يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
روى أحمد في مسنده بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بين يدي الساعة سنون خداعة، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن الخائن، ويخون الأمين، وتنطق الرويبضة، قالوا: يا رسول الله! وما الرويبضة؟ قال: الفاسق أو قال: الفويسق يتكلم في أمر العامة)، وفي رواية أخرى في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من علامات الساعة أن ينتشر الجهل ويرفع العلم، وإن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً -وفي رواية: حتى إذا لم يبق عالمٌ- اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسألوهم، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).
وهذه هي الأزمنة التي نعيش فيها الآن، فقد تصدر لدين الله جل وعلا من ليس أهلاً لهذا الدين، ومن ليس أهلاً للنظر في علم الشريعة، فرد حديث النبي صلى الله عليه وسلم جهاراً دون أدنى حياء؛ لأنه ما عنده هذه الآلة الذي تعلمها الأولون، ولا المقومات التي تجعله ينظر في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فيمحص النظر فيها تصحيحاً وتضعيفاً، ولذا ترى أن الأهواء تتحكم كثيراً في عصرنا.
السبب الأول: تعظيم العقل دون تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو تقديم العقل على النقل.
السبب الثاني: الجهل العميق بقول النبي صلى الله عليه وسلم، والجهل العميق بالآلة التي يعرف بها التصحيح والتضعيف.
السبب الثالث: وضع الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إرضاء لولاة الأمور أو لغيرهم.
وهذه الأسباب موجودة في عصورنا.
التوحيد، والعدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمنزلة بين المنزلتين، والخامس: تقديم العقل على النقل.
فـالغزالي كان متأثراً بفكر المعتزلة، ولذلك رد حديث: شق الصدر، وقال كيف -وكان طفلاً صغيراً- يشق صدره ويخرج قلبه ثم يغسله في طست ثم يرد القلب ثم يأخذ حظ الشيطان من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فرد هذا الحديث.
وأيضًا رد حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيحين وهو: (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) قال: لو رأى البخاري ما تفعله تاتشر لما قال بهذا القول، وكأنه ينسب هذا القول إلى البخاري لا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أننا لو نظرنا بدقة نظر فيما فعلته تاتشر فقد خربت إنجلترا، وهذا مصداق لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) فرده لأنه يرى في الواقع أمامه أن هناك نساء قادرات على العمل والعطاء، والآن ينادون بالمساواة بين الرجل والمرأة ويعاندون ربهم جل في علاه، يقول تعالى: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:32] فلم هذه المعاندة؟!
وأيضًا منهم من رد الحديث جهلاً وهو لا يعرف شيئاً فتجده يقول: حتى لو جاء في البخاري بأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة وهي بنت تسع سنين فلا أصدق ذلك؛ لأن عائشة لا ترضى ذلك ولا تحتمل، ولا بد أن يكون زواجها عند سن ثماني عشرة سنة، يقول: أنا لي عقل أفكر به فكيف أقبل من البخاري هذا الكلام؟!
نقول: وهل البخاري أتى بهذا الكلام من كيسه، أو أتى به من عند أمه؟! لم يأت البخاري به إلا بالسند الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذه الظاهرة ظهرت عندنا، وهي حرب على الثوابت والمبادئ والدين بطرق ملتوية، فهم لا يستطيعون أن يعلنوا هدمهم للدين؛ لأن العامة سيثورون عليهم، لكن يقولون: لا، نحن نأخذ بالدين، وفي الحقيقة هم يهدمون الدين ويهدمون السنة، فهم يعظمون العقل ولا يعظمون سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وغفل هؤلاء أو تغافلوا عن أن الله جل وعلا أغلق كل باب ولن يُقبل أحد حتى يدخل من باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك فلابد أن تسلِّم وتعمل بقول الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].
ونحن الآن ندرس نقد متون السنة، فهل الاجتهاد قد أغلق؟ نقول: الاجتهاد باق إلى يوم الدين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرة لا يضرها من خالفها أو خذلها) وأيضًا قول الله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83] يعني: إلى أولي العلم، ففيها دلالة على الاجتهاد، فقوم غلوا وقالوا: لا ننظر إلى هذا، فإذا جاء الحديث خذ به، وقوم آخرون قالوا: لا، لا نقبل حتى ننظر هل يقبله العقل أم لا؟ والوسطية هم أهل السنة والجماعة الذين قالوا: ننقد الأحاديث وننظر هل هي من قول النبي صلى الله عليه وسلم أو ليست من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الانتقاد لا بد أن تكون له آلة ومقومات ومقدمات، فالعالم لا بد أن تكون عنده آلة الاجتهاد؛ ليمحص حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويبين الصحيح من الضعيف.
وأما إذا تعددت المجالس كأن يجلس النبي بعد الفجر ويقول: أحدثكم بحديث فيذكر الحديث، فالصحابة يحملون عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، ثم إن الصحابة الذين جلسوا معه في الفجر وحملوا عنه الحديث ذهبوا إلى أشغالهم، فجاء آخر في العصر فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن نفس القضية التي تكلم عنها النبي صلى الله عليه وسلم في الفجر، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعاد نفس الحديث الذي تكلم به في الفجر، ثم جاء بعد العشاء آخرون وقالوا: يا رسول الله عنت لنا مسألة نسألك عنها، فصادف أن تكون هذه المسألة هي التي تكلم عنها في الفجر وتكلم عنها في العصر، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وعقد مجلساً ثالثاً ثم حدثهم بنفس الحديث، فهذا مجلس ثالث لحديث واحد، فالعلماء ينظرون إلى هذه المجالس التي تعددت هل يمكن أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم الحديث بلفظ واحد في المجالس الثلاثة، أم تختلف الألفاظ بتعدد المجالس؟ وهل نجمع بين هذا الألفاظ أم نقول: إنها شاذة ومخالفة للثقات؟ أقول: عند تعدد القصة فإننا ننظر في الأسانيد والمتون، فإذا اختلفت الروايات وكان الرواة كلهم ثقات، فمخالفة الثقة لمن هو أوثق منه تكون روايته شاذة، وهو قول للشافعي وهو الراجح الصحيح.
وأما مخالفة الضعيف للثقة فهو فتكون منكرة، ولا يمكن أن يكون هناك تعارض؛ لأننا سنقدم الثقة على الضعيف، وأما إذا كان كل الرواة ثقات، فننظر إلى من هو أتقن، فإن كان للحديث قصة فصاحب القصة هو أتقن من غيره، ومثال ذلك: حديث ابن عباس وأبي رافع في مسألة نكاح المحرم كما سنبين.
وقد اختلف الصحابة في الصائم إذا أصبح جنباً هل يصوم رمضان أو لا يصوم؟ فـأبو هريرة روى عن الفضل بن عباس : (أن الجنب لا صوم له) فلما سمع التابعي عبد الرحمن بن الحارث من أبي هريرة هذا الحديث تعجب من هذا الحكم، فذهب إلى عائشة وإلى أم سلمة ، فسألهما: (هل النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً فيبقى على صومه؟ فقالتا: اللهم نعم، فرجع إلى
فهذا هو المثال الأول في أن العلماء جعلوا لنا طريقاً واضحاً جداً في مسألة نقد السنة ألا وهو: الرجوع إلى المختص المتقن في هذا الباب.
وحديث (إنما الماء من الماء) رواه زيد وأبو أيوب الأنصاري وعثمان بن عفان رضي الله عنهم وأرضاهم، فقال عمر : والذي نفسي بيده لو أفتى أحدكم بغير قول عائشة لأنكلن به نكالاً.
نقول: فلو نظرنا إلى أسانيد حديث عائشة وحديث زيد فكلها أسانيد كالشمس، فينبغي أن نجمع بينهما إن أمكن الجمع، لكن قال بعضهم: إن حديث: (إنما الماء من الماء) منسوخ، والصحيح الراجح في ذلك أنه ليس بمنسوخ لكنه مقيد؛ لأن قوله: (إنما الماء من الماء) عام؛ لأن الماء هنا معرف بالألف واللام، فالألف واللام هنا الاستغراقية وهي تدل على العموم، فحديث: (إنما الماء من الماء) مقيد بمسألة الاحتلام أو بمسألة التفكير، فلو أن رجلاً نام نوماً طويلاً عميقاً ورأى في نومه أنه يجامع امرأة ولكنه لم ينزل، فهذا لا يجب عليك الغسل؛ لأن الماء من الماء.
مثال آخر: لو أن رجلاً كان يتفكر في امرأة ولم ينزل، فهذا أيضاً ليس عليه غسل حتى لو أنزل المذي، وإنما عليه الوضوء.
إذاًً: الراجح والصحيح الجمع بينهما، فإذا جاوز الختان الختان فعليه الغسل إن كان في الجماع، ولذلك روى أبو هريرة حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا جلس بين شعبها الأربع وجهدها فعليه الغسل) (جهدها) يعني: جاوز الختان الختان.
وكذلك عائشة رضي الله عنها بعد أن روت لهم الحديث أتت لهم بدليل عقلي في هذا فقالت: لقد وجب الحد بالختان ألا يجب الغسل؟ يعني: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب حد الزنا، فإذا وجب الحد وجب الغسل.
القاعدة الثانية: إذا اختلفت الروايات فينظرون: إذا تعددت الروايات للراوي وعضدت يحكمون على الراوي الثاني بأنه واهم.
الأمر الثاني ينظرون في الشواهد والمتابعات، والمتابعة: هي موافقة الراوي للراوي في نفس الطبقة، لكن هل يشترط الموافقة في المتن؟ هناك خلاف عريض بين المحدثين، والصحيح الراجح أنه يشترط أيضًا الموافقة في المتن، مثال ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لحوم الحمر الأهلية حرام) فيرويه مثلاً: مالك عن نافع عن ابن عمر ، فإذا رواه الليث عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر ، فـالليث هنا تابع مالكاً في ابن عمر ، فاتفقا في الشيخ الأعلى، فتسمى: متابعة قاصرة، لكن لو روى مالك عن نافع عن ابن عمر فجاء الليث إلى المدينة فروى عن نافع عن ابن عمر، فهذه تسمى: متابعة تامة؛ لأنه وافقه في الشيخ المباشر.
أما موافقة المتن للمتن بدون موافقة للسند، فمثل أن تكون الرواية عن ابن عمر فتأتي رواية موافقة لها عن أبي هريرة ، فرواية أبي هريرة شاهدة لرواية ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه.
فهنا قعد المحدثون قاعدة مهمة جداً: وهي إذا اختلفت الروايات نظروا في المتابعات والشواهد، ففي عصر الصحابة مثلاً ننظر هل وافق هذا الراوي غيره؟ مثلاً: لو خالف ابن عباس علي بن أبي طالب فهنا ننظر هل وافق علي بن أبي طالب أحد، فإذا وجدنا أن أكثر من رواه قد وافق علياً فنقول: ضبط علي ووهم ابن عباس .
وهذا كحديث نكاح المحرم، فقد وهّم سعيد بن المسيب ابن عباس في هذا الحديث؛ لأنه نظر إلى أبي رافع قد اتفق مع ميمونة ، واتفق مع يزيد بن الأصم في الروايات، وانفرد ابن عباس برواية أخرى، فاتفاق هؤلاء الثلاثة يبين لنا أن ابن عباس قد وهم في هذا الحديث.
فهذه دلالة على إتقان الصحابي الذي يوافقه آخرون من الصحابة في الرواية، ووهم من لم يوافقه غيره.
وكذلك روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من اقتنى كلباً فإنه ينقص من عمله كل يوم قيراط إلا كلب حرث أو ماشية) فـابن عمر كان يحفظ الحديث هكذا: (من اقتنى كلباً نقص من أجره قيراط إلا كلب صيد أو ماشية) فـابن عمر استغرب من ذكر الحرث من أبي هريرة فقال: إن أبا هريرة صاحب زرع، فهذا ليس توهيماً لـأبي هريرة وإنما موافقة له، أي: أن أبا هريرة خفظ ذلك؛ لأنه صاحب زرع، فـابن عمر لم يشك في أبي هريرة ؛ لأنه يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) وأبو هريرة لا يمكن أن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم.
مثال آخر: وهو عدة المتوفى عنها زوجها، فقد اختلف في ذلك ابن عباس وأبو سلمة بن عبد الرحمن فقال ابن عباس: أبعد الأجلين، فقال أبو سلمة بن عبد الرحمن : إن عدتها أن تضع حملها، فقال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي، فأرسلوا إلى أم سلمة فقالت: (إن
والمثال الثاني: قطع الحمار والمرأة والكلب للصلاة إذا مروا بين يدي المصلي، فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن المرأة والحمار والكلب الأسود إذا مروا أمام المصلي تُقطع بهم الصلاة، فلما سمعت عائشة ذلك قالت: أشبهتمونا بالكلاب والحمير؟ والله لقد كنت معترضة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قبلته وهو يصلي، فإن أراد أن يسجد غمزني في رجلي) فكأنها تقول: أنا صاحبة القصة وأنا التي حدث معها هذا الأمر، فقد كنت أنام معترضة بين النبي وبين القبلة فكيف تقولون: إن المرأة لو مرت تبطل الصلاة؟ لكن هنا لم نرجح قول عائشة مع أنها صاحبة القصة؛ لأن صاحبة القصة جعلت المسألة في غير محل النزاع، فقد استدلت بدلالة هي أخص من هذا الذي نتكلم عنه.
القاعدة الثالثة: وهي النظر العقلي: أي: أن يعرض الحديث على العقل، فهل سنوافق المعتزلة في عرضنا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم على العقل حتى نقول: هذا الحديث صحيح، أو هذا الحديث ضعيف؟ وهل العقل له الاستطاعة حتى يحكم أن هذا وحي أو ليس بوحي؟!
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر