إسلام ويب

الأحاديث المعلة في الطهارة [2]للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من الأحاديث المعلة في كتاب الطهارة حديث: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) وهو من الأحاديث المشهورة المعلومة في كتب السنة؛ لكن وقع فيه نوع من الاختلاف والاضطراب في الروايات والإسناد، واختلف فيه كذلك من حيث الوقف والرفع. ومنها حديث أبي قتادة في الهرة: (إنما هي من الطوافين عليكم) حصل فيه وهم واضطراب من سفيان وغيره، ومنها حديث: (يكفيك الماء ولا يضرك أثره)؛ لتفرد ابن لهيعة به، وكذلك حديث: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه) تفرد بهذا اللفظ علي بن مسهر.

    1.   

    حديث: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فتكلمنا في الدرس الماضي على جملة من المسائل والتقعيدات فيما يتعلق بأبواب العلل، وما يرد من مزيد مسائل في هذا الباب نتكلم عليه في موضعه بإذن الله عز وجل تحت كل حديث تناسب تلك العلة التي ترد في ذلك الحديث بإذن الله تعالى.

    ولهذا من المهم لكل طالب علم يستمع لمثل هذا الكلام أن يقيد ما يند عن ذهنه أو عن معلوماته من المسائل حتى لا يحوجنا إلى تكرارها مرة أخرى في الدروس القادمة.

    الحديث الذي نتكلم عنه في هذا اليوم حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى وهو ما رواه الإمام أحمد و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه , كلهم من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث ).

    هذا الحديث حديث عبد الله بن عمر من الأحاديث المشهورة المعلومة في كتب السنة، ودواوين الفقه عند المذاهب الأربعة، وكذلك عند الظاهرية، وهذا الحديث قد رواه حماد بن أسامة أبو أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن رسول صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث )، وقد اختلف في هذا الخبر من عدة أوجه في راويين:

    الراوي الأول: هو ابن عبد الله بن عمر هل اسمه عبد الله أو عبيد الله بن عبد الله بن عمر عليهم رضوان الله تعالى؟

    فجاء في هذا الخبر من طريق حماد بن أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، فجاء بهذا الوجه بـعبد الله بن عبد الله ، وجاء أيضاً عن عبيد الله بن عبد الله عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    رواه بالتعبيد حماد بن أسامة ، وعباد بن صهيب ، كلهم عن الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وقد جاء أيضاً من هذا الوجه من حديث حماد بن أسامة ، وقد توبع على ذلك كما جاء فيما تقدم في حديث عباد بن صهيب، وقد رواه البيهقي و الدارقطني بقوله: عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، و عبيد الله و عبد الله كلهم من الثقات، وقيل في قول بعض المتأخرين: إنهما واحد، وهما اثنان إن شاء الله تعالى.

    وموضع الإشكال الثاني، وهو الاضطراب في هذا الإسناد: فتارة يقال: محمد بن جعفر بن الزبير وتارة يقال: محمد بن عباد بن جعفر وهو شيخ الوليد بن كثير، وكذلك ما يروي عن ابن عبد الله بن عمر , فتارة يقال: محمد بن جعفر بن الزبير وهذا الذي رواه الإمام أحمد وكذلك أهل السنن، ورجحه أبو داود عليه رحمة الله في كتابه السنن، أن الصواب في هذا، محمد بن جعفر بن الزبير وليس محمد بن عباد بن جعفر ؛ وذلك أن أبا داود عليه رحمة الله تعالى يرويه من حديث حماد بن أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه.

    وجاء وجه آخر أنه عن محمد بن عباد بن الزبير ، و محمد بن عباد بن جعفر ، وهذا قد رواه أيضاً الإمام أحمد وغيره من حديث الوليد بن كثير عن محمد بن عباد عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فمن العلماء من رجح محمد بن جعفر بن الزبير كقول أبي داود ، ومنهم من رجح محمد بن عباد بن جعفر وذهب إلى هذا جماعة من الأئمة من الحفاظ من المتأخرين، ومنهم من رجح الوجهين، وأنه محمد بن جعفر بن الزبير و محمد بن عباد بن جعفر ، وذهب إلى هذا أيضاً جماعة, وهو ظاهر كلام الدارقطني و البيهقي ، وجماعة من الحفاظ المتأخرين؛ وأن الحديث صحيح على الوجهين, باعتبار أن كلا الراويين من الرواة الثقات، وكذلك أيضاً حماد بن أسامة من الرواة الثقات الكبار في أبواب الرواية، ويبعد أن يكون اضطرب مثله في مثل هذا الحديث.

    وهذا كله محتمل.

    اختلاف العلماء في علة حديث: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)

    والحديث هذا قد اختلف فيه هل هذا الاضطراب الذي وقع في الإسناد مما يعل به الإسناد أم لا؟

    اختلف العلماء في ذلك, منهم من قال: إنه معلول بالاضطراب، فقالوا: لا يصح.

    ومنهم من قال: إن الصواب في ذلك الوقف، باعتبار أنه جاء من وجه آخر موقوفاً على عبد الله بن عمر من قوله، ويأتي الكلام على الموقوف بإذن الله تعالى.

    ومنهم من قال: إن ذلك الاضطراب لا يعل به الحديث، وذهب إلى هذا أكثر الأئمة الأوائل وعلى هذا فالحديث صحيح، وذهب إليه جماعة من الحفاظ كـيحيى بن معين , والإمام الترمذي ، والدارقطني و ابن خزيمة و ابن حبان و ابن منده وجماعة من الأئمة, وعمل به سائر السلف من جهة المدلول العام في المعنى, في التفريق بين القليل والكثير, على خلاف في تحديد القلة والكثرة مما يأتي الكلام عليه في كلامهم بإذن الله تعالى, وقد عمل به وصححه كذلك الإمام الشافعي عليه رحمة الله كما في كتابه الأم.

    ومن الأئمة من أعله بالاضطراب, وذهب إلى هذا جماعة من الأئمة، وهو قول ابن القيم عليه رحمة الله تعالى، وتبعه بعض أهل الحديث من المتأخرين.

    ومنهم من قال: إن الصواب في هذا الحديث الوقف، يعني: الوقف على عبد الله بن عمر , وقد رجح الوقف جماعة كالحافظ المزي ، وشيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله.

    وذهب بعض العلماء إلى أن ترجيح الوقف في ذلك هو في بعض الأوجه لا في أصل الحديث، وهذا ظاهر في كلام الدارقطني عليه رحمة الله تعالى، وظاهر قول البيهقي كما في كتابه السنن، وذلك أن حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى قد جاء عنه مرفوعاً وموقوفاً، فقد رواه معاوية عن زائدة عن ليث عن مجاهد عن عبد الله بن عمر موقوفاً، وخالفه في ذلك محمد بن كثير المصيصي عن زائدة عن ليث عن مجاهد عن عبد الله بن عمر مرفوعاً، وتوبع على ذلك أعني: على الوقف, فقد رواه أبو نعيم كما رواه ابن المنذر في كتابه الأوسط عن أبي نعيم عن عبد السلام عن ليث عن مجاهد عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى موقوفاً، ومال إلى صحته موقوفاً على هذا الوجه جماعة من الحفاظ وهو قول الدارقطني عليه رحمة الله والبيهقي .

    وذهب بعض العلماء إلى أن الحديث من جهة الأصل موقوف ولا يصح مرفوعاً، وما جاء في الطريق السابق من حديث حماد بن أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير ، أو محمد بن عباد عن عبد الله أو عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصح من هذا الوجه.

    وأما ما جاء في حديث زائدة فالصواب في ذلك الوقف.

    وقد اضطرب في حديث ليث عن مجاهد عن عبد الله بن عمر، وقد تفرد بروايته من هذا الوجه ليث في أبواب الوقف والرفع، وقد رواه غيره كما رواه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث يزيد عن أبي إسحاق عن مجاهد من قوله، وهذه ثلاثة أوجه في هذا الطريق، فتارة يجعل من حديث ليث عن مجاهد عن عبد الله بن عمر مرفوعاً، وتارة يجعل من حديث ليث عن مجاهد عن عبد الله بن عمر موقوفاً، وتارة يجعل من غير حديث ليث عن مجاهد موقوفاً عليه، يعني: مقطوعاً في اصطلاح أهل المصطلح، وهذا من حديث يزيد عن أبي إسحاق عن مجاهد .

    ولكن يقال: إن ثمة قاعدة تذكر في بعض كلامهم على سبيل الإشارة، ومن أراد أن يستنبطها يجدها في كلام كثير من أهل العلل وبالأخص الدارقطني وهي: أن ما كان على سبيل الفتوى وتضمن حكماً من الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها تارة تروى مرفوعة وموقوفة ومقطوعة؛ لأن مقتضاها الفتوى، فيفتون بهذا القول، فهذا يخرج عن مسألة الرواية.

    التفريق بين رواية الفقيه والمحدث

    فإذاً: حينما يأتي حديث في هذا الباب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث )، فلا بأس أن يفتي الإنسان بهذا الأمر في نازلة تنزل به، فيقول لشخص: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث، فيكون من قوله، وهذا لا يغير كونه مرفوعاً، بخلاف الأحاديث الملفوظة التي تأتي في أمور التعبد ونحو ذلك, فإن ذلك من جهة الأصل ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ينبغي أن يلتفت إليه، ولهذا لا حرج أن يقال: إن ما جاء في قول مجاهد أنه فتوى، وما جاء عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى أيضاً أنه فتوى، وما جاء أيضاً مرفوعاً فهذا هو الأصل الذي يعتمد عليه, ولهذا نجد في كثير من المواضع في كلام الأئمة الذين لهم أصحاب فقهاء أقوالاً يروونها عن أصحابهم، كما جاء عن عبد الله بن عباس وله أصحاب كثر من الفقهاء, فهؤلاء أصحابه الذين يروون عن عبد الله بن عباس تارة يروون نفس القول الذي يروونه عن عبد الله بن عباس مرفوعاً أو موقوفاً عليه، وتارة يروونه من أقوالهم، فبعض الناس حينما ينظر إلى ذلك لا يفرق بين رواية الفقيه ورواية غيره، وهذه من الأمور والمسائل المهمة التي ينبغي لطالب العلم أن يفرق وأن يمايز فيها بين رواية الراوي الفقيه وغير الفقيه.

