لعلنا تكلمنا في الدرس الماضي عن طائفة الخوارج وموقفهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وسنتكلم عن طائفة تدعي محبة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم، وقد وصلت بهم إلى مرتبة الألوهية والربوبية، وجعلتهم في منازل الأنبياء ومن لم يكن من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم لا يعتبرون به ولا ينظرون إليه، ولهذا انطلقت إلسنتهم في الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم بالطعن والقدح والنقد، ويقولون: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ارتدوا بعده، ولم يبق منهم على الإسلام إلا عدد يسير .. أهل بدر ، وأهل بيعة الرضوان، وكذلك المهاجرون والأنصار كلهم تحولوا عن دين الإسلام وانحرفوا، ولم يبق إلا سلمان ، وأبو ذر ، والمقداد ، وعمار ، وحذيفة ، وأبو الهيثم ، وسهل بن حنيف ، وعبادة بن الصامت ، وأبو أيوب ، وعدد يسير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويدل على ذلك ما رواه الكليني بسنده إلى أبي جعفر أنه قال: ارتد الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة: المقداد وسلمان وأبو ذر .
وروى الكليني عن عبد الرحمن بن القصير قال: قلت لـأبي جعفر : إن الناس يفزعون إذا قلنا: إن الناس ارتدوا، يقصد أهل السنة يفزعون إذا قيل: إن الصحابة ارتدوا فقال: يا عبد الرحمن ! إن الناس عادوا بعدما قُبض النبي صلى الله عليه وسلم أهل جاهلية، إن الأنصار اعتزلت فلم تعتزل بخير، جعلوا يبايعون سعداً وهم يرتجزون ارتجاز الجاهلية، أي: سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه وإذا بالنتيجة حصلت أنهم أعادوا مجد الجاهلية كما كانت من قبل، وغيرها من الأمور التي اتهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالارتداد، ولا شك أنهم في هذا قد خالفوا آيات كثيرة، كما في قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً [التوبة:100] الله يعدهم بجنات عدن وهؤلاء لا يعدونهم إلا بنارٍ خالدين فيها.
وكذلك في قوله تعالى: لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:88-89] وهذا لا شك أنه من ثناء الله تعالى عليهم.
ويقول شرف الدين الموسوي في كلام طويل حول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فالصحابة كغيرهم من الرجال فيهم العدول وهم عظماؤهم وعلماؤهم، قال: وفيهم البغاة، وفيهم أهل الجرائم من المنافقين، وفيهم مجهول الحال، قال: فنحن نحتج بعدولهم، ونتولاهم في الدنيا والآخرة، وأما ما عداهم فلا نقبل منه.
ويقول: إن العدالة في الصحابة لم يدل عليها دليل لا من كتاب ولا من سنة، ولو تدبرنا القرآن الكريم لوجدناه مشحوناً بذكر المنافقين، ويكون هؤلاء المنافقين هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أن كلامهم هذا قبيح.
ومما اتهموا به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم حرفوا القرآن، وأسقطوا منه كلمات وآيات، وتزعم هذه الطائفة التي تدعي محبة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أن ثلاثة أضعاف القرآن الموجود بين أيدينا قد حرفه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن القرآن الصحيح هو الذي كان موجوداً عند علي بن أبي طالب ، والآن هو محفوظ عند الإمام الغائب في السرداب الذي ينتظر متى يخرج فيخرج لنا القرآن الذي لم يكن موجوداً بين أيدي الناس.
وذكروا أن القرآن نزل على سبعة عشر ألف آية -وهذا موجود في كتاب الكليني - والقرآن الذي بين أيدينا هو قريب من ستة آلاف آية، فبناءً عليه حرف الصحابة فيه، ولهذا قالوا: إن سورة (لم يكن) ورد فيها أسماء سبعين من رجالات قريش حذفها الصحابة كلها، وكانت تفضحهم وتسمى الفاضحة عندهم.. إلى غير ذلك.
والعجب من هذه الطائفة أن كل آية وردت في المنافقين، وفي أهل المعاصي، وفي أهل الفجور .. وغير ذلك كلها تنطبق على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل آية وردت في أهل الجنة، وفي أهل الإيمان والصلاح ربطت بـعلي وآل بيته فقط، وأما سائر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم فليس لهم حظ في القرآن أبداً.
ومن الأمثلة: روى الكليني في كتابه الكافي ، عن أبي بصير عن أبي عبد الله وهو جعفر الصادق، قال: إن عندنا لمصحف فاطمة ، وما يدريك ما مصحف فاطمة ؟ قلت له: وما مصحف فاطمة ؟ قال: مصحف فاطمة فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما في قرآنكم الذي بين أيديكم حرف واحد منه، قلت: والله هذا العلم، أي: فقدنا العلم كله إن لم يكن بين أيدينا هذا المصحف، وإن الذي بين أيدينا شيء محرف وقد غُير وبُدّل.
ومنها: ما ورد عن جابر ، قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذب، وما جمعه وحفظه كما أنزل إلا علي بن أبي طالب والأئمة من بعده.
ومنها كذلك آثار كثيرة تبين أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم قد غيروا هذا المصحف، بل ألف أحد أئمتهم كتاب (فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب ) وهو كتاب طبع في إيران ، وإن كانت نسخه لا يريدون بقاءها مخافة أن يتهموا بذلك، ويرون أن القول الراجح عندهم أن القرآن ليس بمحرف، ولكن هذا غير صحيح، بل رجح ذلك جمع منهم، بل في كتاب الكليني إذا أردت أن تعرف هذه الطائفة فانظر له في وضوئه؛ لأن عندهم قول الله تعالى عندنا: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6] عندهم: ( وأيديكم من المرافق ) فتجده يبدأ بالغسل من أعلى ولا يبدأ من أسفل، وهذا موجود في كتاب الكليني لا أحد يستطيع أن ينكره، ولو قالوا بتحريفه فهذه نصوص سواء كان التحريف لآيات أو لسور، أو كان التحريف لحروف القرآن وما دلت عليه فهذا جزء نسميه من التحريف.
الأمر الأول: لما كان لـعلي من الخيرية رضي الله عنه وأرضاه، والسبب: أنه تزوج فاطمة ، وفاطمة أنجبت ذرية، قال: فإن عائشة حقدت على فاطمة؛ لأنها كانت سبباً لنسل الذرية الطاهرة وهم آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهي لم تنجب أولاداً، فحسدتها في نفسها.
وهذا كلام باطل لا يقوله عاقل إطلاقاً.
الأمر الثاني: أن علي بن أبي طالب تزوج أسماء الخثعمية بعد وفاة فاطمة ، وأسماء الخثعمية هي أم محمد بن أبي بكر الذي نشأ في حجر علي ، فكانت عائشة تجد عليه في نفسها.
وهذا الكلام لا شك أنه باطل.
فإن طه حسين ممن تربوا على أيدي المستشرقين تربية كاملة، وحتى تخرجوا تلاميذ خبثاء.
وقد قدح في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أن الأولى بالخلافة هو علي بن أبي طالب ، لكنه لم يستطع أن يقف في وجوههم؛ نظراً لأن أبا بكر وعمر قد أقاما العدل وأنصفا من أنفسهما، ولم يرجعوها جاهلية قبلية، وإنما لما ولي عثمان رضي الله عنه وأرضاه لم يرتض علي بن أبي طالب بولاية عثمان ؛ نظراً لأنه أعاد مجد بني أمية، وهذا كلام باطل لا يعتمد عليه.
وقد كان نقده على أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يكذب لصالح معاوية رضي الله عنه وأرضاه، فقال من كلامه: ولم يكن ما قدمه أبو هريرة لـمعاوية جهاداً بسيفه أو بماله، وإنما كان جهاده بأحاديث ينشرها بين المسلمين يخذل بها أنصار علي ويطعن فيها عليه، ويجعل الناس يتبرءون من علي بن أبي طالب ، وكان يشيد بفضائل معاوية وبدولته.
وهذا الكلام لا شك أنه باطل، بل إن أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه كان من أكثر الصحابة رواية لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، والقدح في أبي هريرة قدح في سنة محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا الكلام لا شك أنه من اللمز في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا فيما يتعلق بالذين انتقدوا الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ولمزوهم وتعرضوا لهم.
ومن أسباب عدم جعلهم تحت موازين الجرح والتعديل: أن الله سبحانه وتعالى قد عدلهم في كتابه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم زكاهم، بل جعل الرسول صلى الله عليه وسلم لهم السياج المنيع فلا يتعرض لهم أبداً، والله سبحانه وتعالى يقول: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا [الحديد:10] وكذلك أثنى الله عليهم في غير ما آية مثل آية مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الفتح:29] وحصل الثناء عليهم في التوراة والإنجيل، ولهذا وجب على كل مسلم ألا يتطرق إلى قلبه شك في عدالة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
أفضل الصحابة على الإطلاق: أبو بكر الصديق ، ثم عمر ، وهذا بإجماع الأمة قاطبة، وحصل خلاف بين التابعين هل بعده علي بن أبي طالب أم عثمان ، ولكن الرأي الصحيح وهو رأي جمهور سلف الأمة أن عثمان أفضل، ثم بعد ذلك علي بن أبي طالب ثم العشرة المبشرون بالجنة.
واتفق أهل السنة والجماعة على القول بتفضيل المهاجرين على الأنصار، وأن المهاجرين أفضل من الأنصار، وليس هذا التفضيل يؤدي إلى استنقاص أحدٍ منهم، بل لكل منهم منزلة وفضل؛ رضي الله عنهم وأرضاهم.
ويشهدون كذلك لمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بجنات عدن، وهذا هو الواجب علينا دائماً أن نسير على ضوئه، ثم يقدمون أهل بدر وكذلك من شارك في الغزوات فلهم منازل عليا.
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته إلى عدي بن مسافر ، قال: ويجب الاقتصاد والاعتدال في أمر الصحابة والقرابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فإن الله أثنى عليهم في كتابه في غير ما آية، وقد ذكر أن اتفق أهل السنة والجماعة على ما تواتر من فضائل أمير المؤمنين، وأن خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر ثم عمر ، واتفق كذلك الصحابة على بيعة عثمان رضي الله عنه، لئلا ينتقده الخوارج ، وكذلك ينتقد خلافته الذين يدَّعون موالاة آل البيت من الرافضة وغيرهم.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفضيل هؤلاء الأربعة الأئمة الخلفاء الراشدين المهديين قال: (خلافة النبوة ثلاثون سنة) ثم تصير بعد ذلك ملكاً يتولاها ابناً عن أب، وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع سيرة هؤلاء الأربعة رضي الله عنهم، وذكر أن آخر الخلفاء الراشدين هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه.
ومما اتفق عليه عامة أهل السنة من العلماء والعباد والأمراء والأجناد أنهم يقولون: أبو بكر وثم عمر وثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم وأرضاهم، وكذلك نجد أهل السنة والجماعة يتولون آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي الكلام عليه بشيء من التفصيل.
وذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أن أهل السنة والجماعة يشهدون لـعائشة بنت أبي بكر الصديق أنها المبرأة من السماء على لسان جبريل عليه الصلاة والسلام إخباراً عن الله عز وجل، وقد ورد فيها عشر آيات في سورة النور تبين براءة عائشة مما اتهمت به.
ولذلك قال جمع من أئمة أهل السنة : إن من قدح في عائشة رضي الله عنها أو اتهمها بما برأها الله به فإنه كافر خارج من هذا الدين، لأنه بذلك كذب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن كذب الله ورسوله فلا شك بأنه كافر، لأنه أنكر شيئاً تواتر في الكتاب وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ويحذرنا أهل السنة والجماعة من التعرض لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بنقد أو لمز أو غيره؛ لأن ذلك قد حرم علينا في الكتاب والسنة، قال الله تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الحجرات:12] وأول ما ينطلق على أدنى كلام في الصحابة فهو غيبة، وقال تعالى وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً [الأحزاب:58] قال: ومن تعرض للصحابة رضي الله عنهم فإنه داخل في أذى المؤمنين والمؤمنات، بل في أذى الأمة جميعاً، فنحن نتأذى إذ نسمع أحداً يتكلم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدنى شيء.
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال فيهم في بيعة الرضوان كما ثبت في الصحيح: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) وهم لا شك بأن عددهم كبير، ومن تعرض لهم بشيء فقد لمز أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن ماجة وابن أبي عاصم في السنة والإمام أحمد في فضائل الصحابة ، عن نسرين بن ذعلوب ، قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: [لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره] وكذلك نقلاً عن عائشة أنها قالت: [يا ابن أختي! أمروا أن يستغفروا لأصحاب رسول الله فسبوهم] ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: [لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة مع النبي صلى الله عليه وسلم خير من عمل أحدكم أربعين سنة] ويُروى أثر عن ابن المبارك وذكره ابن كثير رحمه الله تعالى أنه سئل: أيهما أفضل: عمر بن عبد العزيز أم معاوية بن أبي سفيان؟ فقال ابن المبارك: غبار في أنف معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عمر بن عبد العزيز، ولعل هذا مبالغة في جعل السياج لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيماً، ومنازلهم كبرى.
ومودة القربى بها أتوسل |
المودة: هي المحبة، ويقصد المؤلف رحمه الله تعالى أن محبة قرابة النبي صلى الله عليه وسلم (أتوسل بها).
ولماذا أفرد القربى مع أنها داخلة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: ذكرها تركيزاً عليهم؛ نظراً لأن لهم فضائل يتميزون بها عن سائر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ولأن قرابة النبي صلى الله عليه وسلم قد تُعرض لها باللمز وبالسخرية وبالسب وبالتهجم؛ خاصة من طائفة الخوارج الذين قدحوا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
القربى: يقصد بها قرابته صلى الله عليه وسلم، وهم أهل بيته المنوه بذكرهم في قوله تعالى: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23].
وقوله: (ومودة القربى بها) أي: بمحبة أهل البيت كلهم (أتوسل) أي: أتقرب إلى الله تعالى.
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لهم حقوق يجب رعايتها، فإن الله قد جعل لهم حقاً في الخمس، وحقاً في الفيء، وأعظم ما فيه أن الله أمرنا بالصلاة عليهم مع رسوله في كل صلاة نصليها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ألسنا نقول: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، في كل صلاةٍ نصليها ونقولها، وما من مسلم إلا ويقولها، مما يدل على فضلهم ومنازلهم التي لا تنطبق إلا على من استقام على دين الله تعالى وسار على منهاجه، وإلا فإن من قرابة النبي صلى الله عليه وسلم عمه أبا لهب ومع ذلك ليس داخلاً في آل البيت، بل أنزل الله فيه قرآناً يتلى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] ولم يستفد من تلك القرابة شيئاً.
وآل محمد صلى الله عليه وسلم هم الذين حرمت عليهم الصدقة، وهكذا قال الإمام الشافعي وأحمد بن حنبل .. وغيرهما، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) وقد قال الله فيهم ثناءً عليهم: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب:33].
ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الحسن أو الحسين أخذ تمرة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كخ كخ) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا أن تكون من الصدقة لأخذتها، ثم قال: إن آل محمد لا تحل لهم هذه الصدقة، لأنها من أوساخ الناس) ولذلك وجب علينا محبة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد ورد في المسانيد والسنن أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه العباس وقال: (يا رسول الله! إن قريشاً تجلس في أنديتهم يتضاحكون، حتى إذا جئنا لم يحدثونا وجفونا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً: والذي نفسي بيده، لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلي) يقصد بهم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك وجب علينا أن نحبهم ونجلهم ونعظمهم ونجعل لهم المنازل؛ لأن الله قد اصطفاهم، فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم) صلوات الله وسلامه عليه، مما يدل أن لهؤلاء منازل يجب أن تحترم وأن ينزلوا منزلتهم التي دل عليها الكتاب والسنة.
القول الأول: إن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين حرمت عليهم الصدقة، واختلف العلماء في المراد بالذين حرمت عليهم الصدقة:
فقيل: إنهم بنو هاشم وبنو المطلب، وهذا هو قول الشافعي رحمه الله تعالى وهي إحدى الروايات عن الإمام أحمد .
وقيل: هم بنو هاشم خاصة، وهذا هو مذهب أبي حنيفة، والرواية الأخرى عن الإمام أحمد ، وهو اختيار الإمام ابن القاسم صاحب مالك رحمه الله تعالى.
وقيل: إن الذين حرمت عليهم الصدقة هم بنو هاشم ومن فوقهم إلى بني غالب، فيدخل فيهم بنو المطلب، وبنو أمية، وبنو نوفل، ومن فوقهم إلى بني غالب، وهذا اختيار أشهب من أصحاب الإمام مالك ونقل عن غيره، وهذا بناء على أن الآل هم الذين تحرم عليهم الصدقة، ولكن الصحيح أن الذين تحرم عليهم الصدقة هم من ذكروا في قول الشافعي ومن وافقه وهم بنو هاشم وبنو المطلب رحمهم الله ورضي عنهم.
القول الثاني: إن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم هم ذريته وأزواجه خاصة، وهذا نقله وحكاه ابن عبد البر في التمهيد، واستدل على أنهم أزواجه وذريته بما ورد عندنا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وورد في بعض الأحاديث: اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته، وهذه صفة من صفات الصلاة على محمد، وهي صفة صحيحة ثابتة في الحديث، وذكروا في اللغة: أن آل الرجل هم أهل بيته، يدخل فيه أزواجه وذريته.
القول الثالث: ‘ن آل محمد صلى الله عليه وسلم هم أتباعه إلى يوم القيامة، وقالوا: حكاه ابن عبد البر عن بعض أهل العلم، وهذا القول مروي عن جابر بن عبد الله ، وذكره البيهقي عنه كذلك، وروي عن سفيان الثوري رحمه الله ورضي عنه، واختاره بعض أصحاب الشافعي .
القول الرابع: إن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم هم الأتقياء فقط من أمته، وقالوا: حكاه القاضي حسين والراغب وجماعة.
وأرجح هذه الأقوال أن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين تحرم عليهم الصدقة، وقد يدخل فيه القول الثاني: أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بظاهر الحديث، وله نوع من القوة بناءً على: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد.
أما فيما يتعلق بتحريم الصدقة وغيرها فلا شك أنه يدخل فيهم بنو المطلب وبنو هاشم، وبالنسبة لأتباعه فلا يدخلون، وبالنسبة للأتقياء فلا يدخلون تلقائياً.
قال: نعم.
قال: أقرأت الـ(حم)، يعني: السور المبدوءة بـ(حم)؟
قال: قرأت القرآن ولم أقرأ هذه.
قال: أما قرأت قوله تعالى: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23].
قال: وإنكم لأنتم هم؟
قال علي بن الحسين : نعم، إننا لنحن الذين أمر الله بأن يحسن إليهم: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23] كأنه يبين منزلته رضي الله عنه وما يجب في حق آل بيته رضي الله عنهم.
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: ولا ننكر الوصاية بآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة، من أشرف بيت وجد على وجه الأرض، ولا شك في ذلك أن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من أشرف بيت وجد على وجه الأرض.
فخراً وحسباً ونسباً، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة، كما كان عليه سلفهم كـالعباس وبنيه، وعلي وذريته رضوان الله عليهم أجمعين.
وقد وردت الوصايا بهم في حديث غدير خم، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته في غدير خم قال: (إني تارك فيكم ثقلين: كتاب الله وعترتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) وكذلك روى الإمام أحمد رحمه الله ورضي عنه من حديث عبد الله بن الحارث عن العباس بن عبد المطلب، قال: (قلت: يا رسول الله! إن قريشاً إذا لقي بعضهم بعضاً، لقوهم ببشر -أو بوجه حسن- وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها -كأنه لا تنشرح صدورهم لجلوسهم- فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، ثم قال: والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل إيمان حتى يحبكم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم).
ونجد أن النبي صلى الله عليه وسلم كما روى الإمام البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنه، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: [ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في آل بيته] وفي الصحيح أن الصديق رضي الله عنه قال لـعلي : [والله لأن أصل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من أن أصل قرابتي أنا].
ونجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه تطبيقاً حياً لـ(ومودة القربى بها أتوسل) أنه لما أسلم العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قال عمر بن الخطاب : [والله لإسلامك اليوم هذا أحب إلي من إسلام الخطاب ] وهو والده رضي الله عنه وأرضاه، ولما سئل عن السبب في ذلك قال: [لأن إسلامك أحب إلى رسول الله من إسلام أبي] فقدم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على محبة نفسه، وهذا يدل على ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من معرفة قدر آل محمد، ومن مودة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك قال ابن كثير : فحال الشيخين رضي الله عنهما هو الواجب على كل أحد أن يكون كذلك، ولهذا كانا أفضل المؤمنين بعد النبيين والمرسلين رضي الله عنهم وعن سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكلهم قدر وفضل ساطع لكنما الصديق منهم أفضل |
ذكر المؤلف رحمه الله تعالى: (ولكلهم قدر) أي: لكل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قدر، والقدر في اللغة بفتح فسكون: وهو مقياس الشيء وضابطه، يقال: هذا له قدر أي: له مقياس وضابط، ولعله يقصد بها هنا المنزلة، ويقال: فلان له قدر عظيم أي: منزلة عظيمة؛ وذلك لوجود الدلائل على فضائل هؤلاء الصحابة، ومنه قوله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91] أي: ما عظموا الله حق تعظيمه، ولا عرفوه حق المعرفة.
ولهذا تجد النواصب والخوارج الذين يكفرون الصحابة المدعين لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم محبة، فإن هؤلاء ما عرفوا قدر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
قال: (ولكلهم قدر وفضل) قال في اللسان : الفضل والفضيلة معروف، والفضيلة ضد النقص، وكذلك ضد النقيصة، قيل: الفضيلة هي الدرجة الرفيعة في الفضل، ولا شك أن الصحابة لهم منازل يفوقون بها سائر الناس، وكم كانت النفوس تتمنى أن لو رأت أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يغزو قوم -أي: جيش- فيقال: هل فيكم من صحب رسول الله؟ فإذا قيل: فيهم فلان فتح الحصن بكامله) لما يعرفون من المنازل العليا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن سار على نهجهم.
قال:
ولكلهم قدر وفضل ساطع |
قالوا: سطع يسطع سطعاً وسطوعاً، وقال في اللسان: أصلها من سطع، والسطيع كل شيء انتشر، فضل ساطع أي: واضح، ومنازلهم لا تخفى إطلاقاً، ولئن جهلناها نحن فإنها لا تجهل، فقد دونت ووجدت في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قالوا: السطيع كل شيء انتشر أو ارتفع من برد أو غبار أو نور أو ريح، وكل هذه تدل على البروز والظهور، فالبرد والغبار والنور والريح ظاهرة واضحة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم المنازل العليا.
قال: ويقال للصبح: السطيع؛ لانتشاره ولإضاءته.
لكنما الصديق منهم أفضل |
قوله: الصديق : في القاموس : الصدق ضد أو نقيض الكذب، قال: وصدقه قبل قوله، وصدقه الحديث أي: أنبأه بالصدق، والصديق الدائم التصديق، ويكون في الذي يصدق قوله بالعمل، أي شخص يصدق قوله بالعمل يسمى صديقاً، وورد في القرآن: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [المائدة:75] أي: مبالغة في الصدق.
وكذلك روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه سمي بـالصديق بأثر ونص من السماء، وهذا الأثر قد رواه الحاكم والطبراني في الكبير لكن الحديث ضعيف لا يحتج به.
وذكروا السبب في تسميته صديقاً، وإن ذلك كان بعد حادثة الإسراء والمعراج، فإنه لقي في أثناء الطريق فقيل له: أما سمعت ما قال صاحبك؟ قال: وما قال؟ قالوا: إنه يدعي أنه صعد إلى السماء وذهب إلى بيت المقدس ورجع في ليلته، قال: لئن كان قد قال ذلك فقد صدق، أما إني أصدقه في أعظم من ذلك، أصدقه في خبر السماء. أي: في الوحي وهو أعظم من قضية الذهاب إلى بيت المقدس أو الصعود إلى السماء، قالوا: فمنذ ذلك الحين سمي أبو بكر صديقاً.
ونقل إجماع أهل السنة والجماعة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه هو أفضل الصحابة على الإطلاق، وقد ورد فيه آيات، وذكر المفسرون رحمهم الله تعالى في آيات أنها نزلت في أبي بكر كما في قوله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى [الليل:17] قالوا: إنها نزلت في أبي بكر ، وقوله تعالى: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر:33] كذلك، وبإجماع المفسرين أنه هو المعني في قوله في ثناء الله عليه: إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].
ولذلك نقل في كتب السير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: [لساعة من
وقد أخرج الإمام أحمد وغيره عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: [خير الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر] يقول الإمام الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: وهذا متواتر عن علي بن أبي طالب، وذكر ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفتاوي المصرية أنه روي عن علي بن أبي طالب من نحو ثمانين وجهاً، مما يدل على أنه متواتر عن علي بن أبي طالب .
أبو بكر الصديق له منازل عليا:
أولها: أنه من أوائل من أسلم من الرجال رضي الله عنه وأرضاه، وهذا فضل عظيم جداً، ولذلك ما جاءت الموازنة، بعض العلماء يقول: أول من أسلم أبو بكر ، ولكن الذين جمعوا فقالوا: أول من أسلم من الرجال أبو بكر ، وأول من أسلم من الموالي زيد بن حارثة ، وأول من أسلم من الفتيان علي بن أبي طالب ، وأول من أسلم من النساء خديجة بنت خويلد ؛ لكي يجعلوا لكل واحد منهم فضلاً ومنزلة رضي الله عنهم وأرضاهم.
ثانيها: أنه أسلم على يديه ستة من العشرة المبشرين بالجنة أو أكثر من ذلك، فأسلم علي يديه: عثمان ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبو عبيدة ، وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
له خصائص منها: جمع المصحف، وقيل: إنه رضي الله عنه أول من جمع القرآن بعد وقعة اليمامة حين قتل عدد كبير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان بعضهم يرى أن هذا نقد عليه ولكنهم من أجهل الناس، بل هذا من حفظ الله تعالى لدينه، وحفظ الله تعالى لما جاء عن الله وجاء عن رسوله بأن يسر الله هذا الرجل الصالح رضي الله عنه وأرضاه بأن جمع القرآن مخافة أن يتفلت.
كان من أشد الناس تورعاً رضي الله عنه وأرضاه، وقصته مشهورة في أنه ما كان يدخل في جوفه طعاماً حتى يسأل الغلام: من أين جئت به؟ وأكل رضي الله عنه لقمتين وسأل الغلام: من أين؟ قال: ذاك مال تكهنت به في الجاهلية، وكانت النتيجة أن أدخل إصبعه ليخرجه، فقال له الصحابة: رويدك! هذا طعام قد ذهب، قال: والله لو لم يخرج إلا بروحي معه لأخرجته، فقاءه رضي الله عنه تورعاً وتقوى.
ولاشك أنه رضي الله عنه وأرضاه سمي بـالصديق ، وهذا لقب يتميز به على سائر الصحابة إطلاقاً، ولعل السبب في ذلك: ما وجد في قلبه من التسليم والتصديق لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وما نقل أنه اعترض على رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً في أمر أو مشورة أو خبر أو غيره، بل كلها التسليم والتصديق لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن أعظمها أنه لما حدث خلاف بينه وبين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ولعل عمر بن الخطاب غضب على أبي بكر الصديق، وكان قد قيل: إن أبا بكر قد أخطأ على عمر ، فندم أبو بكر الصديق وجاء يستسمح من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلم يقبل منه عمر ، فرجع أبو بكر الصديق ورآه النبي صلى الله عليه وسلم وإذا بوجه أبي بكر قد تغير، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم على عمر وقام أمام الصحابة رضي الله عنهم جميعاً، معلناً لهم منزلة أبي بكر الصديق العظمى، فقال لهم: (هل أنتم تاركو لي صاحبي؟) أي: لا ينبغي لكم أن تتعرضوا له بشيء ولا أن تغضبوه فله المنازل العليا، ثم قال: (إني قلت: أيها الناس! إني رسول الله إليكم جميعاً فقلتم: كذبت وقال
بل أعظمها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يفقده صباحاً ولا مساءً، فقد كان أبو بكر رضي الله عنه كان من ألصق الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر الصحابة صحبة له، ولذلك قال الإمام الذهبي رضي الله عنه وأرضاه: صحب أبو بكر الصديق النبي صلى الله عليه وسلم من حين أسلم إلى حين توفي لم يفارقه لا حضراً ولا سفراً إلا في أمرٍ قد أذن فيه الرسول صلى الله عليه وسلم له، كالحج والجهاد وغيره، وكذلك أنفق ماله كله في سبيل الله تعالى.
سأل بعض الأحبة، قال: إنك تترضى على بعض أئمة السلف ، ونقول: قضية الترضي قد جعلت شعاراً لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن إذا مرت مروراً عرضياً فلا مانع من الترضي على بعض أئمة السلف ، كالإمام أحمد ، أو كشيخ الإسلام ابن تيمية.. أو غيره، لكن جعلها شعاراً فهي خاصة بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه أنفق ماله كله، فقيل: إن عمر بن الخطاب جاءته تجارة، فقسم ماله نصفين حين سمع أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإنفاق في سبيل الله، وقال عمر: [قلت في نفسي: إني أغلب أبا بكر رضي الله عنه في الإنفاق، فجئت بمالٍ عظيم وقدمته بين يدي رسول الله، وسألني النبي صلى الله عليه وسلم: ما الذي تركت لأهلك؟ قلت: يا رسول الله، تركت لهم مثل الذي أعطيتك، قال عمر: وجلست أنتظر وإذا أبو بكر جاء بمال عظيم، وقدمه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأله الرسول: ما الذي تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله، أي: لم يَبْقَ عنده شيء من ماله، وما أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن أنفق ماله كله في سبيل الله، فقال عمر بن الخطاب : والله ما هممت أن أسبق هذا الرجل إلا سبقني
وفي الصحيحين من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال (قلت: يا رسول الله، أي النساء أحب إليك؟ قال:
وورد أن الواجب علينا أن نتعرف على شخصية هذين الكبيرين: أبي بكر وعمر ؛ والسبب في ذلك أن لهم منازل عليا رضي الله عنهما.
وقد ذكرنا في دروس مضت أن الحسن البصري لما سئل: أحب أبي بكر سنَّة؟ قال: بل فريضة! وكان الإمام مالك بن أنس يقول: كان السلف يعلمون أبناءهم حب أبي بكر وعمر كما يعلمونهم السورة من القرآن.
وأثنى النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر في قوله: (لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت
وقد كانت له من المنازل العليا في المسابقة بالأعمال، ومرة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم من صام هذا اليوم؟ من عاد مريضاً؟ من؟ من؟ يذكر أعمالاً صالحة، وأبو بكر يقول: أنا يا رسول الله.. أنا يا رسول الله.. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما عملها امرؤ إلا كان من أهل الجنة).
وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بجنات عدن في أحاديث صحيحة متواترة، والعجب من قوم ينطلقون بألسنتهم إلى تكفيره أو تفسيقه أو القول بظلمه رضي الله عنه وأرضاه، والحمد لله أننا لا نجد في قلوب أهل السنة والجماعة غلاً على أبي بكر ولا على أحدٍ من الخلفاء الأربعة، ولا على سائر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
كانت وفاته رضي الله عنه سنة ثلاثة عشر من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وغسلته أسماء بنت عميس رضي الله عنها وأرضاها بوصية منه، فإنه رضي الله عنه وأرضاه أوصى أن تغسله زوجته، وهذا يدل على ضعف ما ذهب إليه بعض الفقهاء في قولهم: إذا مات الزوج لا يجوز للزوجة أن تغسله لأنها تصبح أجنبية منه، ولكن هذا الكلام غير صحيح، فإن أسماء بنت عميس غسلت أبا بكر بمحضر الصحابة ولم ينكر عليها أحد، ونقل عن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أنهن قلن: لو كان لنا من الأمر شيء ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا زوجاته، وصلى على أبي بكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وكانت خلافته سنتين وأربعة أشهر وعشر ليالٍ على خلافٍ في الأشهر؛ لكن لم تزد الستون على سنتين، وكانت جلها فترة توطيد للإسلام في الجزيرة ، والسبب أنه قد ارتد عدد كبير عن دين الإسلام، فقام رضي الله عنه وأرضاه مقاتلاً للمرتدين حتى عاد الناس إلى دين الله تعالى؛ فرضي الله عنه وأرضاه.
ومحبة القربى بها أتوسل |
ونتطرق لقضية التوسل سريعاً، وخاصة ونحن في عصر كثر فيه التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما يقول الناس: بجاه محمد، تجد أنه يسألك به.
والتوسل، في الشرع: هو التقرب إلى الله تعالى بطاعته، أي: اتباع ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، وبكل عمل يحبه الله ورسوله.
والدليل على ذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:35] والله يقول: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً [الإسراء:56-57].
القسم الأول: التوسل المشروع، ويقصد به ما دل الكتاب والسنة على جوازه، وهذا لا شك أنه يجب علينا أن نعمل به؛ لأنه من العبادة التي نعبد لله بها.
القسم الثاني: التوسل الممنوع، وهو ما لم يدل عليه الكتاب والسنة.
والتوسل المشروع ثلاثة أقسام:
القسم الأول: التوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته، ودليله قوله تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] كأن تقول: اللهم أنت السميع الذي تسمع كل شيء، اللهم أنت المدبر لهذا الكون والمصرف له، اللهم إن لك الأسماء الحسنى، والصفات العلى، أسألك بكل اسمٍ هو لك، سميت به نفسك .. إلخ.
ولعل من التوسل أن تقدم شيئاً قبل أن تطلب ما تريد، فإذا قلت: اللهم إن لك الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأنت الذي تدبر هذا الكون، أسألك بكل اسمٍ هو لك .. إلى الآن هذا توسل، فإذا قلت: ارزقني الهداية، وثبتني على صراطك، وارزقني ذرية صالحة.. إلى غيره، فذلك هو المطلوب، فقدمت مقدمة من أسماء الله وصفاته قبل أن أنطلق أطلب حاجتي ولذلك يقول الله: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف:180].
ونجد من الأدلة على ذلك قوله تعالى: رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [إبراهيم:38] ثم جاء بعدها في دعاء إبراهيم: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ [إبراهيم:40] جاء قبل ذلك بمقدمات من أسماء الله وصفاته، وهذا يعتبر من أعظم الوسيلة التي نتقرب إلى الله تعالى بها.
القسم الثاني: التوسل إلى الله تعالى بالعمل الصالح الذي يقدمه الإنسان في الحياة الدنيا، ولذلك فإن من الأعمال الصالحة التي نقدمها في الحياة الدنيا كثيرة مثل: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا [آل عمران:193] أليس الإيمان عمل؟ بل هو عمل، ثم جاء بعدها الدعاء، مثل أعمال صالحة تقدمها وقد دل عليها الكتاب والسنة، فمثلاً: نحن صلينا الصلاة، فتقول في الصلاة: اللهم إني يا رب قمت بين يديك، وأديت هذه العبادة، وركعت لك وسجدت استجابة لما جاء في كتابك وسنة رسولك، اللهم إني أعمل الصالحات في هذه الحياة الدنيا .. بعدها: ارزقني، اعطني، وفقني، ثبتني على صراطك، فأقدم أعمالاً صالحة.
ومن أعظم الأدلة على ذلك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما حصل من التوسل بالثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، فإنهم قدموا أعمالاً صالحة في هذه الحياة الدنيا، فأحدهم توسل ببره لوالديه، والثاني: توسل بتركه للزنا، والثالث: توسل بتنمية مال الأجير.
ولعلي أقف وقفة لطيفة هنا في قضية بر الوالدين، فإن هذا الرجل له أعمال صالحة كثيرة، وهم كانوا في مسير، وأووا إلى غار، ولعلهم أرادوا أن يستظلوا من الشمس، أو يناموا فيه، فانطبقت عليهم صخرة من أعلى الغار، وبعدها دفعوها بأيديهم فلم يستطيعوا، فما كان منهم إلا أن جلسوا ينتظرون الموت، ثم بعد ذلك قال أحدهم: إنه لا منجي لكم إلا الله، فإني أرى أن يتوسل كل واحدٍ منكم بأحسن عمل قدمه في هذه الحياة الدنيا، تعبد لله تعالى فيه.
فذاك توسل ببره بأبويه، فقال: ما كنت أغبق أحداً قبلهما، فذكر من الفضائل العظيمة أنه ما كان يعطي أحداً اللبن قبل أن يعطي والديه أبداً، وتأخر عليهم ليلة من الليالي، فلما جاء وجد والديه قد ناما، وصبيته يريدون اللبن ولم يعطهم إياه أبداً ولم يقدمه لهم، بل جلس واقفاً ينتظر، وتأخر ساعات طوال وصبيته يتضاغون يبكون تحت قدمه فما أعطاهم شيئاً، وعندما استيقظ والداه سقاهما، ثم بعد ذلك سقى صبيانه ثم قال: اللهم إن كنت قد عملت هذا العمل ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه.
وهذا يدل على أن الواجب على المسلم أن يحسن إلى والديه: بالنفقة، وبالكلام الطبيب، وبالابتسامة، وبالجلوس بين أيديهم.. إلى غيره، ونحن نعلم أنه قد روى الإمام مسلم بلاغاً، قال: وبلغنا أن أبا هريرة رضي الله عنه ما ذهب للحج إلا بعد أن ماتت أمه، براً بها؛ نظراً لأنها كانت كبيرة السن، وتحتاج إلى شيء من الجلوس عندها.
كثير من المسلمين لا ينظرون لحقوق الوالدين شيئاً، وتجد أن الإنسان يسافر إلى مكة ، وينطلق إلى هنا وهناك ويخرج ووالدته تأمره بالجلوس، بل إن بعضهم قد يسافر إلى مكة أيام رمضان ولا يعبأ بوالدته تحتاج إلى أن يوصلها أو إلى أن يزور بها، أو إلى إحسان إليها، أو إلى نفقة.. أو غيره، وقد تقول له: لا تذهب فلا يصغي لها، ولا شك أن هذا من الخطأ والجهل، فهؤلاء مساكين ما علموا أنهم بتعبدهم وذهابهم إلى مكة قد أخذوا بالمفضول مع تركهم للفاضل، فبقاء الإنسان عند والديه أعظم أجراً وأفضل عند الله من حج النافلة، ومن عمرة النافلة، بل أفضل نوافل العبادات كلها، نجد أن بر الوالدين من الواجب علينا أن نحرص عليه أشد الحرص، فهؤلاء لما توسلوا بأعمالهم الصالحة فرج الله عنهم ما هم فيه، وأزال ما هم فيه.
القسم الثالث: من التوسل المشروع: التوسل إلى الله تعالى بدعاء الصالحين، وقد أخذ به إخوة يوسف، فإنهم قالوا: يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ [يوسف:97] وقال يعقوب: ... إنه سيستغفر لهم ربه، وأنه سبحانه وتعالى هو الغفور الرحيم.
ومنها: قصة العباس عندما كان مع عمر بن الخطاب ، فإن عمر كان يقول: اللهم إنا كنا نتوسل بنبينا، وإنا الآن نتوسل بعم نبينا، قم يا عباس فاستسق لنا، فقام العباس رضي الله عنه فاستسقى للصحابة فسقوا، وذلك في عام الرمادة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر