اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صلحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
إخوتي الكرام! كنا نتدارس المبحث الثالث من مباحث النبوة، وقد دار هذا المبحث حول بيان الأمور التي يعرف بها صدق النبي والرسول على نبينا وعلى أنبياء الله ورسله جميعاً صلوات الله وسلامه، وهذه الأمور -إخوتي الكرام- قلت: إنها كثيرة وكثيرة، ويمكن أن نجملها في أربعة أمور:
أولها: النظر إلى حال النبي عليه الصلاة والسلام في نفسه، في خَلقه وخُلقه، وثانيها: النظر إلى دعوة النبي عليه الصلاة والسلام ورسالته التي بعث بها وبلغها، وثالثها: النظر في المعجزات وخوارق العادات التي أيده الله بها, ورابعها: النظر إلى حال أصحابه الكرام، فهم صورة لمن اتبعوه على نبينا وآله وأصحابه صلوات الله وسلامه.
إخوتي الكرام! كنا نتدارس الأمر الأول من هذه الأمور الأربعة، ألا وهو النظر إلى حال النبي عليه الصلاة والسلام في نفسه، في خَلقه وخُلقه، وتقدم معنا أن الله أعطى رسله على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه الكمال في الأمرين في الخلْق والخلُق، فهم في خَلقهم وخُلقهم جمال وجلال، ويتصفون بصفات الكمال كما تقدم معنا تقرير ذلك إخوتي الكرام.
وقد تدارسنا ما يتعلق بالأمر الأول في بيان خَلق الرسول على نبينا صلوات الله وسلامه، ووجه دلالة ذلك على أنه رسول الله حقاً وصدقاً على نبينا صلوات الله وسلامه، وانتقلنا بعد ذلك إلى الجانب الثاني من الأمر الأول ألا وهو النظر إلى خلق النبي عليه الصلاة والسلام، وقلت -إخوتي الكرام!: إن خلق النبي عليه الصلاة والسلام إما أن يكون مع الحق جل وعلا، وإما أن يكون مع الخلق، وخلقه مع الخلق إذا أردنا أن نتدارسه ينبغي أن نوضحه ضمن سبعة أمور كما تقدم معنا أيضاً:
خلقه عليه الصلاة والسلام مع أهله أزواجه وأهل بيته، خلقه عليه الصلاة والسلام مع أصحابه وأمته، خلقه عليه الصلاة والسلام مع الملائكة الكرام على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، خلقه عليه الصلاة والسلام مع أعدائه من شياطين الإنس، خلقه عليه الصلاة والسلام مع أعدائه من شياطين الجن، سادس هذه الأمور: خلقه عليه الصلاة والسلام مع الحيوانات، سابعها: خلقه عليه الصلاة والسلام مع الجمادات, وكيف كان يتعامل مع هذه المخلوقات بأسرها على نبينا صلوات الله وسلامه؟
وأما ما يتعلق بالجانب الثاني من خلقه ألا وهو خلقه مع الحق جل وعلا، فسيأتينا بيان عبادته لربه عليه الصلاة والسلام ومعاملته مع ذي الجلال والإكرام.
إخوتي الكرام! أما ما يتعلق بمعاملة النبي عليه الصلاة والسلام وخلقه مع أهله فذكرت أنه لإيضاحها ينبغي أن نتدارس أربعة أمور أيضاً:
أولها: النظر إلى مسكن النبي عليه الصلاة والسلام، وتقدم معنا أن مسكن النبي عليه الصلاة والسلام هو مسكن من جعل الدنيا معبراً ولم يتخذها مقراً، وثاني هذه الأمور: النظر إلى أثاث ذلك المسكن الذي كان يستعمله نبينا وأهله عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وقلت: إن ذلك الأثاث أيضاً كحال زاد الراكب، كما تقدم معنا إيضاحه وبيانه، وثالث الأمور: طعام نبينا عليه الصلاة والسلام وأهله الكرام عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، ماذا كان يقدم في ذلك السكن من طعام؟ وآخر الأمور: كيف كانت المعاملة بين نبينا عليه الصلاة والسلام وأهل بيته؟ وفي ذلك إيضاح تام في أنه رسول ذي الجلال والإكرام على نبينا صلوات الله وسلامه.
إخوتي الكرام! تقدم معنا ما يتعلق بالأمرين الأول والثاني فيما يتعلق بمسكنه وأثاثه عليه الصلاة والسلام، وختمت الكلام في الموعظة الماضية ببيان تركة النبي عليه الصلاة والسلام، فلم يخلف ديناراً ولا درهماً، ولا بعيراً ولا شاةً، ولا عبداً ولا أمةً عليه الصلاة والسلام، وإنما خلف سلاحه ودرعه عليه صلوات الله وسلامه، وبغلته التي كان يركب عليها، وأرضاً جعلها صدقة في وجوه البر على المسلمين، وبينت بعد ذلك ما يتعلق بهذا، بينت أمرين اثنين: الأول: الوصية، وهل الأنبياء يوصون أم لا؟ وقلت: إن الوصية المالية منفية عنهم؛ لأنهم لا يخلفون شيئاً، وإذا خلفوه فلا يورث عنهم على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، نعم، إنهم يوصون لكن بغير الوصية المالية كما تقدم معنا في سرد بعض وصايا نبينا عليه الصلاة والسلام.
والأمر الثاني: قلت: كما أنهم لا يوصون لا يورثون، وقررت هذا بالأحاديث المتواترة: ( إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة) وقلت: إن الحديث متواتر ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام.
إخوتي الكرام! أحب أن أختم الكلام في هذه الموعظة بأمرين اثنين يتعلقان بتركة النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا كان لا يورث وراثة مالية، كما أنه لا يوصي وصية مالية، فهل يورث وراثة ليست مالية كما تقدم معنا؟ وهل يوصي وصية ليست مالية؟ والأمر الثاني: معجزة في تركة نبينا عليه الصلاة والسلام سنتدارسها وما فيها من عظات وعبر، ثم أختم الكلام بما وعدت أن أبينه ضمن وصية نبينا عليه الصلاة والسلام من إخراج المشركين النصارى واليهود الملعونين من جزيرة العرب.
إذاً: هذه وراثة، لكنها ليست وراثة مالية دنيوية، ( إن العلماء ورثة الأنبياء )، ورثوا عنهم هذا الهدى الذي بعثهم الله بتبليغه ونشره بين الناس، وقد كان الصحابة الكرام يذكرون الأمة بهذا المعنى، ففي معجم الطبراني الأوسط، وإسناد الحديث حسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: أنه دخل سوق المدينة بعد موت نبينا عليه صلوات الله وسلامه، فرأى الصحابة الكرام في هذا السوق يبيعون ويشترون ويتفاوضون في أمر الدنيا، فنادى بأعلى صوته: يا أهل السوق! ما أعجزكم! قالوا: وما ذاك؟ قال: ميراث النبي صلى الله عليه وسلم يقسم في مسجده وأنتم هنا تبيعون وتشترون. فتركوا دكاكينهم وأسرعوا إلى مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، وفهموا من الإرث الإرث الدنيوي لعل الواحد منهم يحظى بشيء من متاع النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلوا المسجد فلم يروا شيئاً يقسم من ميراث النبي عليه الصلاة والسلام، ومن أثاثه الذي كان يستعمله في بيته عليه صلوات الله وسلامه، ثم خرجوا من المسجد، فقابلهم أبو هريرة رضي الله عنه على باب المسجد، فقالوا: ذكرت لنا أن ميراث النبي صلى الله عليه وسلم يقسم في مسجده فلم نر شيئاً؟ قال: ماذا رأيتم في المسجد؟ قالوا: رأينا أناساً يصلون، وأناساً يقرءون القرآن، وأناساً يتذاكرون الحلال والحرام، ثلاثة أصناف في مسجد نبينا عليه الصلاة والسلام، قال: ويحكم! ذاك ميراث النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم )، ورحمة الله على من قال:
العلم ميراث النبي كذا أتى في النص والعلماء هم وراثه
ما خلف المختار غير حديثه فينا فذاك متاعه وأثاثه
إذاً: الأنبياء يورثون عن طريق العلم والهدى الذي بعثوا به وبلغوه إلى الأمة، ولا يورثون وراثة مالية، وعليه فما ورد من لفظ الإرث في حق الأنبياء على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، في كلام الله جل وعلا، فالمراد به إرث النبوة، إرث العلم، إرث الهدى، إرث الدعوة إلى الله جل وعلا، إرث الحكمة، لا إرث المال.
إذاً: المراد: يرثني في النبوة، في العلم، في الحكمة، في الدعوة إلى الله جل وعلا على بصيرة، فولده يربيه على يديه، وطلب من الله أن يبارك له في هذا الولد، وأما عصباته وأقرباؤه فبينه وبينهم شيء من البعد مع القرابة، فلا يملك من أمرهم شيئاً، يعني حال الأقرباء والعصبات كيف سيكون بعد موتي؟ لا أعلم، أريد ولداً يكون قرة عين، وأريد منك أن تبارك فيه وأن يكون نبياً، وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم:6].
وهكذا قال الله جل وعلا في سورة الأنبياء: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:89-90]، فالمراد من الإرث هنا الإرث في النبوة.
ويدل على هذا عدة أمور -إخوتي الكرام- أبرزها: أن الدنيا حقيرة وضيعة لا شأن لها عند الله جل وعلا، ولا عند عباد الله، وأتقى عباد الله وأزكاهم وأذكاهم هم رُسُل الله على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، فهل يمكن لرسول أن يعلق همته بدنيا بعد موته، وأنه يخشى على هذه الدنيا بيد من ستكون؟ فيقول: لا أريد أن تكون بيد العصبات والأقارب البعيدين، أريد أن تكون الدنيا بيد ولدي؟ أيظن هذا بنبي ورسول أن يطلب هذه الدنيا الحقيرة وأن يجعلها الله لولده؟ لا ثم لا.
الأمر الثاني: أن نبي الله زكريا كانت مهنته النجارة، كما ثبت ذلك في المسند وصحيح مسلم وسنن ابن ماجه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( كان زكريا نجاراً )، وإذا كان يزاول هذه المهنة مهنة النجارة، فهل سيستغرق فيها وقته من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؟ لا، بل يشتغل في النجارة بمقدار يحصل منه قوته ويتفرغ بعد ذلك لعبادة الله ولهداية الناس ولنشر دين الله جل وعلا.
إذاً: هي مهنة في الأصل لا تدر ربحاً كثيراً، ثم هو لم ينهمك فيها كحال الطماعين بحيث يشتغل في هذه المهنة من الصباح إلى المساء ليحصل مالاً كثيراً، فهل سيتكدس عنده ثروة ضخمة عظيمة حتى يخشى عليها بعد موته فيقول: رب! أخشى على ثروتي أن تنتقل إلى عصبتي فأريد منك أن تهب لي ولداً لتنتقل هذه الثروة إليه؟ لن ينتقل إليه إلا عدة النجارة فقط، المطرقة ونحوها، فهل يعني يرث عدة النجارة؟ هذا لا يمكن أن يقال، إذاً: المقصود: يرثني في العلم في النبوة في الدعوة إلى الله بالحكمة والبصيرة، وأريد أن تجعله نبياً كما مننت عليّ بذلك: وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم:6].
فاستجاب الله له ووهب له يحيى، وجعله سيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين.
إذاً: منّ الله عليه بالنبوة، وأعطاه هذه الخوارق والمعجزات، وليس المراد من الإرث الإرث المالي، ولو كان كذلك لما خص الله هذا الولد من بين سائر إخوته، ولو كان المراد منه الإرث المالي لما كان هناك داع لذكره، فمن المعلوم أن تركة الوالد تنتقل إلى الولد، فلمَ يذكر الله تعالى هذا وهو معلوم؟ إذاً: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ [النمل:16]، وراثة خاصة لا تحصل إلا بعناية إلهية خاصة، وهي أن يكون نبياً بعده، وهذا الذي حصل، فقد ورثه في النبوة، أي: جعل الله الابن نبياً كالأب، وهذه أعظم وراثة تحصل وتنتقل من الأب إلى الابن بفضل الله عز وجل وتقديره ولطفه ومشيئته.
إذاً إخوتي الكرام! الأنبياء لا يورثون إرثاً مالياً، لكن يورثون في العلم وفي النور وفي الهدى الذي بعثوا به وبلغوه إلى الناس، فمن جعله الله نبياً بعدهم فتكون الوراثة له كاملة، نبياً يرث نبياً في النبوة، وبعد نبينا عليه الصلاة والسلام انقطعت رتبة النبوة والرسالة، فغاية الوراثة أن يكون الإنسان عالماً عاملاً صالحاً صديقاً، فالعلماء ورثة الأنبياء، وهم خلفاء الرسل، نسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يجعلنا منهم إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
إخوتي الكرام! هذا ما يتعلق بهذا الأمر، كما بينت أنه لا يوصون وصية مالية، ثم قلت: يوصون بغير ذلك، ولا يورثون وراثة مالية، لكن يورثون بغير ذلك كما تقدم معنا الآن.
وفي رواية الإمام النسائي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف رضي الله عنه وأرضاه، قال: كنا يوماً في المسجد جلوس ونفر من المهاجرين والأنصار يجلسون معنا رضوان الله عليهم أجمعين، فأرسلنا واحداً منا إلى أمنا عائشة رضي الله عنها نستأذن في زيارتها. وقد كان الصحابة والتابعون يزورنها كما قال الإمام الذهبي ، وما رأى أحد صورتها، ثم قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: وقد تلقينا العلم عن نساء كثيرات، وما رأيت صورتهن قط. يعني ما يلزم من الزيارة أن تحصل المقابلة وجهاً لوجه، يبقى الستار مضروباً بينها وبينهم، ثم يسألونها ويستفتونها وتخبرهم بما كان عليه نبينا عليه الصلاة والسلام، فأرسلوا واحداً يستأذن في زيارتهم لأمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فأذنت، يقول: فدخلنا على أمنا عائشة رضي الله عنها فقالت لنا: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عندي، فجاء سائل فأمرت له بشيء، يطلب صدقةً ومعونةً، ثم دعوت به -بهذا الشيء- فنظرت إليه. جاء سائل يسأل فأمرت خادمتها بريرة رضي الله عنها مثلاً أن تعطي هذا السائل شيئاً، ثم لما أخذت هذا الشيء لتعطيه طلبته أمنا عائشة لتنظر إليه لتتأمله، هل هو كثير وقليل يليق بهذا السائل أم لا؟ فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: ( يا
وفي بعض روايات الحديث: قالت أسماء رضي الله عنها وأرضاها: ( فهل عليّ جناح أن أرضخ مما يدخل عليّ؟ ) والرضخ هو العطية القليلة، تقول: أنا ليس لي مال، والزبير يقدم لي نفقة في هذا البيت، فهل عليّ جناح أن أعطي من هذه النفقة لسائل أو لمحتاج شيئاً قليلاً؟ فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: ( ارضخي ما استطعت، ولا توعي فيوعي الله عليك )، وفي رواية: ( ولا توكي )، والوكاء: هو الربط والشد على الشيء، من أجل حفظه.
إخوتي الكرام! المرأة إذا تصدقت من مال زوجها فيما جرى به العرف، فهذا مأذون لها فيه، أو في نفقتها الخاصة التي قدمت لها ثم جادت بشيء منها، وأما ما عدا هذين الأمرين فينبغي أن تستأذن الزوج، فإن ما جرى به العرف النفوس تسمح به، وحقها الذي أعطي لها فلها أن تجود بشيء منه، لكن ما جرى به العرف إذا تصدقت به دون أن يأمرها زوجها بصدقة فله نصف الأجر، وإن أمرها فله الأجر تاماً كاملاً، وهذا ينبغي أن يعيه المسلمون، وأن يفوض الإنسان زوجته وأهله للصدقة من بيته حتى إذا تصدقت بشيء جرى به العرف يكتب له الأجر كاملاً، وإذا لم تأذن لها، لكن تصدقت بما جرى به العرف، فهذا مرخص به من حيث الشرع، أو تصدقت بشيء من نفقتها التي أعطيتها إياها فلك أجر، لكن بما أنك لم تأذن فلك نصف الأجر، وإذا أذنت فلك الأجر كاملاً.
وقد ثبت ذلك في الصحيحين من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها من غير أمره فله نصف الأجر )، وهذا مقيد بما يجري به العرف، رغيف الخبز والتمرات وما شاكل هذا، أما أن تدفع من ماله شيئاً كثيراً فله الأجر كاملاً وعليها الوزر، فلابد من استئذانه.
وفي بعض روايات الحديث: ( ما أنفقته المرأة من غير إذن الزوج فإنه يؤدى إليه شطره )، هذا من غير إذنه، وإذا أذن فله الأجر كاملاً، ولها كذلك الأجر.
وهذا من ثقة القلب بالرب فينبغي أن نحافظ على ذلك، وكثرة العد نبتعد عنها، ما تدخله ببيتك إياك أن تعده، وإذا خرج فلا تجلس بعد ذلك تحاسب أين ذهب؟ فإن الله جل وعلا يرزقك من حيث لا تحتسب، وأما العد سواء لما في الجيب أو لما في البيت ليس من شيم الكرام، وليس من شيم من يثقون بذي الجلال والإكرام سبحانه وتعالى.
ومثل هذا كان يتكرر بكثرة، ففي المسند أيضا وصحيح مسلم وكتاب دلائل النبوة للإمام البيهقي ، في الكتب المتقدمة الثلاثة، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كانت امرأة تهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في عكة لها سمناً، فكان يأتيها بنوها فيسألونها الأدم، والعكة معروفة وهي الوعاء من الجلد من جلد الضأن بعد أن يدبغ يصنع منه وعاء يوضع فيه السمن، فيأتي بنوها فيسألونها الأدم وليس عندهم شيء، فكانت تعمد إلى تلك العكة التي تهدي فيها السمن إلى النبي عليه الصلاة والسلام فتجد فيها سمناً، تصب فيخرج السمن بإذن الله جل وعلا، فما زالت تقيم لها أدم بيتها حتى عصرتها، فانتهت، فبقي بعد ذلك إن صبت لا يخرج منها قطرة، فأتت النبي عليه الصلاة والسلام تشكو له الأمر، وأن أدم العكة انتهى، فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: ( هل عصرتيها؟ قالت: نعم، قال: لو تركتيها ما زال قائماً )، والله عند ظن عبده به فليظن به ما شاء، فعود نفسك على هذا الخلق الكريم.
وسيأتينا إخوتي الكرام ما يتعلق بهذه المعجزات وخوارق العادات عند الأمر الثاني الذي يعرف به صدق النبي على نبينا وأنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، إنما هذا الأدب -كما قلت- ينبغي أن نعتني به، وهذه معجزة جلية في تركة خير البرية عليه الصلاة والسلام، ما ترك في بيته إلا شطر شعير، شطر شيء قليل، لعله شطر الصاع، فهو كيلو، أو شطر المد فهو ربع كيلو، ومع ذلك أكلت منه أمنا عائشة ما شاء الله، فلما كالته فني.
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر