الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فنتكلم بإذن الله عز وجل في هذا المجلس على شيء من الأحاديث المعلة في أحكام المناسك.
أول هذه الأحاديث هو حديث جابر بن عبد الله عليه رضوان الله، يرويه عنه أبو الزبير محمد بن مسلم عن جابر بن عبد الله قال: أراه، أو أحسبه قال: ( وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرن، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل العراق ذات عرق ).
هذا الحديث أخرجه الإمام مسلم رحمه الله في كتابه الصحيح من حديث ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله ، وهذا الحديث ذكر فيه أن الذي وقت ذات عرق هو النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه جاء ذلك بالشك، فقال في الرواية: أحسبه، وجاء في غير الصحيح قال: أراه، يعني: أن الرفع فيه شك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا من المواضع التي أعلها الإمام مسلم، وهو قد أخرجها في كتابه الصحيح، يعني: أن الإمام مسلماً رحمه الله يخرج حديثاً في كتابه الصحيح ثم يعله، وقد أعله رحمه الله في كتابه التمييز، وهذا الحديث الصواب فيه أنه منكر، و مسلم إنما أخرجه مبيناً لعلته، وذلك أنه أخرجه في كتابه الصحيح متأخراً بعد أن أورد أحاديث المواقيت، بعد أن أورد أحاديث عبد الله بن عباس و عبد الله بن عمر و عائشة وغيرها، ثم أورد بعد ذلك حديث جابر بن عبد الله من هذا الوجه، بعد أن أورد قبله رواية روح عن ابن جريج عن أبي الزبير ، وليس فيها ذات عرق، مما يدل على أن الإمام مسلماً إنما أورد ذلك معلاً له في كتابه الصحيح، وهذه الرواية في قول: أحسبه، جاءت بالشك، وقد جاء صريحاً من غير شك عند الإمام أحمد رحمه الله في كتابه المسند من حديث عبد الله بن لهيعة، وجاء عند ابن ماجه في كتابه السنن من حديث إبراهيم بن يزيد ، كلهم يروونه عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وقت من غير شك، وعلى هذا فقد تابع عبد الله بن لهيعة و إبراهيم بن يزيد ابن جريج في روايته على هذا الحديث، ولكن من غير شك، وهذه المتابعة فيها نظر، وذلك أن المتابع مروي بالشك أصلاً، كذلك فإن المتابع ضعيف، فإن إبراهيم بن يزيد متروك الحديث، كما نص على ذلك غير واحد من الأئمة كـأحمد و النسائي و علي بن الجنيد وغيرهم، وكذلك فإن عبد الله بن لهيعة الذي روى الحديث مع إبراهيم بن يزيد عند الإمام أحمد مضعف كما لا يخفى، ثم إن هذا الحديث قد وقع ما يخالفه من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن الذي وقت ذات عرق ليس هو وإنما هو عمر بن الخطاب ، وذلك أن العراق لم يكن في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، فالنبي عليه الصلاة والسلام وقت لأهل المدينة لأن الإسلام في المدينة، ولأهل اليمن يلملم؛ لأن اليمن فيها مسلمون لما بعث النبي عليه الصلاة والسلام معاذاً و أبا موسى ، ووقت النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجد، وذلك لدخول كثير من أهلها في الإسلام، ووقت النبي صلى الله عليه وسلم الجحفة لمن كان من ناحية الشام؛ لوجود مسلمين فيها أيضاً، ومن جهته، أما جهة العراق وهي جهة المشرق فلم يكن ثمة إسلام مشتهر، ولم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم وإنما وقت ذلك عمر بن الخطاب ، وعلى هذا نقول: إن حديث ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله منكر، ولمخالفته للثابت، كذلك فإن الإمام مسلماً رحمه الله كما تقدم قد رواه من حديث روح ، عن ابن جريج ، ولم يذكر هذه الرواية، بل قدمها على رواية الشك وذكر ذات عرق، مما يدل على أن الإمام مسلماً رحمه الله يميل إلى الإعلال، وينبغي أن يبين أن الإمام مسلماً في كتابه الصحيح كما أنه يورد الأحاديث الصحيحة كذلك يورد الأحاديث التي يريد لها إعلالاً في بعض الأحيان، وليس هذا هو الغالب من صنيعه، وإن كان في كثير من الأحيان يصدر في أول الباب الحديث الذي يعتمد عليه من جهة لفظه، وينبغي أن يلتمس في ذلك طريقة الإمام مسلم بسبرها، كذلك بالنظر إلى أحكامه.
الإمام مسلم له كتاب التمييز، وله كتاب الكنى، وفيها أحكام ينبغي أن يرجع إليها لمعرفة منهج الإمام مسلم رحمه الله في أبواب العلل، كذلك فيما يخرج له من الرواة وما يرويه أيضاً من أحاديث، وكذلك في طريقته في المقدمة، فإنه بين منهجه في ذلك.
الحديث الثاني: حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق ).
وهذا الحديث رواه الدارقطني في غرائب مالك من حديث عبد الرزاق ، عن مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر به، وهذا الحديث تفرد به عبد الرزاق عن الإمام مالك ، و عبد الرزاق ليس من الملازمين لـمالك والآخذين عنه الرواية بالإكثار، ولهذا ربما يقع شيء في حديثه مما يستنكره الأئمة عليه، ولهذا أورد الدارقطني هذا الحديث في كتابه الغرائب، يعني: المروية عن مالك وليس المراد بذلك أن مالكاً أغرب فيها، وإنما رويت عنه وهي غريبة من أصحابه الثقات، و عبد الرزاق قد بين الدارقطني أنه تفرد بهذا الحديث كما في كتابه الغرائب، فقال: تفرد به عبد الرزاق عن مالك ، وكما لا يخفى فإن عبد الرزاق يمني جاء إلى المدينة وأخذ عن إمامها مالك شيئاً، والإمام مالك لم يخرج من المدينة إلى شيء من الآفاق ليأخذ الحديث ولا ليبلغه، وإنما كان يقيم في المدينة، ويذهب رحمه الله إلى مكة، وما عدا ذلك فإنما يؤخذ عنه وهو بالمدينة، وقد ذكر بعض العلماء أن الإمام مالكاً رحمه الله قد كتب هذا الحديث ثم محاه، كما قال ذلك عبد الرزاق قال: بلغني أن مالكاً محاه، وفي هذا إشارة إلى أن عبد الرزاق ربما أخذه من مالك و مالك يحتمل أنه جعله عن عمر ، فظنه عبد الرزاق مرفوعاً، فأزاله مالك لورود اللبس على بعض النقلة فيه، ويحتمل أن عبد الرزاق ظنه كذلك مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ليس كذلك، ويحتمل أن مالكاً ربما بيضت له نسخة من كتابه فودع فيه هذا وحدد به القلة من غير الملازمين له، وذلك كـعبد الرزاق مثلاً، ولذا لا يعرف من أصحاب الإمام مالك رحمه الله من نقل عنه هذا الخبر؛ لأن الإمام مالكاً إمام أهل المدينة، وهو من أبصر الناس بعمل الخلفاء الراشدين، فإنهم يتوارثون مثل هذه الأمور خاصة ما يتعلق بأمور أركان الإسلام.
يقول ابن صاعد رحمه الله: قرئ علينا كتاب المناسك لـعبد الرزاق فلم نجد هذا الحديث فيه، يعني: أن عبد الرزاق قد شطبه أيضاً، وأن عبد الرزاق تبع فيه الإمام مالكاً، وهذا كما لا يخفى أمارة على نكارة مثل هذا المروي، وقد رواه إسحاق بن راهويه مرسلاً عن عبد الرزاق عن الإمام مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر كما في كتابه المسند، وهو غريب جداً، ومعلوم أن إسحاق إنما روى هذا الحديث مرسلاً عن عبد الرزاق ولم يسنده، فربما أخذه من كتاب أو نحو ذلك.
وعلى هذا نقول: إن هذا الحديث منكر من هذا الوجه، وقد جاء من وجهٍ آخر، جاء من حديث محمد بن جعفر كما رواه الإمام أحمد رحمه الله في كتابه المسند من حديث محمد بن جعفر عن شعبة ، عن صدقة بن يسار ، عن عبد الله بن عمر: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق )، وهذا الحديث في ظاهر الإسناد أنه صحيح، ولكن ذكر ذات عرق فيه وهم وغلط، وذلك أن محمد بن جعفر مع ثقته قد تفرد بهذا الحديث عن شعبة ، وخالفه في ذلك أبو داود الطيالسي كما في كتابه المسند، فروى هذا الحديث عن شعبة به ولم يذكر ذات عرق فيه.
كذلك فإن شعبة بن الحجاج قد توبع عليه عن صدقة بن يسار ولم يذكر ذات عرق، كما رواه أحمد في كتابه المسند من حديث جرير بن عبد الحميد و سفيان بن عيينة ، كلاهما عن صدقة بن يسار عن عبد الله بن عمر ولم يذكرا ذات عرق، وهذا يدل على أن الحديث ليس في حديث عبد الله بن عمر أصلاً، وقد أخرج أبو نعيم في كتابه الحلية من حديث جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران ، عن عبد الله بن عمر، أنه قال: ( أخبرنا أصحابنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق )، وهذا الحديث قال فيه أبو نعيم في كتابه الحلية: هذا إسناد صحيح ثابت لا نعرفه إلا من حديث جعفر ، وهذا لمن تأمله ليس بثابت، فإن جعفراً في تفرده لهذا الحديث لا يحتمل منه التفرد عن ميمون بن مهران عن عبد الله بن عمر ، وذلك أن جعفر بن برقان ليس من المكثرين من الأصول، ولا يقبل الأئمة رحمهم الله له مثل هذا التفرد، ولهذا نقول: إن خبره ذلك منكر، والصحيح في حديث عبد الله بن عمر أن الذي فعل ذلك عمر ، وذلك أنه روي عن عبد الله بن عمر، فقد رواه عنه جماعة، رواه سالم بن عبد الله بن عمر ، و نافع ، و ابن دينار ، كلهم يروونه عن عبد الله بن عمر ، ولا يذكرون فيه ذات عرق، وهذا يدل أنه لا يحفظ عن عبد الله بن عمر بنسبة ذات عرق للنبي صلى الله عليه وسلم، كذلك فإن نافعاً رواه عنه أوثق أصحابه ولم يذكر ذلك بل ذكر خلافه، أن الذي وقت لهذا هو عمر بن الخطاب ، فقد روى ذلك البخاري من حديث عبيد الله بن عمر العمري ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، فذكر أن الذي وقت هو عمر بن الخطاب ، وتابعه على ذلك يحيى بن سعيد الأنصاري و ابن عون كما رواه أحمد في كتابه المسند، عن نافع عن عبد الله بن عمر ، وجعلوا الذي وقت ذلك هو عمر بن الخطاب ، وهذا هو الذي اعتمده البخاري في كتابه الصحيح، فإنه أخرج هذا من حديث عبيد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله بن عمر ، قال: ( لما فتح أذان المصران جاء الناس إلى عمر بن الخطاب فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل نجد قرن المنازل، وإنها جور عن طريقنا، فقال عمر بن الخطاب : انظروا حذوها، فوقت لهم ذات عرق )، وهذا يدل على أن ذات عرق أصلاً لم تجعل ميقاتاً، وأن الحج لم يأت من العراق إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتماد البخاري لهذه الرواية إشارة إلى تضعيف غيرها مما جاءت في هذا الباب، وهذا منهج معلوم للبخاري رحمه الله، ولهذا نقول: إن ذكر ذات عرق في حديث عبد الله بن عمر عن نافع لا يعرف إلا من رواية عبد الرزاق عن مالك وهو غريب، وقد محاه عبد الرزاق و مالك ، كذلك من حديث صدقة بن يسار لا يعرف إلا من حديث محمد بن جعفر ، عن شعبة عن صدقة بن يسار ، عن عبد الله بن عمر ، ورواية جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران ، عن عبد الله بن عمر تفرد، ولا يحمل الحفاظ مثله.
الحديث الثالث: حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق ).
هذا الحديث رواه الإمام أحمد و أبو داود ، وغيرهم، من حديث أفلح بن حميد ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث مما يستنكر على أفلح بن حميد ، فهو مع ثقته وصدقه إلا أنه تفرد بهذا الحديث عن القاسم ، و القاسم له أصحاب كثر كبار، أجل من أفلح وأوثق، ولهذا أنكر هذا الحديث عليه يحيى بن سعيد القطان ، كما نقل ذلك الإمام أحمد رحمه الله، قال: أنكر يحيى القطان على أفلح حديثين، ولم يحدث بهما عنه، وذكر منها حديث ذات عرق، وقد أنكر عليه ذلك الإمام أحمد رحمه الله هذا الحديث، ويرويه عن أفلح المعافى بن عمران ، وقد سئل الإمام أحمد عن كون التفرد من ابن عمران قال: لا، ثقة، وكأنه لما رأى مكانته حمل على من دونه، يعني: أفلح بن حميد ، ولكن قد يشكل على البعض أن هذا الحديث يرويه أفلح بن حميد عن القاسم ، و أفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة أخرج لهم في هذا الإسناد البخاري و مسلم في كتابيهما الصحيح، بل أخرج البخاري و مسلم لـأفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة في المناسك أيضاً، بل كل الأحاديث التي في البخاري و مسلم من حديث أفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة هي في المناسك، نقول: إن أفلح بن حميد مع توثيق الأئمة له كـابن معين و النسائي و غيرهم إلا أن البخاري و مسلماً قد أخرجا له بضعة أحاديث، وأحاديث القاسم بن محمد في الصحيحين كثيرة، وهي بالعشرات، و للقاسم أصحاب كبار كـعبيد الله وغيره، وهذا يدل على أن البخاري إنما انتقى من حديث أفلح عن القاسم ، وكذلك مسلم ، وينبغي أن نبين أن البخاري و مسلماً أخرجا لـأفلح عن القاسم مما لم يتفرد به من معاني، مما يدل على أنه انتقى من حديثه شيئاً.
ومن وجوه الدلالة أيضاً: أن حديث أفلح بن حميد عن القاسم كثير وهو بالعشرات أيضاً، وإخراج الإمام مسلم بضعة أحاديث من هذا الطريق دليل على الانتقاء، فلم يخرج مما تفرد أفلح بن حميد عن القاسم شيئاً، وهذا يدل على مسألتنا وهي أن الراوي الثقة قد يتفرد بحديث ويستنكر عليه هذا الحديث فيرد الحديث به، ولو كان قد أخرج البخاري و مسلم بهذا الإسناد، فلا بد أن ينظر إلى طريقة البخاري في إخراجه لهذا الراوي، وكذلك المتون التي روى بها، فربما أخرج منها شيئاً في غير الأصول وفي غير المفاريد، وعلى هذا نقول: إن هذا الحديث منكر؛ لتفرد أفلح ، ومنكر لثبوت ما يخالفه في هذا الباب، ويظهر أن البخاري يعل هذا الحديث؛ لأنه في المناسك، وأخرج لـأفلح عن القاسم عن عائشة في المناسك ولم يورد هذا الحديث، مع كونه فرداً في الباب، والأمارة الأخرى: أنه أخرج ما يخالفه عن عبد الله بن عمر ، فدل على عدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الوجه.
الحديث الرابع: حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق ).
هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد و الدارقطني ، وغيرهم من حديث الحجاج بن أرطأة ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده به، وهذا الحديث حديث منكر أيضاً واضطرب فيه الحجاج ، وهو معلول بعلل:
أولها: تفرد الحجاج بهذا الحديث عن عمرو بن شعيب ، و عمرو له أصحاب ثقات يروون عنه ما يتفرد به، والحجاج بن أرطأة ضعيف في ذاته ويضطرب في حديثه.
ومن العلل أيضاً: أنه اضطرب في هذا الحديث، فرواه على ثلاثة أوجه:
أول هذه الوجوه: هي رواية الحجاج بن أرطأة عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده عن النبي عليه الصلاة والسلام.
ثانيها: أنه رواه الحجاج بن أرطأة عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله .
الوجه الثالث: أنه رواه الحجاج بن أرطأة عن عطاء عن جابر بن عبد الله.
ومن العلل أيضاً: أن الحجاج لا يحتمل منه هذا التنوع بالشيوخ للحديث الواحد؛ وذلك أولاً أنه ممن يهم، وتعدد الطرق في مثل حاله مما يحمله العلماء على الوهم لا كثرة الشيوخ، بخلاف الحافظ الثقة المكثر، فتنوعه بالطرق يجعله العلماء تنوعاً وتفنناً بإسناد الحديث عن أكثر من شيخ، وأما بالنسبة للحجاج بن أرطأة فإنه إذا روى الحديث الواحد عن أكثر من شيخ فهذا دليل على اضطرابه ووهمه، ويعضد ذلك أن هذا الحديث لا يعرف أصلاً في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، ثم إنه مخالف، الأحاديث في هذا الباب تنفي أن يكون ذلك من توقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعني: ذات عرق، وإنما هو من توقيت عمر بن الخطاب ، وعلى هذا نقول: إن هذه الرواية منكرة، ولا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يغتر بكثرة الطرق، فهي أوهام وأغلاط، ولهذا ينبغي لطالب العلم إذا أراد أن يتكلم على حديث من الأحاديث أن ينظر في الطرق وألا يغتر بكثرتها كما اغتر بعضهم، وكثير من المتأخرين في هذه الطرق، فجعلوا لها أصلاً ولا أصل لها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وربما وجدت فظنوها من المواقيت، ووجدت في زمنهم فأدرجوها في أبواب الرواية، فبعضهم أفردها وبعضهم جعلها متضمنة للحديث الذي جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في توقيت المواقيت المعلومة الواردة في حديث عبد الله بن عباس وغيره.
كذلك تنكب أهل الأصول لمثل هذا الحديث من أمارات إعلاله، وإخراج الدارقطني رحمه الله له أيضاً من قرائن الإعلال، فإنه يورد في كتابه السنن ما يستغرب ويستنكر.
الحديث الخامس: حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المشرق العقيق ).
هذا الحديث رواه الإمام أحمد في المسند و أبو داود وغيرهما من حديث يزيد بن أبي زياد ، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، عن عبد الله بن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه وقت لأهل المشرق العقيق )، أولاً: العقيق هي جهة المشرق، والمشرق العراق، ومعلوم أن عمر بن الخطاب وقت ذات عرق ولم يكن لأهل العراق شيء، والعقيق هي أبعد من ذات عرق، ومن جاء من العراق فيمر بالأمرين: بالعقيق، وبذات عرق، فإذا قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المشرق ذات عرق ووقت لهم العقيق، فعلى هذا لا معنى لتوقيت عمر بن الخطاب العقيق، والنبي صلى الله عليه وسلم وقت ما هو أبعد منها، وهذا دليل على نكارة هذا الحديث.
إذاً: الحديث معلول بعدة علل:
أولها: تفرد يزيد بن أبي زياد بهذا الحديث عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، وهو ضعيف عند عامة النقاد.
العلة الثانية: أن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس مع صدقه إلا أن له مناكير، ومر معنا في العلل حديث استنكر عليه محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وهو الذي تفرد به وجعله في الذهاب إلى المسجد، تقدم معنا هذا في أحاديث معلة في الصلاة، وهذا من مناكيره مع قلة مروياته، وأنا أحث الإخوان دائماً أقول: ضبط الطرق مهم؛ لأن الإنسان إذا مر عليه راو يعرف أنه استنكر عليه حديث، وعلى هذا يكون لديك قرينة في هذا أن هذا الراوي لا يستبعد أن يكون هو يشاركه في الوهم في هذا الحديث، ولهذا فإن ضبط علل الأحاديث من الأمور المهمة التي تعطي طالب العلم ملكة في تحديد الإشكال في الإسناد، و محمد بن علي بن عبد الله بن عباس مع صدقه إلا أنه ربما استنكر عليه، كما في روايته عن أبيه عن عبد الله بن عباس ، وجعل حديث مبيت عبد الله بن عباس عند خالته ميمونة ، جعل دعاءه: ( اللهم اجعل في قلبي نوراً )، جعله في الذهاب إلى المسجد، وأصحاب عبد الله بن عباس كـكريب و سعيد بن جبير يجعلون هذا في الليل، في صلاة الليل، على تباينٍ في ذلك، وهذا تقدم الكلام عليه في أحاديث في الصلاة المعلة.
العلة الثالثة في هذا الحديث: أن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس يرويه عن جده، ولا يعرف له سماع من جده عبد الله بن عباس ، وروايته المشهورة عن عبد الله بن عباس هي عن أبيه عن جده، قال: إنه لا يعرف له سماع، وربما لم يلقه الإمام مسلم رحمه الله في كتابه التمييز، وترجم له البخاري رحمه الله في التاريخ و ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، وما ذكر أنه روى عن عبد الله بن عباس مباشرة، وإنما يروي عن أبيه، ويظهر أنه لم يسمع من عبد الله بن عباس ولم يلقه، وعلى هذا يكون هذا الحديث منقطعاً أيضاً.
ومن وجوه الإعلال: أن هذا الحديث يتنافى مع ميقات ذات عرق، وذلك أن العقيق أبعد من ذات عرق، ولو وقت النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ما كان لـعمر أن يوقت ذات عرق، ومعلوم أن المواقيت تتباين من جهة المسافة، فالمدينة أبعدها بعيد، أكثر من أربعمائة كيلو، وهناك ممن يبعد عن مكة قرابة السبعين.
إذاً: المسألة ليست بتحديد الإنسان باجتهاده، وإنما المسألة توقيفية، فإذا وقت النبي عليه الصلاة والسلام لأهل جهة فحذو ذلك هو أن ينظر في حذو العقيق، لا أن يوقت ميقات دونه، وهذا يدل على أن هذا الحديث في رفعه نكارة، وأن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى في مخالفته لمعنى هذا الحديث دليل على أنه لم يكن توقيت أصلاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان جاء خبر عند الطبراني من حديث أنس بن مالك في التفريق بين العقيق وذات عرق، أن العراق متسع، هذا لناحية، وهذا للمدائن، وذاك للبصرة وما نحوها، إلا أن هذا الحديث مطروح أيضاً، وما جاء في توقيت ذات عرق عن النبي عليه الصلاة والسلام أحاديث أخر معلولة، جاء من حديث أنس بن مالك ، وجاء من حديث الحارث بن عمرو السهمي ، وجاء من مرسل عطاء ، وكلها لا يحتج بها.
يقول ابن المنذر رحمه الله: لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذات عرق حديث، وكذلك قال ابن خزيمة رحمه الله كما في كتابه الصحيح: لا يصح في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، وهذا الذي مال إليه غير واحد من الأئمة، كـالشافعي ، و أحمد ، وغيرهم، فإن الشافعي أورد من حديث طاوس بن كيسان في كتابه الأم، أن الذي وقت عمر ثم قال: ولا أحسبه إلا كما قال طاوس ، يعني: أنه ليس من فعل النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما من فعل عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى.
الحديث السادس: حديث زيد بن ثابت عليه رضوان الله أنه قال: ( تجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم لإهلاله فاغتسل ).
هذا الحديث رواه الترمذي في السنن، ورواه البيهقي ، وقبل ذلك الإمام أحمد رحمه الله، من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه، عن خارجة بن زيد ، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث معلول، وذلك لتفرد عبد الرحمن بن زيد، وروايته عن أبيه مضطربة، وقد تفرد بهذا الحديث ولا يصح.
ومن وجوه الإعلال أيضاً: أن الاغتسال وإن كان أمراً مستقراً شائعاً، بل بعض العلماء يرى أنه آكد الأغسال المستحبة، بل بعض العلماء يرى وجوب الغسل عند الإحرام، وأن من تركه عليه دم، وهذا القول يدل على تأكيد الاغتسال عند الإحرام، إلا أن هذا الاغتسال لاستفاضته ترك العلماء روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث في رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن خارجة بن زيد ، عن أبيه، إما وهم توهمه فرواه، ولو أن مثل هذا الحديث مروي عند ذلك الجيل لنقله من هو أوثق منه، والمعاني إذا استفاضت يستنكر على الراوي أن يرويها ويتفرد؛ بها لاستفاضة معناها في بعض الوجوه لا في جميعها، كذلك جاء في حديث عبد الله بن عمر: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل بذي طوى في أدنى الحل قبل دخوله مكة )، وهذا في البخاري ، وهذا الاغتسال ليس بآكد من الاغتسال عند الميقات، وينبغي في الأغلب على ما يجري في مسالك العلل أن يرد حديث الاغتسال هنا؛ لأنه أقوى من حديث الاغتسال في أدنى الحل، وإن كان المعنى مستفيضاً في هذا.
الحديث السابع: حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل بالمدينة، ثم لبس ثيابه فذهب إلى الجحفة، ثم صلى ركعتين، ثم ركب راحلته ثم لبى ).
هذا الحديث رواه البيهقي في السنن من حديث يعقوب بن عطاء ، عن عطاء ، عن عبد الله بن عباس ، وتفرد بهذا الحديث يعقوب بن عطاء عن أبيه، وهو ضعيف، وقد ترك حديثه أكثر الأئمة، وكذلك فإن متنه منكر، فإنه ذكر أن اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم كان بالمدينة، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغتسل بذي الحليفة في ظاهر السياق.
ومن وجوه إعلاله أيضاً: أنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين، وظاهر السياق أنها تطوع، وهذا كله من مفاريد يعقوب بن عطاء عن أبيه، ولهذا أنكر عليه الأئمة رحمهم الله هذا الحديث، والثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم مما هو مستفيض أنه صلى صلاة الفريضة قصراً، ثم أهل النبي عليه الصلاة والسلام، كذلك فإن من المستفيض أن الاغتسال عند الميقات سنة، جاء هذا في حديث بكر بن عبد الله المزني أنه قال: ( من السنة أن يغتسل المحرم عند إحرامه )، وهذا يدل على نكارة متن حديث يعقوب بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عباس .
ومن وجوه النكارة أيضاً: أن هذا الحديث قد تنكب الأئمة إخراجه مع الحاجة إليه لو ثبت، خاصة وأن راويه من كان ملازماً للنبي صلى الله عليه وسلم وهو عبد الله بن عباس ، ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم صفة في اغتساله عند الميقات، وإذا لم يثبت أصل الاغتسال فإنها لا تثبت صفته أيضاً، أو لم يرد إن كان العلماء يجمعون على استحباب الاغتسال عند الإحرام.
نكتفي بهذا القدر. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر