يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال الله تبارك وتعالى: إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يوسف:4-5].
هاتان الآيتان اشتملتا على جملة من الفوائد، وأعظم هذه الفوائد أو أظهرها هي الرؤيا، والرؤيا من المبشرات كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لم يبق شيء من النبوة إلا المبشرات)، فأثبت بهذا القول: بأن الرؤيا بشرى، وكما في حديث أبي قتادة في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان)، وكذلك في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (الرؤيا ثلاث: فالرؤيا الصالحة من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا يحدث المرء بها نفسه)، فكل ما يراه الإنسان في منامه لا يخرج عن واحدةٍ من هذه، الرؤيا الصالحة من الله، ورؤيا تحزين -أي: تهويل- من الشيطان، ورؤيا يحدث المرء بها نفسه.
(من الرجل الصالح) قيد الصلاح هنا مهم؛ لأنه ورد في بعض الأحاديث: (الرؤيا جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)، فهل رؤيا الكافر إذا صحت تكون جزءاً من النبوة؟
الجواب: لا. لماذا؟ لدلالة هذا الحديث، لذلك كان هذا القيد مهماً.
بعض الكافرين رؤياهم صحيحة، كالملك: وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ [يوسف:43] وهو كافر صحت رؤياه، ورؤيا هرقل ، لما رأى له صاحبه ظفر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وأخذ ممالكهم، وهذا صح في صحيح البخاري ، وكان ذلك صحيحاً، فيقال: الرؤيا الصادقة جزء من النبوة، ويراها الرجل الصالح، فإذا رآها الكافر، لا تكون جزءاً من النبوة؛ لأن النبوة تشريف، فكيف يشرف الذي كفر بها أصلاً؟! وهذا القيد ومثله في الأحاديث ينبغي اعتباره؛ لأننا إذا أهملنا مثل هذا القيد، دخل تحته مثل هذه الجزئيات التي لا تقررها الشريعة، ففي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، ولد صالح يدعو له ...)، فذكر الصلاح هنا دل على أن الولد الفاسد لا يستجاب له، ولا ينتفع الوالد بالولد الفاسد لا في الدنيا ولا في الآخرة، فمجيء هذا الولد وبال عليه في الدنيا والآخرة، فإذا دعا الولد الفاسد لأبيه لا يستجاب له.
فلأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: الولد الصالح..، وقيد الولد بالصلاح، ووصفه بالصلاح، دل هذا على أن الفاسد ليس كذلك.
قوله عليه الصلاة والسلام: (لم يبق من النبوة إلا المبشرات)؛ فأثبت أن الرؤيا بشرى؛ لكن بعض الرؤيا لا تكون بشرى: إنما تكون نذارة لصاحبها، فهل تدخل هذه في البشرى؟ نعم. مثل: حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين قال: ( كنت شاباً عزباً، أبيت في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان الناس يرون رؤى، فيقصونها على النبي صلى الله عليه وسلم، فيؤولها لهم، فقلت في نفسي ذات ليلة: لو كان فيَّ خيرٌ لرأيت رؤيا، قال: فنمت في هذه الليلة، فرأيت -لكن يا لهول ما رأى- ملكين يجراني إلى النار، وأنا أقول: أعوذ بالله من النار، فأخذاني فأوقفاني على شفيرها -أي: على حافتي النار- فإذا فيها أناسٌ معلقون من أرجلهم عرفتهم، وإذا ملكٌ أخذني منهم، وقال لي: لم ترع، أي لا تخاف، فاستيقظتُ وأنا أقول: أعوذ بالله من النار ) ، وكأنما هاب أن يقصها على النبي عليه الصلاة والسلام، فقصها على أخته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، فقصتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (نعم الرجل
فهذه الرؤيا وإن كان ظاهرها مفزعاً كما أفزعت ابن عمر رضي الله عنهما، إلا أنها كانت من أوائل المبشرات؛ إذ دله النبي صلى الله عليه وسلم على ما ينجيه من النار. وقد يكون الإنذار من جملة البشرى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [النساء:165] يبشرون الذين آمنوا، وينذرون الذين كفروا، فإن الكافر إذا أنذر فأسلم كانت النذارة بمنزلة البشرى للمؤمن، إذاً فالنذارة تختلف: فقد تكون نذارةً محضة أو بشارة على حسب الأثر المترتب، فرؤيا ابن عمر وإن كان ظاهرها مؤلماً إلا أن عاقبتها كانت حسنة، استفاد منها ابن عمر ، فكان لا ينام من الليل إلا قليلاً.
ويستفاد هذا من قوله تبارك وتعالى، قال: قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا [يوسف:5]، فدل هذا على أنه لا يجوز أن تقص الرؤيا إلا على ناصحٍ محق، أو على عالمٍ بها، وقد ورد هذا صريحاً في صحيح مسلم ، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها، فليحمد لله وليستبشر بها)، هذا القدر أيضاً في صحيح البخاري ، لكن زاد مسلم : (ولا يقصها إلا على من يحب). فإن الرؤيا إذا كانت بشرى فصادفت سامعاً ماكراً قلبها عليه، فلا تكون في حقك رؤيا إنما تكون تحزيناً حينئذٍ: يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا [يوسف:5]، فقد علم يعقوب عليه السلام حسد إخوته له، فإذا قال لهم: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف:4]، حسدوه، وقلبوا له التأويل، لذلك لا ينبغي أن تقص الرؤيا إلا على عالم، فإن الرؤيا لها ضوابط في التفسير، وليس كما يقول الناس: الرؤيا بالعكس، هذا غير صحيح، فقد يرى الإنسان في الرؤيا شيئاً سيئاً ويقع كما رأى، وسأذكر نماذج لذلك الآن، لكن إذا قصها على عالم -وعنده ضوابط التأويل- استفاد الرائي.
فأول النبي صلى الله عليه وسلم سيفه الذي انقطع بمقتل رجلٍ من أهله، فكان حمزة ، وأول البقرة التي تنحر: بنفرٍ من أصحابه يقتلون، فقتل سبعون. لذلك قال: والله خير. فرأى هذه الرؤيا فوقعت كما رأى فليس قلب الرؤيا بالعكس ضابطاً من ضوابط التأويل، لا. لكنها تحتاج إلى عالمٍ ناصح.
ما هو الضابط بين الحلم وبين الرؤيا؟ الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (الرؤيا الصالحة من الله) وقال: (إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها)، ولا شك أن ما يراه الإنسان من تلاعب الشيطان به من جملة ما يكره، فإن كان الأمر كذلك، فكيف قص ابن عمر رؤياه التي يكرهها على الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يكتمها، ولم يبصق عن يساره ثلاثاً؟
الضابط ما بين الرؤيا التي تدخل في جملة الرؤيا الصالحة وتكون في النذارة، وما بين الرؤيا التي لا ينبغي أن يقصها المرء أصلاً: أن الرؤيا التي لا ينبغي أن يقصها المرء أصلاً: هي التي لا منفعة منها، كما في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري في صحيح مسلم، جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت رأسي قطعت وأنا أتبعها، رأسه قطعت وتطير أمامه، وهو وراءها يريد أن يأخذها- فقال عليه الصلاة والسلام: (لا يحدث أحدكم بتلاعب الشيطان به).
ترى مثلاً أنك تهبط من جبل عالٍ أو أنت تطير وهناك شيطان يطير وراءك، أو نسر يطير خلفك، وبعد أن ينتبه الإنسان من نومه ويجد نفسه على السرير يحمد الله، فهذه الرؤيا من الشيطان، ولذا قال له الرسول عليه الصلاة والسلام: لا تقصها إذا أصبحت؛ لأنها من تلاعب الشيطان.
إذا رأى الرجل شيئاً من النار، عذاب النار، أو مشتقات النار، وألقي في روعه أن هذا من حيات النار مثلاً أو من ثعابين النار فعليه أن يطلب التأويل، أما إذا رأى رأسه تطير وهو يطير وراءها، فأي شيء في ذلك؟!
وضابطٌ آخر ذكره العلماء وهو إذا كان المرء يعلم أنه من الصالحين، بأن يقوم بما افترض الله عليه ظاهراً، ويجتهد في تصحيح نيته؛ فإذا رأى ما يكره فليقصها على عالمٍ أو ناصح، فإن هذه أيضاً تدخل من جملة النذارة؛ أما إذا علم المرء من نفسه تقصيراً فيما فرض الله عليه، وعدم تصحيح لنيته فهذا من تلاعب الشيطان به.
كما قابل النبي صلى الله عليه وسلم بريدة بن الحصيب في أول الإسلام، فقال له: ما اسمك؟ فقال: بريدة ، فالتفت إلى أبي بكر وقال: برد أمرنا وصلح، فأخذه من اسمه، جاء قومٌ وكانوا قد أسلموا فقال: ممن القوم؟ قالوا: من غفار، قال: غفر الله لها، وأنتم؟ قالوا: من أسلم، قال: سلمها الله، فأخذها من الاسم أيضاً؛ لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يغير الاسم القبيح لأجل هذا. (جاءته امرأةٌ قال لها: ما اسمك؟ قالت: عاصية ، قال: بل أنت جميلة)، وسماها جميلة كما في صحيح مسلم ، وجاءه رجلٌ قال له: ما اسمك؟ قال: غاوي بن ظالم ، قال: بل راشد بن مقسط فغيره.
وجاء رجلٌ إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ما اسمك؟ قال: طارق بن شهاب ، قال: ممن أنت؟ قال: من الحرقة، قال: قال: فالحق بيتك فإنه يحترق. فرجع الرجل إلى بيته فوجده احترق.
فيأخذ مفسر الأحلام من الاسم أو من بعض مفردات الرؤى تأويل الرؤيا، فيذكر الذي يستحسنه السامع، ويكتم بعض الذي يكرهه، إن وقع في روعه ذلك لمصلحة الرائي.
كما في حديث ابن عباس رضي الله عنه في صحيح مسلم ، قال: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: رأيت شجرةً ينطف منها السمن والعسل، والناس يأخذون منها، فمن مقلٍ ومن مستكثر، ثم رأيت سبباً ممدوداً بين السماء والأرض -السبب هو الحبل.. يقول هذا الكلام للرسول عليه الصلاة والسلام- فتعلقت به فعلوت، فتعلق به رجل بعدك فعلا، فتعلق به رجلٌ بعده فعلا، فتعلق به رجلٌ بعده فانقطع، ثم وصل له بسبب فعلا، فقال: أبو بكر : بأبي أنت يا رسول الله لأعبرنها، أي: دعني أؤولها، قال: نعم. قال: أما الشجرة: فهي الإسلام، وأما الشيء الذي ينطف منها: أي يقطر، فهو القرآن، والناس من مستقلٍ منه ومن مستكثر، وكلما استكثر أخذ حلاوة وشعر بها، وأما السبب فهو الحق الذي أنت عليه، يعليك الله به، ثم يأخذ به رجلٌ بعدك، فيعليه الله به، ثم يأخذ به رجل بعده فيعليه الله به، ثم يأخذ به رجل بعده فينقطع، ثم يعليه الله به، بأبي أنت يا رسول الله أصبت أم أخطأت؟ قال له: أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً، فحلف عليه وقال: بالله عليك ما الذي أخطأت فيه، قال: لا تقسم، وفي رواية الدارمي ، قال: فأبى أن يخبره.
لذلك نحن لا ندري على وجه التحديد ما الذي أخطأ فيه أبو بكر في التأويل؛ لكن تأويلها جزءٌ منها ظاهر، وهو السبب الحبل المدود من السماء إلى الأرض، أخذ به النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً، ثم أخذ به أبو بكر فعلاً، ثم أخذ به عمر فعلاً. ثم أخذ به عثمان فانقطع به، وتلك الفتنة التي جرت في أواخر عهد عثمان ، وقتل بسببها، واقتتل المسلمون بسببها، ثم وصل له فعلا.
ويمكن أن تعلم هذا أيضاً في حديث آخر في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم بستاناً وأمرني بحفظ الباب، وقال: لا يدخلن أحد؟ فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وفي البستان بئرٌ، فكشف عن فخذيه، ودلى رجليه في البئر، فجاء أبو بكر ، قلت: على رسلك، أي تمهل، ودخل، فقال: يا رسول الله أبو بكر في الباب؟ قال: ائذن له وبشره بالجنة، فأذن له بعدما بشره بالجنة، فدخل أبو بكر وجلس بجانب النبي صلى الله عليه وسلم وكشف عن فخذيه، ودلى رجليه في البئر، فقال أبو موسى الأشعري يحدث نفسه: إن يرد الله بفلان خيراً وهو أخوه، فليأت به الساعة لماذا؟ لأنه يقول له: ائذن له وبشره بالجنة، إذاً استفاد من البشرى، قال: فجاء عمر، قلت: على رسلك، فدخل فقال عمر بالباب؟ قال: ائذن له وبشره بالجنة، ودخل عمر ، فجلس بجانب أبي بكر فكشف فخذيه، ودلى رجليه في البئر، فقلت: إن يرد الله بفلان خيراً يأت به، ويقصد أخاه، قال: فجاء عثمان فقلت: على رسلك، فقلت: عثمان بالباب؟ فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، وهذا هو السبب الذي انقطع، فانقطاع الحبل كان من هنا، ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، فقال: عثمان الله المستعان! ودخل فلم يجد مكاناً، فجلس قبالتهم في الجانب الآخر من البئر.
مثل نفطويه -نفطويه أحد علماء النحو الكبار- ولقب بـنفطويه ، على مقياس سيبويه ؛ لأنه جرى على طريقة سيبويه في النحو.
كان بين نفطويه وبين ابن دريد ، صاحب كتاب جمهرة اللغة، ما يكون بين الأقران من التنازع والتنافر، فقال نفطويه :
ابن دريد بقرة فيه لؤم وشره
قد ادعى بجهله وضع كتاب الجمهرة
وهو كتاب العين إلا أنه قد غيره
يقول: إن كتاب الجمهرة أصلاً ليس من تأليف ابن دريد ، بل أخذ كتاب العين، وسطا عليه، وقدم فيه وأخر، ونسبه لنفسه، فـابن دريد هجاه وقال له:
من سره أن لا يـرى فاسقـاً فليجتهد أن لا يرى نفطوَيْه
أحرقه الله بنصف اسمه وصير الباقي نواحاً عليه
نفطويه: نفط، أي: بترول، أحرقه الله بالنصف الأول من اسمه، يعني بالجاز، وجعل الباقي صراخاً عليه: ويه ويه، ويه. فهذا قطع اسمه نصفين على سبيل الهجاء وعلى سبيل الذم، وهذا لا يجوز.
وقد اختلف العلماء في ضبط اسم نفطويه وكل من جرى هذا المجرى، هل هو نِفْطَوَيْه، أو نِفْطُويَه، فأهل اللغة يقولون: ( نفطُويَة، سِيُبَوُيَة، زَنْجُوُيَة، مَنْجُوُيَة)، هذه كلها ألقاب لعلماء، وأهل الحديث يقولون: (سِيْبَوَيْه، نِفْطَوَيْه، زِنْجَوَيْه، مِنْجَوَيْه .. وهكذا)، وطبعاً واضح أن أهل الحديث أخف وألطف؛ لأن نطقهم نفسه لطيف، فهم يذكرون الضبطين في نفطويه ، فـابن دريد على ضبط أهل الحديث:
من سره أن لا يـرى فاسقـاً فليجتهد أن لا يرى نفطوَيْه
..إلى آخر ما قال.
ابن بسام جرى على مجرى علماء اللغة، فقال: -وهذه الرؤيا ادعاها ابن بسام وسنذكر حكمها عند الكلام على الرؤى وأحكامها-:
رأيت في النوم أبي آدماً صلى عليه الله ذو الفضل
فقال أخبر ولدي كلهم من كان في حزنٍ وفي سهل
بأن حوا أمهم طالقٌ إن كان نفطوية من نسلي
فهو حين: رأيت في النوم أبي ويقص هذا الكلام، فهذا الفعل محرم؛ لأنه قال عليه الصلاة والسلام: (من أرى عينيه ما لم تريا، فليتبوأ مقعده من النار)، وقال: (من تحلم حلماً كلف يوم القيامة أن يعقد شعيرة وليس بفاعل)، وهذا سنذكره عند الكلام على الرؤى وأحكامها، أن الإنسان لا يجوز له أنه يدعي أنه رأى حلماً، لكي يخيف شخصاً مثلاً، رجل عرف عنه بأنه يأكل أموال اليتامى ظلماً، فيقول شخص من أهل الخير -وهو كاذب في ذلك- لأبناء هذا المعتدي: رأيت أباكم في المنام موثقاً بالقيود، وإذا بشخص يضربه قائلاً له: أموال اليتامى يا مفتري أكلت مال النبي، وغايته من اختلاق هذه الرؤيا تخويف هذا الرجل الذي يأكل أموال اليتامى، فلا يجوز أن يفتري هذا الحلم بسبب الخير هذا؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام منعنا أن نفتري في الأحلام؛ لأن الأحلام مبشرات، والأحلام لا يؤخذ منها أحكام شرعية؛ لأن الأحلام مبشرات، وهي جزء من النبوة، فلو ترك الناس هكذا، للعبوا بالنبوة، كما قال مالك: أيلعب بالنبوة؟!
ومجاهر فسقاً ومستفت ومن طلب الإعانة في إزالة منكر
القدح ليس بغيبةٍ فـي ستـةٍ متظلم ومعرفٍ ومحذر
وهذا ظاهر من الحديث الأول في صحيح مسلم ، حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي رواه يحيى بن يعمر ، لما قال: خرجت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوافق أن لقينا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد أو خارجاً منه، فقلنا: أبا عبد الرحمن إنه ظهر أناس يتقفرون العلم، ويقرءون القرآن، وذكر من شأنهم -أي من عباداتهم ومن جدهم ومن اجتهادهم ونحو ذلك- وأنهم يقولون: إن الأمر أنف -بمعنى: أن الله لا يعلم بالأمر حتى يحدث- فقال عبد الله بن عمر : إذا لقيتهم، فأخبرهم أنني منهم براء، وهم بريئون مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر : لو أنفق أحدهم مثل أحدٍ ذهباً ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم ساق الحديث.
فـعبد الله بن عمر تبرأ منهم، مع أن ولاية المؤمن للمؤمن من أعظم القربات، إلا أنه تبرأ منهم، ووقع فيهم وهم غائبون، فلا شك أن هؤلاء لو علموا أن ابن عمر تبرأ منهم لأحزنهم ذلك، ومع ذلك لم يأبه عبد الله بن عمر بذلك، ولولا ذلك ما عرف المسلمون أهل البدع من أهل السنة، ونحن نجد أن العلماء صنفوا في أهل البدع كتباً، وذكروهم بأسمائهم، وذكروا قبح مقالاتهم ليحذرهم المسلمون.
ولذلك الإمام أحمد لما سئل عن تبيين بدعة المبتدع، قال: نعم هي أولى من جهاد الكفار، وهذا كلام كله فقه؛ لو قيل -وهذه هي الليلة الختامية لـإبراهيم الدسوقي- لو قلنا لكم جميعاً وقلنا للمسلمين جميعاً في سرادق عظيم: كيف يسمح بهذا المحفل الشركي في ديار المسلمين؟! كيف يطوف بهذا القبر ألوف مؤلفة، يقصدونه كما نقصد نحن البيت العتيق؟! وجعلنا نستنفر الناس والهمم تجد أن الذي سيقف بجانبك قليل، وإذا دعوت الناس أن يقفوا معك ضد اليهود الكفار، الذين عداوتهم ظاهرة، فنحن لا نحتاج إلى جهد أننا نثير الجماهير حتى الغافلة في مقاومة الكافرين.
لذلك كان القدح في المبتدع أولى من القدح في الكافر؛ لأن الكافر عداوته ظاهرة لكل أحد، والكل يستنفر ضده.
لما عرضت مسرحية رسمت فيها الكعبة، وأتوا بامرأة عارية، ترقص على الكعبة من فوق، وبعد ذلك يخرج بئر بترول من تحت الكعبة؛ من أجل أن الذين عندهم البترول والكعبة في أرضهم هذا هو سلوكهم، ونتساءل: كيف هانت الكعبة حتى ولو بالكرتون على مثل هذا المخرج؟ وكيف أجيزت من الرقابة؟ وكيف طلعت هذه العارية على مسرح الجماهير؟
هذا العمل مثل ما كتب الشاعر في صحيفة الأهرام منذ أربع سنين، حين قال: ( الله في مدينتي ينام على الرصيف )، تقول له: لماذا؟ يقول لك: يا أخي! الله المقصود به: الفضيلة، الخير، هذا التعليل العليل الذي تكلم به.
نحن نعرف أن هذا اللفظ الجليل (الله) لم يسم به أحد إلا الله؛ عندما يقول: (الله في مدينتي ينام على الرصيف) هذا كلام كفري صريح لا يحتاج إلى تأويل معنى آخر.
فهناك أشياء معينة الجماهير كلها يمكن أن تتبناها، على رأس ذلك إذا كان معسكر العدو من الكافرين الذين يتربصون بالمسلمين وعداوتهم ظاهرة، بخلاف المبتدعة: هم من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا، ويأكلون من ذبائحنا ويستقبلون قبلتنا، لذلك كان هتك هؤلاء المبتدعة واجباً، وهذا داخل في جملة التحذير، أنا أقول: لا تقرءوا لفلان ولا تأخذوا الفتوى من فلان، فإنه جاهل أو أنه يلعب بدينه، أو أنه كذا وكذا، وأذكر فيه صفات، لو علم بها لانزعج مني. وسبق أن قلنا أن أهل المعاصي ليس لهم حرمة، وأن أهل البدع داخلون في ذلك من باب أولى.
فأذن لها أن تأخذ من مال زوجها الشحيح بغير إذنه، الشاهد من الحديث قالت: (إن
ولا شك أن أبا سفيان لو علم أنه نسب إليه الشح لانزعج، لكن المرأة ما قصدت أن تذهب وتفضح أبا سفيان ، إنما ذهبت تستفتي -وهنا تنبيه: بعض النساء يجلسن مع بعض، وتقول: أنا لا أجد ما آكل، زوجي لا يطعمني، أو الولد يقول على أبيه كذا، أو الأب يقول كذا على ابنه، من باب الشكوى والتنفيس، ولكن أنت تقولين هذا الكلام لمن لا يستطيع رفع الظلم عنك، فإذا كانت شكواك لمجرد التنفيس، فهذه من الغيبة المحرمة، إلا إذا قلت هذا الكلام لمن تطلب منه المشورة التي هي قائمة مقام الفتوى أو مساوية للفتوى، فلان بخيل ولا يؤكلني، ماذا أفعل؟ إذا كانت المسألة هكذا، خرجت مخرج الفتوى، أما إذا كانت شكوى محضة، لا ينبني عليها فائدة، فهذا كله داخلٌ في باب الغيبة المحرمة.
كما روى الإمام أبو داود وابن الجارود في المنتقى : أن شخصاً ذهب إلى مسجد من المساجد، فسمع جماعة يقرءون قرآناً عجباً، ليس مثل القرآن الذي سمعه الجن فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ [الجن:2] فقد كان قرآناً عجباً بالنسبة لهم، وهو قرآن يهدي إلى الرشد، إنما سمع قرآناً عجباً يهدي إلى الفقر، سمعهم يقولون: واللاقمات لقماً والخابزات خبزاًً والعاجنات عجناً! فأول ما سمع هذا الكلام ذهب إلى ابن مسعود ، وقال له: سمعت الآن أقواماً يقرءون كذا وكذا، وكان أميراً على الكوفة، فأرسل صاحب الشرطة فجاء بهم؛ فكان أحدهم رسول مسيلمة الكذاب الذي أرسله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فـمسيلمة بعث رسولاً لكي يقول للرسول صلى الله عليه وسلم آمن بي! فقال عليه الصلاة والسلام: (لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك)، وأبى الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقتله؛ لأنه رسول، فلما وجده ابن مسعود قال: والله لأقتلنك، وأمر به فقتله، لماذا؟ لأنه انتفت عنه الصفة التي من أجلها عُصِم دمه، امتنع الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لولا أنك رسول لقتلتك)، لكنه الآن ليس رسولاً.
إذاً هذه الأوصاف الستة التي لا يكون فاعلها مغتاباً ولا يأخذ حكم المغتاب:
القدح ليس بغيبةٍ فـي ستـة متظلم ومعرف ومحذر
ومجاهرٍ فسقاً ومستفت ومـن طلب الإعانة في إزالة منكر
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، ونسأل الله أن يجمعنا وإياكم على الخير. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر