم العجيبة فيها، ومعنى ذلك أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم مدحوا قبل أن يخلقوا، وذلك في الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل، فهذه الآية تشير إلى نصين في التوراة والإنجيل كلاهما في مدح صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف يمدحهم الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلقوا ثم يكون فيهم ما افتراه الأفاكون الضالون الرافضة -لعنهم الله- من أن الصحابة ارتدوا جميعاً ما عدا ثلاثة. والذي يقول هذا كفر بقوله تعالى للصحابة: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، وكفر بقوله تبارك وتعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، فمن رضي الله عنه لا يسخط عليه أبداً. (ذلك) أي: الوصف (مثلهم في التوراة) أي: صفتهم العجيبة فيها، فالصحابة موصوفون في التوراة بأنهم (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ).

    معنى قوله تعالى: (ومثلهم في الإنجيل كزرع...)

    قوله تعالى: وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ أي: فراخه أو سنبله أو نباته فَآزَرَهُ يعني: قواه، فَاسْتَغْلَظَ يعني: غلظ الزرع واشتد، فالسين للمبالغة في الغلظ أو صار من الدقة إلى الغلظ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ أي: استقام على قصبه، والسوق جمع ساق يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ أي: هذا الزرع الذي استغلظ فاستوى على سوقه في تمامه وحسن نباته وبلوغه وانتهائه يعجب الذين زرعوه لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ تعليل لما دل عليه تشبيههم بالزرع نمائهم وترقيهم في الزيادة والقوة، كأنه قيل: إنما قواهم وكثرهم ليغيظ بهم الكفار، ومن ثم ذهب الإمام مالك إلى تكفير الرافضة. يقول الزمخشري : هذا مثل ضربه الله لبدأ أمر الإسلام وترقيه في الزيادة إلى أن قوي واستحكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام وحده ثم قواه الله بمن آمن معه، كما يقوي الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها مما يتولد منها حتى يعجب الزراع. وهذا هو ما قاله البغوي أي: أن الزرع محمد عليه الصلاة والسلام، وأما الشطء الذي زاد عن هذا الزرع فهم أصحابه والمؤمنون، فجعل التمثيل للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته، وأما القاضي فجعله مثالاً للصحابة فقط، فـالزمخشري والبغوي قالا: إن الزرع نفسه هو مثال للنبي عليه الصلاة والسلام، أما الشط فهم أصحابه والمؤمنون الذي قووا دينه وجاهدوا في سبيله، فهذا تمثيل للنبي وأمته، وأما القاضي فجعله مثالاً للصحابة فقط، وعبارته: وهو مثل ضربه الله تعالى للصحابة، كانوا قلة، في بدء الإسلام، ثم كثروا واستحكموا، فترقى أمرهم بحيث أعجب الناس. ولكل وجهة.

    هل يكفر الرافضة لغيظهم على الصحابة؟

    قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: من هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه في رواية عنه تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله تعالى عنهم، قال: لأنهم يغيظونهم -إذا رأوا الصحابة يغتاظون، وتغلي عروقهم من الحقد على الصحابة -ومن غاظه الصحابة فهو كافر لهذه الآية، ووافقه طائفة من العلماء على ذلك. انتهى كلام ابن كثير . يقول الإمام العلامة القاسمي : ولا يخفاك أن هذا خلاف ما اتفق عليه المحققون من أهل السنة والجماعة من أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة كما بسط في كتب العقائد، وأوضحه النووي في مقدمة مسلم ، وقبله الإمام الغزالي في كتاب فيصل التفرقة، وقد كان من جملة البلاء في القرون الوسطى التسرع من الفقهاء في التكفير والزندقة، وكم أريقت دماء في سبيل التعصب لذلك كما يمر كثير منه بقارئ التاريخ. على أن كلمة الأصوليين اتفقت على أن المجتهد كيفما اجتهد كان مأجوراً غير مأزور، ناهيك بمسألة عدالتهم المتعددة أقوالها، حتى في أصغر كتاب في الأصول كمثل جامع الجوامع، نعم إن التطرف والغلو في المباحث ليس من شأن الحكماء المنصفين، وإذا اشتد البياض صار برصاً. على أي الأحوال فمسألة تكفير الرافضة فيها تفصيل، والشيعة كلمة لها عدة معان على درجات أو دركات، فالشيعة بالمعنى الصحيح هم أهل السنة الذين تشيعوا لأهل البيت، فنحن نحبهم وننزلهم منزلهم اللائق بهم، فالشيعة بمعنى الأنصار كما قال الله: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ [الصافات:83]، فنحن الشيعة أنصار أهل البيت، ونحن نحبهم دون أن نعبدهم مع الله أو نغلو فيهم، فالشيعة في الحقيقة هم أهل السنة؛ لأنهم هم الذين يتشيعون لأهل البيت بحق وبعدل وبإنصاف، لكن بعد ذلك يطلق لفظ الشيعة على الاعتقاد في تفضيل علي على من سبقه من الخلفاء، واعتقاد أنه أحق بالإمامة من أبي بكر وعمر، فهذا تشيع. وهناك تشيع الزيدية وهي درجة أخف، وهناك تشيع الرافضة الإمامية الجعفرية الاثني عشرية، وهم من أهل الضلال، وهناك تشيع السبئية الذين زعموا أن علياً إله، وعبدوه من دون الله. فالشيعة لا يصح لإنسان أن يصدر حكماً عاماً على كل شيعي، حتى رافضة إيران اليوم لا يصلح التعميم في الحكم عليهم؛ لأن المسألة تحتاج إلى تفصيل، وأن تسأل الشيعي: ماذا يعتقد؟ فالبدعة قد تكون مكفرة وقد تكون غير مكفرة، مكفرة مثل أن يعتقد أن القرآن الموجود قرآن ناقص، وأن القرآن الحقيقي هو ثلاثة أضعاف هذا القرآن، وأنه مخبوء مع إمامهم المهدي المزعوم، وغير ذلك من الخرافات، فهذا طعن في القرآن الكريم، وهو كفر، هكذا نفصل، ولا ينبغي التعميم، والعوام ليسوا كالخواص، فالعامي الجاهل الذي نشأ على الرفض، وظن أن هذا هو الإسلام، ليس كالخواص. ولا شك أنه حتى مع تكفيرهم لن يكونوا كالكفار الأصليين؛ لأن من اعتقد أن محمداً رسول الله، وأنه صادق ومرسل من عند الله؛ لا يستوي مع من لم يعتقد ذلك، فالمسألة فيها تفصيل، ولابد من معرفة ضوابط التبديع أو التفسيق أو التكفير، وهذا قد فصلناه في محاضرة بعنوان (ضوابط التبديع).

    معنى قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً)

    قوله تبارك وتعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي: صدقوا الله ورسوله وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً أي: عفواً عما مضى من ذنوبهم وسيئ أعمالهم وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:29] أي: ثواباً جزيلاً وهو الجنة، و(منهم) هنا بيانية وليست تبعيضية، (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم) هذه بيان لجميع الصحابة، وليست لبعض منهم، والله تعالى أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756671206