    والرواة في كتب الرجال على قسمين:

    القسم الأول: رواة رواية، وليس لهم دراية.

    الثاني: رواة ولهم دراية، أي: لهم فقه وفتوى، فهذا ينبغي أن يؤخذ بالاعتبار، ومن لم يميز بين هذين فإنه يقع في الوهم والاضطراب وعدم إدراك كثير من سياقات الأئمة في أبواب التعليل، فيجد بعض الأئمة يعل في موضع ولا يعل في موضع آخر في ذات المسألة المتشابهة في ذلك، وهذا باب دقيق ينبغي لطالب العلم أن يعتني بأجزائه، فثمة بعض الرواة هو من أهل الدراية والفقه في باب، ولكنه في باب من أهل الرواية لا من أهل الدراية، فإنه في مثل ذلك لا يسوغ أن يقال: إنه صاحب دراية فيروي ويفتي من قوله باعتبار عدم اختصاصه في هذا الباب، ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يعتني بذلك.

    كذلك أيضاً فإن من الأحاديث ما لا يحتمل فيه الفتوى؛ كأخبار الفضائل، وأشراط الساعة ونحو ذلك فإن هذا ليس من مسائل الفتوى، وإنما هي من الأخبار التي ينقلها الراوي، فجانب الفتوى في ذلك ضعيف، فينبغي لطالب العلم أن يعتني بأبواب المتون، ومسائل الفقهيات التي تروى عن الأئمة عليهم رحمة الله.

    ومن الوجوه التي أعل بها بعض العلماء هذا الحديث، أعني: حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى: ما جاء من علل في أبواب المتن، فإن هذا الحديث قد وقع فيه اضطراب في متنه، فتارة يقال: ( قلتين أو ثلاثاً )، كما جاء في حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى في بعض وجوهه، مثل ما جاء في حديث حماد بن سلمة عن عاصم عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى أنه قال: ( قلتين أو ثلاثاً )، فجاء بصيغة الشك، وقد اختلف فيه على حماد بن سلمة في روايته هذه, فرواه وكيع و عفان و يزيد بن هارون و هدبة عن حماد بن سلمة بالشك، ورواه جماعة آخرون بغير شك، رواه في ذلك عفان أيضاً و يزيد بن هارون , رووه أيضاً عنه بلا شك فرووه بالوجهين، وكذلك أيضاً رواه الطيالسي و العلاء كلهم عن حماد به، ولكن جعلوه بلا شك، فمنهم من رجح رواية الشك فأعل الحديث، ومنهم من لم يرجح رواية الشك باعتبار أنها وهم واضطراب من حماد بن سلمة .

    وهذا الحديث قد صححه جماعة كما تقدم وأعلم من صححه في ذلك هو يحيى بن معين عليه رحمة الله، وعمل به أيضاً كثير من الأئمة، ووقع فيه نزاع واضطراب، وقد صنف فيه جماعة من العلماء جملة من المصنفات بين راد ومردود، منهم ابن العربي عليه رحمة الله فقد صنف جزءاً في ذلك، وأراد بذلك أن يرد على الشافعي في عمله بهذا الحديث، وكذلك أيضاً رد به على بعض الأئمة, وأعله بعض الأئمة كـابن عبد البر عليه رحمة الله، وقد رد عليه في ذلك المقدسي عليه رحمة الله، وهذا أمر سائغ فيه وهو في أبواب الاجتهاد، وهذا الحديث محتمل التعليل ومحتمل التصحيح, وهو أصل في بابه على من قال بظاهر لفظه، ولم يقل بدلالة الخطاب في بقية الأحاديث التي تلغي دلالة الخطاب ومفهومه في هذا الحديث، وهذا ليس محل كلام على معانيه وفقهه, وإنما له موضع آخر يرجع إليه.

    علاقة علم العلل بعلم الفقه

    وينبغي الإشارة إلى مسألة في هذا السياق وهي أنه ينبغي لطالب العلم أن يعلم أن علم العلل لا ينفك ولا ينفصل عن علم الفقه أي: معرفة فقه الأوائل على سبيل الخصوص من الصحابة والتابعين وأتباعهم، فهؤلاء علمهم لا يمكن أن ينفصل عن علم العلل، وبقدر نقص الإنسان في هذا الباب، ينقص إدراكه لمسائل التعليل؛ وذلك من وجوه متعددة:

    منها ما تقدم أن الرواة منهم أصحاب دراية، ومنهم من ليس بصاحب دراية، ومن له رأي ومن ليس بصاحب رأي، وكذلك أيضاً منهم من له بلدان تعتني بفقه يختلف عن الفقه الآخر، كما في فقه المكيين فإنهم يعتنون بفقه المناسك ونحو ذلك، فمن لم يعرف الرواة لم يعرف أصلاً المكي من غيره، ولم يعرف أيضاً من يعتني بباب عن غيره.

    وكذلك المسائل التي تكون متونها في أبواب المناسك تختلف وجوداً لذات الرواة عن الأحاديث التي تكون في غير أبواب المناسك وهكذا، ومنها أحاديث تهتم بفضائل البلدان، وكذلك أيضاً أبواب السير والمغازي والفتن والملاحم ونحو ذلك؛ وذلك أن مدارسها يعتنون بهذا النوع، وعلى هذا ينبغي لطالب العلم أن يكون على عناية ودراية به؛ وذلك لأسباب ووجوه عريضة ربما يأتي الكلام عليها بإذن الله تعالى.

    وقد جاء من وجوه الاضطراب في هذا الحديث: أنه جاء في أخبار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جابر بن عبد الله , وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر, اضطرب في تحديد القلال، هل هي قلتان أو ثلاث أو أكثر من ذلك؟ وقيل: أربعين.

    فجاء في حديث جابر بن عبد الله من حديث القاسم عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله أنه قال: ( إذا بلغ الماء أربعين قلة )، وهذا الحديث قد أنكره غير واحد؛ لأنه تفرد به القاسم في روايته عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله .

    وجاء أيضاً عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى أنه قال: ( ذنوبين أو ثلاثة )، وجاء في رواية ( ذنوبين أو أكثر لم يحمل الخبث )، وهذا جاء عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى من حديث الزمعاء عن هدبة عن عكرمة عن عبد الله بن عباس.

    وجاء أيضاً من قول عكرمة عليه رضوان الله تعالى أنه قال: ( ذنوبين أو ثلاثة)، ولهذا قالوا: لما وجد هذا الفقه في كلام بعض السلف فإنه يحتمل إعلال أصل الحديث، ولكن يقال: إن بعض هذه الطرق مما لا يحتج به، وربما كانت الزيادة عن القلتين إشارة إلى سياق قد وردت فيه تلك الرواية, فينبغي ألا تنتزع منه, وأن تؤخذ تلك الفتاوى أو تلك الأقوال بحسب سياقها، وألا تنقل على أنها روايات وأخبار منفردة قد ألقاها الإنسان مثلاً في مجلس عام ونحو ذلك.

    وكثير من الفتاوى التي يلقيها الصحابة عليهم رضوان الله تعالى إنما كانت في مسائل أعيان، فنقلها الرواة عنهم على سبيل الاجتزاء والاختصار، ولم يبينوا أسباب الورود، فجهل كثير من الناس أسباب ذلك السياق أو ذلك اللفظ فظنوا أنها أحاديث مروية على هذا النحو، وهذا ما ينبغي أن يكون طالب العلم على انتباه فيه.

    الحكم على حديث: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)

    وأما الحكم على هذا الحديث من جهة النهاية، هل هذا الحديث معلول أم ليس بمعلول؟

    نقول: هذا الحديث معلول ولا شك في ذلك، ولكن هل هو مردود, لا يحتج به؟

    نقول: العلة ظاهرة فيه من جهة الإسناد ومن جهة المتن.

    أما من جهة الإسناد فما وقع فيه من اضطراب، ثم قد يكون هذا الاضطراب مخلاً، وقد لا يكون مخلاً، ويظهر عدم إخلاله.

    وأما من جهة المتن، فهو أن المتن الأصل فيه أن هذا المعنى ينبغي أن يروى بأحاديث أشهر وأقوى من هذا، وينبغي أن يرويه في ذلك الكبار، فلما جاء فرداً من هذا الوجه فإنه على طريقة المحدثين يقال: بإعلاله، ولكن هل يقال برده، وعدم الاحتجاج به؟

    الذي يظهر -والله أعلم- أن هذا الحديث من جهة قبوله ورده يرجع فيه إلى فهم متنه، ثم يُتفرع بعد ذلك إلى الحكم.

    فإذا قلنا: إن هذا الحديث له دلالة منطوق ودلالة مفهوم، فإننا على طريقة المحدثين النقاد الأوائل لا بد أن نقول: بإعلاله، ولا يمكن أن يصح فنقول: إنه منكر، وإذا قلنا: إن الحديث له دلالة منطوق وليس له دلالة مفهوم، وما خالفه من الأحاديث في دلالة المفهوم التي يسميها أهل الكلام بدلالة الخطاب، فإننا نقول حينئذ: إن منصوص الأدلة يقدم على دلالة الخطاب؛ فعلى هذا فإنا نقول بقبوله، وعلى هذا -فيما يظهر- يحمل سياق التصحيح الذي جاء عن الأئمة عليهم رحمة الله تعالى كما جاء في كلام يحيى بن معين وكذلك الترمذي و الدارقطني وغيرهم, الذين قالوا بصحة الحديث وقوته.

    والذي يظهر والله أعلم أن حمل الحديث على معناه الثاني هو الأولى, وعلى هذا الوجه نقول: إن الحديث يحتمل، والإشكال إنما طرأ على كثير من المتأخرين بسبب دلالة المفهوم، ولما كانت دلالة المفهوم تقتضي تنجيس الماء لمجرد ورود النجاسة وأنه إذا كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث بمجرد الملاقاة، قالوا: هذا لا بد من أن يحمله رواة كثر؛ لأنه فيصل في أمر الماء، والماء يحتاجه الناس، والناس لا يحترزون للماء في أزمنتهم كما نحترز في زماننا بأوعية وحافظات وخزانات ونحو ذلك، وإنما كانت مياه موجودة في متناول كثير مما يطرأ عليه النجاسة من السباع والبهائم والكلاب وغير ذلك.

    وعلى هذا قالوا: لا بد أن يحمل ذلك من الرواة الكبار، فلماذا تنكبه الرواة الكبار ورواه من هو دونهم الذين هم في عداد المتوسطين وإن كانوا من الثقات كـالوليد بن كثير و محمد بن جعفر و محمد بن عباد ؟ لكن إذا قلنا بخلاف ذلك: وهو أن الحديث له دلالة منطوق، وأما دلالة المفهوم فيشار إلى أهمية الاحتراز، وأنه ينبغي للإنسان أن يحتاط، وأنه لا يحكم على هذا الحديث بنجاسة إلا بتغير أحد أوصافه الثلاثة كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في المسند والسنن من حديث أبي سعيد الخدري في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الماء لا ينجس )، وما جاء أيضاً في حديث أبي أمامة : ( إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه بنجاسة تحدث فيه )، وهذا محل إجماع عند العلماء.

    وكما تقدمت الإشارة إليه أن فهم الحديث هو فرع عن الحكم عليه، فلهذا ينبغي لطالب العلم أن يفرق بين نهج الأوائل وقوتهم في إدراك دلالات مفهوم الأحاديث، ثم ما يبنون عليه من الإعلال، وكذلك أيضاً طرائق المتأخرين وما يبنون عليه من إعلال، وهذا من المسائل المهمة التي ينبغي لطالب العلم أن يكون على عناية بها.

    وثمة فروع لهذه المسألة في ألفاظ القلة والذنوب أو الدلو ونحو ذلك، واختلاف الروايات في هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلها لا يصح، وأصح ما جاء في ذلك هو قلتان، وإنما جاء في بعض الروايات في فتاوى بعض الفقهاء من السلف، وتفرع عنه قول بعض من لا عناية له: إن هذا من وجوه الاضطراب وليس كذلك.

    1.   

    حديث أبي قتادة: (إنما هي من الطوافين عليكم)

    الحديث الثاني في هذا اليوم: حديث أبي قتادة عليه رضوان الله تعالى يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهرة: ( إنها ليست بنجس, إنما هي من الطوافين عليكم ).

    هذا الحديث رواه الإمام مالك في كتابه الموطأ، والإمام أحمد و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه و الدارقطني و البيهقي و ابن خزيمة وغيرهم، وقد رووه عن مالك بن أنس عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن زوجته حميدة عن خالتها كبشة عن أبي قتادة عليه رضوان الله تعالى ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الهرة: إنها ليست بنجس, إنما هي من الطوافين عليكم ).

    وقد توبع الإمام مالك في روايته في هذا الحديث تابعه حسين المعلم و همام , وكذلك يونس فقد تابعوه على هذا الوجه.

    وروي هذا الحديث عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ووقع فيه اضطراب، فقد رواه سفيان بن عيينة عن إسحاق عن امرأة عن أمها عن أبي قتادة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ورواه أيضاً عن امرأة عن أبي قتادة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ووقع في هذا نوع من الوهم؛ وذلك أن المرأة التي يروي عنها إسحاق إنما هي زوجته حُميدة ، وقد جاء في بعض روايات الموطأ حَميدة بفتح الحاء وليس بصحيح، والصواب في ذلك الضم، و حُميدة هي بنت أخت كبشة، وليست بنت كبشة، و كبشة خالتها، و كبشة هي زوجة ابن أبي قتادة عليه رضوان الله تعالى.

    وقد جاء هذا الحديث من هذا الطريق، وأصح الروايات رواية الإمام مالك عليه رحمة الله عن حُميدة عن كبشة عن أبي قتادة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وإنما وقع الوهم والاضطراب في ذلك من وجوه:

    أولاً: ما جاء في رواية سفيان بن عيينة أنه يرويه عن إسحاق عن امرأة عن أمها عن أبي قتادة.

    ثانياً: ما جاء عن سفيان فيما يرويه عن إسحاق عن امرأة عن أبي قتادة فأسقط أمها, وتبين فيما سبق أنها ليست أمها، وإنما هي خالتها، عن أبي قتادة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وجاء من وجه آخر من حديث إسحاق عن أبي قتادة ولم يذكر في ذلك الواسطة.

    وجاء أيضاً من حديث هشام بن عروة عن إسحاق وقد وقع فيه اضطراب أيضاً, فإنه يرويه ابن جريج عن هشام عن إسحاق عن امرأة عن أمها عن أبي قتادة , وتارة يسقط هشام الواسطة بين إسحاق و أبي قتادة , وتارة يجعله مرسلاً، وهذا الاضطراب ينبغي ألا يلتفت إليه.

    وأصح الروايات كما تقدم هي رواية الإمام مالك عليه رضوان الله تعالى، كما قال ذلك البخاري فيما نقله عنه الترمذي, وكذلك قاله الترمذي عليه رحمة الله، وصحح هذا الحديث جماعة من الحفاظ؛ كـابن خزيمة و ابن حبان و الدارقطني وغيرهم؛ وذلك أن الإمام مالك عليه رحمة الله تعالى هو من أعلم الناس بأحاديث المدنيين، وهذا الحديث هو إسناد مدني تام من أوله إلى آخره، وقد اعتمد عليه جماعة من الأئمة باعتبار أن الإمام مالك عليه رحمة الله لا يحدث إلا عن الثقات.

    ولهذا الحديث جملة من الطرق، وجملة من الشواهد، فقد جاء من حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى، مرسلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهي طريق معلولة ولا تخلو من الضعف، ولكن لا حاجة إليها مع وجود حديث أبي قتادة عليه رضوان الله تعالى.

    وقد روى هذا الحديث عن أبي قتادة غير كبشة ، فرواه أسيد بن أبي أسيد عن أبيه عن قتادة ، وجاء أيضاً من حديث عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء في حديث أبي هريرة و عائشة ولا تخلو هذه الأحاديث من ضعف, وأصح ما جاء في هذا الباب هو حديث أبي قتادة عليه رضوان الله تعالى.

    وروي هذا الحديث مرفوعاً وموقوفاً على أبي قتادة , والصواب في ذلك الرفع، وصحح الوقف الدارقطني عليه رحمة الله تعالى مع تصحيحه للرفع، فقال: إن أبا قتادة عليه رضوان الله تعالى روي عنه ذلك في قضية عين ولم يسأل عن مستنده في ذلك، ولو سئل لأسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما تقدمت الإشارة إليه، وأنه ينبغي لطالب العلم في مسائل الفتيا ومسائل الأحكام أن ينظر إلى المسائل التي ربما تقع من الإنسان وتنقل من فعله ونحو ذلك، ومن المسائل التي ترتجل كنقل الأخبار والحكايات ونحو ذلك التي محلها السماع، وليس الفتيا في الدين.

    هذا الحديث فيه جملة من الرواة ممن تكلم عليهم بعض العلماء من المتأخرين وأعل هذا الحديث بسببهم:

    وأولهم: حميدة , وكذلك أيضاً كبشة ، و حميدة هي مقلة في الرواية، يروي عنها إسحاق وهو زوجها، ويروي عنها يحيى وهو ابنها، وهي من الرواة الثقات فقد وثقها جماعة كـابن حبان والدارقطني كما في كتابه السنن، فإنه لما أخرج هذا الخبر قال: رواته ثقات معروفون.

    ثانيهم: كبشة، وهي زوجة ابن أبي قتادة عليه رضوان الله تعالى، و كبشة قد قيل: بصحبتها، وهي متقدمة، فقد قال بصحبتها جماعة من الأئمة، كـابن سعد حيث قال: أسلمت وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في كتابه الطبقات، وقال ذلك أبو موسى المديني وغير هؤلاء قالوا بصحبتها، وإن لم تكن من الصحابة فهذا الخلاف عند العلماء فيها يدل على أنها متقدمة ومن طبقة علية، وهي زوجة ابن صحابي جليل عليه رضوان الله تعالى، وبهذا نعلم أن العلل التي ترد به هذا الحديث هي علل معلولة، وذلك أن هذه العلة التي ذكرها المتأخرون في هذا الحديث وهي جهالة حميدة ، وكبشة كان اعتمادهم على ذات الجهالة.

    مسائل في الجهالة ينبغي لطالب العلم معرفتها

    وثمة مسائل أحكام الجهالة التي ينبغي لطالب العلم أن يكون على عناية بها:

    وهي أن الجهالة بذاتها ليست علة قاطعة محسومة يعل بها الحديث، بل يقال: إن الجهالة قد تعل الحديث وقد لا تعله، وإنما قلنا: بأن الجهالة جرح وإعلال للحديث باعتبار عدم معرفة ذلك الراوي، فيكون الراوي حينئذ غير معلوم التعديل، والأصل في ذلك الاحتراز والتشديد في هذا، ولهذا تكاثر كلام العلماء عليهم رحمة الله تعالى في أبواب توثيق الرواة, وأنهم يحترزون في ذلك؛ لأن الأصل في ذلك أن الإنسان متهم، وليس المراد بذلك التهمة في الدين، وكثير من الناس يرجع إلى أصل الظن، والمراد بذلك هي التهمة في عدم الضبط؛ لأن مجتمعات الإسلام الأصل فيها البراءة، ولو قيل في شخص: إنه كذاب أو متهم في دينه أو زنديق ونحو ذلك فإن هذا مخالف للأصل، وإنما المراد بقول العلماء: إن الأصل في ذلك الجرح يعني: أن المراد بذلك عدم الحفظ والضبط، هذا هو الأصل عند العلماء، وليس المراد بذلك ما يتعلق بأمر الديانة.

    ويخلط كثير ممن يتكلم في أبواب الرواة بين كون أن الأصل في المسلم العدالة، وبين عدالة الديانة، وما يتكلم عليه الأئمة عليهم رحمة الله تعالى: الأصل في الراوي الجرح، أو سوء الظن المراد به في أبواب الحفظ، وكون الإنسان يحفظ أو لا يحفظ وهذا لا يسقط من عدالته شيئاً، وإنما هي موهبة وجدت في الإنسان، وقد ينميها أو لا ينميها، وحينئذ يقبل حديثه أو لا يقبل، وهذا ليس بمسقط لديانته ومنزلته ومكانته في الناس، والحفظ منزلة تتباين عن مسألة العلم؛ فقد يكون الإنسان عالماً ومن أهل الفتوى ولكنه لا يؤتى حفظاً, ولهذا نقول: إن الجهالة في أبواب الرواية ينبغي أن يرجع فيها إلى القرائن أكثر من غيرها.

    ما يلحظ على تعريف الجهالة عند علماء المصطلح

    وإذا نظرنا إلى كتب قواعد الحديث ومسائل المصطلح ونحو ذلك، نجد أن الأئمة في كلامهم على الجهالة يجعلون الجهالة على قسمين: جهالة عين، وجهالة حال.

    وجهالة العين: هي التي تجهل فيها عين الشخص، ويتفرد بروايته عنه راو واحد.

    وأما جهالة الحال: فهو الذي يروي عن اثنان فصاعداً، وهذا قصور في تحديد أمر الجهالة؛ وذلك من وجوه:

    الوجه الأول: أن الأئمة الذين يذكرون ذلك لا يلتفتون إلى المتون التي يرويها الراوي، وهذا السبر الذي يحتاجه الناقد، فالراوي الذي يروي عن شيخ واحد ويروي عنه شيخ واحد ويروي عشرة متون قد أعطاك فرصة على سبر متونه، بخلاف من يروي واحداً عن واحد ولا يروي إلا حديثاً، وقد يكون الشخص يروي عنه اثنين، ويروي هو عن اثنين ولكن ليس له إلا حديث واحد، وذلك الأول يختلف عنه.

    الأمر الثاني: أن الأئمة عليهم رحمة الله تعالى لا يذكرون الشيوخ، والشيوخ لهم منزلة ومكانه في أبواب المجاهيل، أعني: الشيوخ الذين يحدث عنهم المجهول، فالمجهول إذا كان يحدث عن إمام ثقة وكبير فإن هذا من قرائن التعديل والتوثيق، فإن الأئمة الكبار كــشعبة و مالك وأضرابهم، وكذلك من كان في طبقتهم من جهة المكانة والمنزلة ممن سبقهم في هذا الباب من الحفاظ؛ كـمحمد بن شهاب الزهري ، وعبيد الله بن عمر وغيرهم من الأئمة الحفاظ إذا روى عنهم بعض المجهولين فإن هذا مما يعطي الإنسان قرينة على التعديل، وليس نصاً على ذلك.

    وكذلك أيضاً لا يفرقون بين بلد المجهول ولا طبقته، وهذا ما ينبغي أن يلتفت إليه طالب العلم، وذلك أن طبقة المجهول وبلده لها مزية ومكانة، فإن المجاهيل من الحجازيين من مكة والمدينة يختلفون عن المجاهيل من غيرهم.

    وكذلك ما يتعلق بمسألة الجنس، فإن المرأة جهالتها تختلف عن جهالة الرجل.

    وكذلك من جهة تقدم الراوي بأبواب الجهالة وتأخرها.

    قرائن دفع الجهالة في حديث: (إنما هي من الطوافين عليكم)

    ولدينا قرائن عديدة قد توافرت هنا في دفع الجهالة في هذا الحديث، وهذه القرائن:

    أولاً: أن هذا الحديث حديث حجازي، مدني، وأحاديث المدنيين الأصل فيها القبول في الطبقات المتقدمة؛ وذلك لقلة الضعف والوهم والغلط فيهم, فضلاً عن الكذب كما تقدمت الإشارة إليه، فإنه لا يكاد يوجد في التابعين -من الطبقة الأولى والثانية والثالثة- وفي أوائل أتباع التابعين من يتعمد الكذب، وقد نص على هذا غير واحد من الأئمة، وهذا في المدنيين خاصة، وذلك أن الكذاب إن وجد -ولا أعلم أحداً من الأئمة قد نص على وجود كذاب مدني- وأراد بالكذب اختلاق القول على سبيل العمد بأحد المدنيين من الطبقات المتقدمة، لو وجد من جهة التقدير والافتراض فإنه لا شك أنه ينفى ويبعد من المدينة؛ لقوة الديانة والعلم، وكذلك الأصل في ذلك حفظ الدين.

    ولهذا فإن أسانيد المدنيين والمكيين ينبغي أن تؤخذ على اعتبار يختلف عن غيرهم، ولهذا الإمام مالك عليه رحمة الله تعالى وهو أعلم الناس بأحاديث المدنيين اختار هذا الإسناد ورواه.

    ثانيا: أن هذا الحديث اختار له الإمام مالك عليه رحمة الله أدق الأسانيد وأخصها في معرفة حال الراوي، فالإمام مالك عليه رحمة الله روى عن إسحاق بن عبد الله عن زوجته، والرجل لا يلتقي بزوجته في الشهر مرة أو في الشهرين أو في السنة ونحو ذلك وإنما هو يعرف حديثها، ويعرف مواضع الوهم والغلط في كلامها، وهل تضبط الرواية والأخبار أو لا تضبط، بخلاف الإنسان الذي يأخذ من شيخه، فالذي يأخذ من شيخه يأتي إليه مثلاً ساعة من اليوم ونحو ذلك، فيأتي الشيخ يريد أن يأتي بمعلومة فيلقيها إليه، وقد لا يعرف حال الشيخ من جهة ضبطه للرواية ونحو ذلك.

    ومعلوم أن السبر الذي يأخذه العلماء بمعرفة حال الراوي من جهة ضبطه في أبواب اللقيا أن هذا يعرف بطريقتين:

    الطريقة الأولى: بمخالطة الإنسان وكثرة معاشرته، فإذا كان الإنسان يخالط الإنسان في صباحه ومسائه, بالبيع والشراء والحكايات والقصص وأحاديث الناس، وما يأتي من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يستطيع أن يعرف أن فلاناً يضبط الحديث، إذا بين له أخبار الناس، وكذلك ما يوصونه بأحاديث من بلاغ إليهم، وكذلك في البيع والشراء، فيعرف أن فلاناً يضبط الحديث، وأيضاً يساعده ذلك على معرفة حاله في أبواب الرواية.

    الطريقة الثانية: السبر وهو: ما يتعلق بسبر رواية الراوي في أبواب الحديث، وهذا قد لا يتيسر فقد يكون الراوي مثلاً عمره سبعون وثمانون سنة ولكن ليس له إلا حديثين أو ثلاثة، ولا يعقل أنه لم يتكلم إلا بهذه الأحاديث، ولهذا باب السبر لديه قصير جداً ولا تستطيع أن تميز، بخلاف الشخص الذي لديه كم كبير جداً من الأحاديث فإنك تستطيع أن تميز الحديث الصحيح من الضعيف في كلامه، وأن تميز قوته من جهة الضبط وعدمه.

    ولهذا الإمام مالك روى عن إسحاق عن زوجته، مع وجود الحديث من غير هذا الطريق، من حديث أسيد بن أبي أسيد عن أبيه عن أبي قتادة , ومن حديث عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه، وكذلك ما جاء في غير حديث أبي قتادة عليه رضوان الله تعالى, فرواه من حديث إسحاق عن زوجته عن خالتها كبشة .

    ثالثاً: أن الجهالة في أمور النساء من القرائن التي تدفع أصل الإعلال عند العلماء.

    فالعلماء حينما يعلون رجلاً بالجهالة، يقول: لماذا لم يعلم؟ لأن الأصل في الرواة العلم بأحوالهم، والبروز إلى الناس، وحضور الميادين والمجالس، ولما كان الأصل في النساء عدم الظهور للرجال كان الأصل في أحوالهن الجهالة، ولهذا تجد الإنسان ربما الجار لا يعرف حال امرأة جارة، ولو سئل عنها هل هي ضابطة للرواية -وليس المراد بذلك العدالة الدينية، وإنما ضبط الرواية- لما عرف ذلك مع أنه جاره له عشرون أو ثلاثون سنة، وأما أحوال الجيران من الذكور فيستطيع أن يحكم على حال جاره لمعاشرته لسنة وسنتين ونحو ذلك.

    إذاً: فالأصل في النساء في طبيعتها هو عدم العلم, بخلاف الرجال فإن الأصل بهم العلم، ولما كان الأصل في أبواب الرواية الاحتياط والاحتراز فإنه يضعف بضعف أسبابه، وضعف الأسباب هنا هو ضعف أسباب الوقوف على حال المرأة، وحينئذ يقلل من أبواب الاحتياط.

    وأبواب الاحتياط ظهرت هنا في هذا الأمر من وجوه متعددة: أنه في ابتداء الإسناد إسحاق وهو زوج حميدة ، وانتهاء الإسناد أبو قتادة وهو صحابي، والذي تروي عنه هي زوجة ابنه ابن أبي قتادة عليه رضوان الله تعالى, وهي حينئذ أعلم الناس بما يرويه أبو زوجها، فتكون حينئذ ممن يعلم بحديثه من جهة سياقه ومراده بالألفاظ ونحو ذلك فتضبط الحديث فتنقله حينئذ.

    وكذلك فإن حميدة روت عن كبشة وهي خالتها، ولم ترو عن امرأة أجنبية، والمرأة ترى خالتها في مجالس كثيرة، وتعلم ضبطها للرواية ونحو ذلك.

    رابعاً: أن البيت بيت علم، وهذا من قرائن دفع الجهالة، فإن بيت إسحاق هو بيت علم، وإن جهلت ذوات النساء من جهة معرفة حالها في كثرة العبادة ونحو ذلك، فإن الأولى زوجة ابن صحابي والثانية وهي حميدة زوجة إسحاق بن عبد الله وهو من كبار الرواة، ومن أهل الدراية من المدنيين، ويكفيه في هذا أنه شيخ الإمام مالك عليه رحمة الله، وقد أخذ عنه الإمام مالك جملة من مروياته.

    ولهذا الأئمة لم يلتفتوا إلى علة الجهالة في هذا الباب، فينبغي لطالب العلم في أبواب الجهالة ألا يعل الرواية مباشرة بهذا الأمر، وإنما يسبر أحوال الرواة من جهة معرفة ذواتهم وطبقتهم وأجناسهم وبلدانهم، والمتون التي رووها، وعدد الأحاديث، وعدد شيوخهم وتلامذتهم, فعدد الشيوخ والتلاميذ له أثر في ذلك، والغالب في كتب المصطلح كما تقدمت الإشارة إليه أنهم يذكرون كم الذي روى عن ذلك الراوي فقط، ولكنهم لا يشيرون إلى شيوخهم، فتجد في أحوال كثير من الناس أنه يكثر الطلب ولكنه لا يعلم الناس ولا يدرسهم، فتجد له عشرين شيخاً وثلاثين شيخاً ونحو ذلك، ولكنه لا يحدث إلا الواحد والاثنين، ولطبيعة فطرية.

    فبعض الناس يحب الخمول ولا يحب أن يحدث أحداً ونحو ذلك، لطبيعة فطرية أو لانشغال ونحو ذلك فطرأ عليه شيء قطعه عن العلم، وقطعة عن تبليغ العلم فحدث الواحد والاثنين، وهذا أمر موجود معلوم، ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يسبر الشيوخ كما يسبر التلاميذ، وأن يسبر المتون، وأن ينظر في عددها، وهذا المتن إذا نظرنا فيه نجد أنه مستقيم مع الأصول وعليه العمل، وذلك من وجوه:

    أولاً: من جهة اتخاذ الإنسان للهرة، وهذا محل إجماع عند العلماء من السلف وأنه لا إشكال في ذلك، ولهذا كان أبو هريرة عليه رضوان الله تعالى يلقب بذلك لهر كان معه، يعني: أن الإنسان إذا كان لديه هرة في داره ونحو ذلك فإن هذا مما يغتفر فيه بخلاف تعمد الإنسان لقناية الكلب، فإن هذا مما هو محرم؛ فلو جاءنا حديث أو لفظ بالتيسير في أمر الكلب، ونحن نعلم أن التشديد فيه قد جاء في حديث فنقول: إنه لا يستقيم مع الأصول، ولكن لما كان التسامح في أمر الهرة فقد جاء هذا الحديث على مقتضى ذلك الأصل فيقال: إنه يعضده الأصول، وليس هذا الحديث مما يخرج عن ذلك السياق.

    ولهذا نقول: بأن هذا الحديث مما يستقيم في أبواب المعنى، ويعضد هذا الأمر ما جاء من فتيا كثير من السلف في هذا الباب في أمر الهرة أنها مغتفرة، يعني: في ريقها، كذلك في التعليل الوارد في قوله: ( إنها من الطوافين عليكم، إنها ليست بنجس )، وعدم ورود الدليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهر، وهي أحوج لظهور النص من الكلب، والكلب أبعد عن أحوال الناس من الهر، فإن الهر يختلط بالناس، ويدخل في بيوتهم أكثر من الكلاب، فالكلاب قد تكون في خارج البيوت وإن كانت تأتي إليهم وإلى أوانيهم، ومساقيهم، إلا أن الهر أظهر في أبواب المخالطة.

    وعلى هذا نقول: لما ورد النص في الكلاب ولم يرد في الهر دل على أن الهر أُغفل عمداً للتسامح والتساهل فيه وهذا ينبغي أن يصار إليه، وذلك أن الإنسان يأخذ قرينة حكم بحكم آخر.

    اقتران أبواب التعليل بالفقهيات

    ولهذا كما تقدمت الإشارة إليه أن أبواب التعليل مقترنة بمعرفة فقهيات السلف وفقهيات الباب، فبعض الناس يريد أن يسبر أو يريد أن يتكلم على حديث من الأحاديث كحديث الهرة على سبيل الانفراد مجرداً عن سائر أبواب الفقه ومنها أيضاً عن أحاديث المياه على سبيل المثال، فهذا لا يمكن أن يكون دقيقاً في حكمه حتى يستوعب أبواباً عريضة, من أهمها: أبواب الطهارة على سبيل العموم، فيأخذ باللازم وهو أنه لما ورد الحكم في الكلب وهو بعيد ولم يرد في الهر ونحو ذلك، ومقتضى هذا القول أنه سبر أبواب الطهارة فعرف أن الكلب قد ورد فيه دليل أو لم يرد فيه دليل، فلما سبر ذلك عرف أن ما دونه مع وجود المخالطة أكثر منه لم يرد فيه، والشريعة جاءت بحفظ الدين، وبيان أحكام العبادات، ومن مقتضيات ذلك سلامة وطهارة الأبدان، والمياه التي يتوضأ بها الإنسان فيستحل بها العبادة، وأظهرها في ذلك الركن الثاني من أركان الإسلام وهي الصلاة، فلهذا يؤخذ بهذا من هذا الأمر وأنه ينبغي لطالب العلم أن يكون محيطاً بأبواب الفقهيات، ونلمس كثيراً حتى عند الفقهاء المتأخرين من المشهورين من يتكلم على حديث من الأحاديث على سبيل الانفراد، ولا يلحق ذلك بفقهيات السلف، حتى يستنبط علة أو لا يستنبط علة.

    ومن المحدثين أيضاً من يقع في مثل هذا وهو أظهر من الفقهاء في هذا الأمر، حينما يتكلم في حديث على سبيل الانفراد وهو يجهل المرويات في هذا الباب، لهذا أبواب السبر في أمور مسائل الديانة من المسائل المهمة، أن يسبر أحاديث الباب في ذاته وهذا هو الأهم ثم يتوسع في ذلك، وكلما كان من أهل التوسع في أبواب الديانة استطاع أن يحكم على حديث من الأحاديث، وربما كانت القرائن في هذا أظهر وأبعد من هذا، فربما يستدل بحديث جاء في أبواب البيوع مثلاً ونحو ذلك, قد جدد فيه النبي صلى الله عليه وسلم, أو في أبواب الصيام ونحو ذلك، ومسائل الطهارة آكد من مسائل الصيام؛ لأن مسائل الوضوء أهم من مسائل الصيام، وإن كانت الركنية هي للصلاة؛ لأن شرط الركن ركن مثله، وهذا لا إشكال فيه.

    فمن جحد الوضوء وقال: إن الوضوء ليس بواجب، ولكن الصلاة واجبة كافر بإجماع الأمة، ومن قال: بعدم كفره كافر أيضاً؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يصلي إلا بطهارة، ولا تصح منه إلا بذلك وهذا بالاتفاق، وعلى هذا فهذا عبث حينما يقول الإنسان: إنه يقر بالصلاة ولكن لا أقر بالوضوء، ولا يذهب يتوضأ، وإنما يذهب يصلي، فلا يمكن أن يقال أن هذا أقر بالركن وهذا حاله، كالذي يقول: إنه يجب الصيام ولكن في شعبان أو في شوال، فأقر بالصيام لكنه ما أقر بزمنه، وكذلك الذي يقر بالصلوات لكن لا يقر بمواقيتها وهكذا مما كان شرطاً ومحل اتفاق عند العلماء كمسألة المواقيت والشروط، وهذا ما ينبغي لطالب العلم أن يكون على بينة فيه في أبواب التعليل حتى يصح له النقد.

    1.   

    حديث: (يكفيك الماء ولا يضرك أثره)

    والحديث الثالث في هذا الباب: هو حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى: ( أن خولة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله, إن لي ثوباً واحداً أحيض فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغسلي عنه أثر الدم، فقالت: يا رسول الله, إن غسلته وبقي أثره؟ قال: يكفيك الماء ولا يضرك أثره ).

    هذا الحديث قد رواه الإمام أحمد و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه وغيرهم، فرووه من حديث عبد الله بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة عن خولة: ( أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم )، وهذا الحديث قد تفرد بروايته عبد الله بن لهيعة من هذا الوجه.

    وقد اختلف فيه على عبد الله بن لهيعة , فرواه عبد الله بن وهب و قتيبة عن عبد الله بن لهيعة بهذا السياق، وكذلك رواه موسى عند الإمام أحمد عليه رحمة الله, عن عبد الله بن لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى, فأسقط يزيد بن أبي حبيب وهو الواسطة بين عبد الله بن لهيعة وبين عيسى بن طلحة عن أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى، وأبدله بــعبد الله بن أبي جعفر ، والصواب في ذلك رواية عبد الله بن وهب و قتيبة عن عبد الله بن لهيعة ؛ وذلك أن عبد الله بن وهب من أحفظ الناس وأدقهم، وكذلك قتيبة بن سعيد .

    وهذا الحديث من جهة لفظه وتخصيصه بأن الماء يكفي ولا يضر الأثر هو أصرح حديث في الباب، وثمة أحاديث وموقوفات تدل على أصله لكنها ليست بخاصة في أبواب العفو عن أثر النجاسة، وقد اتفق العلماء على نجاسة دم الحيض، واختلفوا في مسألة بقاء الأثر مع الغسل، هل يضر ذلك أم لا يضر؟ وهذا الحديث هو أصل في هذا الباب.

    وقد جاء في غسل النجاسة، ولم يأت دليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصرح من هذا في الاغتفار عن أثر النجاسة في حال غسلها، وهذا الحديث معلول ولا يصح، لتفرد عبد الله بن لهيعة به، وبعض المتأخرين يصحح هذا الخبر باعتبار أنه قد رواه عبد الله بن وهب عن عبد الله بن لهيعة عن يزيد عن عيسى عن أبي هريرة، وأن عبد الله بن لهيعة عليه رضوان الله تعالى يروي عنه من قدماء أصحابه عبد الله بن وهب وكذلك قتيبة بن سعيد ، وقد رووا عنه هذا الخبر، وعلى هذا يكون الخبر مستقيماً.

    وحديث عبد الله بن لهيعة من جهة الأصل أنه معلول، وهذا على الإطلاق, سواء قبل اختلاطه أو بعد اختلاطه, فإنه كان قبل اختلاطه ضعيفاً وبعد اختلاطه أشد ضعفاً.

    أقسام الحديث المروي عن ابن لهيعة

    ولكن يمكن أن يقال: إن أحاديث عبد الله بن لهيعة على أقسام:

    القسم الأول: ما رواه عنه قدماء أصحابه في أبواب قد اختص بها، كرواية العبادلة: عبد الله بن وهب و عبد الله بن المبارك , وكذلك قتيبة بن سعيد فما يرويه قدماء أصحابه مما كان من اختصاص عبد الله بن لهيعة كأبواب القضاء -فإنه كان قاضياً- فهذا أحسن حديثه وهو أهون أبواب الضعف.

    المرتبة الثانية: ما يرويه قدماء أصحابه في غير هذا الباب، ويأتي في مرتبة ثانية.

    المرتبة الثالثة: وهو أضعف حديثه ما يرويه المتأخرون من أصحابه، والأصل في ذلك الضعف، وقد ينجبر الحديث بوجود شواهد له، أو بوجود متابع قاصر، أو متابع تام لــعبد الله بن لهيعة، وله مثله في أبواب من روى عنه قبل اختلاطه وخاصة فيما كان من أبواب الاختصاص.

    أهمية معرفة اختصاص الرواة

    ومسألة الاختصاص ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها في أبواب الحديث.

    وثمة اختصاص يدفع الجهالة في حديث أبي قتادة في الهرة المتقدم، فغسل الأواني والاعتناء بشأن البيت للمرأة, إذاً: فهي تهتم به أكثر من الرجل، فنقلها للحديث من اختصاصها، وتفردها به من اختصاصها، وهذا أيضاً من القرائن التي تدفع الجهالة في هذا الباب.

    وكذلك بعض الرواة قد يكون ضعيفاً، ولكنه من أهل الاختصاص فيما يروي؛ كأن يكون مثلاً مؤذناً، إماماً، قاضياً, ونحو ذلك، أو يكون اختصاص في غير عمله بالعلم الذي اختص به؛ كأن يكون فرضياً، أو يكون مجاهداً، أو يكون تاجراً ديناً فيهتم بمسائل البيع والشراء ونحو ذلك، أو يكون من أهل الاختصاص بشخص، فيهتم بمرويات راو؛ كحال سعيد بن المسيب وهو من الأئمة الكبار, فإنه حيث يروي عن عمر تغتفر الجهالة بينهما، لقوة عنايته بفقه وأقضية عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى.

    فلهذا يقال: إن أبواب الاختصاص مهمة كما في حديث عبد الله بن لهيعة حيث قلنا: بأن أعلاها ما كان مختصاً به وهو في أبواب القضاء، ولو سبر الناقد أحاديث عبد الله بن لهيعة في أبواب القضاء لوجد أنها أمثل وأهون الضعيف في حديث عبد الله بن لهيعة , وإن كان سائر حديثه داخلاً في دائرة الضعف، ولكن هذا هو الذي يتساهل في قبوله، ويعضده أي عاضد، ولو كان موقوفاً أو مقطوعاً ونحو ذلك, فيقال: إن هذا الحكم مما يعمل به ويستأنس به الإنسان، فيجد أصلاً يعتمد عليه في هذا الباب.

    ولهذا يقال: إنه ينبغي لطالب العلم أن يعتني ويهتم في أبواب الاختصاص.

    والاختصاص لا حد له، فهناك اختصاص في الرواة، واختصاص في البلدان أن يكون من بلده، فمدني يروي عن مدني، وخالفه في ذلك بصري ونحو ذلك، والمدني من أهل ذلك البلد ومستديم فيها، وذلك لوجود قرائن عديدة أنه سمع الحديث منه أكثر من مرة، خاصة في بلدان الناس في السابق، فإنك تجد البلدة الواحدة يسكنها الألف والألفين والثلاثة، يعني: أشخاص معدودون، وربما أقل من ذلك، فيلتقي به أكثر من مرة، ويحدث عنه، وربما سمع حديثه عنه بواسطة آخرين ونحو ذلك، فرسخ في ذهنه أنه ضابط، فجاء والحديث من غير هذا الوجه, فأكد تلك الرواية الأولى ونحو ذلك، فكان ثمة قرائن تدل على ضبط أهل الاختصاص لذلك، وهو أيضاً في أبواب الشيوخ، وأبواب المتون.

    ومنها ما لا يمكن أن يتحصل للإنسان إلا بالسبر، وأصعب ذلك وأشده هو أبواب المتون، وهو أن بعض الرواة يكون من أهل الاختصاص بالطهارة، ولا تعرف أنه من الاختصاص في أبواب الطهارة إلا أن تكون من أهل النظر في فقهه، فتكون مثلاً ممن يعرف فقه عكرمة ، وهو يعتني بأي باب من أبواب الأحكام، فهو من أهل الفقه، لكن لماذا تجد أن ستين بالمائة أو سبعين بالمائة من فقهه في باب كذا؟ هذا لأنه اختص بهذا الباب، والنفوس إذا تشوفت إلى باب من الأبواب ضبطته؛ كالذي يعتني بالشعر وحكايات الأولين ونحو ذلك, فتجده يعتني بذلك، بخلاف غيرها من أمور الناس، وإن كانت آكد منها.

    ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يعتني بالمتون وتباينها من جهة قبولها وردها، فأحاديث الأحكام قوية، فينبغي أن يحترز فيها أكثر من احترازه في غيرها, وأن يعتني في اختصاص الرواة في أبواب دون غيرها.

    ومن أبواب الاختصاص الرجل حينما يروي شيئاً يخصه، ولكن خصيصته في ذلك من بعيد؛ فالرجل اليمني الذي يروي أحاديث في فضل اليمن، هذا من خصائصه، ولكن حينما يروي كوفي حديثاً في فضائل اليمن ولا يوجد عند اليمنيين فيقال: إن هذا من قرائن التعليل؛ لأن هذا ليس من خصائصك، وأنت متوسط الحفظ، وأما من كان في درجته وهو يمني، فيقال: إن أهل البلدان لا يهتمون بفضائل الكوفة وهو شامي، أو بفضائل مصر وهو شامي ونحو ذلك إلا على سبيل الاختصاص، كإنسان يختص في أمور البلدان ونحو ذلك وهذا أمر نادر في الناس.

    وعلى هذا فحديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى يقال: الأصل فيه الضعف، ولكن جاء له شواهد عديدة من غير هذا الاختصاص، أعني: في مسألة طهارة الثوب ولو بقي أثره بعد غسله، فجاء في ذلك حديث أسماء ، وحديث عائشة عليها رضوان الله تعالى في: ( أنها تغسل عنه أثر الدم ).

    وجاء موقوفاً ما يعضد العمل بهذا الحديث من حديث معاذة العدوية كما رواه الدارمي والبيهقي في كتابه السنن من حديث معاذة العدوية عليها رضوان الله تعالى أنها قالت: سألت عائشة عليها رضوان الله تعالى عن الحيض يصيب الثوب ويبقى أثره، فقالت: أزيليه بصفرة، وهذه الصفرة هل تريد بذلك نوع من الطيب ونحو ذلك تزيل الأثر؟ أم المراد بذلك جمال المرأة، ولكن إزالة الأثر بمثل ذلك هذا لا يعني إزالة للنجاسة، فالعين موجودة، ولكن المراد بذلك هو مزيد تجمل في هذا, فنقول: إن عائشة عليها رضوان الله تعالى جاء في رواية عنها أنها قالت: ( إن الماء طهور )، يعني: أن الماء قد طهرها، وأما ذلك الأثر فإنه لا يضر، وإسناده عن عائشة عليها رضوان الله تعالى صحيح.

    وبهذا نقول: إن هذا الحديث يعمل به وهو في ذاته ضعيف، لكن جاء ما يعضده من جهة المعنى العام، من غير تخصيص الأثر وإنما هو غسل ما يرى من عين النجاسة من الحيض والعذرة ونحو ذلك كما جاء في حديث أسماء وعائشة.

    كذلك أيضاً فإن الناظر إلى حال الأوائل يجد أن آثار الدماء لا تزول، بخلاف ما من الله عز وجل به في أحوال كثير من الناس في الزمن المتأخر؛ فإنهم يغسلون النجاسة ويزيلون أثرها، أما الدم فيشق على الأوائل، فإذا أصاب الثوب خاصة المرأة التي تبقى في حيضها سبعة أيام، سبعة أيام في حيضها ويصل الدم إلى ملابسها، وليس هو الدم العارض الذي يزال، وإنما يبقى طويلاً في ثوبها، ويعسر عليها أن تغسل كل لحظة ونحو ذلك، ولهذا يقال: إن الدم إذا بقي على ثوب الإنسان يوماً أو يومين ونحو ذلك فإن هذا يصعب في إزالة الأثر، وأما إزالة العين فإنها تزول، ولهذا يقال: هذا من قرائن الحال، باعتبار أن الأصل في ذلك دفع المشقة، والتيسير في هذا الأمر، والمشقة واردة عندهم، فيقال: حينئذ باغتفار ذلك, وهذا مما يعضده.

    1.   

    حديث: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه)

    والحديث الرابع: حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ).

    وهذا الحديث قد رواه الإمام مسلم في كتابه الصحيح قال: حدثنا علي بن حجر حدثنا علي بن مسهر عن الأعمش عن أبي صالح و أبي رزين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تفرد بهذه اللفظة: ( فليرقه ) علي بن مسهر , ويرويها عنه علي بن حجر عند الإمام مسلم .

    وقد صدر الإمام مسلم هذا الحديث في كتابه الصحيح في الباب، و علي بن مسهر وإن كان من الثقات الحفاظ إلا أنه تغير بعدما فقد كتبه كما ذكر ذلك الإمام أحمد عليه رحمة الله، قال: فإن توبع على شيء -يعني: بعد تغيره- وإلا فلا يقبل حديثه.

    وتفرد بهذه اللفظة: (فليرقه) وهو في طبقة متأخرة، والطبقة المتأخرة لا تحتمل منها الزيادة في الألفاظ, باعتبار البعد عن تعدد الرواية, والتي يقبل منها في الأغلب الزيادة في الألفاظ هي الطبقات المتقدمة جداً من علية التابعين، ويضعف هذا الأمر كلما تأخر، ففي الطبقات المتأخرة من التابعين وأتباع التابعين يضعف شيئاً فشيئاً حتى لا يكاد الإنسان يقبل شيئاً من زيادات المتأخرين خاصة من طبقة علي بن مسهر ، ولهذا تجد الأئمة عليهم رحمة الله ينكرون هذه الزيادة، فأنكرها الإمام النسائي وقال: علي بن مسهر لا يوافقه في روايته على هذه اللفظة أحد، وكذلك حمزة الكناني و ابن منده وجماعة من الأئمة، ولكن هذه الرواية وإن كانت من جهة المعنى مقتضاها ظاهر في الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه، ثم ليغسله سبعاً )، الإراقة هنا لا بد منها؛ لأنك لا يمكن أن تغسل الإناء إلا وقد أفرغت الماء، وإنما قلنا بالتعليل لوجوه:

    الوجه الأول: أن العلماء الذين يقولون بصحة هذه الرواية يستدلون بها على نجاسة الماء الذي ولغ فيه الكلب، وعلى هذا فلا يستفاد منه على سبيل المثال في غسيل لباس، أو برش أرض ونحو هذا، وسواء كان الماء قليلاً أو كان كثيراً.

    الوجه الثاني: أننا في تضعيف هذه الرواية وبيان حكمها ندفع لفظاً لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا نكاد نجزم به، وإن كان قد صحح هذه اللفظة غير واحد من الأئمة، فقد أخرجها ابن خزيمة في كتابه الصحيح، ولم يتكلم عليها، وصححها أيضاً جماعة من الأئمة كـابن الملقن وغيره، والصواب في ذلك أنها منكرة، وهي زيادة قد تكون مدرجة في اللفظ، أو رواها الراوي بالمعنى، ولا تظهر أنها في رواية الحديث، أو ربما فهم من السياق أنها متضمنة للإراقة ونحو ذلك، وهذا هو الغالب من أحوال الناس، أن الناس في الأغلب لا يحتاجون إلى الماء القليل ونحو ذلك, حيث تعافه النفس ونحو هذا.

    وتعليل الرواية لا يعني أن الإنسان يستفيد من ذلك الماء، وإنما قد تعافه النفس فيراق هذا الماء ولا يحتاج إليه، لكن نقول: إنه لا حرج عليه أن يستفيد من الماء برش أرض أو بغسيل ونحو ذلك، والاحتياط في ذلك أولى؛ لأنه قد جاء عن جماعة من السلف الإراقة، نص عليه عطاء بن أبي رباح كما رواه عبد الرزاق في كتابه المصنف من حديث ابن جريج عن عطاء أنه قال: أريقوه، يعني: ما ولغ فيه الكلب من اللبن وغيره، وبهذا نعلم أن ما ولغ فيه الكلب سواء كان ماء أو غير ذلك فيراق, وبهذا نعلم أن هذه اللفظة إنما أعلت لسبب أنه تفرد بها علي بن مسهر ، و علي بن مسهر من طبقة متأخرة، والمتأخر لا تحتمل منه الزيادة.

    وهنا إشكال وهو لماذا أخرجها الإمام مسلم في كتابه الصحيح وصدرها في الباب؟

    والجواب أن نقول: إن الإمام مسلم له منهج في كتابه الصحيح في إخراجه للأحاديث، فتارة يخرج ألفاظاً ويريد إعلالها، ولكن الإمام مسلم لا يخرج حديثاً بكامله معلولاً، فهذا ليس منهج الإمام مسلم , بل ينافي مقصده من تأليفه الصحيح؛ لأنه ما ألف كتابه إلا لأجل جمع الأحاديث الصحيحة، ولكن الألفاظ قد يخرج لفظة ويريد إعلالها، ويعرف ذلك بقرائن، ومن هذه القرائن أن الإمام مسلم يصدر في بابه الحديث الصحيح، ثم يورد بعده الألفاظ المتباينة التي تخالفه، فتكون دونه في المرتبة، وقد تكون صحيحة وقد تكون معلولة.

    ومن ذلك أيضاً: أن الإمام مسلم إذا أورد لفظة وهي فرد في الباب، ولم يورد معها غيرها فإن الإمام مسلم يريد بذلك التصحيح قطعاً، وهذا ينبغي أن ينتبه إليه، فما أخرجه مسلم في كتابه الصحيح ولم يخرج معه في بابه غيره فإن هذا مقتضاه التصحيح لهذا الحديث، وهذه اللفظة.

    ولا يخالف هذا صنيع الإمام مسلم أنه أخرج هذا الحديث في أصل الباب، في حديث أبي هريرة قال: ( فليرقه )، ثم أورد بعد ذلك الألفاظ الكثيرة في هذا الحديث، ووضع اللفظة في أوله؛ فنقول: السبب -والله أعلم فيما يظهر- أن الإمام مسلم إنما أورد اللفظة الأولى؛ لأن الألفاظ الصحيحة في ذلك التي تبين إعلالها مناسبة إيرادها بعدها من باب أولى؛ لأن تفرد علي بن مسهر بروايته في هذا الحديث عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي رزين عن أبي هريرة يحتاج لبيان هذا العلة إلى إيراد حديث أبي هريرة من طرق متكاثرة, حتى تبين هذه العلة، ووفرة الحديث يختلط صحيحه من ضعيفه، لو أن الإمام مسلم أورد حديث مالك بن أنس عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة: ( إذا شرب الكلب في إناء أحكم فليغسله سبعاً ) في الباب فثمة طرق كثيرة في هذا الباب، وقد أوردها مسلم في كتابه الصحيح فتختلط مع هذه الرواية، فلا يعلم هذا صحيح أم ضعيف، فلما كانت هذه الروية فرداً جعلها في الباب وجعل كل ما عداها صحيحاً، وهذا مسلك الإمام مسلم فإنه يفعله في الأحيان، وهذا يحتاج إلى كلام فقهي في هذا الباب في مسألة الإراقة والعمل بها، وقد يستأنس به الإنسان في مسألة التعليل، وهذا يرجع فيه إلى مظانه.

    أسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق، والإعانة، والسداد.

    1.   

    الأسئلة

    حكم الدم الخارج من العروق من حيث الطهارة والنجاسة

    السؤال: الدم الذي يخرج من العروق, هل قال أحد من العلماء بنجاسته أو بطهارته؟

    الجواب: جاءت ألفاظ مقتضاها القول بالطهارة عن جماعة، فجاء هذا عن الحسن البصري في قوله: ما زال الناس يصلون بجراحاتهم، وجاء في حديث أسامة: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مص دمه بفيه ثم مجه )، لو قلنا: بالنجاسة فلا يمكن أن يأخذ النجاسة ثم يمجها وهو ليس بحاجة إليها، وخاصة أن العلماء الذين يقولون بنجاسة الدم يشددون في ذلك ويقولون: إنه شبيه بالبول، ويغتفرون باليسير من ذلك.

    وجاء في ذلك جملة من الآثار عن عبد الله بن عمر و أبي هريرة ، فجاء من حديث نافع عن عبد الله بن عمر أنه عصر بثرة في وجهه وظهر الدم وهو يصلي.

    وجاء في حديث أبي هريرة أيضاً, وجاء من حديث سالم عن عبد الله بن عمر بنحو هذه المعنى والدلالة، وبعض العلماء الذين يقولون بإجازة الدم، يقولون: إن هذا محمول على الدم اليسير.

    وإذا قلنا بنجاسة العين، فالأصل عدم التفريق بين القليل والكثير فالنجس نجس قليله وكثيره، ولهذا تجد الشارع حينما تكلم على بول الغلام وبول الجارية ما أعفى من الغسل والرش حتى بول الغلام والجارية، سواء فرقنا أو لم نفرق، والمسألة في هذا خلاف، ومن العلماء من حكى الإجماع على التفريق، كما حكاه إسحاق بن راهويه في مسائل الكوسج، ونقل عنه أنه قال: بالإجماع، أي: الإجماع على التفريق بين بول الغلام وبول الجارية، وإن كان بعض العلماء يعل هذه الأحاديث كما هو ظاهر صنيع البيهقي عليه رحمة الله في كتابه السنن، فإنه أعل حديث أبي السمح وحديث علي بن أبي طالب في هذا الباب.

    والذي يظهر لي -والله أعلم- طهارة دم الإنسان.

    القائلون من الصحابة بطهارة الدم

    السؤال: [ من من الصحابة قال بطهارة الدم ]؟

    الجواب: الإشكال في هذا أنه يوجد من الأئمة من يقول بقول ثم يُظن أن هذا القول هو قول سائر الأئمة الأوائل، لو سألت من قال من الصحابة بنجاسة الدم؟ لم تستطع أن تأتي بواحد، ولهذا يقول: من قال بطهارة الدم أو بطهارة كذا، أكثر الناس يسألني هذا السؤال ولا يسأل العكس، من الذي قال بالنجاسة؟ ابحث؛ لأن هذا هو الأصل، وأنت ناقل عن الأصل، فتحتاج إلى هذا الأمر. ولا من التابعين، وأما من قال بمسألة الإجماع فإنه يستدل بعمومات كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تدل على هذا مقتضيات الأفعال في كلام الصحابة وفي جراحاتهم التي لا يخلون منها، كذلك أيضاً في التابعين يفتقر هذا إلى بيان, فقد يقول قائل: إن هذا من المسلمات, فنقول: هو من المسلمات، ولكنه لا يكون أشد تسليماً من البول, ومع ذلك جاءت نصوص كثيرة، مع أن الإنسان المسلم والكافر ليس بحاجة إلى بيان نجاسة البول؛ لكن لماذا جاءت نجاسة البول بهذه الكثرة والوفرة والغسل منه ونحو ذلك؟

    هذا قد يكون لأمرين: إما لكثرة وروده على الإنسان، فيحتاج الاحتياط فيه، فنقول: هذا يتعلق بمسائل التنزه، لا بمسائل النص على التنجيس، وينصون على هذا كثيراً, حتى في الأشياء اليسيرة.

    كذلك ما يتعلق بمسألة الجهاد في سبيل الله، وأنهم يذهبون ويخرجون، ولم يأت دليل الاحتياط في مسائل الجراحات، وكذلك في أسفارهم, فالإنسان لا بد أن يجرح خاصة في أحوال السابقين، تجد أنهم لا أحذية لهم، وخفافهم مشققة، وكذلك ما يجدون من لأواء وشدائد من بناء الدور، وحفر الآبار ونحو ذلك، وتقع منهم جراحات، ولم يرد الاحتراز في ذلك، أو أن أحداً قطع صلاته لوجود دم ونحو ذلك، فلا يوجد احتياطات في هذا عن بعض السلف كما جاء عن عبد الله بن عمر.

    تأثير القصة على ضبط الحديث إذا وردت فيه

    السؤال: [ هل تؤثر القصة على ضبط الحديث إذا وردت فيه ]؟

    الجواب: بلى، قد ذكر الإمام أحمد عليه رحمة الله هذا، وأنه في حال ورود قصة في الحديث أن هذا يعين على الضبط؛ فحينما يأتي الإنسان ويحكي حادثة أمامه، فلان أتى إلى فلان، ثم ذهب وفعل كذا، وتكون هذه الحادثة مدتها عشر دقائق، فيحكيها للإنسان دقيقة، وهو ضعيف في الحفظ، ولكن حينما يحدث نصف دقيقة فإنه لا يستطيع أن يأتي بالألفاظ كما هي، فالقصة يضبطها الإنسان، ويضبط ما فيها، وهذا من القرائن التي تدل على أن الرواية إذا اقترنت بقصة فإنها تدل على ضبط الراوي وشدة انتباهه لها.

    المراد بالأم إذا قال الراوي حدثنا فلان عن أمه..

    السؤال: [ يقول الراوي عن أمه هل المراد بها أمه من الرضاعة ]؟

    الجواب: لا, ما يظهر هذا؛ لأنه قد يقال: يُلتمس وجه آخر, ممكن أن يقال: إنها قد تكون أمه من الرضاعة، لكن لا يطلقونها، فتؤخذ على ظاهرها، إلا على شخص يعرف، خاصة أبواب الرواية الذين يحدثون بهذا لا يعلمون لفظ الأم إلا أم النسب فيحترزون في هذا، وخاصة الإمام مالك هو شديد في أبواب الأسانيد.

    كيفية سبر حديث الراوي

    السؤال: [ كيف يتم سبر حديث الراوي ]؟

    الجواب: أما سبر حديث الراوي على الطريقة التي كان العلماء يسبرون فهذا محال، ولكن السبر على الطريقة التي يستطيع الإنسان أن يوجد الأحاديث فيها، خاصة في زمننا يستطيع أن يجمع الأحاديث أو أن يكون لديه محفوظات فيستحضر مجموعة من الأحاديث لفلان ويسبرها، ولا يلزم من ذلك السبر التام لجميع الأحاديث، فقد يكون للراوي مثلاً مائتا حديث, أو له مائة أو مائة وخمسون، فيسبرها، فينظر هل متونها مستقيمة؟ وأما استقامة المتن فلا يمكن أن يصح لدى الإنسان إلا إذا كان لدى الإنسان ملَكة علمية؛ لأنك إذا أردت أن تسبر على سبيل المثال أحاديث شريك بن عبد الله أو شهر بن حوشب فإنك تجد حديثاً في الطهارة, وحديثاً في الزكاة، وحديثاً في الحج، وحديثاً في فضائل الأعمال، كيف تستطيع أن تميز أن هذا الحديث موافق لأحاديث الباب أو ليس بموافق، أو منكر أو ليس بمنكر؟ لا بد أن يكون لديك ملَكة في التمييز، وهذا هو الذي يفقده كثير من الناس من المتأخرين، حتى من أهل العلم الذين يتكلمون في أبواب الأحاديث، فهذا لا يمكن أن يتحقق، كما كان عند الأئمة الأوائل بمعرفتهم لفتاوى السلف، وكذلك عمل أهل البلدان، وهذا من المسائل الدقيقة؛ فتجد مثلاً أهل الكوفة لديهم فقه ولديهم مدرسة، وتجد المدنيين لهم فقه ولديهم مدرسة، فسبر أحاديث الراوي مرتبط بفقه البلد، ولا يمكن أن يكون راو يروي حديثاً في مسألة والإسناد صحيح ثم يفتي بغيره, وأهل بلده يفتون بغيره؟ لا يمكن، فتعرف هذه النكارة أحياناً تنكر الحديث وتقول: فتوى أهل الكوفة تخالف رواية فلان عنهم، مع أنه ليس فتوى هو حديث، فتعل هذا الحديث حديث الكوفيين؛ لأنهم لا يعملون به، لأن الأصل في أهل العلم أنهم أصحاب ورع، ولا يمكن أن يكون الحديث في الكوفة ولا يؤثر في نفس من نفوسهم إلا وقد مالت للحق؛ لأن المسألة دين.

    وكذلك أيضاً في أبواب المدنيين والمكيين، لكن لو علم الفقيه أن عمل المدنيين في مسألة من المسائل كذا، ثم وجد إسناداً بصرياً يفتي بكذا, فنقول: ممكن, أن يصح هذا، أما لو كان نفس الإسناد، ولديك إلمام بفقه البصريين فتعله، وهذا ما لا تستطيع أن تفصح به على سبيل اليقين للسامع، فالسامع لا تستطيع أن تدلل له المدلول الذي أخرجت به أن هذا الإسناد منكر، وهذا الداعي لكلام كثير من العلماء كـأحمد و ابن معين أنهم يكتفون بقولهم: هذا الحديث منكر، والتدليل في ذلك مرجعه إلى السبر، والسبر صعب أن يعبر عنه، ولو أراد الإنسان أن يعبر عنه لاحتاج إلى ساعات أو أيام طويلة، حتى يبين لك هذا الأمر، وهو حصيلة العلم الشرعي الذي أخذه وانتقل به إلى البلدان.

    رواية المجهول إذا وجد لها شاهد

    السؤال: [ ما حكم تفرد المجهول بحديث له شاهد إذا روى حديثاً أو حديثين غيره ]؟

    الجواب: هذا نادر؛ لأن المجهول وإن روى أحاديث معدودة، فهو من جهة الأصل مجهول، وإن روى اثنين ثلاثة أربعة خمسة يصل إلى عشرة ممكن بطريق واحد أخذ عنه هذا الأمر، أو يوجد في النسخ والنسخ مغتفرة تخرج من هذا الأمر؛ لأنها إذا صحت النسخة ولو كان الراوي مجهولاً، فهذه تقبل إذا علم أنه ضابط لها، فيقال: هذا باب ضيق جداً لكنها تؤثر، إذا قلنا: اثنين أو ثلاثة ما ضبطها فتؤثر فيه؛ لأنها من جهة الأصل روايته ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو أكثر من ذلك بقليل، الواحد والاثنين تؤثر بها فتسقط.

    أحياناً الرواية الواحدة تفتك بخمسمائة لشناعتها وبشاعتها، ولهذا يحيى بن معين لما وقف على رواية أحد الرواة منكرة، قال: هذه تطرح خمسمائة حديث لشدتها؛ لأنها مصيبة, ولا يمكن لشخص أن يحدث بمثل هذا الشذوذ، مع أن لديه البقية منضبط، وهذا ينظر فيه إلى شدة النكارة، فالنكارة مراتب، المخالفة مراتب، وكذلك الخبر في بابه على مراتب، في أبواب الأحكام الشذوذ يطرح أكثر من النكارة وفي أبواب الفضائل وهكذا.

    وصل الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767573461