وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة الأعراف المكية المباركة الميمونة، تلك السورة التي تعالج أمراض القلوب، تلك السورة التي تدعو إلى تحقيق العقيدة الإسلامية المسعدة المنجية، وهي تدور على تقرير معنى لا إله إلا الله بالبراهين والحجج والآيات في الكون والقرآن، حقاً لا يوجد إله يستحق أن يعبد إلا الله.
لماذا؟ لأن الآلهة التي تعبد بدون إذن الله عبدت بالظلم والباطل؛ ما خلقت ولا أوجدت ولا أماتت ولا أحيت ولا أعطت ولا منعت، أما الله فهو المالك لكل شيء والقدير على كل شيء والحكيم في كل شيء، هذا الذي يستحق أن يؤله وأن يعبد وحده دون سواه.
ثم تقرير النبوة المحمدية، أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي العدناني رسول الله، والآيات والمعجزات والأدلة تملأ الأرض، والذي ينفي رسالته أعمى وضال وجاهل ولا بصيرة له، حسبه أن ينزل عليه كلام الله، كيف ينزل عليه كلام الله في كتابه الكريم وتقول: ما هو برسول؟ ولكن ينفي الرسالة المحافظون على باطلهم وجهلهم وشركهم وماديتهم.
المبدأ الثالث: عقيدة البعث الآخر، لابد من حياة بعد هذه؛ إذ هذه للعمل وتلك للجزاء، الناس الآن يعملون والجزاء متى؟ في الحياة الثانية، وأوشكت على ظهروها وخروجها للناس.
هذا شأن السور المكية، وها نحن مع هذه الآيات القرآنية، فهيا نصغ ونستمع تلاوتها مجودة مرتلة ونحن نتأمل ونتدبر ونتفكر ثم نشرحها كما في هذا الكتاب، والله أسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ * مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:175-178].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ [الأعراف:175] من الآمر بالتلاوة؟ الله جل جلاله، من المأمور بأن يتلو؟ رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ما معنى التلاوة؟ القراءة، حيث الكلمات يتلو بعضها بعضاً.
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ [الأعراف:175] على قومك المحاربين لك المعاندين لك، سواء كانوا من كفار العرب ومشركيهم أو كانوا من يهود المدينة، اقرأ عليهم، فماذا يقرأ عليهم؟ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا [الأعراف:175] خبر الذي أعطيناه آياتنا التنزيلية ففهمها وعرفها وعرف مصدرها، ثم استهوته الشياطين وغرته الدنيا بمفاتنها وركن إليها وترك عبادة ربه وتخلى عن الآداب والأخلاق التي يحبها ربه، فَانسَلَخَ مِنْهَا [الأعراف:175] أي: من الآيات انسلاخ الثوب من الجسم، تنزع ثوبك تتركه فتبقى عارياً، أو انسلاخ الحية من جلدها، يترك الثعبان جلده ويمشي بعيداً.
فَانسَلَخَ مِنْهَا [الأعراف:175] حينئذ فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ [الأعراف:175]، لما كان مع القرآن يطبقه ويعمل به كانت له مناعة وحصانة، ما استطاع الشيطان أن يستزله أو يسقطه في المهاوي والمهالك، لكن لما بعد عن آيات الله أتبعه الشيطان فأدركه فاستولى عليه: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف:175] الأخباث المجرمين المفسدين الماديين المتهالكين، فقد روح البشرية الحق.
هذا الخبر من أين؟ من الله، أنزله على من؟ على رسوله، في أي صحيفة أو ورقة؟ في كتابه، اسمع الآية: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف:175] المفسدين الهالكين، وهذا شأن كل من يعرض عن كتاب الله فلا يدرس ولا يعلم ولا يتعلم ولا يطبق، ويرمي به جانباً ويتركه على الرف ولا يطبق منه شيئاً، هذا مثله كمثل الكلب.
لو سئلت عن الرافعة ما هي؟ فقل: القرآن هو الرافعة، يرفع الأمم اللاصقة بالأرض الهابطة في الحضيض إلى عنان السماء، وأدل دليل أن العرب كانوا ألصق الخلق بالأرض، ما إن عاشوا على نور القرآن خمساً وعشرين سنة حتى أصبحوا كالكواكب الزهر في السماء، سادوا الأبيض والأسود، من رفعهم؟ بم رفعهم؟ بالاشتراكية؟ بالديمقراطية؟ بالسحر؟ بماذا؟
بالقرآن الكريم، إيمان به ودراسة وعمل وتطبيق، فرافعة البشر من حضيض الأرض إلى السماء هي هذا القرآن الكريم، ومن يشك في هذا المعنى والله يقول: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا [الأعراف:176]؟ أي: لو شئنا لصرفناه عن الإجرام والكذب والباطل وجعلناه يتلو كتاب الله، ونجعل ذلك قدراً، لكن الله وضع الأشياء ووضع لها سنناً وأسباباً، فلو شاء لرفعه بها، ولكن سنة الله فيمن أعرض عن كتاب الله وأدبر ولم يقرأ ولم يعمل فشأن الله وسنته أن يلصقه بالأرض ويعبد الهوى والشهوات.
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ [الأعراف:176] ما معنى الخلود إلى الأرض؟ لا يرفع رأسه إلى السماء: من كوكب من الكواكب؟ لم تطلع الشمس؟ لم تغرب؟ لم المطر والسحاب؟ حتى لا يذكر الله، ولكن أخلد الأرض بالفجور والباطل والأكل والشرب والنكاح وهذا هو همه.
هذا الخلود إلى الأرض كأنه لا يموت أبداً، يعمل الليل والنهار بكل الوسائل والحيل من أجل الدنيا ليحققها، هذا الخلود إلى الأرض.
أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الأعراف:176] ما اتبع عقله، لو اتبع عقله لكان يترفع بعض الشيء ويتنزه عن هذا السقوط، ولكن جرى وراء الهوى والهوى يهوي به في كل المهاوي والمفاسد والشرور.
الكلب إن جريت وراءه لهث وهرب، وإن تركته والماء بين يديه تحت الشجر والظل فوقه لهث، وهذه الصورة انطبقت على العالم الإسلامي من يوم أن تخلوا عن كتاب الله، والله! ما تنتهي حيرتهم ولا لهثهم حتى يعودوا إلى كتاب الله عز وجل.
إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176] أقبلوا على الخرافات والضلالات والبدع فما نجحوا، أقبلوا على الاشتراكية فما نجحوا، صاحوا في وجه الشيوعية وأرادوها فما نجحوا، وإلى الآن لن تنتهي حيرتهم إلا بالعودة إلى كتاب الله عز وجل بصدق.
مجلس الوزراء بكل رجاله يعودون إلى الكتاب ويطبقونه في الفلاحة والزراعة أو في الصناعة أو في السياسة أو في الحرب أو في أي شيء من أشياء الحياة.
أما أن يعرض عن الكتاب بالمرة ويترك للموتى يقرأ عليهم ويراد أن تهتدي هذه الأمة وترفع رأسها فلا، بل والله من ذل إلى ذل، هذا كلام الله فاسمعوا يرحمكم الله: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ [الأعراف:176] لا يرى الآخرة ولا يفكر في شأنها أبداً، لا يذكر الله ولا ينظر إلى السماء وما فيها، خلود إلى الأرض هي همه وتفكيره، عشرين وزارة لا يتكلم فيها واحد باسم الله ولا يطالب بشرع الله، فإذا لم يكن هذا هو الخلود إلى الأرض فما هو؟
أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الأعراف:176] ولو اتبعوا عقولهم لما استمروا على هذا الانحياز والبعد عن الله وعن دينه وشرعه.
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف:176] في أي شيء؟ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ [الأعراف:176] وتجري وراءه يَلْهَثْ [الأعراف:176] أم لا؟ وإن تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176] هل يستريح؟ ما يستريح. فوالله! لن تستريح أمة الإسلام إلا إذا عادت للقرآن الكريم أحبوا أم كرهوا، أيما بلد أراد الله له خيراً فأقبل على كتاب الله يطبقه دراسة وفهماً وعملاً إلا عز وساد وكمل وساده الأمن والطهر.
أما الإعراض عن القرآن وتركه للموتى فهذه نتائجه: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ [الأعراف:176] الذي سمعت مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا [الأعراف:176] أي: القرآنية الحاوية للشرائع للقوانين للأحكام للهداية الربانية.
إذاً يا رسولنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:176] قص عليهم ما في القرآن واتل عليهم القرآن لعلهم يتفكرون إذا كان فيهم بقية خير.
هذا مثل الكلب: سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ [الأعراف:177] لا يظلمون الله، ولكن ظلموا أنفسهم فعرضوها للهبوط والسقوط والوسخ والدمار والخراب في الدنيا والآخرة.
ومعنى هذا أنه هيا نتوب إلى الله عز وجل ونطلب هدايته، نقبل على كتابه دراسة وفهماً بين النساء والرجال بتطبيق عملي في اليوم والليلة، وحينئذ انظر إلى هداية الله كيف تلوح وتتجلى.
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:178] من أضله الله عن الطريق المسعد المنجي فهو الخاسر، ومن هداه الله فسلك طريق السعادة والكمال سعد وكمل، هذه سنة الله عز وجل.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ معنى الآيات:
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ [الأعراف:175] أي: اقرأ على قومك وعلى كل من يبلغه هذا الكتاب ] أي: القرآن [ من سائر الناس ]؛ إذ العبرة بخصوص السبب أو بعموم اللفظ؟ بالعموم.
[ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا [الأعراف:175] أي: خبر الرجل الذي أعطيناه آياتنا تحمل الأدلة والحجج والشرائع والأحكام والآداب فتركها وابتعد عنها فلم يتلها ولم يفكر فيها ولم يعمل بها لا استدلالاً ولا تطبيقاً ]، إهمال كامل، إذاً: [ فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ [الأعراف:175]أي: لحقه وأدركه وتمكن منه إبليس ]، لماذا؟ [ لأنه بتخليه عن الآيات وجد الشيطان له طريقاً إليه، فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف:175] أي: الضالين الفاسدين الهالكين ]، ضلال وفساد وهلاك.
وقوله تعالى: [ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا [الأعراف:176] أي: بالآيات إلى قمم المجد والكمال، وإلى الدرجات العلا في الدار الآخرة، وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ [الأعراف:176] أي: مال إليها وركن فأكب على الشهوات والسرف في الملذات، وأصبح لا هم له إلا تحصيل ذلك ]، تحقيق شهوته ورغبته، [ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الأعراف:176] وترك عقله ووحي ربه عنده، فصار مثله -أي: صفته الملائمة له- كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف:176] أي: في اللهث والإعياء والتبعية وعدم الاستقلال الذاتي ]، هذا ينطبق على المسلمين، المسلمون اليوم مرة مع روسيا ومرة مع أمريكا ومرة مع الشرق والغرب، لا استقلال، لماذا؟ انقطعت صلتهم بالله وأعرضوا عن كتابه.
[ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف:176] أي: في اللهث والإعياء والتبعية وعدم الاستقلال الذاتي، إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176] فحيرته وتعبه لا ينقطعان أبداً ]، دائماً في حيرة وتعب، هذا شأن الكلاب.
[ وقوله تعالى: ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا [الأعراف:176] أي: هذا المثل الذي ضربناه لذلك الرجل الذي آتيناه آيتنا فانسلخ منها وكان من أمره ما قصصنا عليك؛ مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا في كل زمان ومكان، وعليه فَاقْصُصِ [الأعراف:176] يا رسولنا الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:176] ] اقرأ عليهم، [ أي: لعل قريشاً تتفكر فتعتبر وترجع إلى الحق فتكمل وتسعد.
وقوله تعالى: سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ [الأعراف:177] أي: قبح مثلاً مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فجحدوا بها حتى لا يوحدوا الله تعالى ولا يسلموا له ] قلوبهم ولا وجوههم بعبادته وطاعته، [ وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ [الأعراف:177] أي: ] بتدسيتها وتوسيخها وتعفينها [ بآثار الشرك والمعاصي ]، نحن مؤمنون بأن النفس كالثوب، تصب عليه الطين الوسخ فيتسخ، وتقصد الماء والصابون فيغسل، والله! لكذلكم الروح البشرية، بكلمة باطل فقط تنطبع فيها ظلمة وسواد، بجريمة كبيرة كأن تزني أو بشيء من الفجور تلطخها، فإما أن تغسل وتتوب وإلا فلا تزال كذلك حتى تصبح تلك الروح لا تقبل الصلاة أبداً ولا تزكو ولا تطيب ولا تطهر.
[ سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ [الأعراف:177] أي: قبح مثلاً مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فجحدوا بها حتى لا يوحدوا الله تعالى ولا يسلموا له، وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ [الأعراف:177] أي: بتدسيتها بآثار الشرك والمعاصي.
وقوله تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي [الأعراف:178] أي: من وفقه الله تعالى للهداية فآمن وأسلم واستقام على منهج الحق فهو المهتدي بحق، ومن خذله الله لشدة إعراضه عن الحق وتكبره عنه فضل بإضلال الله تعالى له فأولئك هم الخاسرون الخسران الحق المبين ]، خسران الدنيا لا سعادة ولا نجاة، وخسران الآخرة عذاب الله في جهنم. فكيف ترون هذه الآيات؟ أسمعكموها مرة ثانية فتأملوا:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ * مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:175-178].
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: خطر شأن هذا الخبر الذي أمر تعالى رسوله أن يتلوه على الناس ]، وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا [الأعراف:175] هذا الخبر له شأن عظيم وله خطر، [ خطر شأن هذا الخبر الذي أمر تعالى رسوله أن يتلوه على الناس ] أبيضهم وأسودهم.
من أين أخذنا هذا؟ من كلمة النبأ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ [الأعراف:175] ما قال: (خبر الذي، نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا [الأعراف:175] فإنه نبأ عظيم.
[ ثانياً: ترك القرآن الكريم بعدم تلاوته والتدبر فيه ]، هل مجالس الحكومات الإسلامية إذا انعقد مجلس الوزراء أو مجلس كذا يتلون بعض الآيات ويتدبرونها؟ أسألكم بالله: هل يحصل هذا؟ يخافون أن يرجعوا عن سبيلهم وعن سلوكهم فما يقرءونه.
قال: [ ترك القرآن الكريم بعدم تلاوته والتدبر فيه ] والتفكر فيما يحمله من الهدى والنور [ وترك العمل مفض بالعبد إلى أن يكون هو صاحب المثل في هذه الآية ].
الذي يترك القرآن الكريم فلا يتلوه ولا يتدبره ولا يعمل به يصبح هو صاحب هذا المثل العظيم الموجود في الآية، كمثل الذي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف:175].
[ ترك القرآن الكريم بعدم تلاوته والتدبر فيه وترك العمل به مفض بالعبد ] إلى أين؟ [ إلى أن يكون هو صاحب المثل في هذه الآية:
فأولاً: يتمكن منه الشيطان ]، أول خطوة لمن أعرض عن كتاب الله فلا تفكر ولا تلاوة ولا عمل، أول خطوة أن الشيطان يستولي عليه، [ فيصبح من الغواة ]، جمع غاو، وهو الفاسد الهالك.
[ وثانيا: يخلد إلى الأرض ]، يصبح لا يفكر في الملكوت الأعلى، لا يذكر الدار الآخرة ولا كيف يصل إليها أبداً، همه الزراعة الفلاحة التجارة الطعام الشراب الأموال طول العام، ما هناك ذكر لله.
فهذا القرآن هل يصح أن يقرأ على الموتى؟ ولكن العدو الثالوث الأسود المكون من المجوسية واليهودية والصليبية عرفوا القرآن وما يحمل من الهدى، عرفوا الإسلام وما يقود إليه أصحابه من السعادة والكمال، وعرفوا أن القرآن هو هداية، فصرفوا المسلمين عن القرآن فماتوا فهبطوا ولصقوا بالأرض فسادوهم وركبوهم واستذلوهم، وإلى الآن هم فوقهم يسودونهم ويتحكمون فيهم، تقع مشكلة بين بلد وبلد إسلامي فيرفعون شكواهم إلى الأمم المتحدة لا إلى كتاب الله، فلا إله إلا الله!
هيا نعود إلى القرآن؟ يقولون: ما نستطيع يا شيخ. لم؟ أرجلنا مكبلة بالأغلال.
مرة ثانية أقول: بلغوا كل من تقدرون على إبلاغه أنه لا نجاة لأمة الإسلام من هذه الورطة التي تورطت فيها وهذا الضلال التي ضلته وهذا الضعف وهذا العجز الذي ركبها وغطاها إلا بأن تعود إلى القرآن، كيف تعود إلى القرآن؟
الطريق أن يخبر وزير الداخلية في أي بلد إسلامي بقرار رسمي للأمراء والمسئولين أنه إذا دقت الساعة السادسة ومالت الشمس إلى الغروب وقف العمل، أغلق باب دكانك أوقف صناعتك ألق المسحاة من يدك يا فلاح، انتهى العمل من صلاة الفجر إلى الآن.
ويتطهرون ويتوضئون ويحملون أطفالهم ونساءهم إلى بيت ربهم، وفي كل حي مسجد يتسع لهم، وفي كل قرية بيت لله جامع يتسع لهم، وإذا ضاق وسعوه باللبن والطوب والتراب لا بالحديد ولا بالإسمنت، ثم يصلون المغربك النساء وراء والغلمان الأطفال كالملائكة صفوف أمامهن والفحول أمامهم.
إذا صلوا المغرب يجلس لهم المعلم المربي بكتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، فيتلو عليهم آية كهذه الآية ويأخذ يترنم بها وهم يرددونها في أنفسهم أطفالاً ونساءً ورجالاً، في ربع ساعة تحفظ وقل من لا يحفظها، فإن حفظت الآية يأخذ المعلم في شرحها، أي: في بيان مراد الله تعالى منها، فإن كانت الآية تحمل عقيدة قال: اعتقدوها لن تنحل من قلوبنا أبداً، إن كانت تحمل أدباً قال: من هذا الليلة نتأدب به، تحمل خلقاً فاضلاً قال: هذا الخلق نحن أهله من الآن نحن متخلقون به. الآية تأمر بواجب فيجب أن نعرفه وأن نقوم به، الآية تنهى عن باطل عن خبيث عن حرام فعلى الفور نفهم ونتعهد لأنفسنا ألا نعود إليه، وليلة أخرى حديث من أحاديثه صلى الله عليه وسلم يتلاءم مع آية أمس فيحفظ ويشرح وينوي كل مؤمن ومؤمنة العمل به.
وهكذا طول الحياة، ولكن بعد العام الأول أقسم بالله -وأتحدى من يرد علي- أنه لن يبقى ذلك الفجور ولا الباطل ولا الشر ولا الخبث ولا الكبر ولا العجب في تلك القرية أو ذلك المسجد، وينتهي أيضاً الفقر والمجاعة فلا يبقى من يمد يده ولا يطلب ويسرق؛ لأن المال يتوافر عندهم، رغبوا في الملكوت الأعلى وزهدوا في أوساخ الدنيا وترفها، فماذا يصنعون بالزائد من مالهم؟ ينفقونه على إخوانهم وتتحقق سعادة لم تر الدنيا مثلها إلا أيام أهل السلف الصالح في القرون الثلاثة الذهبية.
ولا يحتاجون لا إلى عسكر ولا مال، وتستريح الحكومة راحة كاملة، فبدل ألف بوليس يكفيها خمسة، والمالية كذلك تزيد وتفيض، بدون هذا -والله- لا يتحقق شيء اسمه أمن وسعادة، ومن أراد أن ينظر فلينظر إلى تاريخ هذه البلاد الإسلامية من يوم ما أعرضوا عن القرآن، الفتن تأكلهم والمحن تهزهم.
هل هذا الأمر فيه صعوبة؟ يا أهل المدينة .. يا أهل القرية! إذا جاءت الساعة السادسة وقف العمل، فامشوا إلى بيت ربكم لترووا ولتشبعوا من الهداية والنور، وهل هذا يزعج؟ من قال: نعم، قلنا له: أنتم تقتدون بالغرب وتمشون وراء اليهود والنصارى، فاذهب إلى بريطانيا إلى ألمانيا، إلى نيويورك إلى ما شئت من تلك البلاد وانظر إذا دقت الساعة السادسة أيبقى هناك عمل؟ أين يذهبون بنسائهم وأطفالهم؟ إلى المراقص إلى دور السينما، أليس كذلك؟ وأنتم تريدون أن تنزلوا في الملكوت الأعلى وتعجزون عن إيقاف ساعة ونصف عن العمل لتزكوا أنفسكم وتطهروها وتحققوا ولاية الرب لكم فيصونكم ويحفظكم ويعزكم ويذل أعداءكم!
كم سنة مضى على هذا القول، الآن كتبنا (كتاب المسجد وبيت المسلم)، ثلاثمائة وستون آية وحديثاً لليلة آية ولليلة حديث، لعام كامل، وصرخنا قلنا: جربوا في الشرق أو الغرب في عرب أو عجم وترجموا وطبقوا. وقلنا: والله! إن قامت به قرية من قرى العالم لزرناها لنشاهد أنوار تلك الهداية الإلهية، ولكن لا شيء أبداً، فلا إله إلا الله!
قال: [ ثالثاً: لا رفعة ولا سعادة ولا كمال إلا بالعمل بالقرآن ]، أما السنة فهي تابعة، لا تفارقه؛ إذ هي التي تشرحه وتفسره ذكرت أو لم تذكر.
[ لا رفعة ولا سعادة ولا كمال إلا بالعمل بالقرآن؛ فهي الآلة الرافعة التي قال تعالى فيها: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا [الأعراف:176] ]، أمة هابطة كبريطانيا كاليابان كالصين من أراد أن يرفعها لتصبح آداباً وأخلاقاً وطهراً وصفاء ورحمة وكمالاً كالملائكة في الأرض فما هي الوسيلة؟ والله! ما هو إلا القرآن، أما الإباحية العلمانية الشيوعية فكلها جربوها وهم لاصقون بالأرض ينزو بعضهم على بعض في الشوارع كالكلاب والعياذ بالله.
هل هناك آلة غير القرآن؟ والله! لا توجد، لو قدر لك أن تملك المليارات وتعطي كل مواطن ملياراً يومياً على أن يستقيموا فوالله! ما استقاموا ولن يستقيموا؛ لأن لله سنناً ما تتبدل، أسألكم بالله: هل الطعام يشبع أم لا يشبع؟ هل جاء يوم من الأيام صار فيه لا يشبع؟ وماء الشرب يروي أم لا يروي الشارب فيذهب ظمأه وعطشه؟ هل وقف أحد يوماً أو في بلاد وقال: الماء أصبح لا يروي، أحصل هذا؟ ما حصل. هل النار أصبحت لا تحرق فترمي فيها ثيابك أو مالك فما تحرق، بطل مفعولها؟
سنة الله ما تتبدل، الحديد يقطع أم لا يقطع؟ يقطع الخشب ويقطع الجسم، ما توقفت هذه السنة، فكذلك سنن الهداية الإلهية لن تكون إلا في كتابه وبتطبيق شريعته، وبدونها مستحيل، وقد جربنا الاشتراكية وصحنا: اشتراكيتنا نوالي من يواليها ونعادي من يعاديها. وتبجحنا بالديمقراطية وبالقومية، فأين آثارها؟
وإن قلت: كيف نفهم القرآن؟ فالطريق أن يصدر وزير الداخلية في أي بلد إسلامي مرسوماً: يا أهل القرية الفلانية! اسمعوا: لا يتخلف عن صلاة المغرب رجل ولا امرأة ولا طفل، ويبعث رجاله سبعة أيام إلى المسجد كما فعل الرسول، فيجعلونه يتسع لهم كافة بالطين واللبن، فالرسول بنى مسجد قبا في سبعة أيام، يفعل ذلك في كل المساجد في كل القرى، وتجتمع الأمة لتتلقى الكتاب والحكمة وتزكي أنفسها، في عام واحد تتغير الحال تغيراً عجباً، فلو رفعوا أيديهم إلى الله أن يزيل الجبال لأزالها، بدون هذا والله! لا كمال ولا سعادة إلا لمن تمسك بهذا الكتاب تلاوة وعملاً وتطبيقاً.
قال: [ لا رفعة ولا سعادة ولا كمال إلا بالعمل بالقرآن، فهي الآلة الرافعة؛ لقوله تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا [الأعراف:176] أي: بالآيات التي انسلخ منها والعياذ بالله.
رابعاً: الهداية بيد الله ] من يملكها سوى الله؟ إذاً: [ ألا فليطلبها من أرادها من الله ]، وذلك [ بصدق القلب وإخلاص النية؛ فإن الله تعالى لا يحرمه منها، ومن أعرض عن الله أعرض الله عنه ] والعياذ بالله.
فهل فهم المؤمنون والمؤمنات هذا؟ هيا ندعو الله عز وجل في كل أوقاتنا أن يردنا إلى هذا الصراط المستقيم.
اللهم رد أمة الإسلام إلى الصراط المستقيم، اللهم خذ بيدها إلى الصراط المستقيم، اللهم أنزل عليها نورك وهدايتك في قلوبها لتعرف الحق وترجع إليه يا رب العالمين؛ إنه لا يقدر على ذلك إلا أنت، فحقق لنا هذا يا ربنا.
وصل اللهم وسلم على نبينا وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر