وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة يونس بن متى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، والسورة -كما علمتم- مكية، والمكيات يعالجن العقيدة؛ لتصحيحها بعد تقريرها وتثبيتها، والعقيدة ستة أركان، لكن أعظمها: عقيدة التوحيد، وعقيدة الإيمان بالبعث الآخر والحياة الثانية؛ فلهذا كل الآي تعالج هذه القضايا، ومعنا هذه الآيات الأربع، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوتها مجودة مرتلة ثم نتدارسها إن شاء الله تعالى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:11-14].
هنا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الدعاء بالشر على الأبناء والإخوان؛ إذ قد يستجيب الله تعالى لك الدعوة، فلهذا لا يجوز لنا أن ندعو على أحد بالشر لا الأبناء ولا غير الأبناء، قد تكون الساعة ساعة استجابة فندعو على أبنائنا أو إخواننا أو أصدقائنا أو محبينا، أو إخواننا في الإسلام، فينزل بهم العذاب، فلهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك.
والجواب: إي والله العظيم، والآن البلاشفة والنورانيون والملاحدة والعلمانيون حين يشتد الكرب بأحدهم يقول: يا رب! وهو يدعو إلى الإنكار والتكذيب بوجود الله، وقد ذكرت لكم حادثة بعينها في فرنسا، أيام درسنا هذه الآية، حدثني أحد الإخوان وكان يعيش هناك وله صديقة فرنسية، وهو مؤمن جزائري يصلي، وهي تسخر منه وتضحك من إيمانه؛ لأنها تبلشفت، أصبحت شيوعية، والمذهب الشيوعي انتشر وانتظم أكثر من (75%) من المسيحيين في أوروبا الشرقية والغربية وأمريكا، فكانت تسخر منه وتضحك حين يقول: يا رب .. يا رب! وقد توفي هذا الأخ، وكان معنا في المدينة مهاجراً، يقول: لما حبلت وجاءها الطلق لتضع دخل في زيارتها إلى المستشفى، فوجدها تصرخ: يا رب .. يا رب! فأخرج من جيبه خمسمائة فرانكاً أو ألف وقال: ادعي هذه؛ إذ هي كانت تقول: أنا ربي هذا الفرانك، هو الذي يعول عليه! فأخرج النقود وقال: ادعي هذه. فقالت: اذهب عني، ثم عادت تقول: يا رب .. يا رب! فكفرت بالدينار والفرانك، وعرفت الحقيقة.
وهذه هي فطرة الإنسان مهما حاولوا تغطيتها وتدنيسها وإفسادها، عند الشدة لا بد أن يفزع إليها، يعرف أن الصنم ما ينفعه والإنسان لا يجديه، وهذا خبر الله عز وجل: وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ [يونس:12] الإنسان الكافر، الجاحد، المريض بالكفر والشرك، دَعَانَا [يونس:12] أي: سألنا الشفاء ورفع الأذى والضرر لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا [يونس:12] حال كونه قائماً أو قاعداً.
إذاً: قال تعالى: كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [يونس:12] من المزين لهم؟ الشيطان أبو مرة، إبليس هو الذي زين لهم القبائح، وحسنها لهم، ودفعهم إليها، وأغمسهم فيها وهم يتقلبون فيها، زين للمسرفين ما كانوا يعملونه من القبائح والشرور والمفاسد.
أريد أن تفهم أنه ليس هناك من يقدم على قبيحة ويعرف أنها قبيحة ويفعلها، ليس هناك من آدمي يقدم على شر ويعرف أنه شر ويفعله، ولكن حين يقدم يقلب الشيطان فطرته ويزين له ذلك الباطل ويرى فعله ذلك حسناً وصالحاً ومن الرجولة ومن الكرامة، والذين يعبث بهم الشيطان هم أولياؤه ممن كفروا بالله وأشركوا به وكذبوا شرعه ودينه وما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [يونس:12] من القبائح والشرور ومن الشرك والكفر.
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ [يونس:13] يا معشر قريش، لم؟ لَمَّا ظَلَمُوا [يونس:13] عندما ظلموا أي: أشركوا بالله وكذبوا رسله وأبوا أن يعبدوا الله ويوحدوه، إذاً: أهلكهم، وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [يونس:13] كما جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم بالبينات، ورسلهم كهود، وصالح، وشعيب.. ومن إليهم.
وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [يونس:13] أي: بالحجج الظاهرة البينة الدالة على أنه لا إله إلا الله وأن هوداً أو صالحاً أو شعيباً رسول الله.
وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا [يونس:13]، فلا عجب أيضاً فيكم أنتم إذا لم تؤمنوا، فقد جاءكم رسولنا بالبينات كما جاء هود وصالح وشعيب، وأبيتم أن تؤمنوا.
كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [يونس:13] فجازيناهم بالدمار الكامل، فأين عاد؟ انتهت في سبع ليال وثمانية أيام، أين ثمود؟ هلكت في صيحة واحدة، أين قوم شعيب؟ أين فرعون؟ فلما أصروا على التكذيب والرد لدعوة الله والإصرار على الشرك والكفر أهلكهم الله عز وجل، ولو شاء لأنزل ذلك بهذه الأمة، ولكن علم تعالى أن هذه الدعوة تنتشر وينفع الله بها الأبيض والأسود، وما هي إلا خمس وعشرون سنة وإذا بالإسلام وراء نهر السند وفي الأندلس، فلو أهلك العرب في يومها لما بقي من يدعو إلى الله، فلهذا قال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ [يونس:13] أي: أهل القرون لَمَّا ظَلَمُوا [يونس:13].
فوضع الشيء في غير موضعه هو الظلم، والذين كفروا فبدل أن يعبدوا خالقهم ومالك أمرهم ومن إليه مصيرهم ومرجعهم عبدوا أصناماً زينها الشيطان وتماثيل صنعوها بأيديهم ويعكفون حولها ويتقربون إليها، أي ظلم أفظع من هذا الظلم؟
إذاً: الظلم وضع الشيء في غير موضعه، فالقاتل عمداً أليس بظالم؟ الزاني بامرأة مؤمن أليس بظالم؟ السارق أليس بظالم؟ وهكذا.
قال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [يونس:13] بالحجج وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [يونس:13]، أي: كما أهلكناهم نهلك المجرمين، ومن هم المجرمون؟ واحد المجرمين مجرم، ما معنى مجرم؟ مفسد، أول ما أفسد نفسه، أخبثها ولوثها وعفنها ففسدت أخلاقه وآدابه، ثم ينتقل بذلك إلى غيره، يفسد على الناس قلوبهم، ويفسد آدابهم وأخلاقهم، أو يفسد أموالهم، فهو مجرم، كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [يونس:13] المتوغلين في الإجرام.
ولماذا فعلت يا رب هذا؟ قال: لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:14] إذاً: والله! إننا لتحت النظارة، لا تفهم أنك مهمل ومطلق تفعل ما تشاء، والله! إننا لتحت النظارة: لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:14]، فإن عملنا ما فيه رضاه نجونا، وإن عملنا ما فيه سخطه هلكنا وخسرنا، أبيضنا كأسودنا وعربينا كعجمنا، والآية عامة: ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:14] يا بني آدم، لا العرب وحدهم، خَلائِفَ فِي الأَرْضِ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:14] للأمم السابقة التي أهلكها الله بظلمها، لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:14].
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: مظاهر رحمة الله بعباده؛ إذ لو عجل لهم ما يطلبون من العذاب كما يعجل لهم الخير عندما يطلبونه لأهلكهم وقضى إليهم أجلهم فماتوا ]، قال تعالى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ [يونس:11]أي: لأهلكهم، ولكنه لرحمته وإحسانه ولطفه لا يستجيب لهم دعاء الشر، ويستجيب دعاء الخير.
وقلنا: حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء بالشر، فقد تكون ساعة استجابة، فلا تدع على ابنك: يا هالك، يا كذا، يا كذا. ولا على أي أحد، إلا على الظالمين.
[ ثانياً: يعصي الله العصاة ويكفر به الكافرون ويتركهم في باطلهم وشرهم فلا يعجل لهم العذاب لعلهم يرجعون ]، هذا هو السر، يعصي الله العصاة ويكفر به الكافرون ويتركهم في باطلهم وشرهم فلا يعجل لهم العذاب، لماذا؟ لعلهم يرجعون، أما رجعت قريش والعرب؟
[ ثالثاً: بيان أن الإنسان الكافر يعرف الله عند الشدة ويدعوه ويضرع إليه، فإذا أنجاه عاد إلى الكفر به كأن لم يكن يعرفه ]، واستشهدنا بتلك الفرنسية، كانت شيوعية تسخر من الصلاة والإيمان، وتقول: أنا إلهي الدينار أو الفرانك، ولما هزها الطلق وجاءها الموت رجعت إلى كلمتها: يا رب .. يا رب!
[ رابعاً: استمرار المشركين على إسرافهم في الكفر والشر والفساد مزين لهم حسب سنة الله تعالى، فمثلهم مثل الكافر يدعو عند الشدة وينسى عند الفرج ].
فبقاء المشركين واستمرارهم على إسرافهم في الكفر والشر مزين لهم، ومثلهم مثل الكافر يدعو عند الشدة ويكفر عند الرخاء.
[ خامساً: وعيد الله لأهل الإجرام بالعذاب العاجل أو الآجل إن لم يتوبوا ]؛ لقوله تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [يونس:13].
قال: [ وعيد الله لأهل الإجرام بالعذاب العاجل أو الآجل إن لم يتوبوا ]، فإن تابوا نجوا، وإذا ما تابوا فإما أن يعجل لهم العذاب في الدنيا أو يؤجله إلى الآخرة، أو ينزل بهم عذاب إبادة واستئصال، أو عذاباً غير ذلك كالأمراض والجوع وما إلى ذلك.
[ سادساً: كل الناس أفراداً وأمماً ممهلون مراقبون في أعمالهم وسلوكهم، ومجزيون بأعمالهم خيرها وشرها لا محالة ]، لقوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:14]، وهذا معناه أننا تحت النظارة، ويجب أن نحاسب أنفسنا، وأن نرعى مراقبة ربنا فلا نقدم على معصيته، وإن فعلنا تبنا ورجعنا باكين ضارعين إليه تعالى.
والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونسمع.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر