إسلام ويب

سلسلة تأملات قرآنية - تأملات في سورة الرحمنللشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن رحمة الله سبحانه بعباده لا منتهى لها، وأعظم رحمة رحمهم بها هي تعليمهم القرآن، وتعليمهم البيان في الكلام. وهناك نعم عديدة وردت في سورة الرحمن كرفع السماء، وبسط الأرض، وإقامة العدل بين الخلق إلى آخر تلك النعم التي يستفيد منه الإنسان في دنياه وأخراه، فلا يشكر هذه النعم إلا من وفقه الله وهداه من الجن والإنس، مع أنه سبحانه لا تنفعه طاعة الطائع، ولا تضره معصية العاصي، فله من المخلوقات العلوية كالملائكة والنجوم، والأرضية كالشجر والدواب ما يسبح بحمده، ويذكره بشكل دائم لا انقطاع فيه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الرحمن)

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى.

    وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبياً عن أمته، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه، وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    أيها المؤمنون! فإننا نستعين الرب تبارك وتعالى في تفسيرنا هذا كما استعناه من قبل في تفسير ووقفات مع بعض كلامه جل وعلا، والسورة التي نحن بصدد تفسيرها هي سورة الرحمن.

    إن المؤمنين يدركون بلا شك أن لهم رباً لا رب غيره ولا إله سواه، إليه يفزعون في الشدائد، وإياه يشكرون في السراء، فيعبدونه تبارك وتعالى ليلاً ونهاراً، يعبدونه بقلوبهم وجوارحهم، ويعلمون أن من أعظم الجور والظلم أن يجعلوا لله تبارك وتعالى نداً.

    ثم إن هؤلاء المؤمنين -سلك الله بنا وبكم سبيلهم، وجعلنا وإياكم منهم- يعلمون يقيناً أن لربهم تبارك وتعالى أسماء حسنى وصفات علا، قال الله جل وعلا: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف:180]، والرب تبارك وتعالى كما أن وجهه أكرم الوجوه، فإن أسماءه أعظم الأسماء وأحسنها وأكملها، وتدل على صفات عظيمة وجليلة لا يلحقها نقص له أبداً تبارك وتعالى.

    ومن أسمائه الحسنى تبارك وتعالى الرحمن، ومن صفاته العليا جل وعلا: الرحمة، وهذه السورة الكريمة التي بين أيديكم صدرها الله جل وعلا بقوله: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [الرحمن:1-9] إلى آخر ما ذكره الله من آيات عظيمة تدل على عظيم قدرته، وكمال رحمته، وجليل فضله تبارك وتعالى.

    والرحمن اسم من أسماء الله الحسنى، وبعض أسماء الله الحسنى قد يشترك معه المخلوق في إطلاقها عليه، مع الفارق بين إطلاقها على المخلوق وإطلاقها على الخالق، فيقال: إن الله رحيم، ويقال عن أحد الناس: إنه رحيم، كما قال الله جل وعلا في نعت نبينا صلى الله عليه وسلم: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].

    ويقال: فلان راحم، ويقال: إن الرب تبارك وتعالى راحم لخلقه، لكن الرحمن: اسم مختص بالرب تبارك وتعالى، فلا يسمى به ولا يطلق على أحد من خلقه أبداً.

    والرحمن يدل على كمال اتساع رحمته، وجليل فضله، وإحسانه تبارك وتعالى على خلقه، فقد أوجدهم من العدم، ورباهم بالنعم، وهداهم النجدين، وأبان الله لهم تبارك وتعالى معالم الحق والهدى، وأظهر لهم على الوجه الآخر معالم الضلالة والزيغ والفساد، قال الله جل وعلا: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10].

    أنواع الرحمة الإلهية

    وليس لرحمة الله جل وعلا حد تنتهي إليه، قال الرب تبارك وتعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف:156]، وهذه الرحمة العظيمة بها يعيش الخلائق أجمعون.

    ورحمة الله تبارك وتعالى منها ما هو عام ومنها ما هو خاص، فأما رحمته تبارك وتعالى العامة فهذه ينالها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، ومن مظاهر هذه الرحمة التي لا تختص بإيمان أو كفر إنزال الغيث، فإن الغيث وإنزاله من أعظم مظاهر رحمة الرب تبارك وتعالى، ويستفيد منه البر والفاجر، والمؤمن والكافر، والذكر والأنثى، والعربي والأعجمي، وغير ذلك مما هو معروف، قال الله جل وعلا عن الرياح التي تحمله: يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف:57]، وقال الله تبارك وتعالى عن النبت الذي ينبت والأرض عندما تخضر بعد نزول رحمته: فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى [الروم:50].

    ومن مظاهر رحمته تبارك وتعالى: إطعامه للجائع، وجاء في الحديث القدسي: (إني والجن والإنس في نبأ عظيم؛ خيري إليهم نازل وشرهم إلي صاعد، أتقرب إليهم بالنعم ويتقربون إلي بالمعاصي، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري).

    فنسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن يعبده وحده دون سواه، ويشكره تبارك وتعالى آناء الليل وأطراف النهار على فضله وإنعامه.

    وأما مظاهر رحمته الخاصة جل وعلا فهذه نصيب المؤمنين المتقين الذين يعرفون ربهم تبارك وتعالى، فتأتيهم رحمة الله الخاصة بهم، وهذه الرحمة واسعة الأرجاء، متعددة المظاهر.

    فمن مظاهر هذه الرحمة: ستره تبارك وتعالى على من يعصيه، وفي الحديث: (إن الله حيي ستير)، كما أن من مظاهر رحمته جل وعلا لعباده قبول التوبة، وقد جاء في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً؛ فاستغفروني أغفر لكم)، نستغفر الله العظيم ونتوب إليه.

    كما أن من مظاهر رحمته الخاصة توفيقه تبارك وتعالى لعباده للعمل الصالح والعلم النافع، فإن هذا من رحمة الرب جل وعلا لعبده.

    كما أن من رحمته ومعيته الخاصة لبعض عباده استجابته لدعائهم، وغوثهم عند النوازل، وقد ذكر الله جل وعلا جماً غفيراً ممن عبدوه ولجأوا إليه واستغاثوا به كيف أعطاهم، وأغاثهم وأعانهم، وأكرم سؤلهم جل وعلا، قال الله جل وعلا: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:83-88].

    فاختلفت حوائجهم ولم يختلف أنهم لا يسألون إلا الله، ثم قال جل وعلا: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:89-90]، وغير ذلك مما قصه الله في كتابه، فإن الناظر بعين البصيرة والإنصاف إلى ما حوله يرى من مظاهر رحمة الله جل وعلا بخلقه ما لا يمكن أن يحصى أو يعد، ورحمة الله جل وعلا أعظم مما تراه بعينك، فإن الله جل وعلا كتب كتاباً عنده فوق العرش: (إن رحمتي غلبت غضبي).

    وكان رجل من الصالحين يقال له: حاتم يسكن في خراسان، فكلما عزم على الحج خاف على بناته من بعده، فقالت له ابنته الكبرى: يا أبت! إنما الرازق الله فحج، فعزم على الحج، وترك الصغار في عهدة أختهم الكبرى فرعتهم، فلما أمسى الليل إذا بهم يتضاغون عند قدميها ويسألونها الطعام، ولم يكن في البيت شيء، فبينما هم على تلك الحال إذا بأمير يدخل القرية ويطرق الباب ومعه حشمه وخدمه وماله ويسألهم الماء فليس معه ماء، والماء يوجد في بيوت الأغنياء كما يوجد في بيوت الفقراء، فلما سألهم الماء أخرجوا له جرة ماء كانت عندهم، ولما شربها جال بطرفه في البيت فعرف رقة حالهم ومسكنتهم وفقرهم.

    فلما هم بالخروج أخرج لهم صرة فيها مئات الدنانير، فقالت المرأة العارفة بربها: هذا مخلوق نظر إلينا فاستغنينا، فكيف بنظر أرحم الراحمين إلينا؟ نسأل الله أن يكلنا وإياكم إلى رحمته.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (علم القرآن، خلق الإنسان)

    إن من أعظم رحمة الله: الهداية، ولما كانت الهداية لا تتم إلا بالوحي؛ لأنها لا بد أن تكون على بينة عن طريق الرسول، والرسول يكون موحى إليه، وأعظم الوحي الكتب السماوية، وأعظم الكتب السماوية القرآن، وقد ذكر الله بعد ذكره اسمه الكريم: الرَّحْمَنُ [الرحمن:1] أعظم رحمة أعطاها الله جل وعلا لخلقه فقال: عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن:2].

    فالقرآن أعظم رحمة موجودة في الأرض؛ لأن من سلك منهج القرآن قاده القرآن برحمة الله إلى جنات النعيم، ورضوان رب العالمين جل جلاله، وكان القرشيون يزعمون أن ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم وما يتلوه عليهم إنما هي أمور اكتتبها، قال الله حكاية عنهم: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان:5]، فأجابهم الله: قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الفرقان:6]، وهذه السورة -أي: سورة الرحمن- هي أحد الأجوبة على كفار قريش بأن القرآن من عند الله.

    فلذلك قال الله جل وعلا: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن:1-2]، وقد قلنا في درس سابق: إن النعم يمكن تقسيم أعلاها إلى قسمين: نعمة خلق وإيجاد، ونعمة هداية وإرشاد، ونعمة الهداية والإرشاد أعظم من نعمة الخلق والإيجاد؛ لأن نعمة الخلق والإيجاد يشترك فيها بنو آدم مع البهائم، فكلهم مخلوقون موجودون، لكن نعمة الهداية والإرشاد اختص الله بها المؤمنين المتقين الأصفياء الأولياء الصالحين من عباده.

    فهذه إنما خص الله جل وعلا بها بعضاً من خلقه من بني آدم، ولم تؤت لكل أحد، أسأل الله أن يثبتنا وإياكم على دينه.

    لذلك قال الرب جل وعلا: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن:1-2]، واتفق النحاة على أن (علم) تأخذ مفعولين، وقد ذكر الله جل وعلا أحدهما هنا، والصواب: أن المفعول المحذوف هو المفعول الأول، وأما تقديره فاختلف العلماء فيه، لكن أظهر الأقوال أن يقال: الرَّحْمَنُ [الرحمن:1]: علم نبيه القرآن.

    فيكون في هذا المعنى رد على من قال: إن محمداً جاء بالقرآن من عنده.

    وقلنا: إن هذا القرآن هو الطريق إلى جنة عدن، قال عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي)، وقال كما في صحيح مسلم : (تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي).

    فالمقصود من هذا: أن كتاب الله جل وعلا هو الطريق الوحيد إلى رضوان الله، وهو متضمن الأمر باتباع نبينا صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9].

    وهذه السورة تضمنت مواقف إيمانية عظيمة، نبدأ بها على هيئة قضايا كالآتي:

    القضية الأولى: تكرر في هذه السورة قول الرب جل وعلا: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13]، والمخاطب بهذه الآية الثقلان: الجن والأنس.

    وقد وردت هذه الآية مكررة في السورة نفسها (31) مرة، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم -كما روى الترمذي من حديث جابر رضي الله تعالى عنه- أنه لما: (خرج على الصحابة قرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فلما قضى سكتوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد قرأتها على إخوانكم من الجن فكانوا أحسن مردوداً منكم، قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟! قال: إنني لما قرأتها على الجن كنت كلما تلوت: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13] قال الجن: لا نكذب بأي من نعم ربنا، فلربنا الحمد)، فهذا الحديث حسنه الألباني رحمه الله في الصحيح الجامع، وقلت من قبل: رواه الترمذي من حديث جابر .

    والمقصود: أن فيه دلالة على أدب الجن مع ربهم تبارك وتعالى.

    إذاً من السنة أن الإنسان إذا تليت عليه هذه السورة في غير الصلاة أن يقول: ولا نكذب بأي من آلاء ربنا ولربنا الحمد، أو يقول ما يقرب من هذه العبارة.

    وهذه السورة -كما قلت- تزخر بالكثير من القضايا الإيمانية، أولها: معنى كلمة الرحمن، وقلنا: إنها مختصة بالرب تبارك وتعالى، ولا يصح إطلاقها على كل أحد.

    علة تقديم ذكر تعليم القرآن على الخلق

    قال الله تعالى: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ [الرحمن:1-3].

    تأمل أن الله قدم نعمة الهداية على نعمة الإيجاد، فلم يقل: الرَّحْمَنُ [الرحمن:1]، خلق الإنسان، علم القرآن؛ لأن نعمة الهداية والإرشاد -كما بينا مراراً- أعظم من نعمة الخلق والإيجاد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الشمس والقمر بحسبان)

    قال الله تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ [الرحمن:5]، الألف والنون زائدتان، والمعنى: بحساب متقن، وعلى ذلك جريانهما، قال الله جل وعلا: لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40]، وفي ذلك من المصالح الدنيوية والدينية ما الله به عليم، قال الله جل وعلا: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا [الإسراء:12].

    فبعد أن ذكر الله نعمة الإنسان وهدايته ذكر جل وعلا آلاءه وفضله، وما أعطاه للخلق؛ حتى يستدلوا بتلك الآيات على عظمة الرب جل وعلا، قال بعضهم:

    تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك

    عيون من لجين شاخصات على ورق هو الذهب السبيك

    على كثب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك

    فكل ما هو مخلوق فهو يدل على عظمة الخالق جل جلاله، يراه من يراه ويغيب عمن يغيب عنه.

    وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والنجم والشجر يسجدان)

    قال الله تعالى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ [الرحمن:6]، في هذه الآية مباحث:

    المبحث الأول: اختلف العلماء في المقصود بالنجم في هذه الآية على قولين: الأول: أن النجم قرين الشجر، فالشجر هو النبات الذي له ساق، والنجم هو النبات الذي لا ساق له، فيصبح المعنى: أن النبات الذي له ساق والنبات الذي ليس له ساق كلاهما يسجدان لله.

    والحجة لمن قال بهذا: هو أن الله عطف النجم على الشجر، والشجر بالاتفاق: هو النبات الذي له ساق، فكان النجم خلافه.

    القول الثاني: أن النجم هنا هو النجم المعروف، أي: الذي في السماء، قالوا: ووجه القران ما بين النجم والشجر: أن المزارعين الذين يزرعون الشجر إنما يزرعون توقيتاً على مطالع البروج والنجوم، فشيء يزرع في الخريف، شيء يزرع في الشتاء، وشيء يزرع في الصيف، بحسب أحوال كل زرع، وهذا أمر يعرفه المزارعون بالاتفاق، فقالوا: إن النجم هنا هو النجم الذي في السماء، ولهم حجة في القرآن: وهي أن الله جل وعلا ذكر السجود فقرن ما بين سجود النجم وسجود الشجر، وذلك في قوله جل وعلا في سورة الحج: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج:18].

    فقالوا: إن الله هنا أثبت في هذه الآية سجود النجم الذي في السماء، وسجود الشجر، وقالوا: هذه قرينة على أن المقصود بقول ربنا جل وعلا: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ [الرحمن:6]: النجم الذي في السماء. والله أعلم بالصواب.

    وقد سقنا كلا القولين اللذين قالهما العلماء، والذي يهمنا بصورة أكبر هو أن الله جل وعلا فطر الخلق على السجود له، والسجود للرب تبارك وتعالى من أعظم القربات، ومن يوم أن تلدك أمك إلى أن تحمل على النعش لن تكون في حال أنت فيها أقرب إلى الله من هيئتك وأنت ساجد، وقال عليه الصلاة والسلام: (أما السجود فأكثروا فيه من الدعاء)؛ لأن العبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (فقمن أن يستجاب لكم) أي: جدير أن يستجاب لكم.

    ومن كرامة السجود على الله أن حرم على النار أن تأكل من ابن آدم أعضاء السجود، وهذا إذا كان مؤمناً، والشفعاء يوم القيامة عندما يأتون ليخرجوا عصاة المؤمنين من النار بإذن الله يجدون أن النار قد أحرقت منهم كل شيء إلا مواضع السجود.

    وقد قال الله جل وعلا في سورة الرعد: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [الرعد:15]، وقال جل وعلا في سورة النحل: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [النحل:48-49].

    والمقصود من هذا: أن نبين مفهوم قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [الرعد:15]، وأن الكافر يسجد، ونحن نرى أنه لا يسجد، فتحمل الآية على أنه وإن لم يسجد بذاته فهو يسجد بظله.

    فكأن الله جل وعلا يقول للعلماء: إن الله يهب الظل -أي: ظل العبد- إدراكاً يسجد من خلاله، فإذا انتفى سجود الكافر ذاته فإن ظله يسجد لله تحقيقاً للآية.

    قال الله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا [الرعد:15] هذا سجود المؤمنين، وَكَرْهًا [الرعد:15] وهذا سجود الكافرين، وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [الرعد:15].

    والمقصود من هذا كله: عظيم فضيلة السجود في قوله تعالى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ [الرحمن:6].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والسماء رفعها ووضع الميزان ...)

    قال الله جل وعلا: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ * وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ [الرحمن:7-10].

    هذه دعوة للعدل بين العباد، والله جل وعلا حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرماً، ومن أعظم صفات المتقين: العدل، وقد قيل: بالعدل قامت السماوات والأرض، ولا يجوز للحاكم أن يظلم ويجور في رعيته، ولا يجوز للزوج ألا يعدل بين زوجاته، ولا يجوز للمعلم ألا يعدل بين طلابه، ولا يجوز للأب ألا يعدل بين أبنائه، ومن صفات من يخاف الله ويراقبه ويطمئن إلى الوقوف بين يديه أن يعدل فيما ولاه الله تبارك وتعالى عليه.

    ولهذا نهى الله عن الطغيان وعن الخسران، فقال جل وعلا: أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ [الرحمن:8] أي: لا تزد فيه إذا كان الكيل لك.

    ثم قال: وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [الرحمن:9] أي: لا تنقصوا منه إذا كان الكيل عليكم لغيركم، ولا تطغوا فيه إذا كان الكيل لكم.

    وكما يزن الإنسان في بيعه وشرائه فيجب أن يعدل في بيعه وشرائه، وأن يعدل حتى في قوله، فلا يقل ما يعلم أنه جور وظلم كغيبة أو نميمة أو قدح في الغير أو ما أشبه ذلك، فهذا كله من عدم إقامة العدل بين الناس، وفي ذات الإنسان نفسه، قال الله جل وعلا: فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152]، فالمؤمن الحق الذي يرجو ما عند الله يعدل في كل ما ولاه الله تبارك وتعالى إياه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والأرض وضعها للأنام ...)

    قال الله جل وعلا: وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ [الرحمن:10-11].

    هذا كله ذكر لبعض نعم الله تبارك وتعالى على عباده، وقد مر معنا كثير من هذا في سور سابقة.

    ثم قال جل وعلا: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ [الرحمن:19-20].

    المقصود: الأنهار والبحار، العذب والمالح، فلا يطغى بعضهما على بعض، أي: لا يختلطان، ففرق الله جل وعلا بين مجرى البحار ومجرى الأنهار.

    وهذا الذي ذكره الله في الرحمن بينه جل وعلا في سورة الفرقان، فقال تبارك وتعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا [الفرقان:53]، أي: مانعاً، وهذا كله من دلائل كمال قدرته ورحمته تبارك وتعالى لعباده.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (كل من عليها فان... والإكرام)

    ثم ذكر الله جل وعلا بعد ذلك القضية التي لا مفر منها وهي قضية الموت، وأن هؤلاء الخلق أجمعين كلهم يموت، كما قال تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، وكما قال سبحانه: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185].

    والله جل وعلا أذل بالموت القياصرة، والملوك، والأكاسرة، والأمراء، والأغنياء، والجبابرة، والفقراء، فلا يسلم فيما نعلم من الموت أحد؛ فقال الله جل وعلا: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].

    ولا ريب أن وجه ربنا تبارك وتعالى كما قلنا مراراً أعظم الوجوه وأكرمها، وقد نعت الله وجهه هنا جل وعلا بأنه ذو جلال إكرام، أي: هو جل وعلا أجل من أن يعصى وأكرم من أن يخالف، ولا يلجأ إلى ذلك إلا من غلبت عليه الضلالة، وظهرت عليه الشقاوة، وحاد عن صراط الله المستقيم، قال صلى الله عليه وسلم -فيما صح عنه-: (ألظوا -أي: الزموا- بيا ذا الجلال والإكرام) أي: في دعائكم، أكثروا من قول: يا ذا الجلال والإكرام.

    ووجه الله تبارك وتعالى يثبته أهل السنة على ما يليق بجلاله وعظمته، دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة، وهو مقصد المؤمنين ومبتغى عباد الله الصالحين، قال الله عن الأخيار من عباده: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [الإنسان:8-9]، وقال الله جل وعلا -يحث نبيه ويؤدبه-: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:28].

    ورؤية وجه الله الأكرم متحققة برحمة الله وإذنه للمؤمنين في جنة عدن كما قلنا مراراً، فالدنيا لا تطيب إلا بذكر الله ولا تطيب الآخرة إلا بعفوه، ولا تطيب الجنة إلا برؤية وجهه سبحانه، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم في الصحيح أنه قال عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا؟ ألم يبيض وجوهنا؟ ألم يدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟)، فيكشف الحجاب فيرون وجه ربهم تبارك وتعالى، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم هو أعظم ولا أجل من رؤية وجه الله، قال الله جل وعلا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22]، أي: أحاطت بها النضرة من كل مكان، ثم ذكر سبب أنها نضرة فقال: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23]، أي: تنظر بعينيها التي يعطيها الله التمكين آن ذاك أن ترى وجه العلي الأعلى جل جلاله، اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يسأله من في السماوات... شأن)

    ثم ذكر الرب جل وعلا بعد هذه القضية قضية أخرى وهي حقيقة العبودية، فقال سبحانه: يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29].

    فمن كمال ربوبيته، وكمال ألوهيته، وكمال أسمائه وصفاته أنه ما من عبد في السماء والأرض إلا وهو فقير إلى الله جل وعلا كل الفقر، ويسأل الله جل وعلا حوائجه ومقتضيات أمره، سواء كان يسألها بلسان حاله أو بلسان مقاله، فكل الناس فقراء إلى الله تبارك وتعالى.

    فترى الشاب لا يعرف المسجد ولا يعرف الصلاة، فإذا أراد أن يدخل قاعة الامتحان يجد نفسه دون أن يشعر مضطراً إلى أن يرفع بصره إلى السماء، ويرفع يديه إليها؛ لأنه يعلم بالفطرة أن هناك رباً، قال تعالى: يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29]، وفي قوله: (يسأله) إشارة إلى أهمية الدعاء، فهو من أعظم العبادة، قال عليه الصلاة والسلام: (الدعاء هو العبادة).

    فالإنسان الذي يكثر من دعاء الرب جل وعلا وحده، ويلجأ إليه في كل أمر يصير إليه، فهذا من دلائل كمال محبة الله ومعرفته جل وعلا، وكان موسى عليه السلام يستحيي أن يسأل الله بعض حاجته، فأوحى الرب جل وعلا إليه: يا موسى! سلني ملح عجينتك، يا موسى! سلني شسع نعلك، يا موسى! سلني وسلني. فإن الله جل وعلى يحب أن يسأله العبد، قال بعضهم:

    لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تغلق

    فالله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب

    فالمقصود: أن سؤال الرب جل وعلا من أعظم ما من الله به عليك، حتى جاء في الحديث: (أن الله يوحي إلى جبريل: يا جبريل! أخر حاجة عبدي؛ فإني أحب أن أسمع صوته) ومن ذلك السعيد الذي يحب الرب جل وعلا أن يسمع دعاءه، وخشوعه وتضرعه ومسكنته بين يدي ربه جل وعلا؟ فهذه من أعظم النعم وأجل العطايا، ولكن بني آدم طبعوا على العجل، وعلى حب الأشياء العاجلة، كما قال ربنا: خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء:37].

    ثم قال الله جل وعلا: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29] أي: يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويفك أسيراً، ويغني فقيراً، ويشفي مريضاً، ويطعم جائعاً، إلى غير ذلك مما لا يحصى، فيقيم دولاً ويذهب أخرى، ويقيم ملكاً وينزع آخر، ويفعل تبارك وتعالى ما يشاء، لكن قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29] الأحسن أن تفهمه بالإيمان وبالقضاء والقدر، فإن الرب جل وعلا في أمور يبديها لا في أمور يبتدئها.

    جاء الوليد بن عبادة إلى أبيه عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وعبادة في مرض الموت، فقال الابن لأبيه: يا أبت! أوصني واجتهد لي، أي: ابحث لي عن وصية عظيمة، فقال: يا بني! إنك لن تبلغ العلم، ولن تجد طعم الإيمان، ولن تعرف حقيقة العلم حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، قال: يا أبت! وكيف أدري خيره من شره؟ قال: يا بني! أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ثم قال: يا بني! إنني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله أول ما خلق القلم قال له: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة)، ثم قال له: يا بني! إنك إن مت على غير ذلك دخلت النار، أي: إن مت على غير الإيمان بالقدر خيره وشره.

    والرضا بقضاء الله خيره وشره من أعظم مناقب الصالحين، قال الله عنهم: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97]، فالحياة الطيبة مدارها على الرضا بقضاء الله تبارك وتعالى وقدره.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا معشر الجن والإنس...)

    قال تبارك وتعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ [الرحمن:33].

    هذه الآية ربما توسع العلماء فيها كثيراً، والصواب إن شاء الله في تفسيرها أن يقال: إن هذه الآية تتكلم عن أهوال يوم القيامة، وعن أهوال يوم الآخرة.

    وحتى تفقه معناها نقول: اعلم أن الناس يحشرون من القبور على أرض بيضاء نقية، فإذا كان ذلك تشققت السموات، قال الله جل وعلا: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا [الفرقان:25]، فإذا رأى الكفار تشقق السماء وتنزل الملائكة أحاط بهم الخوف، فإذا أحاط بهم الخوف فروا، فإذا فروا ورأوا الملائكة على الجانبين رجعوا على ما هم عليه.

    فالله يقول هنا: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا [الرحمن:33] أي: أن تخترقوا، مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا [الرحمن:33] أي: الأمر متروك لكم إن كانت لديكم قدرة على ذلك.

    ثم قال جل وعلا: لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ [الرحمن:33] أي: بقوة وقدرة تغلبون بها قهرنا وقدرتنا، ومعلوم أن هذا من تعليق الأمر بالمحال؛ لأنه لا أحد له قدرة على الله، ودليل هذا التفسير قول الله جل وعلا على لسان العبد الصالح مؤمن آل فرعون: وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ [غافر:32-33]، متى يولون مدبرين؟ في يوم التناد، مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [غافر:33]، فهذا من شواهد تفسير الآية كما قلناه.

    إذاً: فهذا من تعليق الأمر بالمحال.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان)

    قال الله جل وعلا: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن:39].

    وهنا يرد إشكال لطالب العلم ولمن يقرأ القرآن وهو أن الله قال في هذه السورة: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن:39]، وقال تبارك وتعالى في سورة أخرى: وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص:78]، فنفى تبارك وتعالى هنا السؤال، وأثبته في مواطن أخرى، فقال الله جل وعلا: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6]، وقال جل وعلا: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:24].

    وهذا وارد كثيراً في القرآن، قال الله تعالى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ [التكوير:8]، والجواب عن هذا علمياً أن يقال: قال بعض العلماء: إن القيامة مواطن ومواقف متعددة، فموطن يسأل فيه وآخر لا يسأل، وهذا وإن قال به بعض العلماء الأجلاء إلا أنه في ظننا بعيد.

    والصواب -إن شاء الله- أن يقال: إن السؤال قسمان: قسم أثبته الله، وقسم نفاه الله.

    فالقسم الذي أثبته الله هو سؤال التقريع والتوبيخ، أي: أن يسألوا لم فعلتم هذا؟ وأما السؤال المنفي في قوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن:39] فهو سؤال الاستعلام والاستفهام، أي: لا يسأل الناس: هل فعلتم أم لم تفعلوا؛ لأن الله أعلم بما فعل الناس من أنفسهم، قال الله عز وجل: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6].

    إذاً: تحرر من هذا أن هناك سؤالاً منفياً وسؤالاً مثبتاً، وقد يأتي على هذا الإشكال إشكال آخر، وهو أن يقال: إذا كان السؤال المثبت هو سؤال التقريع والتوبيخ، فكيف يسأل المرسلون؟ وكيف تسأل الموءودة؟

    فالجواب عن هذا أن يقال: إن سؤال الموءودة تقريع وتوبيخ لقاتلها، وسؤال الرسل تقريع وتوبيخ لأممهم الذين كذبوا بهم، وبهذا يجتمع ما جاء في القرآن من نفي السؤال وما جاء في القرآن من إثباته.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يعرف المجرمون بسيماهم...)

    قال الله جل وعلا بعد ذلك عن المجرمين: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ [الرحمن:41].

    أي: يعرفون بعلامات المجرمين ومنها زرقة العيون، كما قال الله جل وعلا: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [طه:102]، وهذا عند البلاغيين إيجاز حذف، ومعنى الآية: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ [طه:102] أي: أعينهم زرق، وهو كقول الله جل وعلا: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الإسراء:59]، فليس المقصود: أن الناقة ترى وتبصر، لكن المقصود والمعنى: وآتينا ثمود الناقة آية مبصرة، أي: آية واضحة، وهذا بعض ما يعرف به المجرمون.

    وأما المؤمنون فيعرفون بأثر الوضوء، أي: بالغر والتحجيل الناجم عن أثر الوضوء، وأنا أقول: بعض ما يعرف به الكفار وبعض ما يعرف به المؤمنون؛ لأن الآيات لم تأت على سبيل الحصر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه جنتان...)

    قال الله جل وعلا: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:46-47]، وهذه الآية مر معنا بعض تفسيرها لكن نفسرها إجمالاً:

    ذكر الله هنا أربع جنان وجعلهما قسمين، فقال في الأولى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، ثم قال بعدها: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ [الرحمن:62]، وهنا من دونهما يعني: أقل منهما، وليس في الجنة أقل، فيقال: أقل منهما ثم يقال تأدباً: وليس في الجنة أقل. ثم قال عن الأولى: ذَوَاتَا أَفْنَانٍ [الرحمن:48]، وقال عن الثانية: مُدْهَامَّتَانِ [الرحمن:64] أي: أنهما خضراوان تميلان إلى السواد، وأما ذَوَاتَا أَفْنَانٍ [الرحمن:48] فمعناها: أنهما متنوعتا الأفانين، والأفضل هي المتنوعة.

    ثم قال جل وعلا في الأولى: فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ [الرحمن:50]، وقال في الثانية: فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ [الرحمن:66]، وجري الماء أعظم من كونه ينضخ ويفور شيئاً يسيراً.

    وقال في الأولى: فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ [الرحمن:52]، وقال في الثانية جل وعلا: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن:68]، ففي الأولى أطلق وفي الثانية قيد.

    وقال جل وعلا في الثانية: فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ [الرحمن:70]، وقال في الأولى: مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ [الرحمن:54]، والجنى هو الثمار، وجان بمعنى: قريب، بحيث إن الإنسان لا يتكلف أي كلفة حتى يصل إليها، بل ورد أنه إذا قطفها جاءت أختها بدلاً منها، فلا يدري أهو قطفها أو لا، قال الله جل وعلا: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فيهن قاصرات الطرف...)

    ثم ذكر الله بعض ما من به على أهل الجنة فقال: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56].

    قوله تعالى: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ [الرحمن:56]، فأفضل خصلة في المرأة أن يكون طرفها مقصوراً على زوجها، فلا تتشوف إلى غيره من الرجال، وهذه أعظم خصلة في النساء، ولأنها أعظم خصلة في النساء فإنها يحبها الأزواج جميعاً، وجعلها الله جل وعلا أول نعت للحور العين فقال: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ [الرحمن:56] أي: تقصر طرفها وعينها ورؤيتها وتشوفها على زوجها فقط، ولا تتعداه إلى غيره.

    وقوله تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56] فيه إشارة واضحة إلى أن مؤمني الجن يدخلون الجنة.

    وفي الآية تحذير لما وقع فيه بعض النساء اليوم -عياذاً بالله- من كثرة النظر الناجم عن كثرة الخروج، إما نظر إلى الشاشات إذا كن بالبيوت، أو نظر إلى الرجال إذا كن في الأسواق، أو في دور الملاهي وما شابه ذلك، فهذا إثم ومعصية، وفي نفس الوقت هو منقصة في المرأة في حيائها وفي دينها، ومنقصة في تشوف الرجال إليها.

    فإن الرجل الحر الأبي عادة لا يمكن أن يتعلق قلبه بامرأة فيها هذا الوصف، ولو وافقها في زمن غفلته فإنه لا يمكن أن يقبلها في زمن أوبته ويقظته وإدراكه، وهذا ظاهر لكل من يعقل العلاقة بين الرجال والنساء.

    ثم قال جل وعلا في الأولى: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60].

    وهذه من قواعد القرآن، وقد أفرد لها العلامة ابن سعدي قاعدة خاصة في كتابه القواعد الحسان في فهم القرآن، وهو أن القرآن قد دل على أن الجزاء من جنس العمل.

    وفسر الإحسان هنا بأنه: لا إله إلا الله، وفسر بأنه كل عمل صالح، والأفضل أن يفسر بأن المقصود به الإيمان والعمل الصالح، فجزاؤه الإحسان من الله، وأعظم إحسان من الله هو الجنة، وأعظم ما في الجنة رؤية وجه رب العالمين تبارك وتعالى.

    ثم ختم الله جل وعلا هذه السورة الكريمة بقوله: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:78]، وقد مر معنا أن (تبارك) فعل جامد لا يتصرف، فلا يأتي منه مضارع ولا أمر، وأعظم ما فيه أنه لا يقال لغير الله، فلا يقال لأحد غير الله: (تبارك) كائناً من كان، فهو من الأفعال الخاصة بالتعامل بالنعت به للرب العظيم جل جلاه.

    ثم قال تعالى: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:78]، فبدأها الله باسم عظيم وهو: الرَّحْمَنُ [الرحمن:1]، وختمها بوصف عظيم وهو: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:78].

    هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، سائلين الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم العمل بما نقول.

    والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756564251