وبعد:
فيقول الله سبحانه: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [القدر:1-2].
أسلفنا مراراً أن الله سبحانه وتعالى فضل بعض الأيام على بعض، وبعض الليالي على بعض، وبعض الشهور على بعض، وبعض السنين على بعض، وبعض القرون على بعض، وبعض الأمم على بعض، كما أنه سبحانه وتعالى فضل بعض النبيين على بعض، وبعض الملائكة على بعض.
فقد جرت سنة الله سبحانه وتعالى بالتفضيل في عموم مخلوقاته سبحانه وتعالى، فـليلة القدر خير من ألف شهر، ويوم عرفة خير يوم في السنة، وشهر رمضان أفضل الشهور، وقرن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل القرون، جرت سنة الله بهذا التفضيل، وهناك مكان أفضل من مكان، فمكة ليست كالمنصورة، والمسجد الحرام ليس كمسجد التوحيد في المنصورة، فالأماكن تختلف بعضها عن بعض في الفضل، وكذلك الأشخاص اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75]، وكذلك الأماكن، فالمساجد ليست كالأسواق، مع أن كلها أرض الله سبحانه وتعالى، وفضل الله سبحانه وتعالى ليلة القدر على غيرها من الليالي فقال سبحانه وتعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أنزلنا ماذا؟
لا شك أن المراد به القرآن، (إنا أنزلناه) أي: أنزلنا القرآن.
وفي قوله: (إنا أنزلناه) دليل على مسألة العلو، ألا وهي أن الله سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه في السماء، وعلى هذا أدلة كثيرة قال فريق من أهل العلم: إنها تصل إلى ألف دليل من الأدلة العقلية ومن الأدلة النقلية من الكتاب ومن السنة، فمثلاً: (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا)، دليل على العلو، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10] دليل على العلو .. وهكذا.
من العلماء من قال: إن القدر معناه: الحكم والتقدير، أي: أن الأمور تقدر فيها، والأحكام تصدر فيها، وشاهد هذا القول: قول الله سبحانه وتعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:3-4]، وقالوا:
إن أعمال السنة وأقدار السنة تكتب في هذه الليلة وتحكم في هذه الليلة.
ومن أهل العلم من قال: إن المراد بالقدر: الشرف والمنزلة، كما تقول: فلانٌ من الناس ذو قدر، أي: ذو مكانة وذو وجاهة وذو منزلة.
وثم معنىً ثالث لكنه منبوذ، ألا وهو أن المراد بالقدر: الضيق، ومنه قوله تعالى: فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ [الفجر:15-16]، أي: فضيق، ونحو قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [الإسراء:30]، أي: يضيق، فقالوا: سميت بذلك لأن الأرض تضيق بالملائكة لكثرة نزولهم في هذه الليلة، وعلى هذا ففي المراد بالقدر ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن القدر هو: الحكم والتقدير، أي: تقدير الأمور وإنزال الأحكام.
القول الثاني: أن القدر هو المنزلة والشرف، كما يقال: فلانٌ ذو قدر.
القول الثالث: أن القدر هو: الضيق، فتضيق الأماكن بالملائكة عند نزولهم من السماء إلى الأرض.
لأهل العلم إجابتان: إحداهما: ما ورد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بإسناد صحيح أنه قال: ( إن القرآن نزل من اللوح المحفوظ في السماء السابعة إلى سماء الدنيا جملة واحدة في ليلة القدر، ثم نزل من السماء الدنيا على نبي الله صلى الله عليه وسلم بحسب الوقائع والأحداث في ثلاث وعشرين سنة)، فهذا أول وجهٍ للجمع.
والوجه الثاني: أن القرآن ابتدئ نزوله في ليلة القدر، فقوله: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ)، أي: إنا أنزلنا أوله في ليلة القدر، كما تقول: وصل الحجيج، مع أن هناك حجيجاً وصلوا الآن وحجيجاً سيصلون بعد شهرين، فقوله: وصل الحجيج في يوم كذا وكذا، أي: بدأ وصولهم يوم كذا وكذا.
وجمع بعض العلماء بجمع آخر فقالوا: نزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ونزل أوله أيضاً على رسول الله في ليلة القدر، وبهذا جمعوا بين الوجهين السابقين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، استفهام القصد منه تعظيم شأن هذه الليلة، كما قال تعالى: الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة:1-3].
للعلماء فيها أقوال متعددة متكاثرة، وصلت إلى ثمانية وأربعين قولاً، لكن قد تتكاثر الأقوال في باب من الأبواب، وإذا جئت تبحث عن الأقوال المدعمة بالدليل، والمستندة إلى دليل، فتجد أنها لا تصل إلا إلى خمسة أقوال، ثم إذا جئت تصفي هذه الأقوال تجد الأقوال المستندة إلى دليل صحيح تصل إلى ثلاثة أقوال، فلا تخيفنا كثرة الأقوال في مسألة من المسائل، بل بكل يسر نقول: كل قول لا يستند إلى دليل فيطرح، سواء كان الدليل صريحاً غير صحيح، أو صحيحاً غير صريح، ونبدأ في تصفية الأقوال التي لا تستند إلى دليل.
قال جمهور العلماء: إن هذه الليلة في رمضان؛ لقوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، ولقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، فبالجمع بين الآيتين يفهم أن ليلة القدر في رمضان، فخرج بهذا القول كل قول قيل فيه: إنها في أي وقت من أوقات السنة؛ لأن بعضهم قال: إنها في أي شهر من الشهور وفي أي ليلة من الليالي، فخرج كل قول يخرجها عن شهر رمضان، ثم هي في العشر الأواخر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (التمسوها في العشر الأواخر من رمضان)، فخرجت أيضاً الأقوال التي فيها أنها في العشرين الأول، ثم هي في الوتر من العشر الأواخر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (التمسوها في عشر يبقين، في سبع يبقين، في خمس يبقين، في ثلاث يبقين)، ولقوله عليه الصلاة والسلام: (التمسوها في كل وتر من العشر الأواخر).
وبعد ذلك قال فريق من العلماء: إنها في ليلة السابع العشرين، وهذا رأي الجمهور، قالوا: لأن أبي بن كعب روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، كما في صحيح مسلم ، ومن حجة أبي أن الشمس خرجت صبيحتها بيضاء نقية، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن هل هذا يكون في كل عام في ليلة السابع والعشرين، أم أنه في العام الذي رآها فيه أبي بن كعب رضي الله عنه؟ نحن ما كذبنا أبياً، ولكن نقول: هل هي ثابتة في كل عام في ليلة السابع والعشرين أم أنها متنقلة في الليالي التي هي وتر؟
ومما لا يخفى أن شؤم الخلاف بين المسلمين كان سبباً في رفع العلم بليلة القدر؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليخبر أصحابه بليلة القدر، فتلاحى رجلان فلانٌ وفلان، أي: اختلفا وتجادلا وتخاصما، فرفع العلم بها، فخرج النبي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت).
فالخلاف دائماً سبب في رفع الخير، وقد تقدم أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بين أن الخلاف سبب للشر، فقال: يوم الخميس وما يوم الخميس؟ دعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال: (هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً)، فقال عمر : حسبنا كتاب الله، وكان النبي في مرض الموت، فظن أنه يقول هذا الكلام من شدة المرض فقال: حسبنا كتاب الله، وقال العباس : بل قربوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً، فاختلف الناس، فلما اختلفوا طردهم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (قوموا عني، فوالله للذي أنا فيه خيرٌ مما أنتم فيه)، قال ابن عباس : إن الرزية كل الرزية -أي المصيبة كل المصيبة- ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لأصحابه ذلك الكتاب.
فالخلاف دائماً سبب في الشر، والأدلة على ذلك لا تكاد تحصى؛ كقوله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]، وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]، والآيات متعددة في هذا الباب.
لماذا قال: (ليلة القدر خير من ألف شهر)؟
قال بعض أهل العلم: إنها خيرٌ من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وقيل: السبب في ذلك أن أهل الكتابين اليهود والنصارى كانوا لا يطلقون على الشخص أنه عابد إلا إذا عبد ربه ألف شهر، فجاءت منقبة وفضيلة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه المنقبة والفضيلة أن الله جعل لهم ليلة القدر؛ من قامها كان كمن قام ألف شهرٍ من أهل الكتابين ومن الأمم السابقة.
وفي هذه الآية دليل -كما أسلفنا- على فضل بعض الليالي على بعض، وفيها أن العمل اليسير الذي يوافق السنة خيرٌ من العمل الكثير الذي ليس على هدى ولا على بصيرة، والفقيه في الدين قد يعمل عملاً قليلاً ويؤجر عليه كثيراً، وهذا مصداق حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)، فيعلم أين الغنيمة، وكما يقول الناس: فلان يعلم من أين تؤكل الكتف، وقد خرج الرسول صلى الله عليه وسلم يوماً من عند جويرية بنت الحارث زوجته وهي تذكر الله بعد صلاة الصبح، وذهب إلى حيث أراد الله له، ثم رجع وهي ما زالت تذكر الله، فقال: (ما زلت على الحالة التي فارقتك عليها؟ لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلتهن لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً: (الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة) أي: لها أجران.
فالذي يقوم ليلة القدر خيرٌ ممن يقوم شهراً كاملاً، والذي يداوم مثلاً على قيام العشر الأواخر خيرٌ من الذي يقوم شهرين أو ثلاثة أشهر متصلة في السنة في غير العشر الأواخر.
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، أي: خيرٌ من ألف شهر ليس فيها ليلة قدر.
للعلماء فيها سبعة أقوال:
قيل: إنها أرواح بني آدم، وقيل: إن الروح خلق لا يعلمه إلا الله.
والذي عليه الأكثرون أن الروح هو جبريل صلى الله عليه وسلم، فقد أطلق عليه روح في قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ [الشعراء:193]، وقوله: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا [النحل:102]، فإن قيل: إن جبريل داخل في الملائكة في قوله (تنزل الملائكة)، فلماذا نص على الروح على تفسير الروح بجبريل مرة ثانية؟
فالجواب: أن هذا من باب عطف الخاص على العام؛ لبيان أهمية ذلك الخاص، وفضل ذلك الخاص، فعطف الخاص -وهو الروح الذي هو جبريل- على العام الذي هو الملائكة، وهذا لبيان شرف جبريل صلى الله عليه وسلم، كما بين شرف أولي العزم من الرسل في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7]، فمحمد رسول الله، ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم من النبيين، ولكن نص عليهم بالذكر لبيان شرفهم، وكما قال تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ [النساء:163]، فكل هؤلاء من الأنبياء، وذكروا مرة ثانية لبيان شرفهم، وكما قال تعالى: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن:68]، والرمان داخل في الفاكهة، فخص بالذكر لبيان شرفه، وهنا ذكر الروح -مع أن الروح من الملائكة- لبيان شرف جبريل، فجبريل ذو شرف وذو فضل كبير، وقد ذكر شرفه وذكرت فضائله في عدة آيات من كتاب الله:
قال الله سبحانه وتعالى: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:97-98]، وقال تعالى: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4]، وقال تعالى: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير:20]، وهو جبريل عليه الصلاة والسلام، فله قوة وله مكانة عند الله سبحانه وتعالى، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:21]، أي: مطاع هناك في الملأ الأعلى، يطيعه أهل السماء، (أَمِينٍ) أي: أمين على الوحي، فكل هذه مناقب لجبريل صلى الله عليه وسلم.
فالملائكة تتنزل، وينزل مع الملائكة جبريل صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ ، فهو منظرٌ مهيب، ومشهد عجيب، وأمر عظيم، ألا وهو نزول الملائكة إلى سماء الدنيا ومعهم جبريل سيدهم صلى الله عليه وسلم! فهو منظر مهيب، ومشهد عجيب، وإن كنا لا نراه!
تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ [القدر:4]، أي: أن نزول الملائكة لا يكون ارتجالاً منهم، فهم لا يتحركون إلا إذا أذن الله لهم في ذلك، وقد قال الرسول لجبريل: (ما يمنعك أن تأتينا أكثر مما تأتينا؟ فأنزل الله: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:64])، فقوله: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ، يفيد أن نزول الملائكة لا يكون باختيارهم إنما هو بإذن ربهم.
(من كل أمر) من العلماء من فسرها على أساس ارتباطها بما قبلها، ومنهم من فسرها على أساس ارتباطها بما بعدها، فمن فسرها على أساس ارتباطها بما قبلها قرأ: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ووقف، قال: (من كل أمر) أي: بكل أمر، وأحرف الجر تتناوب، فإن الباء قد تأتي بمعنى: (مِن)، ومِن تأتي بمعنى الباء، فأحرف الجر تأخذ معاني بعضها.
فقالوا: المعنى: أن الملائكة تتنزل بكل أمر، أي: بكل أمر قضاهُ الله وأراده وحكم به، أي: أن الملائكة تنزل في هذه الليلة وهي تحمل أمر الله سبحانه الذي أراده وقضاه، وتنزله إلى الدنيا في هذه الليلة.. قضى ربك في هذا العام كذا وكذا، أثبت الله في هذا العام لفلان وفلان السعادة ولفلان وفلان الشقاوة، أثبت الله لفلان رزقاً وأجلاً، فتتنزل الملائكة في هذه الليلة بهذه الأقدار التي قدرها الله، والأحكام التي حكمها الله، والأوامر التي أمر بها الله.
فقوله سبحانه: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ، أي: بكل أمر قضاه الله وحكم به وأمر به، هذا على ربط الآية بما قبلها.
وبعض العلماء ربطها بما بعدها فقال: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ، وانتهى الكلام، وبدأ كلامٌ جديد: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ [القدر:4-5]، أي: هي سالمة من كل أمور الشر، فليس في هذه الليلة إلا الخير، أي: أنها سالمة آمنة، فلا تتنزل مع الملائكة الشياطين، إنما ينزل -فقط- الملائكة، فتختفي الشياطين وتبتعد، ولا يأتي الباطل ولا الشيطان في هذا الوقت؛ بل هي سالمة آمنةٌ، فالملائكة إذا نزلوا فرت الشياطين، ومن ثم جاء في الحديث المرسل: (ما رئي الشيطان أصغر ولا أحقر في مثل يوم عرفة إلا ما كان منه يوم بدر، قيل: وماذا رأى يوم بدر يا رسول الله؟! قال: رأى جبريل يزع الملائكة -أي: يصفُّ الملائكة- فهرب واندحر)، فعندما تتنزل الملائكة تبتعد الشياطين وتهرب، فيحصل الأمن، ويندحر الباطل، فهذا على ربط الآية بما بعدها: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ ، أي: هي سالمة من كل الأمور، سالمة آمنة، لا يأتي فيها الباطل ولا يتنزل فيها الشيطان.
لم يرد شيءٌ في ذلك عن رسول الله، والاستتباع كيوم عرفة، فإنه تتبعه الليلة التي بعده، فمثلاً: الرسول صلى الله عليه وسلم وقف بعرفات إلى أن غربت الشمس، وبعد أن غربت الشمس بدأ في الإفاضة إلى مزدلفة، لكن هب أن شخصاً جاء ووصل إلى عرفات في منتصف الليلة التي انطلق فيها الرسول إلى مزدلفة، والرسول ذهب إلى مزدلفة بعد غروب الشمس، فلو جاء شخص بعد خروج الرسول بست ساعات أو بسبع ساعات ووقف بعرفات، فوقوفه بعرفات صحيح إذا أدرك مزدلفة قبل الفجر، فيوم عرفة تتبعه الليلة التي بعده؛ لأن عروة بن مضرس قال: يا رسول الله! أتعبت نفسي، وأكللت راحلتي، وما تركت جبلاً إلا وقفت عليه؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من شهد معنا صلاة الفجر بمزدلفة، وكان قبل ذلك وقف ساعة من ليل أو نهار بعرفات، فقد أتم حجه، وقضى تفثه، وأتم نسكه)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، لكن ليلة القدر ليس فيها استتباع؛ لأن الآية قطعت ذلك بقوله تعالى: سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ، لكن هل اليوم الذي قبلها يدخل فيها؟
ليس في هذا خبرٌ عن النبي عليه الصلاة والسلام.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر