إسلام ويب

كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [8]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • اتفق الأئمة الأربعة على وجوب الزكاة في الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر، واختلفوا فيما عدا ذلك كالخضروات والفواكه، وبعضهم قاس على الأصناف الأربعة ما شاركها في العلة والأوصاف كالأرز ونحوه، وقد فصل الشيخ سبب الخلاف وذكر الأدلة، كما تطرق إلى عملية الخرص وما فيها من حكم وفوائد للمالك والمسكين.

    1.   

    ما يزكى مما تنبت الأرض

    باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [ عن أبي موسى الأشعري ومعاذ رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهما: (لا تأخذا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة: الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر) رواه الطبراني والحاكم ].

    أيها الإخوة الكرام! إن مباحث الأموال الزكوية تتسع فروعها وجزئياتها في كتب الفقه ما لا تتسع في كتب الحديث.

    ونذكر الإخوة بما تقدم في أوائل هذا الباب المبارك: أن المسلمين أجمعوا على أجناس أربعة هي محل الزكاة: بهيمة الأنعام، والنقدان: الذهب والفضة، وعروض التجارة، وما تنبته الأرض، فهذه الأجناس الأربعة هي محل الزكاة، ثم اختلفوا في تلك الأصول الأربعة في بعض أفرادها، فمثلاً: بهيمة الأنعام اختلفوا منها في زكاة الخيل، فقال به الإمام أبو حنيفة رحمه الله، ولم يقل به الجمهور.

    وفي الذهب والفضة اختلفوا في الحلي، أي: المصنوع والمستعمل، فأوجبه فيه أبو حنيفة رحمه الله ولم يوجبه غيره على خلاف عند الشافعي وأحمد ، ولم يوجبها مالك قولاً واحداً.

    وعروض التجارة من قال بها قال بالعموم، ومن لم يقل بها فلا كلام معه.

    الاتفاق على أربعة أصناف زكوية مما تنبت الأرض

    واختلفوا فيما تنبته الأرض؛ فأجمعوا على هذه الأصناف الأربعة: الشعير، والبر، والزبيب، والتمر، واختلفوا فيما عدا هذه الأربعة، وهذا الحديث هو الأصل في هذه القضية.

    يقول المؤلف رحمه الله: (عن أبي موسى ومعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهما)، أي: عندما بعثهما إلى اليمن، وكانوا قضاة وأمراء، وجباة زكاة وجزية، وكان لكلٍ مخلاف يعمل فيه، ومعاذ رضي الله تعالى عنه كان يطوف في اليمن بأقسامها كلها إلى حضرموت يعلم ويقضي، وهنا محل التعليم له حاجة، فإنه أرسلهما جباة للزكاة والجزية فعلمهما مما يأخذون الزكاة فقال: (لا تأخذا الصدقة إلا ..) وهذا الأسلوب في العربية يسمى أسلوب الحصر بالنفي والإثبات، كما قالوا في كلمة الشهادة: لا إله إلا الله، فحصرت الألوهية في الله سبحانه وتعالى.

    والحصر يكون حقيقياً ويكون ادعائياً تقديرياً، أي: نسبياً، فتقول: لا شاعر إلا حسان ، فحصرت الشعر في حسان ، وهل لا يوجد شعراء سوى حسان ؟ يوجد ابن رواحة وغيره من الذين ناصروا الإسلام، ويوجد غيرهم من شعراء الجاهلية، فيكون هذا حصراً نسبياً، أي: لا شاعر إلا حسان بالنسبة لخدمته للدعوة الإسلامية.

    وهنا: (لا تأخذا في الصدقة إلا من ..) معنى هذا: ما بعد إلا هو المحصور فيه أمر الصدقة.

    وإلى هنا يتفق الجمهور بصفة عامة -وكما قيل إجماع الأمة- على أن هذه المسميات الأربعة زكوية: الشعير، والبر أو الحنطة أو القمح، والزبيب، والتمر، وما عدا ذلك فهناك فواكه تشاكل الزبيب والتمر.

    اختلاف العلماء في إلحاق أصناف أخرى بالأربعة المتفق عليها

    هناك حبوب تشاكل الشعير والبر، فهل يا ترى يؤخذ من تلك الأصناف التي خرجت عن النص قياساً على المنصوص هنا، أم لا؟

    فنجد في هذه المسألة بالذات أن العلماء فيها على طرفي الوادي، ولا نقول: على طرفي نقيض:

    فمن العلماء -من غير المذاهب الأربعة- من وقف عند هذه الأصناف الأربعة فقال: لا زكاة في شيء إلا فيما حصرها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وهناك من توسع وقال: كل ما أنبتت الأرض فيه زكاة، وهو أبو حنيفة .

    فالذي قال بهذا القول المتوسع هو الإمام أبو حنيفة رحمه الله، وصاحباه محمد وأبو يوسف مع الجمهور، فـأبو حنيفة رحمه الله قال: كل ما أنبتت الأرض ففيه زكاة إلا الحطب والقصب، ومثل ذلك التبن ونحوه، فهذه لا زكاة فيها عنده، وما بقي من خضروات وبقول وحبوب ففيه الزكاة، وعن الشافعي وأحمد روايتان فيما عدا الأربعة الأصناف.

    إذاً: أجمع العلماء على أن الأصناف الأربعة زكوية، وهناك من قال: كل ما أنبتت الأرض ففيه زكاة، وهناك من توسط، ومن هذا التوسط أن الأئمة الثلاثة مالكاً والشافعي وأحمد أخرجوا جميع الفواكه: الرمان والخوخ والتفاح والموز والمشمش وغيرها.

    فنجد الذرة والعدس والأرز واللوبيا، والفاصوليا والبزاليا، وأشياء عديدة كلها مأكولات.

    علة الزكاة فيما تنبت الأرض

    هل الأصناف الأربعة التي أوجب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة أوجبها لأعيانها وذواتها أم أنه أوجب الزكاة فيها لعلة موجودة تخصها؟

    فالجمهور على أنه أوجب الزكاة فيها لعلة موجودة فيها، فلو قلنا: إن العلة المشتركة بين هذه الأصناف الأربعة أنها مما تنبت الأرض، فكذلك الخضروات والفواكه، فإنها مما تنبت الأرض.

    وإن قلنا: العلة كونها تجفف وتدخر، فهناك الأرز يجفف ويدخر.

    فقالوا: العلة الجامعة بين هذه الأصناف الأربعة كونها قوتاً، والقوت تدفع به الحاجة، وهو القدر المشترك في الإرفاق بين الغني والفقير، إذاً: وجبت الزكاة في هذه الأصناف الأربعة لكونها قوت العباد.

    فإذا كانت العلة الاقتيات فإننا ندخل الأصناف التي تشترك في علة القوت، فالجمهور -خلافاً للشافعي وأحمد في رواية- قالوا: كل ما أنبتت الأرض من حب مكيل مدخر فوق خمسة أوسق، أو مكيل يوزن ومدخر، ففيه الزكاة؛ لأن التمر والزبيب والشعير والبر يخزن في المخازن والبيوت ويدخر، وكان قوتاً؛ فالتمر والشعير والبر قوت، وهل الزبيب قوت مثل التمر أم لا؟

    قد يدخل في ذلك وقد لا يدخل، فإذا وجدنا من الحبوب ما يشارك الأصناف الأربعة في العلة ألحقناه بها، فجئنا ووجدنا الذرة تشارك -وفي بعض الروايات ذكرت الذرة ولكن السند ضعيف- الأصناف الأربعة في علة كونها مدخراً، ومكيلاً، وقوتاً، وجئنا إلى الأرز فوجدناه اليوم مقدماً على البر والشعير، وأصبح من عامة أغذية الناس.

    إذاً: هل نزكي عن الشعير الذي أصبح الآن علفاً للحيوانات ونترك الأرز الذي هو عمدة طعام البشر؟!

    ثم وجدنا العدس إداماً وليس قوتاً، وكذلك اللوبيا، فهنا يقولون: ما لم يكن قوتاً وكان إداماً أو دواء فلا زكاة فيه؛ لأن الأصناف الأربعة اجتمعت على علة الادخار والاقتيات، فما كان دواءاً للخصوصيات فقد خرج عن كونه قوتاً لأنه لم يشتمل على الأوصاف الثلاثة: الكيل، والادخار، والقوت.

    وما كان دواء مثل: الكمون، والكراوية، والينسول، وكذلك الحبة السوداء فهي دواء، فإنها خرجت عن كونها قوتاً وإن كانت مكيلة ومدخرة، فقالوا: ما لم يكن قوتاً مدخراً مكيلاً، فلا نلحقه بالأصناف الأربعة؛ لأنه من شرط المقيس أن يتفق في أوصافة مع المقيس عليه، فإذا نقص من أوصافه شيء نكون قد قسنا شيئاً على شيء أكبر منه، فيكون ناقص الوصف.

    إلى هنا وبصفة إجمالية: هذه الأصناف الأربعة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لـمعاذ ولـأبي موسى عند إرسالهما إلى اليمن موضع إجماع، وحصل الخلاف فيما عداها.

    ما لم تتحقق فيه أوصاف العلة كلها من المأكولات

    وننتقل إلى ما كان مكيلاً ولا يدخر، وما كان مكيلاً مدخراً وليس قوتاً، مثل الفواكه: فالفواكه ليست مكيلة ولا مدخرة، فإذا جففت صارت مكيلة مدخرة، ولكن لا تكون قوتاً.

    كذلك وجدنا التين غير مدخر وكما يقول بعض العلماء: إن مالكاً ينص على أن التين والتفاح والرمان والخوخ لا زكاة فيه، فقال قائل: لأن التين لم يكن يجفف في بلد مالك ، ولو علم أن أنه يجفف لقال به، يا سبحان الله! هو ما يجفف هنا ولكنه يأتي مجففاً من الشام؛ لأن تجارة الشام كانت تأتي إلى المدينة وفيها التين والمشمش مجففاً.

    وعلى هذا: من أدخل التين في القوت يقول: ألحقوه بالزبيب، ومن أخرجه عن نطاق القوت جعله مع بقية الفواكه، وهكذا...

    ثم جاءت الآثار عن السلف مختلفة، منها المرسل، ومنها المرفوع، ومنها المنقطع، وقد ناقشها العلماء مناقشة كافية، وأنصح كل طالب علم يريد تحقيق هذه المسألة أو يقف على ما قيل فيها من كتب التفسير أن يقرأ كتاب القرطبي ، ومن كتب الفقه المجموع للنووي ، والمغني لـابن قدامة ، وبداية المجتهد لـابن رشد ، فهذه الكتب إن شاء الله ستكفي طالب العلم فيما أوردوا فيها رحمهم الله من الخلاف والنقاش لما تجب فيه الزكاة أو لا تجب بعد هذه الأصناف الأربعة.

    والعمدة في ذلك: هل الزكاة في تلك الأصناف الأربعة لذواتها ومسمياتها أو لعلة فيها؟ قال ابن رشد: أما لذواتها فهذا وصف طردي، إذاً: الأرجح أن تكون لعلة فيها، فما هي العلة؟

    قالوا: أن تجتمع فيها ثلاث صفات: الكيل، والادخار، والاقتيات، فما ساواها في هذه الصفات الثلاث ألحق بها قياساً، وما لم يساوها في ذلك أخرج عنها، ولا يصح القياس فيها.

    وأجمعوا على أن الفاكهة والخضروات لا تدخر وليست قوتاً.

    زكاة ثمن الخضروات والفواكه إذا حال عليها الحول

    ثم بعد هذا إذا حصل على ثمن للخضروات أو على ثمن للفواكه، فإن النص جاء عن السلف بأن قيمة الخضروات والفواكه تزكى، كما تقدم معنا عن عثمان وعمر رضي الله تعالى عنهما لما كتب إليهما عمالهما في الطائف، وذكروا لهما الفواكه والخضروات، وأنها أكثر من النخيل في المدينة، فقال عثمان رضي الله عنه وأرضاه: (لقد كانت المقاشي بالمدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عهد الشيخين -يعني: أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما- ولم يكونوا يأخذون منهم الصدقة فلا صدقة فيها، ولكن انظر ما باعوا منها فخذ الزكاة في أثمانها إذا بلغت النصاب وحال عليها الحول).

    من العجيب أن القرطبي رحمه الله يقول: قال فلان في تفسيره: إن القائلين بالزكاة في الفواكه والخضروات هم أهل الكوفة، ومعلوم أن الكوفة ما أنشئت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أنشئت في خلافة عمر ، فليس من المعقول أن يوجد تشريع في الكوفة لهذه الأصناف لم يكن موجوداً بالمدينة في عهد رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وليس بمعقول أن تكون معطلة من الزكاة زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ثم توجد عند أهل الكوفة؛ من أين جاءوا بها؟ وهذا كلام في الواقع له ثقله ووزنه.

    إذاً: لم يكن في عهد رسول الله ولا في عهد أبي بكر ولا في عهد عمر أخذ الصدقة من الفاكهة والخضروات، وعلى هذا اتفق العلماء حتى كان شبه إجماع ما عدا الخلاف المذكور عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله. ونحن نعلم جميعاً بأنه لا يأتي إمام بقول يخالف فيه الأئمة من هواه، أو من رأسه، وإنما يكون الخلاف بينهم في فهم لنصين تعارضا عندهم، والنصان المتعارضان ما قدمناه (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة)، والحديث الآخر: (فيما سقت السماء العشر)، و(ما) موصولة أي: في الذي سقته السماء.

    دليل الحنفية على إيجاب الزكاة في كل خارج من الأرض والرد عليهم

    والقرطبي رحمه الله يسوق نقاشاً لطيفاً في قوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا .. [الأنعام:141]، فيقول: بعض الأحناف تمسكوا بعموم (معروشات) فالعنب يقوم على عريش (وغير معروشات): النخل والأشجار الأخرى (والنخل والرمان والزيتون ..، كل هذه..) كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ [الأنعام:141]، (ثمره): الضمير راجع لكل المذكورات من معروشات وغير معروشات، وإلى الزرع والنخيل والرمان والزيتون ...إلى آخره.

    (وآتوا حقه): الضمير في (حقه) راجع أيضاً إلى جميع المذكورات، وهذا مما استدل به أيضاً أبو حنيفة رحمه الله، ولكنه يجيب عن ذلك ويقول: إن هذا الحق غير فريضة الزكاة، وكان في هذه الأنواع حق قبل فرض الزكاة، كما في الحديث: (في المال حقٌ سوى الزكاة)، قالوا: إذا حضر الجذاذ فأعطه، وإذا حضر الحصاد فأعطه، ثم إذا حصدت وذريت وكلت ووسقت فأخرج الزكاة المفروضة في الموسق، فيجيبون على أن حقه هنا للنافلة وليس للفريضة.

    ويبدو لي والله تعالى أعلم: أن هذا له نظير، وذلك لما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الحديث الطويل: (ما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها في قاع قرقر فتطؤه بخفافها، وتعظه بأنيابها حتى يقضى بين الخلائق، ثم يرى مصيره إما إلى جنة وإما إلى نار، وما من صاحب بقر.. وما من صاحب غنم.. فقالوا: والخيل يا رسول الله؟! قال: الخيل ثلاثة: ..-وذكرها- ثم قال: ولم ينس حق الله فيها) فقالوا: حق الله في الخيل ليست زكاة، ولكن أن يركب المنقطع، وأن يطلق الفحل على فرس غيره، وأن يساعد بها المسكين أو غير ذلك من باب التطوع.

    (قالوا: والحمر؟ قال:لم ينزل علي فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه [الزلزلة:7]).

    فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم الحق في الخيل ليس فرض الزكاة، وقد ذكرنا الخلاف في زكاة الخيل.

    فقوله: (ولم ينس حق الله فيها) بإجماعهم أنها ليست الزكاة، إذاً: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141] إنما هو من باب النافلة وليس من باب الفريضة، والنقاش طويل في هذه الآية الكريمة ساقه الإمام القرطبي في تفسيره.

    إذاً: هذه الأصناف الأربعة مجمع على أنها زكوية، ومختلف فيما عداها، فالذي قال بجميع ما أنبتت الأرض الإمام أبو حنيفة رحمه الله، وأما صاحباه محمد وأبو يوسف فمع الجمهور.

    ثم أحمد يعجب الزكاة في كل موسق مدخر ولو لم يكن قوتاً، وعند الشافعي ومالك: ما كان بضميمة كونه قوتاً، وأما ما كان دواءً أو فاكهةً أو غير قوت فليس داخلاً في الزكاة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

    الدليل على سقوط الزكاة عن الخضروات ونحوها

    قال المؤلف: [وللدارقطني عن معاذ رضي الله تعالى عنه قال: ( فأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب، فقد عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم )، وإسناده ضعيف].

    المؤلف رحمه الله يعلم بأن هذا الأثر ضعيف، فـمعاذ يأتي وكأنه يقول: أمرنا أن لا نأخذ الصدقة إلا من الأصناف الأربعة، وكأن هناك سؤالاً مقدراً: وما عدا تلك الأصناف مما تنبت الأرض ما حكمه؟ فقال: (أما القثاء والبطيخ والقصب..).

    فالقثاء يلحق به الخيار، والبطيخ يلحق به الشمام والدباء وقصب السكر.

    قوله: (فقد عفا عنه رسول الله) معاذ ذكر أنواع الخضروات وأن ما عدا الأصناف الأربعة فإنها لا زكاة فيها، فيكون هذا الخبر من معاذ رضي الله تعالى عنه موضحاً لمفهوم: (لا تأخذا الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة) أي: وما عداها لا زكاة فيه، فالمفهوم أتى مصرحاً به هنا، ولكنه ضعيف.

    والخبر الضعيف إنما يبين مفهوم المخالفة فيتقوى في ذاته؛ لأنه لم يكن أصلاً في التشريع، وإنما جاء تابعاً لمفهوم مخالفة الصحيح، فهو يكفي إذا لم يعارضه غيره، وهنا جاء معاذ رضي الله تعالى عنه بالتنصيص على هذه الأصناف الأربعة من الخضروات.

    ويذكرون بأن البيهقي رحمه الله قال: وإن كان هذا الأثر ضعيفاً فإنه قد أيد بآثار أخرى عن السلف، وتقدم لنا قصة عثمان مع عامله في الطائف، وكذلك عمر بن عبد العزيز ، والخلاف عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضاً.

    فعلى هذا ينتهي الأمر في البحث على أن الإجماع على الزكاة في الأربعة الأصناف، والخلاف فيما عدا ذلك، واتفق الأئمة الأربعة -دون النظر إلى مخالفة الشافعي وأحمد في قول آخر - على أن كل مكيل مدخر قوت فهو لاحق بتلك الأصناف الأربعة قياساً، وإذا كان هذا ما اتفق عليه الأئمة، فأعتقد أنه ليس هناك إنسان يجرؤ على أن يرد أمراً اتفق عليه الأئمة الأربعة رحمهم الله، ومهما قدم من أدلة أو نصوص معارضة فلن يأتي بجديد؛ لأن تلك النصوص قد مرت على السلف، وعلموها وفهموها ودرسوها، وبعد هذا كله اتفقوا على إلحاق المكيل والقوت والمدخر بالأصناف الأربعة.

    وأما ما لم يكن قوتاً أولم يكن مكيلاً أو مدخراً، فهذا الخلاف فيه قوي، والله تعالى أعلم.

    1.   

    خرص الزروع والثمار عند بدو الصلاح

    قال المؤلف :[ وعن سهل بن أبي حثمة رضي الله تعالى عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع)، رواه الخمسة إلا ابن ماجة وصححه ابن حبان والحاكم ].

    انتقل المؤلف رحمه الله إلى جزئية تابعة ومتممة لتشريع الصدقة في الحبوب والثمار.

    فقوله: (إذا خرصتم)، يفيد أن هناك خرصاً قبل إخراج الزكاة، فيكون سبقه تشريع للخرص ثم جاء ينبه لهم عن منهج الخرص كيف يكون.

    إذاً: الخرص مشروع، وأقوى دليل في ذلك قضية خيبر، لما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم ابن رواحة ليخرص عليهم النخيل.

    والخرص في اللغة: التخمين، قال تعالى: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ [الذاريات:10]، لكن قال الإمام أبو حنيفة وداود بن علي : لا خرص لأن الخرص ظن، والظن كما يقولون أصل الكذب، فقالوا: لا خرص، ولكن على صاحب النخل والعنب إذا يبس وأصبح عنده التمر أو الزبيب أن يكيل الذي حصل عنده، ثم يزكيه.

    الحكمة من خرص الثمار

    وتوقيت الخرص قالوا: إذا بدا الصلاح في الثمرة، أما بعد الجفاف والكيل فلا يصلح الخرص، لأنه إذا أمنت الآفة وصلحت الثمرة للأكل امتدت إليها يد صاحبها، فقد يأخذ الثمرة رطبة ويبيع، ويأخذ ليأكل، ويأخذ ليهدي، فهنا لما كان حق الفقراء في الثمرة بمثابة الشريك مع صاحبه: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ [المعارج:24]، أي أن الفقراء شركاء للأغنياء بحصة معلومة وهي العشر أو نصف العشر.

    فما داموا شركاء فحافظوا على حصتهم، وكيف نحافظ عليها؟ أنتركها لهم يأكلون ويهدون ويبيعون ويقبضون الأثمان؟

    وهل نمنع أصحاب البساتين فنقول: لا تأكلوا ولا تبيعوا ولا تعطوا أحداً؟ لا. أيضاً كذلك.

    إذاً: لا بد لصاحب النخيل والعنب أن يتصرف في الثمرة بشخصه أو بغيره.

    كيفية الخرص وترك الربع أو الثلث للمالك

    إذاً الحل الأمثل هو الخرص عندما تبدو الثمرة، فيكون الخارص من طرف ولي الأمر المسئول عن حق الفقراء؛ لأن الله كلف بها رسوله صلى الله عليه وسلم: (خذ) وهذا الأمر تكليف له مع أنه لا حظ له فيها، فهي محرمة عليه وعلى آل بيته، ولكن حفاظاً على حق المساكين وحفظاً لماء وجوههم حتى لا يذهبوا للغني يقولون: أعطنا، فيقول لهم: ائتوني في وقت لاحق عندما نجذ.

    فعالج الشرع ذلك بأن أوجب على ولي الأمر أن يأخذها قهراً على صاحبها: (من أداها طيبةً بها نفسه فبها ونعمت؛ وإلا أخذناها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا، ليس لمحمد ولا لآل محمد منها شيء)، فإذا طابت الثمرة ذهب الخراص -اثنان أو ثلاثة على حسب رأي الإمام- وتمشوا في البستان لينظروا عدد ما فيه من النخل.

    فإذا كان فيه مائة نخلة بدأنا بنخلة رقم واحد فقلنا مثلاً: هذه تحمل قنوان والقنو أوقية أو كيلو أو كذا.. على حسب التقدير برؤية العين، فإذا جففت كم سيكون منها تمراً؟ فمثلاً: سيكون منها عشرون صاعاً، فنكتب ذلك.

    ثم النخلة الثانية.. الثالثة..، إلى المائة، فمجموع ما يتوقع منه من تمر لو بقي على تمامه عشرون وسقاً، فننظر: هل الثمرة على النخلة تبقى على تمامها أم أنها سيذهب منها شيء؟ سيذهب، وجاء بيان ذلك في بعض النصوص: ما تسقطه الريح، وما ينقره الطير، وما يأكله الضيف، وما تأكله الهوام والحيوانات التي تدخل النخيل وتأكل مما سقط.

    إذاً: هناك عوارض تعرض للثمرة المعلقة.

    وصاحب البستان يريد أن يأكل فلا نمنعه من حقه لأجل المساكين، بل حقه هو الأول، والضيف الذي يدخل عليه فلا نقول له: لا تعطه، فنعلمه البخل! وشر خصلة في الإنسان هي البخل، بل نقول: أطعم.. وأكرم ضيفك..

    إذاً: هناك عوامل تعرض للثمرة التي على النخلة، ونحن خرصناها على تقدير أنها كاملة، فلو قدرنا الصدقة على ما يوجد على أنها كاملة لأجحفنا بمالكها فيما له من حق التصرف فيه، فلذلك قال: (دعوا الثلث) أي لأجل هذه العوارض.

    فلو كانت مائة صاع، فإننا ننظر كم ثلث المائة بالتقريب والتقدير، فنقول: احسبوها سبعين بدل المائة.

    قال: (فإن لم تسقطوا الثلث فالربع)، أي أن العامل مخير بين الثلث والربع، أعتقد والله تعالى أعلم: بأن هذا يرجع إلى فطنة العامل الذي يخرص، فإذا كان النخيل في جهة بعيدة من البلد قل الوارد عليه، وكذلك إذا كان الجو معتدلاً، وكان عياله قلة، وضيفه قليلاً، وليس بمشهور عند الناس، فتكون الكلفة عليه قليلة؛ فهذا يكفي أن نترك له الربع.

    لكن إذا كان هناك بستان على قارعة الطريق، وصاحبه من أهل الوجاهة، وكل يوم والباب لا يغلق، فهذا ضيف طالع، وهذا ضيف داخل، فهل هذا يستوي مع الأول؟ أعتقد أنهما لا يستويان، وأن القول هنا: الثلث أو الربع ليس للتخيير، وإن كنت لم أجد من نبه على ذلك لكن هذا هو الواقع، فيسقط الثلث لمن كان طارقه كثيراً، ويكون الربع لمن كان طارقه قليلاً.

    وهذا هو الإرفاق والعدل، فلا نساوي بين رجل كثير الضيوف يمكن أن يأكلوا عليه النصف، وبين رجل قليل الضيوف، وبعض الروايات: (خذوا النصف، وأعطوهم من النصف وأعطونا النصف فإنهم يسرقون)، أي: غصباً عنه سيأكل.

    إذاً: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الذين يخرصون على الناس أن يدعوا الثلث، فإن لم يدعوا الثلث فالربع، والظاهر أن هذا يترك الخيار فيه للعامل، ولكن في نظري والله تعالى أعلم وأبرأ إلى الله من خطأ: أن ذلك ليس للتخيير وإنما هو للتنويع، والتنويع يكون بحسب حال صاحب البستان وموقعه الاجتماعي، فمن كان كثير الوارد والضيف والاستهلاك والعيال والعمال قلنا: يترك له الثلث؛ لأن الاستهلاك كثير، ومن كان إنما يذهب عنه القليل فإنه يترك له الربع، والله تعالى أعلم.

    وهنا قالوا: الخرص أيضاً ليس لمجرد معرفة هذا الموجود، وأنه يأكل أو يكرم ضيفه قالوا: بل يكون لصاحب الثمرة الخيار، فإن شاء أبقى الثمرة إلى أن يأتي الجذاذ فيجذ، ويوضع في الجرين ويجفف ويبيعه تمراً، وإن شاء باعه رطباًمبكراً في السوق يوماً بيوم ولو لم يبق في النخيل شيء.

    فإذا قيل: فأين زكاة الأوسق نصف العشر؟ لما خرصنا عليه أصبح مديناً للفقراء والمساكين بالمقدار الذي قيدناه عليه، ونحن قيدنا عليه سبعة أوسق صدقة، لكنه باعها كلها رطباً في الصناديق، أو باعها كلها عنباً في الصناديق، ولم يزبب كيلو ولا وسقاً ولا نصفاً.

    لكن هذا خرصنا عليه مثلاً: وسقاً ونصف وسق من الزبيب، فليس عنده شيء، لأنه قد باعه عنباً، فنقول: عليه أن يقدم للجهة التي تجمع الزكاة وتوزعها على أصحابها، فيأخذ من السوق المقدار من التمر الذي سجل عليه، ويأخذ كذلك المقدار من الزبيب الذي سجل عليه ويدفعه لأصاحب الحقوق في ماله من الفقراء والمساكين.. إلى آخره.

    إذاً: الخرص يعطي صاحب الثمرة الحرية في أن يستغلها رطباً ويحفظ الثمن، ويلتزم بما ألزمه به الخارصون ويقدمه عيناً، إلا إذا أراد ولي الأمر أن يستبدل بالأعيان نقداً، ويوزعه على الفقراء والمساكين، فهذا لا نعارض فيه.

    أما إذا ترك الأمر لصاحب النخل والعنب فله أن يتصرف كيف يشاء، وعليه أن يزكي هذه الثمار من تمر وعنب على قدر ما قدر عليه، فيشتريها من السوق من الشيء الوسط الذي لو كان حاضراً عنده لأخذ من وسط المال، ويقدمه إلى مستحقيه، والله تعالى أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755972158