إسلام ويب

تفسير سورة الأحزاب - مقدمةللشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • سورة الأحزاب سورة مدنية، نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وسميت بالأحزاب لأنها ذكرت تحزب المشركين وتجمعهم على رسول الله، وقد ذكرت ما امتن الله عز وجل به على المؤمنين في هذه الغزوة، وأخبر الله عن المنافقين وما يلمزون به النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ونهت النبي صلى الله عليه وسلم عن طاعتهم وطاعة الكافرين المحاربين لله ورسوله، وذكر بعضاً من الأحكام المتعلقة بالنساء والإرشادات والآداب التي ينبغي فعلها والتحلي بها.

    1.   

    مقدمة عن سورة الأحزاب

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين:

    قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب:1-4].

    مكان النزول وسنته

    السورة الثالثة والثلاثون من كتاب الله رب العالمين هي سورة الأحزاب، وهي من السور المدنية بالاتفاق، وإن ذكروا في سنة نزولها قولين: أحدهما: أنها نزلت في سنة أربع من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر: في سنة خمس، وهذا هو الأرجح، فإنها نزلت في شأن الأحزاب وهي غزوة الخندق وكانت في شوال سنة خمس من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.

    سبب التسمية

    وسميت بالأحزاب؛ لأن أحزاب المشركين تجمعوا على النبي صلى الله عليه وسلم من قريش ومن معهم من الأحزاب وأتوا إلى المدينة، وكان عدد هؤلاء الأحزاب من قريش والأحابيش وكنانة وغطفان حوالي عشرة آلاف من المقاتلين، وكان عدد جيش المدينة لا يتجاوز الثلاثة آلاف.

    فكان الأحزاب ثلاثة أضعاف المسلمين، والمسلمون لم يكن لهم طاقة بقتال هؤلاء، لذلك كان الحل أن يستشير النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين، فكان في النهاية أن وصلوا إلى أن يحفروا خندقاً بينهم وبين المشركين فمن عبر إليهم عن طريق الخندق قاتلوه، وكان أمر الله سبحانه فلم يقاتل المسلمون إلا فرادى، وجاء النصر من عند الله سبحانه وتعالى، فقلب الجيش رأساً على عقب بأن أرسل عليهم الرياح فهرب الجيش كله خوفاً مما حدث، وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم هاجمهم، وكان النصر من عند الله سبحانه، لم يكن لأحد فيه بلاء ولا قتال إلا شيئاً يسيراً من أفراد المسلمين كـالزبير وغيره رضي الله تبارك وتعالى عنه.

    رقم السورة وعدد آياتها

    وهذه السورة في عداد نزول القرآن تعتبر السورة التسعين، وفي عد المصحف هي السورة الثالثة والثلاثون، وذكروا أنها نزلت بعد سورة آل عمران وقيل: نزلت بعد سورة الأنفال، ونزلت قبل سورة المائدة.

    وعدد آيات هذه السورة ثلاث وسبعون آية أيضاً اتفاقاً، فليس هناك خلاف بين أهل العد، وإن كانت هذه السورة لما نزلت كان عددها أكثر من ذلك، ونسخ منها ما شاء الله سبحانه وتعالى، ولذلك جاء في حديث في مسند الإمام أحمد أن زر بن حبيش قال: قال لي أبي بن كعب : كأين تعدون سورة الأحزاب، أي: تعدون هذه السورة كم آية؟ قال: قلت: نعدها ثلاثاً وسبعين آية، قال: فوالذي يحلف به إن كانت لتعدل سورة البقرة، ولقد قرأنا فيها: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم)، فرفع فيما رفع.

    1.   

    النسخ في القرآن

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين:

    قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب:1-4].

    وقوع النسخ في القرآن

    فالغرض أن هذه السورة من السور التي نسخت منها آيات وكانت سورة كبيرة، والله عز وجل ينسخ بمعنى: يرفع، فهو إما أن يرفع الآية تلاوة وحكماً، وإما أن يرفعها تلاوة فقط ويبقى الحكم، وإما أن يرفعها حكماً فقط وتبقى التلاوة.

    فالله عز وجل ينسخ ما يشاء سبحانه، وقد ذكر في سورة البقرة: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:106]، فالله على كل شيء قدير.

    فيأتي بأحكام للعباد، ويبتلي عباده بآياته وأحكامه سبحانه وتعالى أيؤمنون أم يكفرون؟ وجههم إلى الكعبة بعد أن كانوا متوجهين إلى بيت المقدس، فكان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يصلي إلى الكعبة متوجهاً إلى بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة لم ينفع هذا الأمر، فهو إما أن يتوجه إلى الكعبة، وإما إلى بيت المقدس، فتوجه إلى بيت المقدس وظل على ذلك ثمانية عشر شهراً أو نحوها.

    وبعد ذلك إذا بالله عز وجل يوجهه إلى الكعبة كما قال تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]، فإذا بالمنافقين واليهود يقولون: إما أنه كان على الصواب فتغير إلى الخطأ، وإما أنه كان على الخطأ فتغير إلى الصواب، وفي كلا الحالتين كان مخطئاً في ما يفعل، وهذا التشكيك لإلقاء الشك في قلوب المؤمنين.

    والنبي صلوات الله وسلامه عليه على الحق دائماً، فما ينطق عن الهوى، ولا يفعل شيئاً من تلقاء نفسه، ولكن بأمر الله سبحانه وتعالى، ولذلك كذبهم الله عز وجل فيما قالوا وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]، وسواء وجهكم إلى المشرق أو إلى المغرب فالله عز وجل له أن يوجه إلى ما يشاء، وطالما أنتم مطيعون لله عز وجل في توجهكم فأنتم على الحق وأنتم على عبادته سبحانه وتعالى.

    وكذلك في إنزاله القرآن، فإنه ينزل آيات بغرض معين ثم بعد ذلك إما أن يستمر الحكم فيها، وإما أن ينسخه الله عز وجل لحكمة عنده، وقد تعلم هذه الحكمة لنا أو تخفى عنا.

    ولذلك لما أراد الله أن يحرم الخمر إذا به يتدرج مع الناس في تحريمها، فعرفنا الحكمة وهي أنه لو أمر مرة واحدة بترك الخمر لما تركها الناس، ولكن الله عز وجل بدأ يشير إلى أن الخمر فيها مفاسد وأن فيها إثماً، وأن فيها إذهاباً لعقل الإنسان، ولهواً عن الصلاة.

    فنهاهم أن يقربوا الصلاة وهم سكارى بقوله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء:43]، ثم يتدرج معهم عن الخمر والميسر فيقول: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، ثم يأتي التحريم القاطع على ذلك بقوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90].

    فهنا تدرج مع العباد، فلما أنزل آيات فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (إني أرى الله يشير بتحريم الخمر أو يعرض بتحريمها، فمن كان عنده شيء منها فليتخلص منها ببيع ونحوه)، أو كما ذكر صلوات الله وسلامه عليه.

    فهنا الإشارات في الآيات الأول، وفيها تعريض للمسلمين بأن الخمر ستحرم، وتنبيه بأن لا يضع أحد ماله في الخمر فتدرج معهم شيئاً فشيئاً فقال، (فمن كان عنده شيء منها)، وهذا في وقت لم يحرمها الله عز وجل، فإذا بالرجل منهم يبيعها ويتخلص منها.

    ومن بقيت عنده بقايا منها إذا به تنزل عليه آيات التحريم فيتخلص منها فوراً؛ لأنها صارت محرمة.

    الحكمة من النسخ

    والغرض أن النسخ له حكمة من الله عز وجل، منها التدريج في التشريع كما هنا، ومنها أن الله عز وجل يختبر عباده هل يطيعونه أم أنهم يتشككون ويرتابون في الدين؟ فإذا به ينسخ أشياء سبحانه وتعالى، ويبقيها في كتابه مثل عدة المرأة التي توفى عنها زوجها فذكر الله عز وجل حكمها بقوله: مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240]، أي: أن المرأة تمكث في بيتها معتدة حولاً كاملاً.

    ثم خفف الله سبحانه وتعالى ذلك وقال: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، فحكمة النسخ هنا هي التخفيف.

    وقد يكون من الحكم فيها التثقيل وذلك بأن يشدد على العباد بشيء، أو التثقيل مع التخفيف مثل أمره بالصيام، فإن أول ما فرض الصيام على العباد كان من العشاء إلى غروب شمس اليوم الثاني، أي: يصومون ثلاثة وعشرين ساعة في اليوم أو نحو ذلك فهذا كان ثقيلاً عليهم، ولكن مع هذا التثقيل جعل تخفيفاً وهو أنه من شاء أن يصوم فليصم، ومن أراد الفطر فله ذلك لكن بشرط أن يطعم مسكيناً بدلاً عن ذلك اليوم، كما قال تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184]، فلهم أن يصوموا ولهم أن يفطروا ولكن يطعمون مسكيناً مكان إفطارهم.

    فهنا تثقيل في شيء وتخفيف في شيء آخر، ثم نسخ بعد ذلك بالأمر بالصيام، فكان فيه شيء من التخفيف وشيء من التثقيل إذ لابد أن تصوم، كما قال تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، وخفف في شيء آخر وهو قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187].

    فجعل هنا تخفيفاً وهو الصيام من الفجر إلى غروب الشمس، فقد كان فيه تثقيل فنسخ الأثقل بالأخف، وكان هناك تخفيف من ناحية التخيير فنسخ الأخف بالأثقل والله يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى.

    ومن الحكم أيضاً ابتلاء العباد؛ لأن العبد مخلوق ليطيع الله تبارك وتعالى، فإذا أمر بطاعة فلابد أن يجعل له اختياراً؛ لينظر هل يختار الطاعة أم أنه يأنف من ذلك ويرفض ويستكبر ويترك طاعة الله سبحانه وتعالى؟ ومن ذلك ما نسخ من آيات كاملة وإن بقي من أحكامها، وذلك مثل نسخ الآية التي كانت في سورة الأحزاب وهي: ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم )، فقد كانت آية في سورة الأحزاب ثم نسخت تلاوة وبقيت حكماً.

    فرفع الله عز وجل تلاوتها، لكن أبقى حكمها وهو أن الإنسان إذا كان محصناً أي: متزوجاً سواء كان صغيراً أو كبيراً ووقع في الزنا فعليه الرجم، والآية ذكرت الشيخ والشيخة، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم جارية حتى فيمن هم دون ذلك فرجم ماعزاً ، ورجم الغامدية اللذين زنيا.

    فالغرض أن الله سبحانه وتعالى قد ينسخ الآية تلاوة ويبقي حكمها، فهذه السورة من السور التي كانت آياتها أكثر من ذلك فرفع الله عز وجل ما شاء منها وبقيت هذه الآيات الثلاث والسبعون محكمة، وأمر الله عز وجل فيها بما شاء.

    1.   

    ما اشتملت عليه سورة الأحزاب

    أغراض السورة يعني: ما أشارت إليه هذه السورة من أولها إلى آخرها:

    يذكر الله سبحانه وتعالى في أولها قوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الأحزاب:1].

    وهذه السورة ترد على الكفار والمنافق، فهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فالله عز وجل حذره أن يطيع هؤلاء الكافرين والمنافقين، وكان من اعتراضهم على النبي صلى الله عليه وسلم أنه كيف يتزوج بـزينب بنت جحش وهي ابنة عمه، وكان قد زوجها مولاه زيد بن حارثة ، وزيد بن حارثة كان حراً في البداية، ولكن خطفه بعض العرب من أهله، ثم باعوه، فوصل إلى خديجة بنت خويلد ثم وهبته للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه النبي صلى الله عليه وسلم وتبناه عليه الصلاة والسلام.

    فصار ابناً للنبي صلى الله عليه وسلم على ما كان عليه أمر العرب الأول، ولما تبناه وأحبه النبي صلى الله عليه وسلم شرفه بأن جعله يتزوج ابنة عمه وهي السيدة زينب بنت جحش ، وهي شريفة من آل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مرتبته أنه كان عبداً، فأنفت من ذلك، ولهذا لم تدم العشرة بينهما، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه زيد ويريد أن يفارقها ويريد أن يطلقها، فيقول له: اتق الله واصبر كما حكى الله أنه كان يقول: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:37]، حتى أخبره ربه سبحانه أن زيداً لن يعيش معها، بل سيفارقها وستتزوجها أنت يوماً من الأيام، فإذا به يستحيي صلوات الله وسلامه عليه، فيأتيه زيد ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أريد أن أفارقها، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يستحيي فيقول: اتق الله وأمسك عليك زوجك.

    فإذا بالله عز وجل يعاتبه في ذلك ويقول: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [الأحزاب:37].

    والنبي صلى الله عليه وسلم مستحيل أن يخفي شيئاً من كتاب الله أو من شرع الله سبحانه، فإذا كان في هذا الأمر البسيط الذي انبنى على حيائه صلى الله عليه وسلم حيث كان يقول: اتق الله وأمسك عليك زوجك.

    فقد كان في خاطر النبي أنه إن طلقها تزوجتها كما أمر الله، وليس بلازم علي أن آمره بطلاقها، فهذا ما كان يجول في خاطره، فإذا بالله يعاتبه ويقول: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ [الأحزاب:37]، فمهما أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم فالله يبديه سبحانه، ولم يكن ليخفي شيئاً أبداً صلوات الله وسلامه عليه من شرع الله وقد قال له ربه: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67].

    فهنا لما طلقها زيد إذا بها تصير شيئاً كبيراً في نظره، فبعد أن طلقها صار يهابها، ويعلم أنها لا تليق إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا تليق بـزيد ، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وصارت أماً للمؤمنين بما فيهم زيد الذي كان زوجاً لها في يوم من الأيام.

    وإذا بالمنافقين يتكلمون في هذا الشيء، ويقولون: كيف يتزوج زوجة ابنه؟ وهو يقول لنا: الرجل يحرم عليه أن يتزوج زوجة ابنه، فإذا بالله عز وجل يكذبهم في ذلك، ويخبر أن هذا ليس ابناً على الحقيقة، وكذلك كل من ادعيتموه من أولاد ليسوا أبناءكم، بل قال الله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب:5]، وإذا بالله عز وجل يشرع أنه لا يجوز التبني.

    فيجوز أن تكفل اليتيم، وتربيه، أما أن تتبناه ويصير ابناً لك فلا يجوز ذلك، وهذا الأمر أمر عصيب على إنسان جربه، فلو أن إنساناً أخذ طفلاً من ملجأ ونسبه إلى نفسه ورباه فترة طويلة إلى أن كبر وصارت بينهما علاقة، وشفقة، فإنه يصعب عليه أن يقول له: لست ابني.

    فلو أن الله عز وجل أنزل للناس هذا الحكم لكان يصعب عليهم تطبيقه، فإذا بالله ينزله أول مرة في النبي صلى الله عليه وسلم حتى نقتدي به، فإذا بالناس منهم من يقول: أأحب هذا أكثر من حب النبي صلى الله عليه وسلم لـزيد ؟ لا يكون أبداً، وهل هو متعلق بي أكثر من تعلق زيد بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ لا يمكن أن يكون هذا الشيء، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يأمره ربه أن فارق هذا؛ فإنه ليس ابناً لك، ولكن ادعه لأبيه، فإذا به بعد أن كان اسمه زيد بن محمد عليه الصلاة والسلام يعود إلى اسمه الأول زيد بن حارثة .

    أما كونه كان حبيباً للنبي صلى الله عليه وسلم فهذا لم ينقطع، إذ هو حبيب للنبي صلى الله عليه وسلم، وابنه أسامة بن زيد حبيب للنبي صلوات الله وسلامه عليه أيضاً.

    إذاً: من أغراض هذه السورة تحريم التبني، وبدأ الله عز وجل بنبيه صلى الله عليه وسلم في ذلك.

    ومن أغراضها: أنه يجوز لمن كان قد تبنى إنساناً أن يتزوج زوجة متبناه إن طلقها؛ لأنه ليس حماً لها على الحقيقة.

    ومن أحكام هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى يخبرنا أن الحق في قوله، وأنه العليم الخبير بأعمال العباد سبحانه، يقول تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:11]، ويقول تعالى: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:234]، ويقول تعالى: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب:4].

    فمهما قلتم من شيء عارض كلام الله فكلام الله الحق وكلامكم الباطل، فخذوا بكلام الله سبحانه وتعالى.

    ومن أغراض هذه السورة التنبيه على ولاية النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين، بقوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:6]، أي: حتى من أنفسهم، فإذا اختار الإنسان لنفسه شيئاً، واختار له النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً آخر فليأخذ هذا الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أولى به من نفسه.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767364564