والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، المرسل إلى الناس كافة أجمعين، خاتم النبيين والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد صادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: سلام الله عليكم ورحمته تعالى وبركاته، ونسأل الله جل وعلا كما جمعنا في هذا البيت من بيوته على غير مصالح تجمعنا، ولا أرحام تقربنا؛ أن يجمعنا في مستقر رحمته ودار كرامته، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، إخواناً على سرر متقابلين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يشرح صدورنا بالإسلام، وأن ينور قلوبنا بالإيمان، وأن يهدي بصائرنا بالقرآن، وأن يرد عنا وعن المسلمين كيد الكائدين، وأن يدفع عنا شرور المعتدين، وأن يسلم ديار المسلمين، ويحقن دماءهم، ويحفظ أعراضهم وأموالهم، إنه جل وعلا ولي ذلك والقادر عليه.
يتجدد بهذا درس متقطع رقمه: السابع والسبعون بعد المائة، وعنوانه: (الإيمان والأمان ومواجهة العدوان).
إننا ونحن نعيش هذه الظروف العصيبة، والتكالب الرهيب، والعدوان الظالم، نحتاج إلى مثل هذه الوقفات، والحق أن الخواطر كثيرة، والمشاعر متداخلة، والواجبات والتنبيه والتوجيه حاجتنا إليه ماسة ومتشعبة، وحسبنا -بمشيئة الله تعالى- أن نذكر هنا ما عسى أن يكون الأهم، وما سأذكره إنما أذكر خلاصته وأسسه معرضاً عن كثير من التفاصيل والتشعبات التي يستحق معها كل قسم من أقسام حديثنا وموضوعنا أن يفرد في محاضرة خاصة به، ولعلي أشير الإشارات التي ألخص بها مقصود حديثنا بعون الله.
سنبدأ بوقفة مع حقيقة الإيمان، ثم نعرج على أثر الإيمان في الأمن والأمان، وننتهي ونخلص إلى أثر الإيمان والأمان في مواجهة العدوان.
قضية الإيمان هي قضية الوجود الدنيوي وما بعد الوجود الدنيوي، هي قضية الحياة الدنيا وما وراءها في الحياة الأخرى.. قضية تتعلق بالإنسان في أعماق نفسه، وسويداء قلبه، وخواطر عقله، وكلمات لسانه، وأفعال جوارجه، وطموحات نفسه؛ لأنها تتناول الإنسان في علاقاته وصلاته ومعاملاته وتشريعاته وفي سائر جوانب حياته المختلفة، وسائر ظروفه وتقلبات حياته وأحواله المتنوعة، ومن ثم فإنها القضية الكبرى التي لابد من العناية بها، والتعلم لحقائقها، والتذكير بثوابتها، والإشاعة لمعانيها، والتقوية لها في النفوس والقلوب؛ لأنها محور الحياة وجوهرها، وكما قلت: لعل هذا يكون موضوعاً كاملاً قائماً برأسه، ولكنا نشير إلى المهم منه.
وقال سبحانه وتعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]، وقصها وبينها أبو جهل -عليه لعنة الله- عندما قال: كنا نتنافس وبنو هاشم الشرف والسيادة، فإن كانت لهم السقاية كانت لنا الوفادة، وإن كان لهم كذا كان لنا كذا، حتى إذا تساوينا وتجاثينا على الركب قالوا منا نبي، فمن أين لنا بنبي؛ فوالله لا نصدقه الدهر كله!
فليست القضية مجرد قناعة العقل دون تسليم القلب بحقيقة هذه المعرفة الإيمانية، وليس الإيمان كذلك هو مجرد العمل أو القيام بأداء الفرائض مجرداً؛ فإن المنافقين -كما نعلم- خلت قلوبهم من الإيمان، ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، ويشاركون أهل الإيمان في صلاتهم، وربما يخرجون أموالاً من زكاة وغير ذلك، ونفى الله سبحانه وتعالى عنهم الإيمان كما بينته آياته جل وعلا في مثل قوله سبحانه وتعالى: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142]، وأخبر سبحانه وتعالى أنهم يتخذون ما ينفقون مغرماً، إلى غير ذلك مما هو معلوم.
إنه مجموع ذلك كله، ومن ثم قال أهل العلم في تعريفه: إنه اعتقاد بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، وهذا الجمع لا شك أنه يحتاج إلى تأمل؛ إنه حينئذ يصور لنا شمول هذا الإيمان، وعمقه وانتظامه للإنسان في كل خصائصه، وانعكاسه من بعد على كل تفاعلاته وأحواله؛ فإن هذا الإيمان هو اعتقاد القلب، وخفقة القلب بالمشاعر والعواطف، وهو كلمات اللسان وضبطها بخواطر العقل والفكر، وممارسات الجوارح.
وإذا أردنا أن نعمق هذا المعنى ونوضحه، فالأمثلة فيه كثيرة، لكنني أشير إلى المعنى وأضرب مثالاً واحداً فأقول: إن الإيمان صبغة جديدة ينصبغ بها صاحبها، فتكون له صورة وهوية تنقض كل ما سبقها من الصور، وتخالف كل ما يعارضها من الهويات، وتنشئه نشأة جديدة قاعدتها وأساسها التوحيد والإيمان الحق لمضمون لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ فيختلف عن كل الناس في سائر أحواله وأقواله وكلماته، وآماله وطموحاته وأعماله وأفعاله، وعلاقاته وصلاته، وولائه وبرائه، ومحبته وبغضه، وكل شيء؛ لأن هذا الإيمان يغير فيه -إذا كان صادقاً وحقيقياً- كل شيء، ويجعله منضبطاً بهذا الإيمان، فمنه ينطلق وإليه يرجع، وفي ضوئه يقيس، وعلى هداه يسير، فيحكم الإيمان حينئذ كل شيء في حياته بدءاً من داخله وانتهاء بأعماله وبعلاقاته كذلك.
استعان فرعون بالسحرة، وأراد أن يكونوا وسيلة له لإبطال الحق، وإطفاء نوره، وتشويه صورته، وصرف الناس وصدهم عنه، فماذا قال للسحرة يوم جاء بهم، وأرادهم أن يقوموا بهذه المهمة؟
وقبل ذلك نريد أن ننظر إلى هؤلاء السحرة.. صورتهم، أفكارهم، أقوالهم قبل وبعد الحدث الذي وقع، لننظر فعلاً إلى التغير لندرك به حقيقة الإيمان.
جاء السحرة إلى فرعون، وأول شيء قالوه وخطر لهم وتعلقت به نفوسهم: أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ [الشعراء:41]، ذلك كان مطلبهم ومطمعهم، وهذا هو أملهم وأمنيتهم.
لم يسألوا: هل القضية حق أو باطل، عذاب أو ظلم؟ هل تترتب عليها مفسدة أو مصلحة؟ هل يتضرر بها أحد أو ينتفع؟ لم يكن ذلك يعنيهم في شيء؛ لأنهم ليست لديهم مبادئ ولا قيم ولا مرتكزات ولا معتقدات بل كانت أهواؤهم تقودهم، وخضوعهم لفرعون وعبوديتهم وذلتهم له تسيرهم، ولذلك قالوا هذا القول، فقال لهم فرعون: نعم، وإنكم لمن المقربين. أي: سيزيدهم فوق العطاء المادي عطاء معنوياً بأن يكونوا من أصحابه وخلصائه والمقربين منه.
ثم وقعت الواقعة، وألقوا عصيهم وحبالهم، فسحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم، وكانوا هم صفوة السحرة، وأعلم العلماء بالسحر، وليس أحد أقدر منهم عليه، وفي لحظة واحدة ألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون.
وفي هذه اللحظة عرف أولئك أن هذا ليس بسحر، وأنها ليست قوة بشر، وأدركوا من واقع خبرتهم هذه الحقيقة، فمباشرة وصفت آيات القرآن ما الذي وقع وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف:120-122]، وذكر هارون هنا مثير للسؤال؛ لم ذكروا هارون وهو لم يذكر في تلك المواجهة، ولم يلق عصى مع موسى ولم يكن له في هذا شأن مذكور؟
أرادوا أن يقولوا: قد آمنا بالمعتقد والمبدأ لا بالصورة الظاهرة والعمل الملموس، فنحن أدركنا الحقيقة والمفهوم الذي وراء ذلك، قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف:121-122].
لنرى كيف أصحبت مواقفهم؟ وكيف تغيرت كلماتهم؟ وما هي الآن طموحاتهم وآمالهم؟
فرعون كان مجرد ذكر اسمه من قبل تنخلع له القلوب وتصطك له الركب، وتدور الأعين في محاجرها خوفاً وهلعاً. هذا فرعون الذي يعرفون بطشه وجبروته وطغيانه قال: فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى [طه:71]، قالوا: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:72]، افعل ما بدا لك فلا خوف في قلوبنا منك، ولا شيء يردنا عما أخذنا من الإيمان والاعتقاد، لماذا؟
لأن الأمر قد اختلف، والتصور قد اتسع، والإيمان قد ثبت ورسخ، فنحن لم تعد حياتنا هي الدنيا بل أصبحت أعظم من ذلك، فافعل ما تشاء، فإن ما تفعله لا يتجاوز هذه الدنيا وما فيها من الأسباب التي قد يكون بعضها ميسراً لك.
ثم قالوا: إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:51]، كانوا يريدون المال، واليوم يقولون: أملنا وطموحنا، وأعظم ما تتعلق به قلوبنا وتشرئب إليه أعناقنا: أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول السابقين إلى الإيمان والإسلام.
لقد اختلفت مقالتهم ومشاعرهم ومواقفهم، وظهرت قوتهم، وتجلى ثباتهم، ما الذي تغير، وما الذي طرأ واستجد؟
ليس إلا الإيمان، حينئذ نقول: فرق ما بين هذا وذاك في لحظات الإيمان الذي أنشأهم نشأة جديدة، وصبغهم صبغة جديدة حولتهم في كل جانب من جوانب حياتهم ظاهرها وباطنها، فإذا بهم حينئذ ينشئون ويقفون ويتكلمون ويواجهون بغير ما كانوا عليه من قبل.
هذه صورة موجزة لحقيقة الإيمان، وأجلى منها وأوضح وأكثر أمثلة ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء إلى العرب وهم في جاهلية جهلاء، وعماية ظلماء، وفي كل ما هم فيه من سخف عقولهم وهمجيتهم، وانغماسهم في الباطل وغير ذلك، ولم يغير فيهم شيئاً من اقتصاد ولا سياسية ولا اهتمام، وإنما جاءهم بهذا الإيمان والإسلام فأنشأهم نشأة أخرى، وصاغ منهم أمة فريدة لا نظير لها في تاريخ البشرية والإنسانية.
ولعلي أشير إلى معنى تتجلى به هذه الحقيقة في آية من كتاب الله عز وجل: قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام:57].
تأملوا أيها الإخوة في هذه الآية؛ فهي تحمل وضوح وبيان منهج سديد ليس من أفكار عقولنا، ولا من اجتهاد علمائنا، ولا من مجامع فقهائنا، كلا. بل هو من الله عز وجل، فهو معصوم كامل لا نقص فيه، صحيح لا باطل معه، ثابت لا شك يعتريه مطلقاً، قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ، إن كذبت الدنيا كلها وخالفت فلا يعني أن نعود لنراجع، أو نبحث لنصحح، أو نجتمع لنرى هل هذا ما زال عاملاً وفاعلاً وصحيحاً أم أننا -كما يقولون- نحتاج إلى إعادة النظر في مناهجنا وثوابتنا وغير ذلك؟ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ .
كأن بعض الناس ربما يخالط عقله ويخامر نفسه شيء من الاضطراب والحيرة والشك أو التبديل والتغيير، والله عز وجل يقول على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام: مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ [الأنعام:57]، أي: إن كانت عندكم أفكار قد اضطركم إليها أو قذف بها إليكم واقع معين؛ فإن الثوابت هي التي تحكم عليه والتي تضبطه.
وقد جاء أن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال لرسول الله عليه الصلاة والسلام: (ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟) وقد بلغ الأمر مبلغه في البلاء والإيذاء الذي حل به وببعض الصحابة رضوان الله عليهم؛ فأخبرهم النبي عليه الصلاة والسلام بحال من كان قبلهم ممن تعرضوا للعذاب الشديد، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (والله ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون)، لم يجبهم إلى عواطفهم، ولم يوافقهم على ضرورتهم، وإن كان يدعو لهم عليه الصلاة والسلام، لكن المنهج واضح، والرؤية جلية ليس فيها غبش، وليس في أجزائها شيء من الاضطراب مطلقاً.
ولذلك نحن لن نؤمن أبداً بالديمقراطية الغربية التي يبشرون بها، ولن نغير أبداً في أسس بناء حياتنا الاجتماعية القائمة على كتاب الله وسنة رسوله لنوافق ما يقولونه من أفكار في تحرير الشعوب، أو حقوق الإنسان، أو حرية المرأة على مناهجهم المختلة، وتصوراتهم الفاسدة، ومناهجهم الزائغة؛ لأننا لسنا في شك من ديننا، بل نحن على بصيرة.
وهذا أمر مهم: فإن الأمن الفكري والثقافي هو صمام الأمان الأول، وخط الدفاع الذي إذا سقط كان الاضطراب فيما جاء بعده كما نرى ممن يتقاذفون هذه المقالات، ويروجون هذه الشائعات، ويزينون هذه المفتريات والمبتدعات؛ لأنهم ليسوا على بينة من أمرهم، كما قال الله عز وجل هنا: مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام:57]، وكما قلت: ليس حديثنا مستفيضاً في كل نقطة، وإنما هي ومضات.
ونحن نعلم أن تقلبات الظروف والبلايا والرزايا والمحن والفتن تحيط بالناس، فإن لم يكن عندهم يقين راسخ، وإيمان ثابت؛ فإن ذلك يصيبهم بجزع يجعلهم ينكصون على أعقابهم، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ [الحج:11]، وقد وصف الله عز وجل ذلك بأنه الخسران المبين، ولذلك نبقى على هذه الطمأنينة والسكينة؛ لأنها هي التي تفيض هذه المعاني النفسية الباطنية القلبية في الإنسان المؤمن، يقول الحق جل وعلا: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
والله سبحانه وتعالى بين أن اليقين والإيمان هو الذي يجعل الإنسان ثابتاً في وجه المشكلات، فكم من الناس تحل به نكبات أو مشكلات فينزلها على إيمانه، ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ويردد: إنا لله وإنا إليه راجعون، يلهج بـ: حسبنا الله ونعم الوكيل، فإذا به يشعر بالطمأنينة والسكينة، وتتبدد أمامه تلك المخاطر، ويتيسر أمامه العسير، ويصغر في ناظريه العظيم بما يفيض في قلبه سبحانه وتعالى من السكينة والطمأنينة، وغيره مرتجف مضطرب متحير متشكك خائف جزع متراجع متخاذل؛ لأنه يفتقد قوة إيمانه ويقينه، ولو أردنا أن نفيض في الأمثلة لوجدنا عجباً في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وفي سيرة أصحابه رضوان الله عليهم، وهذا أمر مهم وخاصة في وقتنا وظروفنا هذه.
في غزوة الأحزاب بين الله عز وجل الكرب العظيم، والخطب الجسيم، والهول الفظيع الذي حل برسول الله عليه الصلاة والسلام وصحابته، فقال جل وعلا: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً [الأحزاب:10-11].
ماذا قال أهل الإيمان في هذه الحادثة العصيبة والمحنة الرهيبة؟
قالوا كما ذكر الله عنهم: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً * مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:22-23].
والمواقف كثيرة فيما بعد، ففي أحد كما أخبر الله عز وجل عنهم بقوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:173-174]، إنما يطمئن النفوس والقلوب ويسكنها هذا الإيمان فلا تضطرب ولا تجزع بإذن الله.
هذا الإيمان هو مملكة الضمير الحية التي عندما غرسها النبي صلى الله عليه وسلم في أمته وأصحابه لم يكن في ذلك المجتمع من المفاسد والمنكرات والجرائم إلا ما يعد على أصابع اليد أو اليدين؛ دون أن يكون في زمانه عليه الصلاة والسلام بطاقات ممغنطة، أو كاميرات تصوير، أو شرطة تجوب الشوارع والطرقات، ولا شيء من ذلك، ومع ذلك ما هي الجرائم التي وقعت؟ وما هي الاعتداءات التي تحققت؟ كيف اكتشف؟
عندما وقعت بعض هذه المحرمات والفواحش هل اكتشفتها المتابعات الأمنية، أو توصلت إليها الأدلة الجنائية، أم أن الذي أخرجها إلى حيز الوجود الحس الإيماني، واليقظة الشعورية، والمراقبة لله عز وجل، والخوف منه سبحانه وتعالى؟
إذا أحيينا الإيمان في القلوب فقد نشرنا الأمان في المجتمعات، فهذا ماعز الأسلمي جاءت قصته في الصحيح: في لحظة غفلة الهوى واستزلال الشيطان، وضعف النفس، وإغراء الشهوة، وقع في جريمة الزنا، ولم يره أحد، ولم تنظره عين، ولم تضبطه شرطة، فأي شيء وقع؟
تحرك الإيمان في قلبه.. ندم يعتصر نفسه أسى، ويقطع قلبه ألماً، يندفع إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام مقراً معترفاً: (يا رسول الله! إني زنيت فطهرني، فيعرض عنه الرسول عليه الصلاة والسلام، لعله أن ينصرف؛ فيأتيه قبل وجهه ويكرر، فينصرف عنه النبي ثانية وثالثة ورابعة وهو يعيد اعترافه، فيقول عليه الصلاة والسلام: لعل به شيئاً، أي: لعله شارب للخمر ولا يدرك ما يقول، فاستنكهوه، قالوا: يا رسول الله! ما به من بأس، قال: لعلك قبلت، لعلك فاخذت، حتى أقر، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام برجمه فرجم)، هل يسجل التاريخ مثل هذا في غير وجود الإيمان؟ وهل يمكن أن يظهر مثل هذا في غير بيئة الإيمان؟
وأبلغ من هذا وأظهر: قصة المرأة الغامدية: جاءت إلى النبي عليه الصلاة السلام تقر بما أقر به ماعز -وحديثها في الصحيح كذلك- فأعرض عنها رسول الله عليه الصلاة والسلام، قالت: (يا رسول الله! لعلك تعرض عني كما أعرضت عن
ما الذي أعادها وقد كان بإمكانها أن تهرب؟
هذا هو الإيمان، نحن نقول: عمقوا الإيمان في النفوس حتى يشيع الأمن في المجتمع، وتشيع الرحمة، وينتشر الخير، ويعم السلام الحقيقي، لا السلام المفروض بقوة الأسلحة وبكثرة الشرط.
إنه لأمرين اثنين: الأول: خوفهم على الحياة. الثاني: خوفهم على الرزق.
إذا هدد بحياته غير موقفه ومنهجه، ومتابعته وولاءه وبراءه، فما الذي يعصم من ذلك؟ ما الذي يؤمن الأمة لئلا تخترق من داخل صفوفها، ومن أن يكون من بين أبنائها من هو عدو لها وممالئ لعدوها؟
إنه الإيمان، وذلك لأن الإيمان حرية عظيمة، فهو يوحد الإنسان وقلبه واعتقاده وكل شيء في داخله في أمر واحد معلق بالله سبحانه وتعالى، إنه لا يخشى ولا يرجو ولا يذل ولا يسأل ولا يستعين إلا بالله.. كل أمره معلق بالله، والناس وقوى الدنيا كلها لا يلتفت إليها ولا يكترث بها، ولا تنال من عزمه ويقينه وتصميمه وإيمانه مطلقاً، وغيره على عكس ذلك.
أنس بن النضر رضي الله عنه لم يشهد بدراً، فقال: لئن أشهدني الله يوماً كيوم بدر ليرين الله ما أصنع، وهذا قول يمكن أن أقوله أنا وأنت، لكن إنما يتبين صدق القول عند الفعل.
جاءت غزوة أحد وشارك فيها أنس بن النضر ، ووقع ما وقع لالتفاف ابن الوليد رضي الله عنه، واضطراب المسلمين، ووقوع القتل فيهم، وإذا بـأنس حينئذ يقول: (واها لريح الجنة، والله إني لأجد ريحها دون أحد)! كأنما يشم رائحتها، كأنما قضايا الإيمان تجلت، وكأنما هي حقيقة منظورة ملموسة، وليست مجرد غيب غير معروف ولا ملموس، ثم انطلق يلتمس الموت ليعانقه، ويخترق صفوف الكفار والمشركين ويقاتل، وتتخطفه السيوف، وتتناوله السهام، وفي صحيح البخاري : (لم يعرفه أحد إلا أخته بشامة أو بنانة له، قال: وفي جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ليس فيها واحدة في ظهره)، فهل كان هذا يخشى الموت؟ هل مثل هذا يمكن أن يساوم على دينه؟
فأراد أن يأتيه من جانب آخر: جاءوا بقدر كبير مملوء زيتاً ثم أشعلوا تحته ناراً، حتى صار الزيت مغلياً، ثم أتوا ببعض أسرى المسلمين يغمسونهم في هذا الزيت فيدخل أحدهم لحماً ويخرج عظماً، وعبد الله ينظر، وبعد واحد واثنين وثلاثة دمعت عينه رضي الله عنه، فأخبر الملك، فقال: عليَّ به! ظن أنه قد لان وهان وذل وتابع وغير وبدل، فلما جاءه قال: فيم بكاؤك؟ قال: لقد علمت أن لي نفساً واحدة تغمس في هذا القدر فتزهق في سبيل الله، وودت لو أن لي بعدد شعر رأسي أنفساً تزهق كلها في سبيل الله.
لقد كان يفكر في ميدان آخر، وكانت مشاعره غير ما يفكر به أولئك الدنيويون الخائفون الجبناء الأذلاء، ولذلك قال بمقال قطري بن الفجاءة رضي الله عنه:
أي يوم من الموت أفر يوم لا يقدر أو يوم قدر
يوم لا يقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر
قد تملك سوطاً يكويني وتهز القلب بسكين
لكن سلطانك لن يرقى لذرى إيماني ويقيني
وهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم.
كعب بن مالك رضي الله عنه من المخلفين الثلاثة، الذين قوطعوا ومنع الناس من الحديث معهم، قال عن نفسه: (حتى ضاقت علي نفسي، وضاقت الأرض بما رحبت).
عندما كان هذا التغير في هذا الفرد علمت الدولة العظمى بذلك، وكانت تعلم أن الصف متماسك، ولكنها قالت: لعل هذه لبنة يمكن الاختراق من خلالها، ولعل هذا الغاضب على أهله وقبيلته أو عشيرته وأهل ملته؛ لعله أن يكون مهيئاً لينتقل إلى صفوفنا، وليكون من أوليائنا، ولنجعله سهماً ورمحاً نطعن به في خاصرة أعدائنا، قال كعب بن مالك : فإذا رجل من الأنباط يسأل عني، فأشاروا إلي، فأعطاني رسالة فيها: قد علمنا أن صاحبك قلاك -أي: هجرك- ولم يجعلك الله بأرض مضيعة، فالحق بنا نواسك.
أي: تعال إلينا وسوف نعطيك ونعطيك ونقدم لك .. والذي يبيع موقفه يباع كما باع، والذي يذل لا يلقى شيئاً من دنياه ولا أخراه، وهذه قضية مهمة لعلنا نجعلها في أولى الأولويات في قضية الآثار الإيمانية، وللشافعي رحمه الله مقالة جميلة يقول فيها:
أنا إن عشت لست أعدم قوتاً وإذا مت لست أعدم قبراً
همتي همة الملوك ونفسي نفس حر ترى المذلة قهراً
قال: ما دنياكم التي عليها تحرصون إلا كزر قميصي هذا، ثم خلعه ورمى به في وجوه القوم. هذه قوة تستعصي على أي انجذاب أو تغيير أو تمييع أو استمالة.
وكذلك فعل بأحد السلف في فتنة خلق القرآن وقطع عنه رزقه، وكان كما قال الذهبي في ترجمته: وكان في بيته أربعون نفساً -يعني: أسرته ومن يعولهم- فلم يفكر كيف سيأكلون؛ أو كيف سوف يؤمن حياتهم؟ لأن يقينه بأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، قال الذهبي في السير أنه قال: فما جاء الليل إلا وطارق يطرق، ففتحت فإذا رجل شبهته بسمان قال: وإذا به يدفع لي كيساً فيه ألف دينار، ثم يقول: ثبتك الله كما ثبت هذا الدين، وإذا كان آخر كل شهر كان مثل ذلك، ومن يتق الله يرزقه من حيث لا يحتسب.
وهذه قضايا إيمانية مهمة في أحوالنا الملمة نحتاج إلى أن نتأملها ونتدبرها.
ثمة أمور أيها الإخوة الأحبة ننبه عليها ونتواصى بها.
نريد أولاً الجوانب المتعلقة بالجهة الإيجابية، أعني بالعمل، وقبل ذلك لابد من معرفة الحقائق، وبينهما لابد من الاعتماد والارتكاز على المبادئ، إن المواقف لا تبنى على المصالح، وإن الأحكام لا تؤخذ من الأهواء، وإنما ترجع إلى الأصول الثابتة، والجمل الجامعة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
أول الحقائق: معرفة حقيقة أعدائنا، وهذا أمر مهم، فإن أمريكا وغير أمريكا ليس عداؤها ومواجهتها لأمة الإسلام في هذا العدوان على العراق.. بل هو أعظم من ذلك وأشمل وأوسع، ولا بد أن ندرك هذا، وأن نعرف من التاريخ الحديث قبل القديم هذه الحقائق، ولعلنا نشير إشارات سريعة إلى بعض ما يدل على ذلك ويوضحه ويكشفه حتى نكون على بينة من أمرنا.
هذه القيادة المعاصرة للقوة العظمى -كما يسمونها- صرح رئيسها عند توليه مقاليد الحكم قبل أن تحدث الأحداث التي جعلوها مبرراً للحرب؛ يقول في حديثه: إن لأمريكا زمن القوة العسكرية التي لا منافس لها، وطريق الأمل الاقتصادي والنفوذ الثقافي، إنه السلام الذي يأتي بعد الانتصار الساحق. هذا هو المفهوم، وهذا هو التوجه.
وفي وثيقة السياسية الخارجية التي اتخذها هذا الرئيس أيضاً، والذي قدمها بين يدي حكمه: إنها يمينية من حيث الأيدلوجية -أي: العقيدة- ببعديها السياسي والديني تسعى لتحقيق مصلحة قومية عليا كونية، اقتصادياً وثقافياً، وتتجاوز كل تحرك أمريكا من أجل هذا على مدى القرون الماضية، إنها الحركة التي تعكس كياناً إمبراطورياً يسعى للوجود في كل بقعة من بقاع الأرض.
وفي تصريح لمدير مكتب التخطيط للسياسة الخارجية الأمريكية يقول: الهدف الأمريكي للسياسية الخارجية الأمريكية في القرن الحادي والعشرين هو: إدماج بلدان ومنظمات أخرى في الترتيبات التي ستدعم عالماً يتسق مع المصالح الأمريكية.
وغطرستهم وطغيانهم واضح في كل ما هو معلن مما يحتاج أن نكشفه ونقرأه، وأن نعرف به إستراتيجية الأمن القومي التي عرضت على الكونجرس الأمريكي، تقول: أمريكا ستعمل على حسم المعركة مع العالم الإسلامي، وأمريكا لا زالت مستمرة للحصول على دعم المجتمع الدولي، إلا أننا لن نتردد في اتخاذ خطوات من جانب واحد إذا لزم الأمر، وسنشن حرب أفكار لننتصر في المعركة.
ويقول نائب وزير الدفاع: ينبغي منع أي قوة معادية من السيطرة على مناطق يمكن لثرواتها أن تجعل هذه القوة قوة عظمى، كما ينبغي تثبيط عزيمة الدول المتقدمة إزاء أي محاولة لتحدي زعامتنا، كما علينا التنبه والتوقع لأي بروز يحتمل منافسة لنا على مستوى العالم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر