إخوتي الكرام! نأتي بعد ذلك إلى الآية التي سنوسع الكلام عليها بإذن ربنا جل وعلا، وهو موضوع محاضرتنا، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل:4]، هذه الجملة هي جواب القسم، وما بين القسم وجوابه ارتباط وثيق محكم، فالليل والنهار يتقابلان، والذكر والأنثى يتقابلان، ويختلف كل من هذه المذكورات عن الآخر في الوسائل وفي النتائج وفي الصفات، وهكذا سعيكم أيضاً، يتقابل ويختلف، فساع إلى الجحيم، وساع إلى النعيم، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل:4]، فبين القسم وجوابه ارتباط وثيق محكم، فأقسم بهذه الأشياء المختلفة على أمر أيضاً وقع فيه التفاوت والتباين والاختلاف، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل:4]، (لشتى): أي: لمختلف، وهو جمع شتيت، كمرضى جمع مريض، وقتلى جمع قتيل، أي: مختلف متفاوت متباين، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل:4].
ومعنى هذه الجملة ينحصر في ثلاثة أمور نقلت عن المفسرين الكرام، متلازمة مترابطة، لا ينفك واحد منها عن الآخر:
والله جل وعلا وضح هذا المعنى -وهو حق- في آيات كثيرة، وبين أن سعي الناس وكسبهم متفاوت، فصنف يخبرنا الله عنهم في كتابه فيقول: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:18]، هذا صنف، لنرى بعد ذلك صنفاً يقابل هذا، يقول الله جل وعلا: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:49-51]، وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا [نوح:7]، .. إلى آخر الآيات، فأولئك يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وهؤلاء يعرضون عن التذكرة كأنهم حمر مستنفرة، فرت من قسورة.
وصنف آخر أخبرنا الله عن حالهم فقال: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة:83]، وهناك سعي آخر يقابل هذا: وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا [نوح:7]، فالسعي يختلف، فهناك أئمة هدى كما قال الله في سورة السجدة: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله يردد في مجالسه هذه الجملة كثيراً فيقول: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.
وقال الله جل وعلا في سورة الأنبياء بعد أن ذكر خليله إبراهيم، وما رزقه من ذرية طيبة، قال: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ [الأنبياء:73]، أئمة هدى، أئمة خير، أئمة بركة، وهناك أئمة سعيهم في منتهى الرذالة والنحاسة، يقول الله جل وعلا: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ [القصص:41]، فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ [التوبة:12]، فهم كلهم أئمة، ولكن هذا إمام هدى، وهذا إمام ضلالة، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل:4].
ولا بد لكل إنسان من وصف خبيث أو طيب، فالإنسان لا ينفك عن هم ولا ينفك عن فعل، وهذا وصف الإنسان الذي لا يفارقه طرفة عين، كما ثبت في سنن الإمام أحمد ، وسنن أبي داود والنسائي ، وكتاب الأدب المفرد لـلبخاري عن أبي وهب الجشمي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة )، أصدقها حارث وهمام، حارث فاعل مكتسب، فكل واحد لا يخلو من فعل، ولكن كما قلنا: إما فعل رديء، وإما فعل حسن طيب فعل الأتقياء، والنفس لا تخلو من هم وحركة ووسوسة، وحديث النفس، فإما أن يهم الإنسان بالخير أو بالشر، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل:4].
إخوتي الكرام! والحديث رواه أبو داود وسكت عنه، وما سكت عنه فهو صالح وحسن كما أخبر أبو داود عن ذلك في رسالته إلى أهل مكة، عندما قال: ذكرت في كتابي الصحيح وما يشبهه وما يقاربه، وما سكت عنه فهو حسن، وفي رواية عنه: وهو صالح، ثم قال بعد ذلك: وما فيه وهم بينته، فالحديث سكت عنه أبو داود فهو حسن، وقد أقر الإمام المنذري هذا، فأورد الحديث في الترغيب والترهيب، وعنون عليه بصفة الحسن إذ صدره بلفظ: عن، وذكر الحديث أيضاً ابن القيم في تهذيبه للسنن، وما اعترض على فعل أبي داود ، وهكذا فعل الإمام النووي في الأذكار، وكثيراً ما يقول النووي في الأذكار بعد أن يورد الحديث من طريق أبي داود ، يقول: لم يضعفه أبو داود ، أي: فهو في درجة الحسن، ولأجل هذا قال الإمام ابن القيم في زاد المعاد: وثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة ).
والحديث ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري مستشهداً به، وقد ذكر أنه لا يورد في كتابه حديثاً يستشهد به إلا إذا كان في درجة الصحة أو الحسن، وإنما قلت هذا الكلام -إخوتي الكرام- لأن هذا الحديث ذكرته في محاضرة ماضية فاعترض بعض طلبة العلم بأن بعض الناس ضعف الحديث، وأنا قلت: إنه في درجة الحسن، وأنا أقول لهذا الأخ ولغيره: ما قلت هذا من نفسي، ولست في تلك الرتبة، ولا يمكن أن أصل إليها، إنما هذا كلام أئمتنا عليهم رحمة الله، وإذا كان في الحديث شيء من الكلام حول بعض رواته، فله شواهد كثيرة، ولذلك حسنه أئمتنا، وهذا صنيعهم رضي الله تعالى عنهم، فقد حسنه ابن حجر والمنذري ، وأقر المنذري تحسين أبي داود في كتابيه، وهكذا فعل النووي ، ويقول الإمام ابن القيم : وثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام، هذا كلام أئمتنا يا عبد الله، هذا فيما أنقله عنهم، وأما أنني أدخل نفسي في تصحيح أو تحسين فمعاذ الله أن يخطر هذا ببالي.
إذاً: هذا أعظم وصف ينطبق على الإنسان، فهو لا يخلو من فعل ومن هم، حارث مكتسب، همام يهم، إما أن يهم بالخير أو بالشر، وإما أن يعمل الخير أو الشر، ومما يقرر هذا ويؤكده ما ثبت في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجه عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، ومن اللطائف أنه اختلف في اسم هذا الصحابي، وأرجح ما قيل أن اسمه الحارث ، فهو يقرر لنا المعنى المتقدم، وهذا الحديث يوضح هذا، عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها )، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل:4].
(كل الناس) يغدو، يعمل ويكتسب، هذا يعمل للجنة، وذاك يعمل للنار، فحال الناس عندما يخرجون من بيوتهم في الصباح إلى العمل، ثم بعد ذلك يعودون بربح أو إلى خسارة، وهكذا في معاملتنا مع ربنا، كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل:4]، إن عملكم لمختلف.
وهذا كما قال الله جل وعلا: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28]، وقال جل وعلا: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ [الروم:14-16]، ولذلك قال الله جل وعلا: لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر:20]، اختلف العمل، وسيختلف ما يترتب عليه وهو الجزاء.
وهذا القول يعود إلى الخلق الباطني، والملكة النفسانية التي تصدر عنها أعمال المخلوقات، ولما بحث علماؤنا في الخلق الحسن، والخلق السيئ، عرفوه بتعريف ينبغي أن نعيه وأن نعض عليه بالنواجذ، فقالوا: الخلق الحسن هو هيئة في النفس تصدر عنها الأفعال بيسر وسهولة من غير فكر ولا روية، وذلك الفعل محمود في العقل وفي الشرع، فإذا كان مذموماً فهو خلق خبيث.
إذاً: قوة وهيئة في النفس راسخة، عن هذه الهيئة تصدر الأفعال بيسر وسهولة من غير فكر ولا روية.
عباد الله! وعلى هذا فقد يجود البخيل ولا يعتبر جواداً عند الله، ولا في الميزان الصحيح؛ لأنه قد يجود لعرض دنيوي، ولمحمدة ولرياء ولغير ذلك، فليس هذا بجود، وقد يريد الإنسان الجود ولا يتمكن منه لأنه لا يملك المال، ففي نفسه صفة الجود، فلذلك الفعل فقط لا يدل على الجود ولا على البخل، ولا على الخير، ولا على الشر، إذا لم يكن في النفس قوة دافعة لهذا الخير أو لهذا الشر، ولا يطلق الخلق الحسن أيضاً على القدرة كما أنه لا يطلق على الفعل؛ لأن القدرة بالنسبة إلى القبيح والحسن سواء، ولا يطلق الخلق الحسن أيضاً على العلم بأنه يتعلق بالقبيح وبالحسن على حد سواء، فليس إذاً الخلق الحسن الفعل، ولا القدرة عليه، ولا العلم به، فلا بد من وجود الهيئة الراسخة في النفس التي تدعوك إلى فعل الحسن وترك القبيح.
والنفس لا تكمل إلا بأمرين:
الأمر الأول: أن تعرف الحق وأن تعرف الباطل.
والأمر الثاني: أن تريد فعل الحق وأن تحبه، وأن تريد بغض الباطل وأن تتركه.
فإذا حصل هذا في النفس صدرت الأفعال الطيبة بيسر وسهولة، وصار الإنسان تقياً فاضلاً كما قرر هذا نبينا صلى الله عليه وسلم، ففي المسند والصحيحين وغيرهما عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ).
والتقوى هنا إن فسرت بالتقوى الشرعية وهي: أن يفعل الإنسان المأمورات ويترك المنهيات إرضاءً لرب الأرض والسماوات، فالمراد إذاً هنا أعطى ما أعطاه من خير، من مال وجهد وجاه وتبسم وكلام طيب، وصفة التقوى راسخة فيه، هو يريد بهذا الفعل وجه الله جل وعلا، فما صدر هذا الفعل منه صدفة، ولا صدر منه هذا الفعل لحظ ولا لغرض، من الأغراض الخسيسة العاجلة، بل أعطى واتقى الله تعالى، والله جل وعلا يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27].
رحمة الله على سهل التستري عندما كان يقول: الدنيا كلها جهالة إلا العلم فيها، والعلم كله وبال على صاحبه إلا العمل به، والعمل كله هباء منثور إلا الإخلاص فيه، وأنت من الإخلاص على خطر، لا تدري أتثبت عليه ويتقبل منك، أو تفارقه ولا يتقبل منك؟
وإذا فسرت التقوى هنا بالمعنى اللغوي: أي: اتقى المحذور، فيكون المعنى: ما فعل شيئاً بعد إعطائه يبطل هذا الإعطاء، كما قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264]، فإذا صدر الفعل الحسن من قلب خبيث لا يقبله الله، وهذا حال كثير من الناس في هذا الوقت:
يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب
إذا لقيت أكثر الناس مدحوك، وإذا غبت عنهم سلخوك، هذا لا يقبله الله جل وعلا، (فأما من أعطى): فعل الحسن، والحسن لا بد بعد ذلك من هيئة في النفس راسخة حسنة، صدر عنها هذا الفعل تقرباً لله جل وعلا.
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى [الليل:5-6].
(الحسنى) غاية ما نقل عن سلفنا الكرام في تفسيرها أربعة أقوال متلازمة: المجازاة، والخلف، والتعويض، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى [الليل:6]، أي: بلا إله إلا الله، وصدق بالحسنى بالجنة، قال الإمام القرطبي: والأقوال الأربعة مآلها إلى شيء واحد وهو يعود إلى الجنة، فالجنة أعظم جزاء يحصله التقي، وهو أعظم خلف يخلفه الله على من أعطى واتقى، ولا يتوصل إليها إلا بلا إله إلا الله.
إخوتي الكرام! في جانب الخير جاء بالإعطاء، ولم يذكر المفعول ليشمل كل عطاء حسن، من مال وجهد وجاه وتبسم وكلمة طيبة، وأما هنا فصرح بمحل الذنب فلم يقل: وأما من منع، إنما قال: وأما من بخل، والبخل هو أن يمنع الإنسان الحق الواجب عليه، ولذلك قال علماؤنا: كل من استحق بالمنع ذماً وعذاباً فهو بخيل، وكل من استحق بالإعطاء مدحاً وثواباً فهو كريم.
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى [الليل:8] ذكره بهذا الوصف؛ لأنه منع إعطاء ودفع ما وجب عليه، بخل واستغنى، فكل من استحق بالإعطاء حمداً وثواباً، فهذا كريم، وكل من استحق بالمنع لوماً وعقاباً فهذا بخيل، ولا بد من وعي هذه النقطة؛ لأنه التبس معنى الكرم والبخل عند الناس في هذا الوقت، ولذلك قال الإمام القرطبي عليه رحمة الله: كل من لم يستحق بالإعطاء مدحاً ولا ثواباً، إنما استحق لوماً وعذاباً، فهذا ليس بجواد، إنما هو مسرف مبذر من إخوان الشياطين الذين يجب الحظر عليهم، فهم يعطون، ولكن لا يستحقون بهذا الإعطاء مدحاً ولا ثواباً، وهكذا كل من لم يستحق بالمنع ذماً ولا عقاباً إنما استحق به مدحاً وثناءً، قال: فهذا من الكاملين الذين يحق لهم أن يقوموا في رعاية شئون غيرهم، والتصرف في أموالهم، من أهل العقل الراجح الذي ينصب ولياً على السفهاء. فلا بد من الفرق ومعرفة الأمر بين البخل والكرم.
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى [الليل:8-9] بخل فما أعطى الحق الواجب عليه، واستغنى بعد ذلك بنفسه عن ربه سبحانه وتعالى، وصار يتبع هواه في جميع شئون حياته، ذاك أعطى واتقى، حسب ما يريد مولاه، وهذا بخل واستغنى بوصفه، فإن وافق الحق هواه أخذ به، وإن خالف الحق هواه طرحه، ورحمة الله على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عندما قال كلاماً ينبغي أن ينقش في القلوب، قال: لا تكن ممن يتبع الحق إذا وافق هواه، ويخالفه إذا خالف هواه، فإنك ستعاقب في الحالتين. سبحان الله! يتبع الحق ويعاقب؟ نعم؛ لأن السبب في اتباعه هواه؛ لأنه يتبع هواه في الأمرين، فلا يتبع الحق إلا موافقة لهواه، ولا يتركه إلا موافقة لهواه.
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى [الليل:8-9]، استغنى بنفسه عن ربه، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:10]، قال الإمام ابن كثير عليه رحمة الله- والجزاء من جنس العمل-: ويولي الله هذا الصنف ما تولى، ولا يظلم وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110]، وقال جل وعلا: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف:5]، فمن طلب الحق يسره الله عليه، ومن طلب الباطل يسره الله عليه، جزاء وفاقاً، ولا يظلم ربك أحداً، الخير ميسر والشر ميسر، والناس يغدون فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.
وقد ذكر أئمتنا قصة تحير الألباب، حاصلها: أن رجلاً كان يزاول مهنة خسيسة طول حياته، وهي مهنة السرقة، فلما كبر ودخل في حد الشيخوخة، واستحى من تعيير الناس، كان يعطي فلوساً لبعض الناس ليسرقوا له من أموال غيره ليأكل هذا المسروق، أصبحت نفسه لا تتلذذ إلا بالحرام، ومن الطرائف: أنه استأجر في يوم من الأيام أجيراً ليسرق له هذا الأجير من بستان جاره، فذهب هذا الأجير الذي أخذ أجرة من هذا الشيخ الذي طعن في السن، وأحضر له شيئاً، من بستانه هو، من بستان الرجل نفسه الذي كان يسرق، يقول العلماء: فلما رفعه إلى فيه ومضغه لفظه، فقال: مالك؟ قال: هذا من مالي ألا تستحي؟ قال: وكيف عرفت؟ قال: إن بطني تعلم أكل الحرام فلا تتلذذ إلا به، وهذا حلال، لما مضغته ما وجدت له لذة، ولا وجدت له طعماً، والقصة مذكورة في كتب أئمتنا رحمهم الله.
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:10]، جزاء وفاقاً، والجزاء من جنس العمل، فأولئك ييسرهم الله لليسرى كما قال جل وعلا: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ [محمد:5]، وعلى قراءة الثمانية المعنى واضح، فالآية التي في آخر سورة العنكبوت: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ [محمد:4-5]، أي: يوفقهم ليسلكوا طريق الهدى الذي كانوا عليه، ويثبتهم عليه، ويزيدهم هدى إلى هداهم في هذه الحياة الدنيا، فالمعنى ظاهر، وإنما على قراءة حفص والبصريين قد يتبادر لبعض الناس إشكال؛ لأن هؤلاء قتلوا وماتوا فإلى أي شيء سيهديهم؟ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد:4]، سَيَهْدِيهِمْ فهو سيهديهم إلى أمرين بعد وفاتهم: سيهديهم إلى محاجة منكر ونكير، ويقول هؤلاء الشهداء لهذين الملكين: هذه نحورنا متخضبة بدمائنا في سبيل ربنا فابتعدا عنا، وسيهديهم لدخول الجنة، وهذان الأمران متوقفان أيضاً على الاستشهاد والوفاة، وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:4-6].
ولا يخفى على طلبة العلم أن اللفظ عام، وسبب النزول خاص، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، فهذا الاسم يشمل كل من اتصف به، هذا هو السبب المعتمد في نزول الآية، وبعض المفسرين حكى الإجماع عليه، وهو الذي مال إليه أئمتنا كـالرازي والخازن والقفال والإمام الألوسي وغيرهم من المفسرين.
والسبب الثاني رواه ابن جرير في تفسيره أيضاً، وابن أبي حاتم والبغوي والواحدي في أسباب النزول، وحاصله: أن الآية نزلت في رجل أنصاري اسمه أبو الدحداح رضي الله عنه، وحاصل قصته: أنه كان يوجد نخلة لرجل في المدينة المنورة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يظهر من سياق هذه القصة أن الرجل كان يظهر الإيمان والله أعلم بحقيقة قلبه على حسب ما ورد في هذه القصة، كان لهذا الرجل نخلة في بيته أغصانها مدلاة على بيت جاره، وكان جاره فقيراً، فكان إذا حان قطف ثمار هذه النخلة، يتسلق هذا الرجل الشجرة ويقطع الثمار، فإذا سقط ثمرات من هذه الشجرة في بيت جاره، نزل إلى بيت جاره وأخذ هذه الثمرات من أيدي الأولاد، وإذا ولد أدخل تمرة في فيه أدخل أصبعه وأخرجها من فيه، فشكى هذا الرجل الفقير أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لصاحب النخلة: ( أتبيع نخلتك بنخلة في الجنة؟ ).
ولا يتعارض هذا -إخوتي الكرام- مع قول الله: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160]، وهنا نخلة بنخلة، لا، فهي نخلة في الاسم، ولكنها تعدل ليس عشر نخلات فقط، بل تعدل ما لا يحصر ببال، وهذا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة )، فليس ذاك البيت كهذا، حتى يقال: لم لم يقل: عشرة بيوت؟ قال له: ( أتبيع نخلتك بنخلة في الجنة؟ فقال: يا رسول الله! إنها خير ما عندي، ولا أريد أن أبيعها، فتركه النبي عليه الصلاة والسلام، فسمع هذا الكلام
إخوتي الكرام! هذا السبب من ناحية الإسناد ضعيف، يضاف إلى هذا من ناحية الدراية مردود، فسورة الليل مكية، وهذا السبب يشعر بأنها مدنية، ولذلك -وهو الأمر الثالث- جنح شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه منهاج السنة إلى الجمع بين الأمرين، فقال: إذا لم يكن ما ورد في قصة أبي الدحداح من باب الاستدلال بالآية على ما يدخل فيها ويشملها، إذا لم يكن كذلك، إنما كان من باب سبب نزول، فنقول: إن الآية نزلت في أبي بكر وفي أبي الدحداح ، وأنا أقول: هذا يتوقف على حدوث رواية أبي الدحداح ، وبما أنها لم تثبت فلا داعي للجمع.
فالمعتمد أن هذه الآية نازلة في صديق هذه الأمة أبي بكر رضي الله عنه: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:5-7].
ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والترمذي ومستدرك الحاكم بسند صحيح أقره عليه الذهبي ، والحديث في صحيح ابن حبان وسنن البيهقي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر والأبيض والأسود وما دون ذلك، ومنهم السهل والحزن -اللين والشديد القاسي- ومنهم الخبيث والطيب ).
وثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا )، فهذا معدنه ذهب، وهذا فضة، وهذا نحاس، وهذا حديد، وهذا زبالة.. ونحو ذلك، فالناس معادن كمعادن الذهب والفضة.
وثبت في مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني الصغير والأوسط عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا نعلم شيئاً خيراً من مائة مفلس إلا الرجل المؤمن )، هذه رواية المسند للإمام أحمد ، ورواية الطبراني: ( لا نعلم شيئاً خيراً من ألف مفلس إلا الرجل المؤمن )، والحديث مال الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد إلى تضعيفه لوجود راو فيه وهو أسامة بن زيد بن أسلم ، والذي حققه الإمام الشيخ أحمد شاكر عليه رحمة الله في تعليقه على المسند: أن أسامة بن زيد ليس هو ابن أسلم ، إنما هو أسامة بن زيد الليثي ، وهو ثقة، قال: وعلى تقدير كون المذكور هو أسامة بن زيد بن أسلم فالمعتمد في أمره أنه ثقة أيضاً، ولذلك حكم على الحديث بأن إسناده صحيح.
والحديث روي له شواهد بأسانيد ضعيفة، عند العسكري عن جابر ، وعند الطبراني عن سلمان الفارسي رضي الله عنهم أجمعين، وقد بين لنا نبينا صلى الله عليه وسلم أحوال الناس ومعادنهم، ففي الصحيحين ومسند الإمام أحمد وغير ذلك عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأصاب طائفة أخرى منها إنما هي قيعان، وكان منها أجادب -وهي الصنف الثاني- أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى -وهي القسم الثالث- إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً فلم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)، وهذا المعنى -وهو اختلاف الناس في معادنهم وفي طبائعهم، وفي مراتبهم- دلل عليه ربنا جل وعلا في آيات كثيرة، منها قول الله جل وعلا عندما ذكر خليله إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، فنعته بهذا الوصف الكريم فقال: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً [النحل:120]، قائداً في الخير يقتدى في الرشد والصلاح والفلاح، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:120].
وذكر أئمتنا في ترجمة حذيفة بن اليمان ، والقصة مذكورة في طبقات ابن سعد ، ومذكورة في تاريخ ابن عساكر ، ونقلها الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء، وحاصلها: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما ولى حذيفة على المدائن، ثم طلب منه بعد فترة أن يأتي إلى المدينة، فكمن له عمر نصب له كميناً، وتخبأ في مكان بحيث لا يراه حذيفة ؛ ليرى حال هذا المسئول عن أولئك الناس، هل تغيرت حالته عما ذهب، فكمن له في الطريق، فعاد حذيفة من المدائن إلى المدينة على حمار له، بالهيئة التي فارق فيها المدينة المنورة على نبينا صلوات الله وسلامه، فلما رأى عمر حذيفة بهذه الحالة خرج من كمينه، واستلم أخاه حذيفة وقبله وقال: أنت أخي وأنا أخوك، ثم لما دخلا المدينة جمع عمر الناس فقال: تمنوا! فبدأ كل واحد يتمنى أمراً من أمور الخير، فيقول بعضهم: أتمنى بيتاً من ذهب لأنفقه في سبيل الله، وآخر يتمنى ويتمنى، فقال عمر: لكني أتمنى رجالاً كـحذيفة بن اليمان وأبي عبيدة بن الجراح أستعملهم في طاعة الله، بهؤلاء الناس تحيا الأرض، لا بالذهب ولا بالفضة، أتمنى رجالاً كـحذيفة .
إخوتي الكرام! والله جل وعلا يقول: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100]، وقرر الإمام ابن القيم عليه رحمة الله في كتابه مفتاح دار السعادة: أن الله خلق الملائكة عقولاً بلا شهوة، وخلق البهائم شهوة بلا عقول، وخلق بني آدم عقولاً بشهوة، فيهم العقول وفيهم الشهوة، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم، قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [المائدة:100]، وهذا مقرر في كتب أئمتنا في كتب التوحيد: أن الملائكة عقول بلا شهوة كما في شرح الطحاوية وغير ذلك، ولذلك ذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قول جليل، كان يقول في أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين: (لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان الناس لرجح إيمان أبي بكر )، وهذا الأثر رواه البيهقي في شعب الإيمان، وإسحاق بن راهويه بسند صحيح إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قال الإمام السخاوي : ورواه ابن عدي والديلمي عن ابن عمر مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام: ( لو وزن إيمان
هذا ما ذكره السخاوي شاهداً لهذا الأثر الذي قال: روي عن ابن عمر مرفوعاً، وأقول: ليس السخاوي عليه رحمة الله ذكر الأثر الثاني، وهو أوضح في الشهادة لهذا الأثر الذي روي مرفوعاً، والأثر الثاني رواه الإمام أحمد والطبراني بسند صحيح رجاله ثقات، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: ( خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة بعد طلوع الشمس، فقال: رأيت قبيل الفجر كأني أعطيت المقاليد والموازين، فأما المقاليد فهذه المفاتيح، وأما الموازين فهذه الموازين التي تزنون بها وتعرفونها، فجيء بي، ووضعت أمتي في كفة فرجحت بهم، ثم جيء بـ
و(لو) إما أن تكون مصدرية في الآية، أي: يود أحدهم تعمير ألف سنة، وإما أن تكون شرطية والجواب محذوف، أي: يود أحدهم لو يعمر ألف سنة لكان ذلك أحب شيء إليه، وقيل: إن قوله: (ومن الذين أشركوا) ابتداء كلام وليس معطوفاً على ما قبله، والآية نازلة في المجوس الذين يقولون لبعضهم: عش ألف سنة، أي: ومن الذين أشركوا قوم يود أحدهم لو يعمر ألف سنة.
ويقول الله جل وعلا في وصف اليهود في سورة الجمعة: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة:5]، كمثل الحمار، وهو أخس المخلوقات على الإطلاق، مثلهم كمثل الحمار، فهم لا ينتفعون من الكتاب الذي نزل عليهم وهو التوراة، كما لا تنتفع الحمر بما تضع على ظهرها من أسفار، وهي جمع سفر، أو كتب عظيمة، (كمثل الحمار يحمل أسفاراً)، فمعدنهم كهذا المعدن الخبيث، وهم يوصفون بهذا الحيوان البهيم وهو الحمار.
قال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179]، وقال جل وعلا: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:43-44].
ولذلك حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم من هذا الوصف، وحذرنا من عدم وعي الكلام، وعدم فهمه، وعدم العمل بموجبه، ففي مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما عملوا وهم يعلمون )، (ويل لأقماع القول) يدخل القول في أذنه، ويخرج من أذنه الأخرى، لا يثبت، ولا يفقه معناه، ولا يعمل بموجبه، والقمع: هو ما يصب فيه السوائل من جهة وتنزل وتخرج من جهة أخرى، وهكذا حال المنافقين، وحال من سخط الله عليهم، يسمعون المواعظ فلا ينتفعون بها، ولا يعملون بموجبها.
وهذا كما ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم في معجم الطبراني ومستدرك الحاكم بسند صحيح أقره عليه الذهبي ، عن ابن عباس ، والأثر رواه أبو يعلى بسند جيد عن ابن مسعود ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا ظهر الربا والزنا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله )، فلما ذهب النسوة بهذا الجيش ابتلي الجيش بمعصية الله ووقعوا فيما وقعوا فيه، وفشا فيهم الطاعون، ومات منهم سبعون ألفاً، فأوحى الله إلى يوشع بن نون -فتى موسى- بالأمر، فأرسل بعد ذلك بعثة لتنقذ الموقف، ويقال: إنه لما جاءت هذه الفرقة وجدوا قائد الجيش يزني بامرأة، فضربهما برمح ثم رفعهما، وقال: اللهم من فعل هذا فعلنا به هكذا فاكشف عنا ما نحن فيه، فكشف الله عنهم البلاء، ودخلوا بعد ذلك بلاد فلسطين آمنين.
وهذا الرجل بلعام بن باعوراء يقال: إنه بعد ذلك أطلق الله لسانه على صدره، فبدأ يلهث كما يلهث الكلب، وعلمه ما نفعه لا في حال هداه، ولا في حال ضلاله، عندما تنصحه قبل أن يدعو على قوم موسى لم ينتصح، وهكذا عندما تنصحه بعد ذلك لم ينتصح، فحاله كحال الكلب يلهث في جميع الأحوال، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:176].
إخوتي الكرام! وقد حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم من سلوك هذا المسلك، ومن الاتصاف بهذا الوصف الوخيم، ففي مسند أبي يعلى والبزار بسند جيد عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن مما أخشى عليكم رجلاً قرأ القرآن حتى إذا رئيت عليه بهجته ونضارته، وكان ردءاً الإسلام، اعتزل إلى ما شاء الله، ثم انقلب على جاره ورماه بالشرك وقاتله بالسيف، فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! من أحق بالشرك: الرامي أو المرمي؟ فقال: الرامي )، هذا وصف علماء السوء.
ولذلك أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن معادن الناس، وأن الناس من رآهم قد يغتر بظاهرهم، فإذا وضعهم على المحك، فالمعدن الطيب فيهم ومنهم قليل قليل، روى أبو يعلى والطبراني وأبو نعيم في الحليلة عن أبي الدرداء رضي الله عنه، والحديث كما قال السخاوي : ضعيف من جميع طرقه، ولكن يشهد له حديث الصحيحين الذي تقدم معنا آنفاً، ولفظ الحديث: عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اخبر تقله )، أي: جرب الناس تبغضهم وتكرههم وتنفر منهم.
سبقناه ونحسبه لجيماً فأبى الكير عن خبث الحديد
هذا حال الناس: خالط الناس لترى ما لا يظهر بالحسبان، إنما الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة، واخبر تقلص.
إخوتي الكرام! كان أبو سليمان الخطابي -وهو في القرن الرابع للهجرة- يقول: نحن في زمن قل فيه من يعرف -أي: من يعرف الحق- وأقل منه من يعمل به. إذا عرف الحق هل يعمل بموجبه؟ هذا أقل منه، فكيف في زماننا؟ وكيف في حالنا؟ يقول وهيب بن الورد المتوفى سنة 153هـ، وهو ثقة عابد صالح، كان الإمام الثوري عليه رحمة الله إذا انتهى من مجلسه مع أصحابه في مدارسة حديث النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: قوموا بنا إلى الطبيب، إلى وهيب بن الورد ، ومن كلامه الطيب: إياك أن تكون عدواً لإبليس في العلانية، وصديقاً له في السر. وهيب بن الورد رضي الله عنه ورد في ترجمته -كما في تذكرة الحفاظ-: أنه حلف ألا يضحك حتى تخبره الملائكة بمقعده في الجنة، وفي كتاب العقد الثمين في أخبار البلد الأمين زيادة: قالوا: فلما مات رضي الله عنه سمعوه يتكلم فيقول: وفيت لي -أي: رأيت مقعدي في الجنة- ولم أوف لك، وما قمت بما يجب نحوك يا رب العالمين، وهيب بن الورد يقول: خالطت الناس خمسين سنة فما غفروا لي ذنباً، ولا ستروا لي عورة، ولا أقالوا لي عثرة، ولا أمنت واحداً منهم إذا غضب، فالاشتغال بهؤلاء حمق كبير، ورحمة الله على من قال:
ارض بالله صاحبا وذر الخلق جانبا
قلب الناس كيفما شئت تجدهم عقاربا
الناس بحر عميق والبعد عنهم سفينة
وقد نصحتك فاختر لنفسك المسكينة
ورحمة الله على من قال:
سمعنا بالصديق ولا نراه على التحقيق يوجد في الأنام
وأحسبه محال نمقوه على وجه المجاز من الكلام
ولفساد معادن أكثر الناس قال من قال:
إياك تغتر أو تخدعك بارقة من ذي خداع يرى بشراً وألطافا
فلو قلبت جميع الأرض قاطبة وصرت في الأرض أوساطاً وأطرافا
لم تلق فيها صديقاً صادقاً أبداً ولا أخاً يبذل الإنصاف إن صافى
والمعنى الخامس نقل عن سفيان بن عيينة عليه رحمة الله: (إلا أمم أمثالكم)، أي: على طبائعكم وعلى شاكلتكم، وأنتم تحملون خصائصها وصفاتها، فمنكم من هو على شاكلة الغنم، أليف، ومنكم من هو جواد كريم على شاكلة الخيل، ومنكم من هو خبيث نجس على شاكلة الخنزير يسمع ألف كلمة طيبة فيسترها، فإذا سمع بكلمة سيئة تفكه بها في المجالس، وهكذا الخنزير يمر على الطعام الطيب فيلوي بعنقه عنه، فإذا قام الإنسان من قضاء حاجته أكل غائطه، ومنكم من هو كالثعبان، ومنكم من هو كالعقرب، وهذا المعنى نقل عن سفيان بن عيينة وقرره أبو سليمان الخطابي عليه رحمة الله، وقال: إن ظاهر الآية عندما قال الله: أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام:38]، لم يرد المثلية من ناحية الصورة، فصورتنا تختلف عن صورة هذه البهائم، ولم يرد المثلية من ناحية النطق والمعرفة، فتعين أن تكون المثلية من ناحية الخلق والطبع، وهذا المعنى قرره الإمام ابن القيم عليه رحمة الله في كتابه الجواب الكافي في صفحة (140)، وقرره في مدارج السالكين في الجزء الأول في صفحة (402)، وذكر في هذين المكانين كلاماً طيباً ينبغي الرجوع إليه.
وخلاصة ذلك: أنه يقول: ما أحسن هذا التصوير الذي قاله أبو محمد سفيان بن عيينة عليه رحمة الله، ثم ذكر أن الناس على طبيعة هذه المخلوقات، فمنهم ومنهم ومنهم، ثم قال: والمتفرسون يشاهدون حقيقة هذه الأخلاق والطبائع في صور الناس، فالمؤمن إذا نظر إلى وجه الناس يستطيع أن يميز من هو على خلق القرد أو الدب أو الكلب أو العقرب أو الثعبان، والمتفرس ينظر بنور الله، ورد في سنن الترمذي بسند غريب عن أبي سعيد ، والحديث في معجم الطبراني بسند حسن عن أبي أمامة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ).
وفي معجم البزار والطبراني عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم)، ثم يقول: وأما الأعمال فيشاهد الإنسان أخلاق الناس وطبائعهم من أعمالهم بعينيه، هذا ما قيل لكل أحد، ثم قال: وإذا استحكمت المشابهة التامة بين الإنسان وبين بعض الحيوانات، فيأتي المرحلة الثالثة، وهو قلب هذه الصورة الظاهرة إلى صورة من أشبهه، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف.
شبه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن الذي يصنع الخير ويفقهه ويعمل به بتشبيه طيب حسن يتناسب مع جوهره، شبهه بالنخلة، ففي الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال
وهكذا شبه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن بالنحلة، وشبهه بقطعة الذهب، ففي مسند الإمام أحمد ومستدرك الحاكم بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله يبغض الفحش والتفحش، والذي نفس محمد بيده! لا تقوم الساعة حتى يخون الأمين، ويؤتمن الخائن، وتقطع الأرحام، ويظهر سوء الجوار، ويظهر الفحش والتفحش، والذي نفس محمد بيده -عليه صلوات الله وسلامه- إن مثل المؤمن كمثل القطعة من الذهب، نسخ عليها صاحبها فلم تغير ولم تنقص )، لم تتغير ولم تنقص، بقيت ذهباً صالحاً، ( والذي نفس محمد بيده -صلوات الله وسلامه عليه- إن مثل المؤمن كمثل النحلة أكلت طيباً، ووضعت طيباً، ووقعت فلم تكسر ولم تفسد )، وفي رواية للبيهقي في شعب الإيمان: ( ووقعت على عود رطب فلم تكسره )، أي: أن النحلة إذا وقعت لا تكسر ولا تفسد ولا تتغير في نفسها، ولا تؤذي غيرها، فهذا حال المؤمن في جميع أحواله، وتتمة الحديث قال: ( ألا وإن لي حوضاً ما بين ناحيتيه كما بين أيلة ومكة )، أي: بيت المقدس ومكة، أو قال: ( ما بين صنعاء والمدينة، فيه من الأكواب كعدد نجوم السماء، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، من شرب منه لم يضمأ بعدها أبداً )، نسأل الله أن يمن علينا بالشرب من حوض نبينا صلى الله عليه وسلم.
الفوائد التي تؤخذ كثيرة أجملها في ثلاثة أمور:
يا أخي المؤمن! إذا كنت على الحق فاحمد الله.
صلة بن أشيم عندما دخلت عليه زوجه معاذة رضي الله عنهما أدخله ولد أخيه بيتاً دافئاً -وهو الحمام- ليغتسل، ثم أدخله إلى بيت مطيب، فدخلت عليه زوجه فيه، فقام تلك الليلة يصلي وزوجه وراءه، وهما يبكيان، فلما طلع الفجر قال له ولد أخيه: كسرت خاطر بنت عمك، كسرت خاطرها، إلى الفجر وأنت تصلي! فقال صلة : أدخلتني بيتاً حاراً ذكرني جهنم، ثم أدخلتني بيتاً مزيناً ذكرني الجنة، فأنا في ليلتي أفكر في النار وفي الجنة، وفي أيهما سأكون.. إذا كنت على الحق فلا تبال.
ويذكر الإمام الذهبي في ترجمته كرامة له ويقول: إنها ثابتة، وهي في الحلية وغير ذلك من كتب التراجم، حاصلها: أنه كان في سفر فرأى رجلاً كافراً، فقال: أطعمني مما معك، قال: هذا فيه طعام وفيه لحم خنزير، فقال: لا حاجة لي به، ثم رأى بعد ذلك رجلاً آخر، فقال: أطعمني مما معك، قال: هذا طعامي لأيام، وهذه الأيام مدة سفري، فإذا أكلت منه ستنقص عليّ طعامي، فقال: لا حاجة لي في طعامك، يقول: فلما اشتد عليّ الجوع رأيت كأن شيئاً سقط ورائي، وسمعت صوته، فالتفت فإذا شيء ملفوف في سب أبيض، وهو خمار تختمر به المرأة، قطعة بيضاء كبيرة واسعة، فيها دوخلة، وهو ما ينسج من الخوص، سلة منديل صغير، فيها بوخلة، يقول: فكشفت هذا السب فإذا في هذه الدوخلة رطب، والله وما على ظهر الأرض رطبة واحدة، فأكلت من هذا الرطب، ثم بعد ذلك أخذ هذا السد لزوجته فخاطته ثوباً، وهذه كرامة ثابتة.
ويقول بعض من عاصره وأدركه، وهو جعفر بن زيد ، يقول: لما حصلت موقعة بيننا وبين الكفار، واشتد القتال، وجاء الليل، قام صلة فصلى ما تيسر له ثم نام مع أصحابه ليظهر لهم أنه نام، يقول: فلما نام العسكر نهض مسرعاً ودخل إلى غيضة إلى مكان فيه شجر ملتف، فقلت: والله لأتبعنه لأرى ماذا يصنع؟ يقول: فقام يصلي ويبكي، هذا المجاهد الذي هو على الحق، ولا خير في الأمة إذا لم يكن فيها أمثاله، يقول: فجاء أسد يزأر، والله إن زئيره يصدع الجبال، فرقيت على الشجرة، يقول: جعفر بن زيد : أتظن أنه التفت إليه، والله لم يأبه به، ولا كأنه جرذان، فلما سجد صلة ، قلت: الآن يفترسه، والأسد يهمهم حوله، فلما انتهى صلة وسلم قال: يا أيها الأسد! اطلب رزقك في غير هذا الموطن، يقول: فولى الأسد وهو يزأر، فلما أصبحنا ذهب صلة إلى العسكر وأيقظهم، وكأنه نام على الأرائك، على الفرش الوثيرة.
ولما اشتكت بطنها رضي الله عنها -كما في تهذيب التهذيب- وصف لها نبيذ الجر، فلما وضع النبيذ بين يديها قالت: اللهم إن كنت تعلم أن عائشة حدثتني عن نبيك صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن نبيذ الجر، فاكفنيه بما شئت. يقول ابن حجر: فانكفأ الإناء، وأهريق ما فيه، وشفى الله بطنها، والنهي عن نبيذ الجر ثابت في الكتب الستة، ولكن اختلف أئمتنا هل هو محكم أو منسوخ؟ لما ورد في المسند وصحيح مسلم عن بريدة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كنت نهيتكم عن الانتباذ إلا في الأسقية، فانتبذوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكراً )، فذهب الإمام مالك ، وهو رواية عن الإمام أحمد إلى أن النهي عن نبيذ الجر ثابت، أي: لا يجوز أن نشرب نبيذ الجر، والنبيذ هو أن يضع الإنسان تمراً أو زبيباً في وعاء فيه ماء ثم يشربه بعد أن يصير نبيذاً، فإذا كان هذا الوعاء جرة فلا يجوز أن يشرب النبيذ منه، أي: هذا الماء الذي يصبح حلواً، والعلة في هذا: أنه يسرع إليه الإسكار، ولا يظهر عليه الأثر، بخلاف ما لو انتبذ الإنسان في أسقية الأدم، فلو حصل فيها إسكار وهي مربوطة لتمددت ولتمزقت وانفجرت.
فذهب مالك وهو رواية عن الإمام أحمد إلى أن النهي ثابت، فلا يجوز للإنسان أن يشرب من نبيذ الجر، وهذا لما رواه الطبراني عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (لأن أشرب في قمقماً من ماء محمى فيحرق ما يحرق، ويبقي ما يبقي، أحب إليّ من أن أشرب نبيذ الجر)، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (لا أشرب نبيذ الجر وإن كان أحلى من العسل، أو وإن لم يدخله شيء من الإسكار)، بما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه فينبغي أن نبتعد عنه.
معاذة رضي الله عنه توفيت سنة 83هـ، فعاشت بعد زوجها ما يقرب من إحدى وعشرين سنة، ولما احتضرت بكت ثم ضحكت، فقيل لها: ما الذي أبكاك؟ وما الذي أضحكك؟ قالت: بكيت لأنني سأفارق الدنيا، وأفارق الصوم والصلاة وذكر الله، تبكي لأنها سوف تفارق هذه الأشياء، لم تبك على فراق التلفزيون، ولا الفيديو، ولا الفرش الوثيرة، ولا الغرف المزينة المزركشة، ستفارق الصوم والصلاة وذكر الله، وضحكت، تقول: لأنني رأيت أبا الصهباء -وهو زوجها- عليه ثوبان أخضران، ومعه نفر من الناس لا أعرفهم، وهم في صحن الدار يستقبلونني، وما أظن أني سأدرك الصلاة الأخرى، فتوفيت رضي الله عنها قبل أن يدخل وقت الصلاة الأخرى.
وقائلة ما لي أراك متاركاً أموراً وفيها للتجارة مربح
فقلت لها مالي بربحك حاجة فنحن أناس بالسلامة نفرح
ولذلك عندما بحث علماؤنا في الحسد، قالوا: لا يكون الحسد بين من يريد الدار الآخرة، ويريد وجه الله؛ لأن طريق الآخرة يسعهم، نعم إذا أرادوا بعلمهم ودعوتهم وعبادتهم الدنيا اختلفوا وتناحروا وتباغضوا.
هذه ثلاثة أمور ينبغي أن نخرج بها من هذه المحاضرة.
اللهم ألف بين قلوبنا، واجعلنا اللهم من المتحابين فيك بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وحببنا فيه، وأرنا الباطل باطلاً وألهمنا اجتنابه وكرهنا فيه، اللهم ثبتنا على القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، ولمن له حق علينا ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر