إسلام ويب

منهجية دراسة فقه الأئمة الأربعةللشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جاءت الشريعة الإسلامية مبينة لكل شيء ومفصلة للأحكام التي يحتاجها الناس، وكان خير من فهم هذه الشريعة هم الصحابة الذين كانوا العمدة في تبليغها ونقلها للأمة، ثم التابعون بعدهم، ثم نشأت بعد ذلك المدارس الفقهية المشهورة التي اعتنت بالفقه الإسلامي، وأخرجت للأمة ثروة فقهية عظيمة، وهذه المدارس هي مدرسة الإمام مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة رحمهم الله.

    1.   

    تفصيل الشريعة الإسلامية واستيعابها في بيان الأحكام

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذا الدين ميسوراً وسهلاً لمن أراد الوصول إليه فهماً وتدبراً، وقد يسره الله عز وجل بجملة من الميسرات، فأنزل الله عز وجل كتابه بلسان عربي مبين، وجعل بيانه إليه، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة:19]، وجعل كتابه سبحانه وتعالى مفصلاً ومحكماً، الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1]، جعل سبحانه وتعالى هذا الكتاب العظيم مفصلاً مبيناً، مقيماً للحجة لكل قاصدٍ لها، وجاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مبينة لكلام الله، مما أجمل فيه وما كان عاماً فإنها تخصصه، وما كان مطلقاً فإنها تقيده، فبينت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان غائياً وعاماً في كلام الله، وبينت ما خرج عن كليات كلامه سبحانه وتعالى، فجاء كلام الله جل وعلا لتقعيد أمور الدين، وتأصيلها، وبيان الكليات التي يحتاج إليها الإنسان في معرفة أحكام الدين.

    جاءت هذه الشريعة كتاباً وسنة تبياناً وتفصيلاً لكل شيء، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاعته كما أمر بطاعة ربه جل وعلا، وأمر الله بطاعة رسوله كما أمر بطاعته، فقرن الله طاعة نبيه بطاعته كما في قول الله جل وعلا: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء:59]، فقرن الله الطاعتين مع بعضهما، ومن خرج عن طاعة الله خرج عن طاعة رسوله، ومن خرج عن طاعة رسوله خرج عن طاعة ربه، وما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لم يأتي بالنص في كلام الله سبحانه وتعالى فهو وحي من الله، ولهذا قال الله جل وعلا: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

    وأمر عليه الصلاة والسلام بالتمسك بسنته وهديه وما جاء عنه، كما جاء في كثير من الأحاديث، وحذر من مخالفة أمره وأمر ربه، وهذا ظاهر في كلام الله سبحانه وتعالى في قول الله جل وعلا: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، وجاء هذا في قول الله جل وعلا: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153]، وهذه الأوامر من الله سبحانه وتعالى لطريق محمد صلى الله عليه وسلم الذي لا يجوز لأحد أن يخرج عنه مدعياً أن ذلك من دين الله، ومن جاء بشيء ونسبه إلى الدين، ولم يكن له مستند في ذلك من كلام الله أو كلام رسول الله أو شيء من الأصول العامة التي دل على عمومها كلام الله وكلام رسول الله فقد أحدث وابتدع، وقد جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ).

    لهذا وجب على الإنسان أن يتقي وأن يحذر من البدع المحدثة، وحذره من البدع المحدثة لا يمكن أن يتحقق إلا بمعرفة الحق، فإن الإنسان لا يتوقى الباطل إلا وقد عرف الحق وسلكه، ولا يمكن للإنسان أن يسلك الحق إلا بمعرفته بحدوده وحدود الباطل الذي يحده عن يمينه وشماله، فالحق البيّن الظاهر يتنازعه كثير من الناس استيعاباً، فمنهم من يعرف كثيراً منه، ومنهم من يعرف بعضه، ويختلف الناس في ذلك قلة وكثرة، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير قال: ( الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس )، قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يعلمهن كثير من الناس) إشارة إلى أن الكثير أو الأكثر لا يعلمون أمثال هذه المواضع، ومردها إلى أهل العلم، وما قال: لا يعلمها الناس؛ لأن الأصل في الشريعة أنها بيّنة محكمة، وأن البيان والإحكام هو الأصل في الشريعة، وأن جهل الإنسان بالمتشابهات لا يجعله مخيراً باتباع ما يشاء منها، باعتبار عدم وجود علم بيّن فيها، وهذا الفيصل فيه في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ).

    هذه الشريعة وهذه الحدود تبين طريقة اليمين، وهي الحلال، وطريقة الشمال وهي الحرام، وما كان خليطاً بين ذلك مما يشتبه على الإنسان وتردد بينه، والبينية في ذلك قد تقرب وتدنو من الحلال، وقد تقرب وتدنو من الحرام بحسب القرائن المحتفة بها، إما أن يكون ذلك مبنياً على أصل والأصل في ذلك الحل، أو الأصل في ذلك التحريم، أو وجود شيء يشتبه بين الأمرين فيتنازعه الطرفان، فيشكل على الإنسان معرفة ذلك، ويدخل في هذا كثيراً هوى النفس ورغباتها بتسويل شيء من المعاني فيميل الإنسان إليها.

    الكلام حول هذه المعاني مما يطول، ولكن أردنا بهذه المقدمة أن نبيّن أن الشريعة الأصل فيها الإحكام والبيان والظهور والجلاء، وأن الله سبحانه وتعالى جعل القصد من إنزال الكتاب وإرسال الرسل هو هذا الأمر، حتى إن الأصل من الشريعة أنها بمجرد السماع والإنزال والقراءة يتضح للإنسان الأمر، ولهذا قال الله جل وعلا لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]، وما قال: بيّن له واشرح له، باعتبار أن أصل السماع يفهم به الإنسان، وأن الذي لا يفهم هذا من الأمور النادرة لبعض الأسباب التي قد اقترنت به، إما لضعف في المدارك العقلية، وإما لضعف علم الإنسان بلغة العرب، أو لشيء آخر في هذا الأمر، إما لإعراض النفس، أو عدم رغبتها، وهذه مراتب الذم فيها متفاوتة بحسب حال الإنسان وقصده.

    1.   

    أمان الصحابة لأمة الإسلام

    والشريعة كما تبين أن الأصل فيها هو كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء بعد ذلك حملة الشريعة والنقلة وهم أصحاب رسول الله الذين هم الأمان لهذه الأمة، وهم حملة الفقه ونقلته إلى هذه الأمة، الصحابة عليهم رضوان الله تعالى كثر، وقد قال أبو زرعة رحمه الله: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مائة وأربعة عشر صحابياً وصحابية، وما كان قبل ذلك فمات قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه، والصحابة عليهم رضوان الله تعالى مفرقون وهم على مراتب من جهة فضلهم، ومن جهة أيضاً ما استوعبوه من علم الشريعة، من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا الصحابة عليهم رضوان الله من جهة علمهم وفضلهم ينظر إليهم من جانبين:

    الجانب الأول: القدم والسبق في الإسلام.

    الجانب الثاني: ينظر إلى ملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وهذان الجانبان إذا توفرا في صحابي فهو مقدم على غيره، ولهذا يتفق الأئمة عليهم رحمة الله على أن أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم البدريون، ثم الأحديون، يعني: الذين شهدوا أحد، ثم الرضوانيون الذين شهدوا بيعة الرضوان، وعلى التفصيل الثنائي يقال: إن من أسلم قبل الفتح أفضل ممن أسلم بعد الفتح، وذلك لقدم العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى في حال ضعفه وقلة الناصر له كانوا حوله، فنزلت الشريعة من جهة المجمل، ونزل التفصيل وهم شهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ويدخل في المتقدمين في هذا العشرة المبشرون بالجنة، وأولهم الخلفاء الراشدون الأربعة أبو بكر و عمر و عثمان و علي بن أبي طالب عليهم رضوان الله، والصحابة عليهم رضوان الله من جهة المجموع مما لا شك فيه أنهم أهل فقه، وفقههم يعتمد على سليقتهم وعربيتهم التي يدركون بها كلام الله بداهة من غير بيان، ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمان لهذه الأمة بوجود هذا الجيل وهذا الجمع، يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث أبي موسى في الصحيح قال عليه الصلاة والسلام: ( النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون )، والأمان المراد به في هذا هو ما يتبع نقص العلم، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم جعل الأمان في آخر الزمان ينقص بنقصان العلم، ولهذا من نظر في أحاديث أشراط الساعة يجد أن سبب اضطراب الفتن مقترن بنقص العلم، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم ويظهر الجهل وتكثر الفتن ).

    إذاً: ثمة تلازم بين ظهور الفتن وقلة العلم وظهور الجهل، وهذا لازم للخوف، ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل وجود هذا الجيل أماناً لهذه الأمة لما أدركوه من كلام الله وكلام رسول الله، فكانوا على بينة ومعرفة بمقاصد التنزيل، لهذا نقول: إن الخوض في مسائل فقه الصحابة عليهم رضوان الله هو مما يطول جداً، ومما يحتاج إلى مجالس، كذلك الطبقة التي تليهم من التابعين، وليس هذا هو المراد في مجلسنا هذا، وإنما المراد أن نتكلم على المدارس الفقهية المشهورة، وهي فقه الإمام مالك و أبي حنيفة و الشافعي والإمام أحمد عليهم رحمة الله.

    نتكلم على هذه المدارس، وكذلك مصادرها، وكذلك أصحاب هؤلاء الأئمة ومعرفة مواضع أقوال هؤلاء الأئمة وأصحابهم من نقلة الفقه عنهم، والمدارس التي نشأت عن ذلك تبعاً لهؤلاء الأئمة، والمصنفات المعتمدة في الفقه عن هؤلاء الأئمة سواءً مما دونها هؤلاء الأئمة بأنفسهم، أو من دونها من أصحابهم ممن كان قريب العهد بهم، أو كان بعد ذلك، والبلدان التي تنتشر فيها هذه المذاهب.

    1.   

    فضل فقه الصحابة على غيرهم

    ولكن ينبغي قبل الكلام في هذا أن نشير إلى أن ما جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العمدة في نقل الدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويظهر هذا بنصوص كثيرة مستفيضة بالوصية بالصحابة ووجوب الرجوع إليهم، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في المسند والسنن من حديث العرباض بن سارية قال: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور )، فجعل النبي عليه الصلاة والسلام سنة من بعده مرتبطة بسنته، وأن الفضل إنما لحق لمن جاء بعده بسبب فضله، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين )، فإن التابع لم يكن له هذا الفضل إلا لفضل المتبوع، والمتبوع هو محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا نقول: كلما قرب الإنسان زمناً من النبي عليه الصلاة والسلام كان أنقى فقهاً، وذلك لاعتبارات متعددة منها: سلامة اللسان، وكذلك سلامة الدين، كذلك قلة الدخيل في ذلك من آراء الرجال، فإنه كلما قرب الإنسان زمناً قل ذلك، وكلما تأخر زادت الآراء في هذا الفقه، ولهذا نقول: إنه ينبغي لطالب العلم أن يعتني بفقه الصحابة.

    والصحابة الذين نقل عنهم الفقه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقل عنهم الفتوى هم مائة وخمسة وتسعون صحابياً متفرقون في البلدان، ومما لا خلاف فيه عند العلماء أن رأس هؤلاء الفقهاء هم الخلفاء الراشدون الأربعة، وأن أولهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ، ثم علي بن أبي طالب ، ثم يتباينون في ذلك على مواضع متعددة، ولهذا يقول ابن المديني رحمه الله: اجتمع الفقه بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في علي بن أبي طالب و عبد الله بن مسعود و زيد بن ثابت و عبد الله بن عباس ، ومنهم من يقول: ما هو أوسع في هذه الدائرة، كما جاء عن مسروق بن الأجدع أن الفقه اجتمع في عمر و علي و عبد الله بن مسعود و زيد بن ثابت و عبد الله بن عباس و أبي الدرداء ، وانتهى الفقه في ذلك إلى عمر و علي بن أبي طالب و عبد الله بن مسعود عليهم رضوان الله.

    1.   

    قواعد يحتاجها طالب العلم

    الصحابة عليهم رضوان الله يتباينون من جهة إدراكهم لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمور قدرية، منها جهة المكان الذي كانوا فيه، منهم من نأى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وذلك لمصالح شرعية مما يتعلق بالفتوحات والجهاد، ومنهم من كان عاملاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض البلدان فاستأثر بفضل واستأثر غيره بفضل، وكل على فضل وخير، وما نتكلم فيه فيما يتعلق في أمور الفقه، وهذا من الأمور الواسعة جداً من جهة تصنيفها، فالصحابة عليهم رضوان الله على مراتب، منهم من يعتني بأمور القضاء، ومنهم من يهتم بأمور الحلال والحرام، ومنهم من يهتم بأمور الفرائض والمواريث، ومنهم من يهتم بأمور المعاملات ونحو ذلك، ولكن يتفق العلماء على أن الخلفاء الراشدين الأربعة يقدمون في جميع الأبواب، ومنهم من يقدم ممن جاء بعدهم في باب دون باب، ومنهم من يعتمد في الفتيا على سبيل العموم، ويكون متسعاً في هذا الباب كما هو الحال في عبد الله بن عباس و عبد الله بن مسعود ، ومنهم من يقدم في التفسير كـعبد الله بن مسعود ، ثم بعد ذلك عبد الله بن عباس ، وذلك فيمن كان بعد الخلفاء الراشدين، فالخلفاء الراشدون الأربعة جاوزوا القنطرة في هذا على كل أحد ممن جاء بعدهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، القضاة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة هم عمر بن الخطاب و علي بن أبي طالب و عبد الله بن مسعود و زيد بن ثابت و أبي بن كعب و أبو موسى الأشعري ، وهم على مدرستين: مدرسة عمر بن الخطاب ويتبعه في ذلك ابن مسعود و أبو موسى الأشعري ، ومدرسة علي بن أبي طالب ويتبعه في ذلك أبي بن كعب و زيد بن ثابت ، و زيد بن ثابت يأخذ كثيراً من الفقه عن أبي بن كعب عليهم رضوان الله.

    وهاتان مدرستان من جهة القضاء، إذا نظر الإنسان إلى ذلك وسبر أقوالهم يجد أنهم يتشابهون في أمور القضاء في هذا الباب، كما روى عبد الرزاق في كتابه المصنف ذلك عن معمر بن راشد عن قتادة بن دعامة السدوسي في قضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما ما يتعلق بمعرفة الحلال والحرام فإنهم يتباينون في هذا، والكلام في هذا مما يطول جداً، ولكن ثمة قواعد أغلبية في هذا الأمر ينبغي ضبطها قبل الولوج في مسألة مدارس الأئمة الأربعة عليهم رحمة الله.

    يكاد يتفق العلماء أن المدينة هي العمدة وعليها المدار، وأن العمل في أهل المدينة أقوى وأمتن من عمل غيرهم، وإنما يختلفون في حجية هذا العمل، وسبب ذلك أن الشريعة كتاباً وسنةً إنما أنزلها الله عز وجل على نبيه في المدينة، وأن ما خرج من ذلك من الوحي على رسول الله شيء قليل، إما شيء في مكة، وإما شيء بين ذلك، أو في بعض غزوات النبي عليه الصلاة والسلام كتبوك ونحو ذلك، وأما مجموع ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام من المفصل من معرفة الحلال والحرام، فإنه كان في المدينة.

    كذلك ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في مسائل الحلال والحرام، وكذلك ما جاء عن الصحابة فإن مجموعهم في المدينة، لهذا ينبغي لطالب العلم إذا أراد أن يتبصر وأن يتفقه في مسائل الدين أن يعرف مواضع الأحكام من كلام الله، وهذا أعلى مراتب الفقه أن يكون بصيراً بمواضع الأدلة من القرآن، وهي ما يسميه العلماء بآيات الأحكام في كلام الله، وكلام الله عز وجل -كما لا يخفى- هو على ثلاثة أنواع: توحيد بأنواعه وحلال وحرام، وقصص، والحلال والحرام هو ما يتعلق بأمور الفقه؛ لهذا ينبغي للإنسان أن يكون عارفاً بالأدلة من كلام الله، فلا يناسب أن يستدل أحد بشيء من الآثار أو بشيء من المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن الدليل ظاهر بيّن في كلام الله عز وجل، وهذا نوع من القصور عند العلماء.

    ولو ذكر طالب العلم شيئاً من الأدلة في السنة فحسن، لكن ينبغي ألا يغفل الأدلة الظاهرة من كلام الله سبحانه وتعالى إلا إذا كان الدليل عن النبي عليه الصلاة والسلام أصرح في ذلك وأبين، فإن هذه طريقة معتادة عند العلماء بإيراد الظاهر البين من السنة، وإغفال المجمل من كلام الله سبحانه وتعالى لاحتماله لأمرين متناقضين.

    وكذلك معرفة مواضع الآي والسور، فإن غالب ما جاء في أمور الحلال منها ما يتعلق بسور معينة، ومنها ما يتعلق ببعض الأجزاء، ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يعتني بهذا، وكتب تفسير آيات الأحكام كثيرة جدة وهي متوافرة، منها ما يصنف على المذاهب الأربعة، ومنها ما لا يصنف على المذاهب الأربعة، ككتاب أحكام القرآن للجصاص ، وأحكام القرآن لـأبي بكر بن العربي ، وأحكام القرآن للشافعي وتفسير القرطبي كذلك مليء بتفسير آيات الأحكام، وكذلك تفسير آيات الأحكام للقاضي أبي يعلى وغيرها من كتب التفسير.

    وكتب التفسير فيما يتعلق بآيات الأحكام هي أكثر وأشهر من هذه، ولكن هذه مما يشتهر عند العلماء على المذاهب الأربعة، إذا قلنا: إن أقوى الأعمال هو عمل المدينة، وذلك لأن العمل ورث عن رسول الله وعن الصحابة، وعن بيئة النبي عليه الصلاة والسلام، فكان العمل فيهم، والعمل إذا استقر في بلد يصعب أن يدخل فيه وأن يبدل، ولو بدل رأياً لكنه من جهة العمل لا يبدل، من جهة العمل يستقر على هذا الأمر، لهذا نقول: إن عمل المدينة مما ينبغي أن يقطع أنه يقدم على غيره في كثير من الأمور مما يتعلق بأحكام الصلاة، وما يتعلق بأمور المزارعة باعتبار أن أهل المدينة هم أهل زراعة، وكذلك فإن الصلاة مشهودة يرثونها واحداً عن واحد، ولهذا لا يكاد يوجد سنة لا تعرف عند المدينة في أمور الصلاة ثم يعرفها غيرهم مثلاً من المكيين، أو مثلاً من العراقيين والشاميين واليمنيين وغير ذلك، لهذا ينبغي لطالب العلم أن يكون بصيراً بهذه المدرسة عارفاً بها.

    لهذا الأئمة عليهم رحمة الله اعتنوا بهذا الأمر بفقه أهل المدينة، اعتنى بذلك الإمام مالك و أخذ واستوعب عمل أهل المدينة استيعاباً ظاهراً، والإمام الشافعي رحمه الله جاء إلى المدينة وأخذ عن الإمام مالك رحمه الله، وأخذ عن غيره، وكذلك الإمام أحمد عليه رحمة الله قدم إلى المدينة، وأخذ من علمائها.

    وأما بالنسبة لما يتعلق بالفقه الذي يلي هذا الجيل وهو جيل الصحابة عليهم رضوان الله، فينبغي أن نعلم أن الفقهاء من التابعين إنما أخذوا جلالة قدرهم ومنزلتهم من الصحابة؛ لأنهم ورثوا العلم، الصحابة عليهم رضوان الله ورثوا العلم، والعلم كلما قل نقلاً قل كدره، وذلك أن العلم كحال الماء، والحملة هي الأواني، والنبي صلى الله عليه وسلم أول إناء حمل هذا العلم فأفرغه في الصحابة، والصحابة أفرغوه في التابعين، والتابعون أفرغوه في أتباع التابعين، وهكذا كلما كثر إفراغاً كثر كدراً، لهذا ينبغي للإنسان أن يعرف الطبقات الأولى خاصة القريبة من الصحابة عليهم رضوان الله.

    لهذا ينبغي لطالب العلم أن يعتني بفقه التابعين، وفقه التابعين هو الفيصل بين الحقبتين، بين مدرسة الجيل الأول، ومدرسة الأئمة الأربعة، ولهذا لا يكاد أحد من الأئمة الأربعة إلا ويدرك من التابعين كالإمام مالك رحمه الله، وكذلك أبي حنيفة ، وكذلك الإمام الشافعي رحمه الله، وأما الإمام أحمد رحمه الله فأدرك أتباع التابعين، ولهذا نقول فيما يتعلق بهذه الحقبة الزمنية، وهي حقبة التابعين، ينبغي لطالب العلم أن يعرف المراتب فيها، أعلى المراتب على الإطلاق هي مراتب المدنيين، بل إننا نستطيع أن نقول: إن مجموع وليس كل مرتبة المدنيين في جميع طبقات التابعين وأتباع التابعين هي أقوى من سائري مراتب البلدان الأخرى سوى مكة إلا في طبقة الصحابة عليهم رضوان الله، وذلك لأن طبقة المدنيين هي طبقة منغلقة في الغالب على نفسها، ولا يأتيها دخيل بخلاف من كان من البلدان الأخرى، وذلك مثلاً كالشام والعراق واليمن وغير ذلك.

    كذلك فإن الفقهاء من المدنيين هم أكثر من أدرك الخلفاء الراشدين، إذا قلنا: إن الصحابة عليهم رضوان الله هم نقلة الفقه، وإن أقوى الصحابة هم الخلفاء الراشدون الأربعة، فأقوى من نقل عن الخلفاء الراشدين هم أهل المدينة الذين نقلوا عن الخلفاء الراشدين، والذين أدركوا الخلفاء الراشدين الأربعة أو بعضهم من المدينة قرابة ثلاثين فقيهاً من المدنيين أدركوا الخلفاء الراشدين أو بعضهم.

    أما بالنسبة للبلدان الأخرى فتجد البصرة يقربون من سبعة أو ثمانية، كذلك ما يتعلق بالكوفة وفي الشام ثلاثة أو أربعة، في اليمن لا يكاد يوجد أحد أدرك الخلفاء أو سمع من الخلفاء الراشدين، وهذا يدل على جلالة قدر أهل المدينة، فينبغي لطالب العلم أن يعتني بذلك، وهذا هو فرع عن العلم الذي جاء إلى هؤلاء الأئمة، فتجد كلما بعد الرجل عن معقل الإيمان ومعقل الوحي ضعف لديه في ذلك الأثر، واعتمد على الرأي لقلة الدليل، لهذا معرفة هذه الطبقة وهي طبقة التابعين وتمايزهم في هذا، وكذلك اختصاصهم مما يعطي طالب العلم ملكة في معرفة الترجيح، وأن الفقهاء عليهم رحمة الله في معرفة ترجيح الأدلة لا يعتمدون على الكثرة والقلة، وإنما يعتمدون على التميز والاختصاص، ولهذا قد تجد كثرة لدى قول يقولون: قال به فلان وفلان وفلان وفلان ويأتون بعشرة وعشرين، ولكن تجد مثلاً من المدينة اثنين وثلاثة وأربعة قالوا بهذا القول، فهؤلاء يقدمون غالباً على غيرهم، وذلك لأن هؤلاء اعتمدوا غالباً إما على عمل منقول، وإما على أثر لم ينقل، وذلك في الغالب هو أقوى من غيرهم.

    لهذا نقول: إنه ينبغي لطالب العلم أن يعرف ذلك العمل، وذلك العمل ينبني عليه أن يُعرف الفقهاء المتميزون من فقهاء المدينة، سواءً كانوا من الفقهاء السبعة أو غيرهم، كـعبيد الله و سليمان بن يسار و خارجة و أبي بكر ، وكذلك القاسم بن محمد و عروة و سعيد بن المسيب ، هؤلاء هم الفقهاء السبعة من المدينة الذين عليهم مدار الترجيح، لكنهم يتباينون أيضاً في ذاتهم من جهة العناية بأبواب الدين، أبواب الدين متسعة يشق على الإنسان أن يستوعب المجموع، ولكن نجد أن الفقه من جهة مرده بمجموعه يرجع في هؤلاء إلى سعيد بن المسيب في الأغلب، وبعضهم يمتاز عليه في بعض المسائل إلا أنه مما يقطع به أن سعيد بن المسيب هو أقوى من سائر التابعين فيما يتعلق بأمور العقود والمعاملات، ومنهم من يهتم ببعض المسائل فيما يتعلق بالتفسير، فيما يتعلق مثلاً بالمواريث ونحو ذلك، هذا يحتاج إليه الإنسان مع قوة سبره، كلما سبر فتاوى هذا الفقيه تحصل لديه عنايته بباب من الأبواب، فتجد أنه يفتي مثلاً بمائة مسألة، تجد أن ثمانين منها أو تسعين منها مثلاً في الصلاة تجد أن تميزه وعنايته بأمر الصلاة، وهذا يعرف بالسبر وإن لم ينص عليه العلماء.

    ومعرفة الاختصاص ومردها ومآلها في ذلك إلى كثرة ووفرة المروي في هذا، لهذا نقول: إن الإمام مالكاً رحمه الله من جهة إدراك عمل أهل المدينة هو أكثر الأئمة الأربعة إدراكاً لمعرفة عمل أهل المدينة؛ وذلك لأنه عمل معهم وورث العمل عنهم، ولهذا تجد الإمام مالكاً رحمه الله قلما يقع لديه الخطأ فيما يتعلق بالعمل التعبدي اليومي، في العمل التعبدي باعتبار أنه يتكرر، وأن ما يروى عنه مما يخالف الأدلة تجد أنه من الأعمال الحولية بما يتعلق مثلاً ببعض الأعمال، أو ما كان بعيداً عنه مما يتعلق بأحكام المناسك، كما يروى عنه في مسألة الرمل والاضطباع، أو في بعض الأمور الحولية مما يتعلق مثلاً بصيام ستة أيام من شوال، وغيرها من الأحكام الشرعية، أما ما كان من العمل اليومي فعمل الإمام مالك رحمه الله هو أقوى من غيره، وذلك أن تردد العمل وتردد عمل الإنسان في يومه وليلته يظهر فيه البيان لدى الإنسان، فإنه إذا لم يره اليوم رآه غداً خاصة فيما يتعلق بأمور الصلاة، ولهذا أقوى فقه الإمام مالك رحمه الله هو في اليوميات، وهو ما يتعلق بالصلوات الخمس والسنن الرواتب وقيام الليل، ويليه ما يتعلق بأمور العقود والمعاملات؛ لأنها تظهر في أحوال الناس وتنقل، وغالب هذه الأمور تؤخذ نقلاً ولا تؤخذ نصاً، وإن قل النص المرفوع عند الإمام مالك رحمه الله مقارنة بغيره، فالمرفوعات المنقولة عن الإمام أحمد رحمه الله عن النبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك الشافعي هي أكثر عن مالك مع أن مالكاً هو مدني، وهو في بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإمام مالكاً رحمه الله قوى العمل وجعل العمل مفسراً ومبيناً للنص، فاعتمد عليه.

    ولا نقول: إن وجود النصوص لدى الإمام مالك من جهة الأصل أقل من غيره، بل لديه نصوص واكتفى بالبينات الفاصلة في هذا الباب، ولهذا نقول: إنه ينبغي للإنسان أن يعتني بفقه الإمام مالك رحمه الله على نحو هذا التسلسل.

    1.   

    مدرسة الإمام مالك بن أنس

    نبتدئ بأول هذه المدارس وهي مدرسة المدينة، وابتداؤها بالإمام مالك رحمه الله:

    المدرسة الأولى: هي مدرسة الإمام مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي وهو إمام أهل المدينة، الإمام مالك رحمه الله جمع فقه أهل المدينة واستوعبها، ولم يكد يخرج الإمام مالك رحمه الله في أخذه للعلم عن أهل المدينة، وتجد غيره أخذوا العلم من المدينة وغيرها، فارتحلوا إلى المدينة، وارتحلوا إلى غيرها كحال الإمام أحمد عليه رحمة الله، وكذلك الشافعي ، وكذلك أبو حنيفة عليه رحمة الله.

    اعتماد الإمام مالك في مذهبه على عمل أهل المدينة

    والإمام مالك أخذ العلم عن فقهاء المدينة، واهتم بالأثر المنقول والعمل المحكي عن الأئمة الأجلاء في هذا الأمر، وإنما صنف الإمام مالك رحمه الله كتابه الموطأ على هذا الأمر، وذلك أنه اعتمد على العمل أصلاً وجاء بما يعضد ذلك العمل، وقلما يدع الإمام مالك العمل، وقد ترك عمل أهل المدينة للنص في مواضع يسيرة قد أشار إليها ابن عبد البر في مواضعها في كتابه الاستذكار، وإلا فالأصل أنه لا يخرج عن ذلك، ولهذا لما كان الإمام مالك يعتمد على عمل المدينة من جهة الأصل، ويجعل النصوص دالة عليه نجد أن الإمام مالك رحمه الله هو أكثر الأئمة الأربعة أصولاً، أصول الإمام مالك هي أكثر من غيره، لماذا؟ لأنه من جهة الأصل يعتمد على أصل أهل المدينة، وهذا الأصل يعتمد على أصول أخرى، وهذه الأصول مما يقدم ولا يتقدم عليه أحد وهذه الأصول هي الكتاب والسنة، وكذلك يليه بعد ذلك الإجماع ثم القياس، ثم ما يتعلق بالاستصحاب والمصالح المرسلة، وما جاء بعد ذلك من عمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك قاعدة سد الذرائع وغيرها من القواعد، فيرى أن عمل المدينة هو يعتمد على هذه القواعد، ولهذا كثرت القواعد حتى قيل إن قواعد الإمام مالك رحمه الله هي أكثر من قواعد الأئمة الأربعة مجتمعين، وهذا الإطلاق وإن كان فيه نظر إلا أنه يدل على أن الإمام مالكاً رحمه الله اعتنى بأمر القواعد، وإن لم يحكها نصاً إلا أنه يجري عليها من جهة العمل.

    منزلة موطأ الإمام مالك بين كتب الحديث

    صنف الإمام مالك رحمه الله كتابه الموطأ، وأخذ الفقه عن أئمة أهل المدينة، منهم من كان أخذه عنه مباشرة، ومنهم من أخذ عنه بواسطة، ومجموع هؤلاء ما يتعلق بالفقهاء السبعة من أهل المدينة الذين تقدم الكلام عليهم.

    أخذ الإمام مالك عليه رحمة الله باستيعاب هذا الفقه ونشره، ودونه في كتابه الموطأ، وكتابه الموطأ جمع فيه المرفوع، وجمع فيه الموقوف، ومجموع ما في الموطأ صحيح، وهو من جهة الصحة والنقاوة يقدم على الصحيحين، ولكن التفت العلماء إلى الصحيحين لاعتبارات كثيرة منها أن المرفوعات في الموطأ قليلة، وأن المرفوعات في الصحيحين كثيرة جداً، كذلك فإن الأبواب التي أغفلها الإمام مالك كثيرة جداً، والعمدة في ذلك على أحاديث لم يذكرها الإمام مالك رحمه الله، وهذه الأحاديث إنما جمعها البخاري و مسلم واستوعباها في كتابيهما الصحيحين، واشتهرا وهما أصح الكتاب بعد كتاب الله على خلاف عند العلماء في كتاب الإمام مالك إلا أن بعض العلماء يقولون: إن كتاب الإمام مالك لم يتمحض في المرفوع، ولهذا لا يجعلونه كتاب حديث متمحضاً، وإنما فيه الموقوف، وفيه المرفوع، وفيه الرأي، ولهذا تجد بعض العلماء يطلقون عبارة أن أصح الكتب بعد كلام الله عز وجل هو البخاري و مسلم ويريدون من ذلك الوحي المتمحض، وأما الإمام مالك رحمه الله فموطأه قد جمع بين هذا وهذا.

    نسبة الروايات المختلفة عن الإمام مالك

    الإمام مالك رحمه الله من جهة فقهه ورأيه له آراء، وهو أقل الأئمة الأربعة تعدداً لأقواله، وأكثر الأئمة الأربعة تعدداً لأقواله هو الإمام أحمد رحمه الله، ثم يليه بعد ذلك أبو حنيفة من جهة الكثرة، وسبب قلة الأقوال عن الإمام مالك رحمه الله أنه أخذ القول ولم يأته غيره، وهو في بلد النبي، ثم إذا كان في بلد النبي والفقهاء من جهة الشيوخ لديه، فهو لم ينتقل إلى أحد، وإنما أخذ من أهل بلده، فهذا أدعى إلى ثباته، بخلاف غيره ممن كان بعيداً فإنه أخذ من عدة بلدان، ثم يأته وافدون يأخذ عنهم فيتجدد لديه من النصوص ما ليس لغيره، كذلك فإن النوازل في المدينة أقل من غيرها، وذلك لأن النوازل في غيرها في البصرة والكوفة ونحو ذلك مما استجد في حواضر الإسلام من المعاملات وكذلك النوازل في المواريث والجهاد والحدود والتعزيرات لكثرة مثلاً المعاصي والفسوق وغير ذلك مما يحدث في أطراف البلدان الإسلامية، بخلاف ما يحدث للبلدان، ولهذا تجد المنقول عن الإمام مالك في هذا إنما هي أقوال في مجملات.

    الإمام مالك رحمه الله هو أقل الأئمة روايات، ولهذا إذا أردت أن تلتمس له في مسألة قولين فلا تكاد تجد ما هو أكثر من ذلك بخلاف غيره، ربما يوجد له قولان، وربما ثلاثة، وربما ما هو أكثر من هذا، أما الإمام مالك رحمه الله فأكثر أقواله هو القول الواحد، ويوجد له قولان.

    مظان وجود آراء الإمام مالك وأقواله

    والإمام مالك رحمه الله تلقى عنه أصحابه مذهبه، منهم من أخذ عنه الموطأ، ومنهم من أخذ عنه رأيه في خارج الموطأ، ويأتي الكلام على هذا، لكن من جهة تلقي مذهب الإمام مالك رحمه الله ينبغي لطالب العلم إذا أراد أن يتفقه بمعرفة فقه الإمام مالك أن يتدرج بمعرفة عمل أهل المدينة على ما تقدم من التسلسل السابق.

    أولاً: بمعرفة الفقهاء المدنيين من الفقهاء السبعة وغيرهم؛ لأن لهم أثراً على الإمام مالك رحمه الله، كذلك بمعرفة الشيوخ الذين تأثر بهم الإمام مالك رحمه الله تأثراً مباشراً، وهؤلاء كثر، وأظهرهم هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن ربيعة الرأي و خارجة ، وهؤلاء هم أكثر الذين تأثر بهم الإمام مالك رحمه الله.

    فإذا قال الإمام مالك عليه العمل في المدينة، فإنه يريد ما عليه ربيعة و خارجة ؛ لأن ربيعة و خارجة لا يخرجان عن مجموع عمل فقهاء أهل المدينة، لهذا إذا أراد طالب العلم أن يعرف رأي الإمام مالك رحمه الله فعليه أن ينظر في أقواله، فإذا وجد له قولين فعليه أن يلتمس في ذلك المرجحات في هذا، والمرجحات في هذا هو مجموع شيوخ الإمام مالك و آرائهم، فوفرة آراء شيوخ الإمام مالك من الفقهاء كثيرة جداً، وهي موجودة في المدونات التي اعتنت بالآثار، وهذه المدونات التي اعتنت بالآثار مما جمع فقه المدينة وغيرها هي كثيرة جداً، ومما جمع ذلك هذه المصنفات كمصنف ابن أبي شيبة ، ومصنف عبد الرزاق ، ومعرفة السنن والآثار للبيهقي ، وكتاب الأم للشافعي ، ومسائل الإمام أحمد الكثيرة المترامية مما ينقل عنه أصحابه مليئة بالآثار في هذا الباب، وذلك كمسائل ابن هانئ ومسائل صالح ومسائل عبد الله ، وكذلك مسائل حنبل ومسائل الأثرم ، وغيرها من المسائل كمسائل الفضل بن زياد مما يروى عن الإمام أحمد، وهي مليئة بآثار فقهاء المدينة وغيرهم، وكذلك الكتب التي جاءت بعد ذلك مثل كتب أبي بكر بن المنذر ككتاب الأوسط، وكذلك الإشراف وكذلك في الاختلاف كتب الإمام الشافعي رحمه الله، وكتب ابن عبد البر مثل كتابه التمهيد والاستذكار وغيرها، فهذه مما يعتني أصحابها بالآثار، إضافة للذي يعتني بفقه أولئك مما تقدم الإشارة إليه في مواضع آيات الأحكام، كتب التفسير التي اعتنت بنقل تفسير الأحكام عن فقهاء المدينة وغيرهم، وذلك كتفسير ابن جرير الطبري وتفسير عبد بن حميد ، وتفسير ابن المنذر ، وكذلك أحكام القرآن للشافعي ، وتفسير البغوي ، وغيرها من كتب التفسير التي اعتنت بالمأثور كتفسير ابن أبي حاتم وغيرهم.

    كيفية معرفة الراجح من أقوال الإمام مالك عند تعدد الروايات

    لهذا ينبغي لطالب العلم أن يعرف المدرسة التي تلقى منها الإمام مالك حتى يرجح بين قولين، وثمة طريقة في الترجيح مشهورة عند أكثر المتأخرين لأقوال الإمام مالك، وهي أنه ينظر في ترجيح أحد قولي الإمام مالك على الآخر، ويقول: وهذا هو الأصح عن الإمام مالك بناءً على رجحان الدليل عليه، وربما هذا الدليل لم يكن في المدينة، أو ربما لم يكن عند الإمام مالك ، أو لم يكن صحيحاً أيضاً، فيجعل هذا مرجحاً لأحد القولين، نحن نقول: نحن في ترجيحنا لقول الإمام مالك لا نرجح الصواب، وإنما نرجح من أقوال الإمام مالك ما هو الأصح عنه، فترجيح الأصح من أقوال الإمام مالك لا يعني ترجيح الصحيح، ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يفرق بين هذين.

    من أعظم أو أقوى المرجحات في أقوال الإمام مالك رحمه الله أن يعتمد الإنسان ما دونه الإمام مالك بيده، وما دونه بيده هو كتابه الموطأ، وهو العمدة في معرفة أقواله، وماذا يستفاد من موطأ الإمام مالك ؟ يستفاد من موطأ الإمام مالك منطوق ومفهوم، ما كان منطوقاً في كلام الإمام مالك رحمه الله مما نص عليه من آرائه، أما ما كان مفهوماً في هذا فهو باب واسع، وهذا مما يتكلم عليه الفقهاء في أبواب النص مما يتعلق بالنص المرفوع في ظاهر النص ومنطوقه ونصه ومفهومه ودلالة الخطاب وغير ذلك، ولكن نحن نتكلم على باب المفهوم، فما أورده الإمام مالك رحمه الله في كتابه الموطأ من نص مرفوع أو موقوف، وجاء عن الإمام مالك رحمه الله روايتان فما ذكره دليلاً لأحد الروايتين في كتابه الموطأ فهو مرجح لأحد الروايتين على غيرهما، لهذا نقول: إن الإمام مالكاً يورد في كتابه الموطأ الأدلة التي يذهب إليها ولو لم يفتي بذلك، ولهذا لطالب العلم أن يذكر أو يرجح قولاً لـمالك؛ لأنه ذكر دليله في كتابه الموطأ.

    ثم يلي بعد ذلك مرتبة ما جاء عن الإمام مالك رحمه الله من المنقول عنه.

    المدارس التي اعتنت برواية مذهب الإمام مالك

    أصحاب الإمام مالك رحمه الله على طوائف، أشهر هاتين المدرستين في مدرسة الإمام مالك رحمه الله مدرستان: المدرسة الأولى: هي مدرسة المدنيين، والمدرسة الثانية هي مدرسة المصريين، وثمة مدرسة وهي مدرسة المغاربة وهي المدرسة الثالثة، وهي شمال أفريقيا، ثم الأندلس وما تفرع عن ذلك في بلدان المغرب، ويأتي الكلام على ذلك.

    مدرسة الإمام مالك رحمه الله في المدينة هي أقوى المدارس، لماذا؟ لأنها أطول أخذاً عن الإمام مالك وأوفر، وإن كانت المرويات عن أصحاب الإمام مالك رحمه الله في المدينة هي أقل من المرويات عن أصحاب الإمام مالك في مصر؛ وذلك لأن أصحاب الإمام مالك في مصر دونوا أقوال الإمام مالك وفتاويه، ولم يدون أصحابه المدنيون مثلهم كما دونوا وإنما نقلوا عنه أشياء، ولهذا اشتهرت واستفاضت مدرسة المصريين على مدرسة المدنيين بوفرة المنقول في ذلك، ومما اشتهر عنه كتابه المدونة المنقول عن الإمام مالك .

    الإمام مالك رحمه الله لم يكتب المدونة، وإنما هي مسائل وفتاوى نقلها عنه عبد الرحمن بن القاسم نقلها لـعبد السلام بن سعيد بن حبيب ، وهو سحنون نقلها عنه ودونها سحنون عن عبد الرحمن بن القاسم مما سمعه من الإمام مالك رحمه الله.

    لهذا نقول: ينبغي لطالب العلم إذا أراد معرفة الأرجح والأدق في أقوال الإمام مالك أن يميز المدرستين من أصحاب الإمام مالك في المدينة ممن بقي في المدينة، فهؤلاء هم أدق بمعرفة قوله.

    وثمة أئمة أخذوا مدرسة الإمام مالك ، ثم جددوا مدرسة جديدة، وذلك كأصحابه، كـمحمد بن إدريس الشافعي ويأتي الكلام عليه بإذن الله تعالى، ثم إذا لم يجد من المرجحات عن أصحاب الإمام مالك في المدينة، فلينظر في أقوال أصحابه في مصر.

    أصحاب الإمام مالك في مصر

    أصحاب الإمام مالك في مصر: أول من نقل فقه الإمام مالك في مصر هو عبد الرحيم بن الخالد و عثمان بن الحكم ، ونقلوا شيئاً يسيراً إلا أنهم لم يدونوه عنه، وجاء بعد ذلك ممن أخذ عن الإمام مالك رحمه الله عبد الله بن وهب المصري وعبد الرحمن بن القاسم و أشهب بن عبد العزيز ، و أصبغ و محمد بن عبد الله بن الحكم وأبوه عبد الله بن الحكم ، هؤلاء هم أشهر أصحاب الإمام مالك رحمه الله في مصر، وأشهر هؤلاء هم عبد الله بن وهب وعبد الرحمن بن القاسم وهما إماما المدرسة، وهم من نشرا مدرسة الإمام مالك رحمه الله في مصر، وكان في مصر لا يعرف إلا قول الإمام مالك رحمه الله.

    أخذ عبد الله بن وهب وعبد الرحمن بن القاسم مباشرة من الإمام مالك وأخذوا أيضاً بواسطة، أخذوا بواسطة من بعض أصحابه الذين قدموا قبل ذهابهم إليه بمصر، وانتقلوا إليه بالمدينة فأخذوا عنه، فأخذ عنه عبد الرحمن بن القاسم وعبد الرحمن بن القاسم أكثر أخذاً من عبد الله بن وهب عن الإمام مالك رحمه الله، وعبد الرحمن بن القاسم إنما أخذ عن الإمام مالك أكثر؛ لأنه دام عنده أكثر، فأخذ عنه الفقه أكثر، و عبد الله بن وهب أخذ عنه الحديث أكثر، ولهذا يوصف عبد الله بن وهب بالعلم، ويوصف عبد الرحمن بن القاسم بالفقه، فكان نتاج لقاء عبد الرحمن بن القاسم بالإمام مالك رحمه الله هو كتاب المدونة التي دونها سحنون عليه رحمة الله، فكانت هذه المدونة هي جملة من المسائل مما سأل عبد الرحمن بن القاسم الإمام مالكاً عليه رحمة الله، ولهذا نقول: إذا وجد قولان للإمام مالك قول قاله في المدينة، ونقله عنه أصحابه في المدينة، وقول نقله عنه أهل مصر، فالمترجح في ذلك هو ما قاله في المدينة، وذلك لأمور منها ما تقدم الإشارة إليه أن أهل المدينة هم أدوم وأبقى عند الإمام مالك وأدرى بقوله، وأما الآفاقيون الذين جاءوا إلى الإمام مالك فأخذوا منه على سبيل الاعتراض.

    التعريف بكتاب المدونة في فقه المالكية

    المدونة للإمام مالك هي أوسع مدونة في مذهب الإمام مالك أخذت عنه الفقه مباشرة، وهي نظير كتاب الأم للإمام الشافعي رحمه الله، مع الفرق في هذا فإن الإمام الشافعي دون كتابه الأم إما بنفسه أو بإملائه مباشرة بخلاف المدونة، فإنها دونت عن الإمام مالك رحمه الله، وربما لم يعلم عليه رحمة الله أن يكون ذلك مصنفاً بعده على هيئته التي كانت عندنا بخلاف كتاب الأم.

    المدونة أصبحت هي العمدة، وعليها تفرعت كتب المالكية في هذا العصر، وما سبقه من عصور، وعليها خرج المالكيون وبحثوا ونظروا وشرحوا وبينوا وفصلوا ودللوا أيضاً، بل إن المختصرات المتداولة في مذهب الإمام مالك رحمه الله مردها إلى المدونة في مذهب الإمام مالك رحمه الله، حتى إن مصنفها في ذلك هو سحنون الذي يلقب بـمالك الصغير باعتبار أن له فضلاً على الإمام مالك بجمعه لفقهه في هذا الكتاب، حتى أنها أشهر من مختصر خليل وهو من أشهر المختصرات في هذا، بل أيضاً الرسالة لـابن أبي زيد هي أراد الإنسان أن يتتبعها يجد أنها خرجت من رحم المدونة، فمختصر خليل اختصره من مختصر ابن الحاجب، ومختصر ابن الحاجب أخذه من مختصر المدونة للبرادعي ، ومختصر المدونة للبرادعي أخذه من تهذيب المدونة لـابن أبي زيد القيرواني ، وابن أبي زيد القيرواني أخذ كتابه هذا من المدونة، فأصل ذلك هو المدونة، وهي المرد.

    التفريق بين مذهب الإمام مالك وبين ما خرجه أصحابه بناء على أصوله

    وينبغي أن نعلم أن طالب العلم إذا أراد أن يعرف قول الإمام مالك فهذا شيء، وإذا أراد أن يعرف قول أصحابه فذلك شيء آخر، فأصحابه توسعوا بنقل فقهه عليه رحمة الله، وذلك بتخريج بعض المسائل على أصوله العامة، أصوله العامة ما يتعلق بعمل أهل المدينة، كذلك بعض الشيوخ الذين عرفت عنهم الفتوى ونحو ذلك، كذلك ربما جاء في بعض المسائل مما لم ينقل عن الإمام مالك رحمه الله في المدونة، ونقل في غيرها فجاءوا بقول لم يقل به الإمام مالك رحمه الله، وظهر بعد ذلك ما يخالفه أو ما يخالف الدليل.

    لهذا نقول: ينبغي أن يفرق بين تحديد قول الإمام مالك ، وبين تحديد مذهب المالكية، فمذهب الإمام مالك شيء، وهو أن يتتبعه الإنسان في عمل أهل المدينة، ثم ينظر في قول الإمام مالك فيما كان في موطأه، كذلك ما كان في المدونة، كذلك ما كان يجري على قواعده وأصوله مما تقدم الإشارة إلى شيء منه، فيعضد ذلك بشيء من المرجحات مما كان من فقهاء المدينة السبعة.

    أما ما كان من الكتب التي دونت بعد ذلك، فكانت عمدة في هذا الباب هي كما تقدم أم هذه المدونات وهي مدونة الإمام مالك رحمه الله حتى إن الكتب التي أخذت منها مباشرة واختصرتها قيل: إنها أحد عشر مختصراً لمدونة الإمام مالك ، أشهر هذه المختصرات هو مختصر البرادعي، ومختصر ابن أبي زمنين، اختصر المدونة وهو أشهر المختصرات حتى قال القاضي عياض رحمه الله على مختصر المدونة لـابن أبي زمنين، قال: إنه أقوى المختصرات في اتفاق، يعني: باتفاق العلماء من المالكية وهو أدقها.

    عناية المالكية بالمدونة شرحاً واختصاراً

    ثم جاء بعد ذلك من اعتنى بالمدونة من جهة الشرع، وكان المسار في ذلك على مسارين، أناس يختصرون وأناس يشرحون كعادة كثير من الكتب، هناك من اعتنى بالشرح، وهناك من اعتنى بالاختصار، أفضل هذه الشروح للمدونة كتاب البيان والتحصيل هو شرح لمدونة الإمام مالك ، فكان يأتي بالعبارة ثم يقوم بشرحها، ولها مقدمة أيضاً لمؤلفها سماها بالمقدمات، وهي مقدمة للبيان والتحصيل، ذكر فيها جملة من الأصول، وكذلك المنهج، وشيء من المناظرة في بعض المسائل الفقهية.

    وهناك من الأئمة من اعتنى باختصار المدونة، وهي على ما تقدم الكلام عليه، وأشهر هذه المختصرات هي ثلاثة مختصرات: المختصر الأول هو مختصر ابن الحاجب، ومختصر ابن الحاجب أخذه عن مختصر المدونة كما تقدم لـلبرادعي، ومختصر المدونة قيل: إنه أخذه من الرسالة، وقيل: إنه أخذه من المدونة مباشرة، ومختصر ابن الحاجب جاء عنه مختصر خليل، ويسميه المغاربة بمختصر سيدي خليل، وهذا من باب الإجلال، وبعد ذلك يأتي متن ابن عاشر، وهذه المختصرات أو المتون الثلاثة هي أشهر المتون في مذهب المالكية مما اختصر.

    وهذه المختصرات ينبغي أن نتكلم على مسألة مهمة فيها؛ لأنه يعتني بعض طلبة العلم بالأخذ عن هذه المختصرات، وهي أن طالب العلم إذا وجد همة ونشاطاً ينبغي عليه أن يأخذ من الأصل؛ لأن هذه الكتب هي من جهة أصلها مردها إلى ذلك الأصل، حتى إن بعض الفقهاء من المالكية يقولون: إن هذه المختصرات استغلقت حتى لا نستطيع أن نفهم قول المصنف، حتى يقول الحجوي عليه رحمة الله، وهو من أئمة المالكية يقول: إن المدونة عن الإمام مالك رحمه الله لا تحتاج إلى بيان، تفهم من نفسها، وأما مختصر خليل فإننا لا نفهمه ولو فهمناه لم نقطع أن خليلاً أراد هذا المختصر.

    والمدونة ثلاثة أسفار، ولا نستطيع أن نفهم مختصر خليل إلا بستة أسفار للزرقاني وثمانية أسفار للرهوني ، لهذا مختصر خليل في مذهب الإمام مالك إذا أراد الإنسان أن ينظر فيه يجد فيه استغلاقاً شديداً من جهة العبارة مع وفرة كثيرة في المسائل.

    ولهذا لو نظر الإنسان نظراً فاحصاً يجد أنه يسير سيراً صحيحاً سهلاً في المدونة أكثر مما يسير في غيرها، أو أن يأخذ شيئاً من المختصرات في هذا، الرسالة لـابن أبي زيد القيرواني تلي هذه المصنفات من جهة الدقة والضبط عند المتأخرين، فتجد عمدة المتأخرين هي هذه الكتب الثلاثة خاصة المغاربة والرسالة تأتي بعد ذلك مرتبة، ومنهم من يقدمها على غيرها، ولكن هذا هو الأشهر في تقديم مختصر خليل على غيره خاصة عند المتأخرين.

    ومن المالكية من يتعصب للمذهب حتى يقول اللاقاني وهو من أئمة المالكية يقول: نحن خليليون، إن ضل خليل ضللنا، ومراده في ذلك أن عمدتنا هو هذا الكتاب في مذهب الإمام مالك رحمه الله، وهذا من الخطأ الذي ينبغي أن يبتعد عنه المحرر للدليل القاصد الصواب؛ لأنه يقصد في ذلك سلامة الترجيح عن الإمام مالك رحمه الله، فالإمام مالك نهى عن تقليده، وكذلك الإمام أحمد عليه رحمة الله نهى عن تقليده، فجاء عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري ، وخذ عن النبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك الإمام مالك رحمه الله في نهيه عن ذلك، قال: كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر، وكذلك في قول الإمام مالك رحمه الله: إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين، يعني: إنما نأخذ ببعض المسائل التي لا نص فيه بغلبة الظن، ولا يؤخذ بذلك إلا ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وكان الإمام أبو حنيفة رحمه الله أيضاً ينهى أصحابه أن يأخذوا عنه، وكان الإمام الشافعي رحمه الله ينهى أيضاً المزني أن يقلده في رأيه، ولكن كعادة التلاميذ الذين يأخذون تجد أنهم يجرون على هذه المدرسة، ومع ذلك تجد أن أصحاب أبي حنيفة جروا على مذهبه مع تحذيره، وأصحاب الإمام مالك جروا على مذهبه مع تحذيره، كذلك تجد أصحاب الشافعي والإمام أحمد رحمه الله.

    لهذا نقول: إنه ينبغي لطالب العلم أن يعتني بالدليل.

    أهم الكتب في مذهب المالكية

    هذه الكتب في مذهب الإمام مالك رحمه الله تتباين من جهة تحريرها وعمدتها، وكذلك دقتها، ثمة بين المدونة وبين هذه المختصرات كتب اعتنت بفروع مذهب الإمام مالك رحمه الله، قد يقال: إن من أهم الكتب في مذهب المالكية هو كتاب الذخيرة للإمام القرافي عليه رحمة الله، الإمام القرافي رحمه الله جمع ما اشتهر من الكتب عند المشارقة والمغاربة من المالكيين، وجمعها في كتابه الذخيرة حتى أصبح عمدة، حتى إن القرافي رحمه الله يسمى بأنه هو محرر المذهب ومحققه، ويشبهه بعض المالكية المتأخرين بـابن تيمية بالنسبة لمذهب الإمام أحمد رحمه الله، وذلك لأنه فيه شيء من التجرد، وكذلك إرجاع المسائل إلى أصولها على نحو دقيق.

    و القرافي رحمه الله في كتابه الذخيرة في مذهب الإمام مالك اعتمد في جمعه لهذه المسائل على عدة كتب: الكتاب الأول وهو الأصل في ذلك، اعتمد على المدونة للإمام مالك فأورد فيها من مسائله.

    الكتاب الثاني: الرسالة لـابن أبي زيد القيرواني، الكتاب الثالث: التفريع في الفروع لـابن الجلاب وهذا أيضاً من الكتب النفيسة عند المالكية التي يعتنون بها.

    الكتاب الرابع: التلقين في الفروع لـعبد الوهاب القاضي ، فإذا أطلق القاضي عند المالكية فيريدون بذلك عبد الوهاب القاضي التغلبي ، فله كتاب التلقين في فروع مذهب الإمام مالك رحمه الله.

    الكتاب الخامس: الجواهر الثمينة في علم إمام المدينة، وهذا الكتاب لـابن نجم ويسمى ابن شاس ، ويسمى أيضاً ابن شاش وهو من أئمة المالكية جمع هذه الكتب الخمسة في كتابه الذخيرة، فكان عمدة لدى المالكية في هذه المسائل.

    لهذا ينبغي لطالب العلم الذي يريد عناية بفقه المالكية ألا يخلو من النظر في كتاب الذخيرة للإمام القرافي عليه رحمة الله، وقد جمع مع استيعابه لنظر هؤلاء الفقهاء جمع مع ذلك علمه بالأصول والقواعد الفقهية، فهو أصولي نظار يختلف عن كثير من الفقهاء الذين لديهم نظر في مسائل الفروع، إلا أن عنايتهم بالفروع قللت من عنايتهم بمسائل الأصول.

    مدى عناية المالكية بأدلة فروع المذهب

    ومن الأمور المشكلة في معرفة مذهب المالكية أن مذهب المالكية هو أقل المذاهب الأربعة عناية بأدلة فروعهم، يعني: المتأخرين، فمذهب الإمام مالك رحمه الله من جهة الأصل كان معتنياً بالدليل، وازدهر بعد ذلك لما جاء بعد ذلك من اعتنى من أتباعه في كتبه كابن عبد البر وأشهرها في ذلك، الاستذكار والتمهيد وغيرها، ثم جاءت القلة بعد ذلك فقلت العناية بالدليل شيئاً فشيئاً إلى الزمن المتأخر.

    وجاء في ذلك من المتأخرين من صنف، وهو أحمد بن الصديق الغماري فأورد في ذلك أدلة الفروع، وأعوزه إعوازاً شديداً، حتى إن الإنسان إذا أراد أن يبحث عن أدلة فروع المالكية في كتبهم لا يكاد يجد إلا ربع الأدلة والمصنفات في ذلك قليلة، وأشهر هذه المصنفات كتاب أحمد بن الصديق الغماري وهو أدلة السالك، وله في هذا كلام منثور فيما يتعلق بالأدلة، ولكن المالكية رحمهم الله لم يعتنوا بأدلة فروع مذهب الإمام مالك، وهذا مما أظهر الإعواز في هذا الأمر.

    ولكن يستطيع طالب العلم أن يأخذ بأدلة الكتب الأخرى، وأن يقوم بإلحاقها بفروع مذهب المالكية، فيدلل عليها، وهذا من الأمور المشكلة أن بعض الكتب المتأخرة حينما تحكي قول الإمام مالك يقولون: ويستدل بكذا بما أن الإمام مالكاً ما استدل، فتظهر حجة الإمام مالك أو المالكية ضعيفة باعتبار أن الدليل ضعيف، وهذا من المشكل؛ لهذا ينبغي أن نعلم أن المالكية إلى زماننا لم يعتنوا بأدلة الفروع، وأن أدلة الفروع الحادثة هي ممن يتكلم في مسائل الفقه ويدللون للمذهب وليست دليلاً عند أئمة المذهب؛ لأنهم لم يريدوه أصلاً، وهذا الإيراد إما أن يكون ضعيفاً فلا يتحمله الأئمة، وإما أن يكون هذا الدليل ليس بمتعلق بالمسألة إلا من بعيد، فلا ينبغي أن يتهم ذلك الفقيه بضعف الاستنباط، أو ضعف النظر.

    وكذلك ينبغي ألا يتهيب الناظر في هذا أن ذلك الإمام استدل بهذا الدليل، وإنما دلل له عليه، وإنما دليله جاء على هذا النحو، الأئمة يريدون الأدلة على أقوال الإمام مالك وغيره، ويريدون بذلك إرجاع هذه المسألة إلى أصل، ما هو هذا الأصل؟ لدينا أصول تقدم الكلام عليها مما يتعلق بالكتاب والسنة والإجماع والقياس وغيرها، فبحثوا عن أظهر الأدلة من القرآن والسنة ووجدوا هذا فجعلوه هو الدليل، وربما لديه دليل ما هو أقوى من ذلك ولم تستحضره؛ لهذا ينبغي لطالب العلم إذا أراد أن يستدل بمسألة ألا يقول استدلوا بكذا، يعني المالكية، وإنما يقول: يستدل لهذا القول حتى يفرق بين الدليل الذي يستدل به أهل المذهب، وبين ما يستدل به غيرهم لهم، وهذا من الأمور التي ينبغي العناية بها.

    أسهل كتب المالكية

    أسهل متون الكتب المالكية هو كتاب الرسالة لـابن أبي زيد القيرواني من جهة العبارة، وكذلك قرب الكتاب إلى آراء الإمام مالك ، وقربه من المأخذ الأصلي وهو المدونة، إلا أن الرسالة لـابن أبي زيد أخذ عليها بعض المسائل التي خالفت المنصوص في مذهب الإمام مالك رحمه الله، وقد بين ذلك أحد الشراح وهو صاحب كتاب تحرير المقالة في شرح الرسالة، بينها في ثنايا الشرح فيما خالف فيه ابن أبي زيد القيرواني في كتابه الرسالة المشهور في مذهب الإمام مالك والمنصوص عليه.

    1.   

    مدرسة الإمام الشافعي

    المدرسة الثانية هي مدرسة الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله.

    تأثر الإمام الشافعي بالإمام مالك

    معلوم أن الإمام مالكاً هو من شيوخ الإمام الشافعي ، وأن الإمام أحمد رحمه الله من تلامذة الشافعي ، الأئمة الأربعة قد التقوا ببعضهم، التقى الإمام مالك بـالشافعي، والتقى الإمام أحمد بـالشافعي ، وأما أبو حنيفة فلم يلتق به الإمام أحمد ، ولم يلتق به الشافعي ، واختلف في التقاء الإمام مالك بـأبي حنيفة، هل التقى به أم لا؟ وقيل: إنما التقى بـإبراهيم بن طهمان ونقل إليه أقواله، فكان الواسطة بينهما إبراهيم بن طهمان على قول بعض العلماء.

    ولهذا ظهر تأثير الإمام مالك على الإمام الشافعي رحمه الله، ولم يظهر تأثيره على أبي حنيفة ، ولا تأثيره مباشرة على الإمام أحمد رحمه الله، فالإمام الشافعي هو شيخ للإمام أحمد ، و مالك هو شيخ للشافعي، الشافعي رحمه الله أخذ الفقه ابتداءً في مكة، وذلك على شيخه مسلم بن خالد الزنجي فكانت أول مدارسه في ذلك، فنشأ في ذلك بعد بلوغه وأجيز في التدريس، وأول تدريسه كان بمكة، وهذه المدرسة للإمام مالك لا يكاد يذكرها من يتكلم على مذهب الإمام الشافعي ؛ لأن الشافعي لم يدون عنه أقوال في مكة، وإنما كان يخفي أقوالاً اندثرت، وكان في حداثة سنه، فأقواله لم تدون عنه.

    تنقل الإمام الشافعي في البلدان لطلب العلم

    ثم بعد ذلك انتقل الإمام الشافعي إلى اليمن، ودرس في اليمن، وأخذ أيضاً عن بعض فقهائها، وأخذ أسيراً من اليمن إلى بغداد، وذلك بوشاية من بعض الوشاة، فأخذ إلى بغداد، ثم التقى بـمحمد بن الحسن في العراق، وناظره وكان بينهما شيء من المناظرة، ولم يلتق بـأبي حنيفة عليه رحمة الله، وصار بينه وبينه محمد بن الحسن فكان للشافعي رحمه الله مجالس في العراق، ثم انتقل بعد بقائه في العراق وكان قد جلس في ذلك يسيراً، انتقل إلى مكة وجلس فيها نحواً من عشر سنين.

    ثم رجع إلى العراق وجلس فيها يسيراً، وذهب بعد ذلك إلى مصر، ومكث في مصر خمس سنوات، ولهذا مدرسته في مصر مدتها يسيرة، وهي أزهر مدارسه؛ وذلك لأنه قدم إلى مصر وهي أحوج ما تكون إلى مدرسة تعتني بالدليل، وأصحاب الإمام مالك رحمه الله الذين انتقلوا من المدينة وانتقلوا إلى مصر، حملوا آراء الإمام مالك وليس معهم أدلته، فجاء الإمام الشافعي فأصبحت له شوكة في مصر؛ لأنه من حملة الأدلة، وذكرنا فيما تقدم أن أصحاب الإمام مالك في مصر ممن أخذ عن الإمام مالك عبد الله بن وهب وعبد الرحمن بن القاسم ، ومن جاء تبعهم في ذلك، وأخذ عنهم كأشهب بن عبد العزيز ، وكذلك أصبغ بن القاسم ، وكذلك عبد الله بن الحكم ، و محمد بن عبد الله بن الحكم ، هؤلاء وغيرهم ممن أخذوا الفقه فقاموا يخرجون، فكانوا يحملون فتاوى ولا يحملون أدلة تدلل على جميع ما ينقلون من فتاوى، كذلك فإن تحريرهم للمسائل النازلة مما يعوزهم كثيراً، فكان أكثرهم تصدراً في هذا الباب هو عبد الرحمن بن القاسم؛ لأنه أكثرهم فقهاً، لأن عبد الرحمن بن القاسم أكثرهم فقهاً ونقلاً عن الإمام مالك رحمه الله، و عبد الله بن وهب هو أكثرهم حديثاً، فنقل ما يملك من حديث، فجاء الإمام الشافعي وهو كان حاملاً للفقه والحديث، فاشتهرت مدرسته في ذلك، فكان يعرف أخذه عن الإمام مالك فيسأل عن أقوال الإمام مالك ، فيأتي بالأدلة ويخالفهم، فتارة يوافق الإمام مالكاً وتارة يخالفه.

    الأصول التي اعتمد عليها الشافعي في مذهبه

    ظهرت مدرسة الإمام الشافعي رحمه الله، فدون المصنفات، فكان مذهبه في ذلك دقيقاً، وبين أصوله رحمه الله باعتماده على الكتاب والسنة، وكذلك الإجماع والقياس كما نص على ذلك في كتابه الرسالة، ونص أيضاً على مسألة مهمة وهي أن مذهبه رحمه الله هو ما عليه الصحابة، وأنه إذا وجد قولاً من أقوال الصحابة ولا يوجد له مخالف، قال: ونقول به، ولهذا يقول عن الصحابة عليهم رضوان الله: هم فوقنا في كل علم واجتهاد وفضل، فهو يقدمهم في كل شيء، وقد نص في كتابه الرسالة على الأخذ بقول الصحابي إذا جاء عنه قول من الأقوال ولا يعرف له مخالف، فقال: ونذهب إليه، وقول الواحد منهم أحب إلينا من قولنا، وهذا من الأصول عند الإمام الشافعي رحمه الله.

    وإذا اختلف الصحابة فإنه لا يقدم واحداً على الآخر إلا إذا كان أحد الخلفاء الراشدين الأربعة فإنه يقدمه على غيره، ولا يظهر في كلام الشافعي رحمه الله تقديم لأحد من الصحابة بعينه على الاطراد في غير الخلفاء الراشدين كحال الإمام مالك رحمه الله في أخذه ما جاء عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله، فإن الإمام مالكاً رحمه الله يأخذ بقول عبد الله بن عمر كثيراً، وربما يخالفه في الشيء اليسير، وهذا من القرائن التي يعرف بها طالب العلم مذهب الإمام مالك عند الترجيح، أن يعرف الصحيح عن عبد الله بن عمر ، وإذا جاء قولان في مذهب الإمام مالك فإن المترجح هو القول المنصوص عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله، إلا أن له مخالفات يسيرة في هذا، قد أشار إليها ابن حزم الأندلسي في كتابه المحلى في مواضع، أشار إلى أن الإمام مالكاً خالف عبد الله بن عمر في بعض المواضع.

    ومما ينبغي أن يعلم أن أكثر الأئمة استدراكاً على الأئمة الأربعة ومحاججة على أصولهم هو ابن حزم في كتابه المحلى، لهذا إذا أراد طالب العلم بعد معرفته لأصول الأئمة وكذلك لفقههم أن يعرف ما يند عن قواعدهم في هذا أن ينظر في كتاب المحلى لـابن حزم فإنه كثيراً ما يستدرك عليه، واستدراكه تارة يصيب وتارة يخطئ، وتارة ليس بلازم، ولو كان صحيحاً؛ لأنهم ربما يدعون ذلك لدليل واضح.

    الإمام الشافعي رحمه الله دون مذهبه وهو يعتمد في الأصل على الدليل فيما ظهر لديه، ثم يأخذ بالإجماع، ثم ما ظهر في ذلك من قياس ظاهر جلي، ثم يعتمد ما جاء من عمل الخلفاء الراشدين، ثم يستوي لديه الصحابة، ولا يقدم قول من جاء بعدهم عليهم، ثم بعد ذلك يجتهد في ذلك برأيه.

    مظان وجود آراء الإمام الشافعي وأقواله

    والإمام الشافعي رحمه الله مما يميز مذهبه أن أقواله موجودة ومدونة في كتابه الأم، فدون كتابه الأم إملاءً على الربيع ، وأصحاب الإمام الشافعي رحمه الله الذين أخذوا عنه العلم وبرزوا، والذين أخذوا عنه العلم كثير، ولكن المبرزين من أصحابه ثلاثة: الربيع بن سليمان المرادي المؤذن المصري و المزني و البويطي ، هؤلاء الثلاثة، وهم على ثلاثة مراتب: المرتبة الأولى: هي مرتبة الفقه والدراية ومعرفة تخريج أقوال الإمام الشافعي ، فهذا البويطي يقدم فيه على غيره؛ لأنه هو الذي أخذ حلقة الإمام الشافعي في مسجده في مصر بعد وفاة الإمام الشافعي ، وقد امتحن في خلق القرآن، وتوفي حبيساً في فتنة الإمام أحمد رحمه الله، وقد قل النقل عنه في ذلك؛ لأن المزني استأثر بكتب الإمام الشافعي من جهة التدوين والاختصار، وأما بالنسبة للبويطي فهو الذي استأثر بالتخريج والتنظير، وإخراج الزيادات من المسائل في مذهب الإمام الشافعي ، فكان الإمام الشافعي رحمه الله مدوناً لفقهه في كتبه ككتابه الأم، وكذلك الرسالة، كذلك ما جاء من الأحاديث المروية عن الإمام الشافعي رحمه الله والأقوال المنقولة عنه من الأئمة الشافعية الذين نقلوا عنه في جملة المسائل، وكذلك في التراجم للإمام الشافعي رحمه الله في بعض الأقوال.

    أصول الإمام الشافعي يرجع إليها في كتابه الرسالة، ويرجع إليها في كتاب المدخل إلى السنن للبيهقي، فذكر أصول الإمام الشافعي رحمه الله، كذلك تؤخذ من منثور ما جاء عنه في ردوده على أهل عصره، فظهرت أصوله في ذلك كرده في مناظرته لـمحمد بن الحسن ، ورده كذلك على الأوزاعي وجماع العلم، واختلاف الحديث، وهذه المسائل ظهر فيها ما يجري عليه من أصول.

    أما ما يتعلق بالمسائل الفرعية، فهذا يظهر في كتابه الأم، لهذا ينبغي لطالب العلم إذا أراد أن يعرف قول الإمام مالك أن يرجع إلى كتبه مباشرة، وأقوال الإمام الشافعي رحمه الله إذا أراد أن يعرف أقوال الشافعي عليه أن يرجع إلى كتبه مباشرة، وأظهر هذه الكتب هي كتابه الأم، فيرجع إليه.

    ومن وجوه الضعف عند كثير من المتعلمين أنهم يرجعون إلى مذهب الشافعية، ولا يرجعون إلى مذهب الشافعي ، و الشافعي هو الأصل وإمام المذهب، فينبغي أن يرجع إليه في كتابه، فينظر في قوله، ثم بعد ذلك ينظر في قول الشافعية، ومن أين جاء قول الشافعية بالنسبة للإمام الشافعي رحمه الله.

    الكتب المعتمدة في المذهب عند الشافعية

    المزني اختصر كتاب الأم في كتابه المختصر، فسمي مختصر المزني، ومختصر المزني شرحه إمام الحرمين في كتابه نهاية المطلب، فكتاب الأم هو الأصل، ثم جاء الغزالي فشرح نهاية المطلب في ثلاثة كتب، شرحها في كتابه الوسيط والبسيط والوجيز، هذه ثلاثة كتب لشرح نهاية المطلب، وهي للإمام الغزالي عليه رحمة الله، ثم جاء الإمام الرافعي عليه رحمة الله، فشرح كتاب الوجيز في كتابه المحرر، فجاء الإمام النووي رحمه الله فاختصر كتاب المحرر في كتابه منهاج الطالبين، فجاء بعد ذلك ابن حجر الهيتمي ، فشرح منهاج الطالبين في كتاب سماه تحفة المحتاج في شرح المنهاج، وهذا المنهاج هو للإمام النووي منهاج الطالبين، والمنهاج هو مختصر للمحرر، والمحرر للرافعي ، والمحرر إنما أخذه من الوجيز، والوجيز إنما أخذه من نهاية المطلب، ونهاية المطلب أخذه من مختصر المزني، ومختصر المزني من كتاب الأم للشافعي .

    ولهذا إذا أراد طالب العلم أن يحرر مسألة عليه أن يذهب إلى الأم ويأخذ القول بعد ذلك، ثم إذا أراد أن ينظر في عمدة المذهب عند المتأخرين فلينظر في كتاب المنهاج للإمام النووي ، وكذلك شرحه تحفة المحتاج لـابن حجر ، وشرح الرملي للمنهاج للإمام النووي ، وهو نهاية المحتاج، فهذه الكتب الثلاثة، المنهاج وتحفة المحتاج، وكتاب الرملي، هي عمدة المتأخرين من الشافعية، يأخذ بها ثم يتسلسل في ذلك وينظر من أين وجد الزيادة في القول عن الإمام الشافعي رحمه الله، وهل قول الإمام الشافعي كان قولاً ثم خرج قول عن وجه؟ فيعرف بذلك طالب العلم الترجيح في قول الإمام الشافعي رحمه الله، وهذه من الأمور التي ينبغي أن يعتني بها طالب العلم سواءً في مذهب الشافعي أو في مذهب الإمام مالك رحمه الله.

    عناية الشافعية بأدلة فروع المذهب

    ومذهب الشافعي من أكثر المذاهب عناية بجمع أدلة الفروع، وهذا ظاهر في كتب المتأخرين، وذلك لكثرة المحدثين من الشافعية فأكثر المحدثين من الشافعية، فإذا أراد الإنسان أن ينظر إلى الشافعية من ابتداء زمنهم الأول، بدءاً من أبي بكر بن المنذر فهو كان على طريقة الشافعي ، أو من أخذ عن الإمام الشافعي شيئاً ممن اعتنى بالدليل وذلك كـابن جرير الطبري ومن جاء بعده من الأئمة، وما كان في زمن وفرة المحدثين في القرن الثامن، والقرن التاسع من الأئمة كـالذهبي وكذلك ابن كثير وكذلك الحافظ ابن حجر و السخاوي و السيوطي وغيرهم من الأئمة الذين اعتنوا بجمع الأدلة، وكذلك الهيتمي وغيرهم من الأئمة الذين اعتنوا بأدلة المذهب، وجمعوها من أدلة أخرى حتى لم ترد عند الإمام مالك .

    فينبغي لطالب العلم أن يعتني بمعرفة أدلة الفروع، وكذلك أن يعلم أن أدلة المتأخرين من الشافعية لا يلزم أن تكون أدلة للشافعي ، فـالشافعي أدلته أوردها في كتابه الأم، ولم يورد كل ما لديه من علم عن النبي عليه الصلاة والسلام، فالأدلة في ذلك كثيرة، لكن لما دونت المصنفات من الكتب الستة ومسند الإمام أحمد كان أكثر من اهتم بهذه الكتب هم الشافعية فجمعوها واعتنوا بها وقاموا بالتخريج، ولهذا كان من تلك المصنفات التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، وكذلك كتاب الزوائد الذي جمع فيه الأدلة مما يدل على حصرهم وعنايتهم بذلك، ككتب الهيتمي ، وعناية أيضاً من شرح كتب السنة في الجوامع كـالمناوي ، وكذلك السيوطي وغيرهم.

    ولا يلزم أن الشافعي بنفسه استدل بهذه الأدلة، ولكن جمعوها بعد زمن التدوين؛ لهذا ينبغي لطالب العلم أن يعتني بمعرفة الدليل، وأن يعرف أيضاً قول الإمام الشافعي بنفسه، وأن يأخذه على سبيل التسلسل، ومن اليسر في هذا أن طالب العلم لا حرج عليه، أو من السهل أن يرتب في مكتبته مثلاً كتاب الأم للشافعي ، ثم يضع بعده المختصرات عن الإمام الشافعي ، ثم يليه بعد ذلك كتب عن الشافعي ، ثم يأتي بها إلى زمنه، فإذا أراد أن يتتبع مسألة يأخذها بذلك عن طريق اليسر والسهولة، يأخذها من كل باب، وهذا كما أنه في مذهب الشافعي كذلك في مذهب الإمام مالك ، وفي مذهب أبي حنيفة ، وفي مذهب الإمام أحمد رحمه الله.

    ثم جاء زمن الوفرة في الأدلة عند المتأخرين، وكثرة التفريعات والترجيحات مما لم يكن قولاً للإمام الشافعي رحمه الله في هذا.

    1.   

    مدرسة الإمام أحمد بن حنبل

    تعدد الروايات عن الإمام أحمد

    مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وهو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، وهو إمام السنة، والإمام أحمد رحمه الله هو أكثر الأئمة جمعاً للسنة، وأكثر الأئمة الأربعة تنقلاً ورحلة، وأكثرهم شيوخاً، وأقلهم رأياً، ولهذا لم يدون شيئاً من رأيه وهذا سبب كثرة الروايات عن الإمام أحمد ؛ لأن الإنسان إذا لم يدون رأيه دون عنه بحسب ما يفهم عنه، وهذا سبب كثرة المرويات؛ لأن الفتوى ليست رأياً في كل مسألة، فالفتوى نازلة، الفقهاء يسمون الفتاوى النوازل، يسمونها نوازل، فربما أفتي بنازلة في المسح على الخفين لمشقة رأيتها في شخص جاوز ثلاثة أيام ولا يعني أني أجيز المسح أكثر من ثلاثة أيام على الإطلاق، فتأتي فتوى تقريرية لهذا العلم أقول: إن المسافر يمسح ثلاثة أيام بلياليهن والمقيم يوماً وليلة، وثمة رواية أخرى أفتيت شخصاً بعينه أنه مسح أربعة أيام فأقول: صلاتك صحيحة؛ لأنه رأيته مضطراً كأن يكون مثلاً شق عليه الأمر، أو مسافراً أو مجاهداً أو نحو ذلك، فتحمل بعض هذه المسائل على أنها روايتان، وهذا هو سبب كثرة الآراء المروية عن الإمام أحمد رحمه الله.

    كيفية معرفة مذهب الإمام أحمد عند تعدد الروايات عنه

    والآراء المروية عن الإمام أحمد متعددة، والقول يقدم على غيره، وهو النص، إذا جاء نص عن الإمام أحمد رحمه الله، فهذا يقدم على غيره، ويعرف هذا بأنه نص إنشائي عن الإمام أحمد رحمه الله كأن يقول قولاً في مسألة من المسائل، فينشئ مسألة من المسائل، فهذا يقدم على غيره، يأتي بعد ذلك جواب السؤال المروي عن الإمام أحمد في ذلك، فهذا يليها مرتبة، ثم بعد ذلك الرواية، الرواية عن الإمام أحمد هي التي تحكى من غير ذكر النص، فلا يعرف السياق الذي جاء عن الإمام أحمد رحمه الله، ولا يعرف المناسبة، وإنما جوز أحمد كذا، فلا تعرف المناسبة، فهل جوزها في فتيا أو في نص ونحو ذلك؟ لهذا ينبغي أن يفرق.

    كذلك يليها بعد ذلك الوجه، وذلك لأنه يوجد مثلاً عن الإمام أحمد مسألة تحتمل وجهين، فيحمل قول على وجه ويحمل قول على وجه، وبعضهم يجعل الروايات وجوهاً، وأضعف هذه كلها التخريج، وهو إخراج قول للإمام لم يقل به للازم مسألة أخرى، وذلك على سبيل المثال مثلاً الإمام أحمد رحمه الله يجيز للخطيب أن يخطب على غير طهارة، قال: ولو كان جنباً، هذا نص في المسألة.

    نستطيع أن نخرج عليها مسائل أخرى، من هذه المسائل التي نخرجها على مذهب الإمام أحمد: أن الإمام أحمد يوجب في الخطبة قراءة الآية، على هذا نجيز للإمام أحمد أنه يرى جواز قراءة الجنب للقرآن إذا كان آية، هذا تخريج أو نص؟ تخريج، ولكن هذا التخريج هو أضعف مراتب المنسوب للإمام أحمد رحمه الله، لماذا؟ لأنه ربما يطرأ على الإنسان نسيان بلوازم قوله لأنه بشر؛ لهذا نقول: إن التخريج في ذلك هو أضعف المروي، لهذا ينبغي لطالب العلم أن يفرق بينها.

    فالتخريج لا ينتهي بعضه، يستطيع الإنسان أن يخرج أشياء لم يخرجها أحد قبله؛ لهذا ينبغي لطالب العلم إذا أراد أن يعرف مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن يبحث عن مواضع النصوص عن الإمام أحمد ، ومواضع النصوص هي رواياته، رواياته هي فيما يرويه عنه ابنه عبد الله وكذلك صالح و حنبل بن إسحاق و الفضل بن زياد ، وكذلك الأثرم وغيرهم ممن نقل عن الإمام أحمد رحمه الله المرويات بالنصوص، وهي مستفيضة.

    يليها بعد ذلك كتب نقلت عنه بأسانيد وذلك ككتب القاضي أبي يعلى ، وكذلك الخلال الذي أخذ عن تلامذة الإمام أحمد رحمه الله، وذلك كابنه عبد الله وكذلك الأثرم، فدون في ذلك وجمع المرويات عن الإمام أحمد، وله جامع وفير لو اجتمع عند المتأخرين لكفاهم في كثير من مسائل الإمام أحمد رحمه الله، حتى إنه يقارن بـسحنون في مذهب الإمام مالك ، فإن سحنوناً في جمعه للمدونة عن ابن القاسم عن الإمام مالك كذلك الخلال في جمعه المرويات وإن لم يلق الإمام أحمد مباشرة، فجمع المرويات عن الإمام أحمد والمنقول عنه في ذلك عن كثير من أصحابه كـابنه عبد الله ، وكذلك الأثرم فجمع جمعاً وفيراً، وطبع جملة من مرويات الخلال في أجزاء، ومنها ما هو مفقود.

    ويعرف مذهب الإمام أحمد بالرجوع إلى النصوص، والنصوص تجتمع في المرويات، ثم بعد ذلك تأتي الروايات المحكية، الروايات المحكية أن يقول: رواية عن أحمد، هكذا ويسكت، أو يقال: وله روايتان، وهذه تكثر في كتب الفقهاء ممن جاء بعد زمن الخلال.

    أهم المختصرات في مذهب الإمام أحمد

    أدق المدونات من المختصرات في مذهب الإمام أحمد هو مختصر الخرقي ؛ لأنه أخذ مجموع ما لديه من كتب الخلال ، و الخلال قد أخذها مباشرة عمن لقي الإمام أحمد رحمه الله، فمختصر الخرقي هو أدق الكتب إلا أنه لم يستوعب مسائل مذهب الإمام أحمد والمروي عنه، فجاءت بعده كتب مصنفة في هذا فاستوعبت المسائل أكثر منه، فجاء في ذلك كتاب شرف الدين بن نجا وهو زاد المستقنع في اختصار المقنع، والمقنع في ذلك عند المتأخرين له شهرته في جمع المرويات عن الإمام أحمد رحمه الله، إلا أن مختصر الخرقي على اختصاره هو أدق وأقرب، وينبغي لطالب العلم أولاً إذا أراد معرفة أدق الروايات عن الإمام أحمد أن يأخذ أدق المختصرات في الصدر الذي يدنو من الإمام أحمد ، وذلك كمختصر الخرقي والشروح عليه كالمغني لـابن قدامة عليه رحمة الله، وكتاب المغني لـابن قدامة هو شرح لمختصر الخرقي ، فاستوعب جمع الأدلة وذكر أيضاً الروايات الأخرى عن الإمام أحمد رحمه الله.

    والكتب المروية عن الإمام أحمد التي فيها أدلته وآراؤه التي يفتي بها، هذه كثير منها اندثر، وذلك ككتب حرب الكرماني ، وكتب أبي حفص العكبري ، وكذلك الروايات التي جاءت عمن لقيه كـأبي بكر الأثرم ، فأكثر ما نقل عنه في ذلك كان مفقود، كذلك كتب الخلال وغلام الخلال، وكذلك كتب أبي بكر المروذي وغيرها من المصنفات فقدت وإن وجد فيوجد شيء يسير من هذا، لهذا كلما قرب الباحث زمناً عرف رأي الإمام أحمد رحمه الله، ومما يعرف به رأي الإمام أحمد أن يعرف الإنسان أصوله.

    الأصول التي اعتمد عليها الإمام أحمد في مذهبه

    أصول الإمام أحمد رحمه الله كما لا يخفى منها ما يتفق فيه مع غيره الكتاب والسنة، والإجماع والقياس، إلا أنه يقدم إجماع الصحابة ويجل الفتاوى بأقوالهم، ولو كان ظناً فيقدمه على قوله، بل ربما يفتي بأقوال الفقهاء من التابعين، ولهذا في كثير من المسائل يُسأل عن مسألة ويقول: قال فلان كذا، ولهذا نقول: إن أجل أئمة التابعين الذين يؤخذ بقولهم هم فقهاء المدينة، ثم فقهاء مكة، والإمام أحمد لا يكاد يخرج عن فقه هاتين المدينتين إذا لم يجد دليلاً، والإمام أحمد رحمه الله إذا وجد قول مفتٍ ولو كان من أتباع التابعين أخذ بقوله إذا كان مكياً أو مدنيا، ولهذا نجده يأخذ بختم القرآن في الصلاة بقول سفيان بن عيينة ويقول: يفعله أهل مكة؛ لأنه يرى أنها من منازل الوحي، وأنها أنقى البلدان من الدخيل في الآراء والأقوال، وعمدتهم في ذلك الأثر.

    لهذا ينبغي أن تعرف آثار السلف الصالح في معرفة الأصول، كذلك ينبغي أن نعلم أن الإمام أحمد رحمه الله يعتني بإجماع الصحابة، وأنه إذا روي عن صحابي ولا يعرف له مخالف لا يقدم عليه غيره، ولهذا يقول: الإجماع إجماع الصحابة، ومن بعدهم تبع لهم، فلا يأخذ بقول أحد.

    لهذا ينبغي لطالب العلم أن يعتني بمعرفة فقه الصحابة، فإذا وجد في مسألة قولاً لصحابي وعن الإمام أحمد روايتان في المسألة فيجعل الرواية الأصل هي ما وافق الصحابي، وأن الثانية نازلة أو قضية عين أفتى بها لنازلة طرأت، وهذا يستطيع الإنسان معه أن يجمع الروايات المروية عن الإمام أحمد رحمه الله بالنظر إلى أصوله.

    وكذلك في كتابه المسند جمع آلاف الأحاديث، وهذه الآلاف التي جمعها في كتابه المسند هي رأيه إذا لم يوجد له رأي، وذكر ابن مفلح في الآداب الشرعية عن أصحاب الإمام أحمد أن ما ذكره الإمام أحمد في كتابه المسند ولم يوجد له فيه قول فهو قوله، ولهذا إذا نظرت في مسألة تنسب للإمام أحمد رحمه الله، أو فيها قولان، أو لا يوجد قول للإمام أحمد انظر في المسند هل يوجد دليل يعضد هذا القول، فهو المرجح لهاتين الروايتين، أو هو قول الإمام أحمد إذا لم يكن له رواية، كحال موطأ الإمام مالك بالنسبة لـمالك على ما تقدم الكلام عليه، ولهذا يقول ابن مفلح رحمه الله يقول: ولا يخالفه، يعني: لا يخالف الإمام أحمد الدليل الذي رواه لماذا؟ لأنا تيقنا أنه وقف عليه بخلاف ما يذكر في الدواوين الأخرى، فلا ندري يقيناً هل وقف عليه أم لا؟ أما ما كان بين عينيه وثبت إسناداً فإنه لا يكاد يخرج عنه، فهذا من المرجحات أنه مذهب الإمام أحمد عليه رحمة الله.

    أفضل الكتب التي اعتنت بمذهب الإمام أحمد

    وثمة كتب اهتمت بجمع الفروع في مذهب الإمام أحمد ، ككتاب الفروع لـابن مفلح ، وقد اعتنى بجمع الفروع على مذهب الإمام أحمد بشيء من التوسع، ويعتني بالأثر.

    ولهذا نقول: إن أول ما ينبغي أن يعتني به الإنسان هو الرجوع إلى نصوص الإمام أحمد بمروياته والرجوع إلى المختصرات القريبة التي أخذت من الإمام أحمد وشروحها، ومن شروح مختصر الخرقي المغني، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي ، فله عناية بالدليل، وفيه نصوص ليست في غيره، وفيه نصوص عن الإمام أحمد رحمه الله ليست في غيره، وأيضاً فيه أقوال ينقلها عن الإمام أحمد تنقل عند غيره رواية وهي عنده نص.

    وثمة محققون في مذهب الإمام أحمد رحمه الله يحققون مذهبه، ومن أدق هؤلاء الأئمة في مذهب الإمام أحمد إمامان جليلان لا يتقدم عليهما أحد في تحرير أدلة مذهب الإمام أحمد ، أولهما الحافظ ابن رجب رحمه الله، والثاني ابن عبد الهادي ، فهذان الإمامان ممن يعتنون بأدلة مذهب الإمام أحمد وتحريرها.

    وفي حال طلب الدليل والتماسه فإنه يرجع إلى هذين الإمامين، وقد وقفا على الكتب المندثرة عندنا مما لم نقف عليه، ومن نظر في كتاب شرح العلل لـابن رجب وفتح الباري لـابن رجب أيضاً وجد أنه يحيل إلى كتب ومسانيد لا توجد عند أحد، ككتب وكيع و سفيان ، وكتب الأثرم ، وكذلك ما جاء عن حرب الكرماني و أبي حفص العكبري وغيرهم من أصحاب الإمام أحمد عليهم رحمة الله ممن له أثر بمعرفة الأدلة المنقولة عن الإمام أحمد عليه رحمة الله.

    ويأتي بعد ذلك وإن تقدموا زمناً من اعتنى بتحرير الأدلة، لكن لا يوازي تحرير هذين الإمامين، وذلك ليس نقصاً في أهليتهم في العلم، وإنما لانشغالهم في بعض الأبواب، أو لتميز غيرهم عليهم، ومن هؤلاء الأئمة ابن تيمية رحمه الله، فله تحريرات ولكن لم يحرر المذهب تاماً، وليس له مدون حرر فيه مذهب الإمام أحمد تاماً من أوله إلى آخره، وكذلك فإنه لم يعتن بتحرير الأدلة، وإن كان له تحرير للروايات في كتابه الفتاوى سواءً في الفتاوى المصرية، أو في غيرها، أو في كتابه شرح عمدة الفقه للمقدسي ، ولكنه لم يتم هذا الكتاب، ثم أيضاً إن هذا الكتاب شرحه مبكراً في سن الثلاثين، وشرح هذا الكتاب ثم انصرف إلى الكلام في مسائل العقيدة، والرد على الطوائف، وشغله ذلك عن تدوين ما لديه من أدلة المذهب، وكذلك تحريرها، ومن ذلك أيضاً كتاب المحرر لـأبي البركات بن تيمية ، فإنه حرر فيه جملة من المسائل، فينبغي لطالب العلم أن يعتني بهذه الكتب من جهة تحرير المذهب.

    وثمة كتب من كتب المتأخرين اعتنت بجمع الروايات من المدونات السابقة لها، منهم من اعتمد على كتاب، ومنهم من اعتمد على كتابين، ومنهم من اعتمد على المجموع، ومن هذه الكتب كتاب الإنصاف للمرداوي وهذا الكتاب في ظاهره يجمع ما جاء عن الإمام أحمد من أقوال ونصوص وروايات، على ما تقدم ويحكيها عن الإمام أحمد رحمه الله، وهو ليس بكتاب تحرير لأقوال أحمد ، وإنما هو تحرير الروايات وجمعها، وفرق بين تحرير الرواية وتحرير الأقوال الواردة عن الإمام أحمد رحمه الله، وهي على ما تقدم الإشارة إليه.

    وبالنسبة للمختصرات في مذهب الإمام أحمد رحمه الله، فالمختصرات في ذلك كثيرة: أولها على ما تقدم تصنيفاً وهو مبكر جداً مما يدل على أن مذهب الإمام أحمد دون مبكراً، هو كتاب مختصر الخرقي، وبعد ذلك جاءت مصنفات كثيرة، وأشهرها عند المتأخرين وخاصة المعاصرين زاد المستقنع في اختصار المقنع، ودليل الطالب، ودليل الطالب من جهة مسائله هو أقل من الزاد، والزاد أوفر منه، لكن دليل الطالب أيسر من جهة العبارة.

    مدى عناية الحنابلة بأدلة فروع المذهب

    وأما بالنسبة للأدلة في مذهب الإمام أحمد رحمه الله، فمذهب الإمام أحمد بالنسبة للتدليل على الفروع يأتي بعد الشافعية مرتبة من جهة وفرة الأدلة، والحنابلة لم يعتنوا بجمع أدلة المذهب، فأبو الفرج بن الجوزي أورد جملة من التدليلات في هذا، وتكلم أيضاً على بعض الأدلة في هذا الباب، وبين الصحيح من الضعيف، ولكنه لم يخرج عما كان وجده قبل ذلك، أما جمع الأدلة الخارجة عن الكتب الموروثة في أصحاب الإمام أحمد ، وجعلها أصولاً لتلك الفروع التي تخرج في مذهب الإمام أحمد ، فهذا لا يكاد يوجد، ومن خدم أدلة مذهب الإمام أحمد هو أجنبي عن مذهبه الفقهي، وهو الألباني رحمه الله، وإمام جليل، وهو محدث صاحب سبر جمع في كتابه إرواء الغليل الأدلة من منار السبيل، وهي ثلاثة آلاف دليل، وخرجها وحكم عليها.

    وقبل ذلك لا يوجد كتاب يجمع الأدلة من جهة بيان صحيحها من ضعيفها، وقد سبق في ذلك الشافعية، وإنما قلنا: إن الحنابلة يأتون مرتبة بعد الشافعية بالنسبة لمجموع الأدلة لا من جهة عناية المتأخرين، فالحنابلة لم يأذنوا بجمع الأدلة من بين الصحيح من الضعيف، بل إن الحنفية سبقوهم في ذلك كما في نصب الراية للزيلعي فإنه جمع ما جاء عن أبي حنيفة عليه رحمة الله، وخرج الأدلة في هذا، وأسهب وهو مبكر وسابق أيضاً للشافعية، وسابق لـابن حجر ، بل إن ابن حجر رحمه الله أخذ كثيراً من تخاريجه من نصب الراية للزيلعي.

    وأما بالنسبة لمعرفة الأدلة فيرجع فيها إلى كتب الآثار، فإن كتب الآثار هي عمدة لمذهب الإمام أحمد لعنايته بفتاوى الفقهاء من الصحابة والتابعين، كما تقدم الإشارة إلى معرفة مصادرها.

    1.   

    مدرسة الإمام أبي حنيفة

    سبب نزول مرتبة مذهب أبي حنيفة عن بقية المذاهب

    أبو حنيفة النعمان عليه رحمة الله هو الإمام الرابع في المنزلة ومن جهة الزمن هو متقدم، إلا أن بعده عن المدينة ومكة قلل من عنايته بالدليل، وقلل من التقائه أيضاً بفقهاء المدينة، ولهذا لا يكاد يحفظ للإمام أبي حنيفة رحمه الله مدون في السنة كما حفظ لغيره، وإنما هي مرويات تروى عنه، وجمعت في مسانيد، ويشكك بعضهم في نسبتها، وهي مسند أبي حنيفة لـأبي نعيم الأصبهاني ، ومسند أبي حنيفة للخوارزمي .

    وثمة مصنفات في الآثار في هذا، وأبو حنيفة رحمه الله لديه شيء قليل من الأحاديث، ولديه ذكاء حاد خرج على هذه الأحاديث جمعاً وافراً من الأدلة، ولكن الأدلة والأحكام الشرعية ليست مطردة في كل حال، فند عنها جملة من الأحكام، وهو اطرد على هذا الأصل، إلا أن أبا حنيفة أدق المسائل لديه ما يتعلق بأمور الصلاة، ثم يليها بعد ذلك المناسك، وإنما قلنا الصلاة؛ لأن مذهبه في فقه الصلاة يأخذه عن حماد بن أبي سليمان ، و حماد يأخذه من إبراهيم النخعي ، و إبراهيم النخعي هو من أدق الفقهاء من الصدر الأول في أحكام الصلاة، ثم يليه بعد ذلك المناسك، فهو دقيق فيها، وقد حج رحمه الله كما يقال عنه خمساً وخمسين مرة، وارتياده لمكة تدوين وعقبها تدوين، وكذلك فتاوى في مذهبه، أنه مما قلل مذهبه، أنه لم يدون لا مسنداً في الأحاديث، ولا رأياً له مباشراً، وإنما بعد ذلك أصحابه دونوا عنه.

    الرواة الذين اعتمد عليهم في رواية مذهب أبي حنيفة

    ومن يعتمد عليه في مذهب أبي حنيفة رحمه الله مجموعة وهم: أبو يوسف و محمد بن الحسن و الحسن بن زياد و زفر بن الهذيل هؤلاء أربعة، و أبو حنيفة هو إمامهم، وإمام أبي حنيفة هو حماد بن أبي سليمان في كثير من مسائله، و حماد بن أبي سليمان أخذ عن مجموع فقهاء الكوفة وعلى رأسهم إبراهيم النخعي ، و إبراهيم النخعي أخذ عن شيوخه من أهل الكوفة كـعلقمة و الأسود و أبي الأحوص وغيرهم، وهذه مدرسة في الغالب متسلسلة، ولكن لقلة الأثر فيها كثر الرأي فيها ومخالفة الدليل، حتى قيل: إن أبا حنيفة خالف الدليل في ثلاثمائة مسألة، كما قاله بعض الفقهاء.

    وهؤلاء الأربعة الذين عليهم العمدة في نقل مذهب أبي حنيفة أولاهم وأوفرهم نقلاً وعليه عمدة المتأخرين هو محمد بن الحسن الشيباني ، بل هو المنبع الذي نبع في مذهب أبي حنيفة عليه رحمة الله، وصنف الكتب الجامع الكبير والجامع الصغير، والسير الكبير والسير الصغير، والمبسوط والزيادات، جمع هذه المصنفات الستة، وعنها تفرع مذهب أبي حنيفة ، وله أيضاً كتاب الآثار، ولـأبي يوسف كتاب الآثار، إلا أن المنقول عن أبي يوسف لا يساوي المنقول عن محمد بن الحسن عليه رحمة الله لكثرة منقوله.

    وهذه المصنفات الستة جمعها الحاكم الشهيد وهو من أئمة الحنفية في كتابه الكافي في الفروع، جمع هذه المصنفات الستة لـمحمد بن الحسن ، ثم تفرع عن هذا الكتاب، ومنهم من فرع عن الأصول جملة من الكتب في مذهب أبي حنيفة عليه رحمة الله، إلا أن أصول مذهب أبي حنيفة عليه رحمة الله، وإن قلنا: إن أصوله الكتاب والسنة والإجماع، والقياس، وأقوال الصحابة، وإجماعهم، إلا أن هذه الأصول لقلة الموروث لديه من السنة، وقلة الموروث لديه من أقوال الصحابة، ومعرفة إجماعهم لم تنفعه فكثرت مخالفته للدليل، وذلك لأنه لم يرتحل كما ارتحل غيره إلى معاقل الوحي في مكة والمدينة، وأخذ من أصحابها.

    مظان وجود آراء أبي حنيفة وأقواله

    والمصنفات في مذهب أبي حنيفة في الفقه يأتي الكلام عليها، ولكن من جهة المروي عن أبي حنيفة ثمة مرتبتان:

    المرتبة الأولى: هي الأقوال والنصوص عن أبي حنيفة ، وهذه تؤخذ من أصحابه الذين التقوه، وأصحابه أبو يوسف و محمد بن الحسن و زفر بن هذيل ، وكذلك ابن زياد الذين أخذوا عن أبي حنيفة عليه رحمة الله، وهؤلاء هم العمدة، وثمة من نقل عن أبي حنيفة ، ولكن هؤلاء الذين ينقلون عنه الأقوال، هؤلاء لهم مصنفات تنقل عن أبي حنيفة ، وأشهر هذه المصنفات كتاب الآثار لـمحمد بن الحسن و أبي يوسف والمبسوط لـمحمد بن الحسن ، والمبسوط يأخذ عنه الحنفية كثيراً، ويفرع عنه المتأخرون في هذا.

    وأما بالنسبة المرتبة الثانية من جهة المنقول عن أبي حنيفة -وهذا هو الإشكال- أن أبا حنيفة رحمه الله لقلة المنقول عنه كان متأخر الحنفية يجعل ما يروى عن أصحابه قولاً له، قال ذلك النهرواني قطب الدين الحنفي في كتابه الإعلام بأعلام البيت الحرام، قال: قال علماؤنا: إن ما روي عن زفر بن الهذيل ، وعن أبي يوسف فهو قول لـأبي حنيفة ، فعلى هذا ما جاء من قول عن هؤلاء فيلزم أن يكون قولاً لـأبي حنيفة ، وهذا هو سبب كثرة المروي عن أبي حنيفة من الروايات، ولهذا يقل القول لـأبي حنيفة بالنسبة لغيره من الأئمة، والرواية عنده كثيرة، فيقول: يروى عن أبي حنيفة ، روي عن أبي حنيفة وهكذا، أما الأقوال التي يستطيع الإنسان أن يضعها بين قوسين فهي قليلة عند أبي حنيفة بالنسبة لغيره كـالشافعي و مالك ، وكذلك الإمام أحمد عليه رحمة الله، ولهذا نقول: إنه ينبغي لطالب العلم أن يحرر أقوال أبي حنيفة قبل نسبتها إليه حتى عند أصحابه.

    وأما ما كان من رواية فلا يلزم أن يكون قولاً صريحاً لـأبي حنيفة و إنما يخرجونه على أصوله لمعرفتهم بأصوله.

    طريقة الحنفية في تخريج المسائل وتأصيلها

    والإشكال أن الحنفية في هذه المدرسة وهي مدرسة الحنفية جروا على أصول أبي حنيفة ، وما جروا على أصوله من جهة الأصول والرجوع إلى الأدلة، فأصول أبي حنيفة الكتاب والسنة، وكذلك الإجماع، وأقوال الصحابة، ونحو ذلك، لكنهم أرجعوا هذه الأصول إلى أقوال أبي حنيفة ، وخرجوا تلك الأقوال الجديدة على أقواله لا على الأصول، ولو أرجعوا إلى الأدلة واستلموا الأدلة ونظروا فيها وجردوها، وأرجعوا إليها أقوال أبي حنيفة لكان ذلك أسلم وأنقى، ولهذا كثرت المخالفات للدليل في مذهب أهل الرأي؛ لأنهم سلكوا هذا المسلك، واليقظة في معرفة الأدلة في المرفوع جاءت متأخرة في مذهب الحنفية، ومن أوائل من اعتنى بذلك الزيلعي رحمه الله في كتابه نصب الراية، وكتابه نصب الراية هو جامع للأدلة التي يستدل بها في مذهب أبي حنيفة ، وهو سابق أيضاً للشافعية في هذا الأمر إلا أنه لم يستوعب لقلة الأدلة في دواوين الحنفية.

    أهم المصنفات في مذهب أبي حنيفة

    دواوين الحنفية من جهة المختصرات، أو الفروع التي يعتمد عليها الفقهاء من متأخري الحنفية لا يستطيع الإنسان أن يحصل كتاباً معيناً إليه يرجعون في هذا، ولكن نقول: إن من أشهر الكتب في هذا هو كتاب المختار للفتوى لـأبي الفضل الموصلي ، و أبو الفضل الموصلي له شرح لكتابه المختار وكتاب الاختيار لتعليل المختار، وهذا الكتاب تفرع عنه جملة من الكتب بها من محرري مذهب أبي حنيفة الذين يأخذون الفروع ويخرجونها على تلك الأصول المذكورة في كتاب المختار، ومصنفات هذا الباب كثيرة، من أشهر هذه المصنفات كتابان مشهوران يتوسعان في بيان فروع مذهب أبي حنيفة ، أولها فتح القدير شرح العاجز الفقير لـابن الهمام ، ثم كتاب الحاشية لـابن عابدين ويرد المحتار وهو حاشية لـابن عابدين جعلها على المختار، ففرع في كثير من الأدلة، وفيه إعواز في معرفة الدليل، وهو العمدة عند المتأخرين من جهة أصل المذهب عند كثير منهم، وليس عندهم على الإطلاق، ولكن من جهة المختصرات في هذا هو كتاب بداية المبتدي للمرغياني وشرحه الهداية في شرح البداية للمرغياني .

    وهذه المصنفات في مذهب أبي حنيفة عليه رحمة الله، أو هذان المختصران هما اللذان كان لهما التدريس والشرح عند كثير من المتأخرين، وأما من جهة التحرير، فيرجع فيه إلى المروي عن أبي حنيفة من جهة أصحابه الذين التقوه، فيرجع إلى ذلك، وأدق هذه الكتب هي كتب محمد بن الحسن ، فينبغي لطالب العلم ألا تخلو كتب الصدر الأول من الحنفية من مكتبته، وهي كالتالي: كتاب الآثار لـمحمد بن الحسن، والآثار لـأبي يوسف ، وكذلك الأصل والحجة على أهل المدينة، وكذلك المبسوط لـمحمد بن الحسن ، وكذلك كتاب الكافي الذي جمع الكتب الستة لـمحمد بن الحسن ، وهو للحاكم الشهيد يسمى الكافي في الفروع، فهذه ينبغي أن يوجدها طالب العلم لديه، ثم بعد ذلك ينظر في كتب المتأخرين؛ لأنها أقرب إلى التحرير؛ لأنه كثر التفريع في مذهب أبي حنيفة عند المتأخرين مما أبو حنيفة بعيد عن القول به.

    كذلك ينبغي لطالب العلم أن يعتني بمعرفة مدرسة الكوفيين الفقهاء، ويبدأ بذلك من أصحاب عبد الله بن مسعود وهم علقمة و الأسود و أبو الأحوص وكذلك من جاء بعدهم إبراهيم النخعي و أحمد بن سليمان ومن كان خارجاً عنهم لا ينتمي إلى واحد منهم، وذلك كـسفيان الثوري وغيره.

    كذلك من الفقهاء الذين يهتمون بالقضاء من الكوفيين، كـشريح القاضي وغيره، فيعتني بفقه أولئك؛ لأنه يعطيه وجهاً في ترجيح مذهب أبي حنيفة عليه رحمة الله عند وجود كثير من الأقوال، والكلام في المذاهب وكذلك في إرجاعها إلى أصولها، وكذلك وفرة الكتب وأصحاب الأئمة مما يطول جداً، وما لا يدرك كله لا يترك جله، ولا بعضه، ونحن إنما تكلمنا على خطوط عريضة على سبيل الإجمال، أما الكلام على التفصيل في معرفة المصنفات الدقيقة، والمتون المختصرة التي يحتاج إليها طالب العلم من جهة الحفظ، وكذلك تحرير الفتوى التي يفتي بها، وكذلك مناهج المتأخرين من جهة العمل بتلك الأصول في عمل المالكية مثلاً في عمل المدينة، في أهل المغرب الفاس الموريتاني وشنقيط، كذلك في شمال أفريقيا، والمدرسة التي غلبوا فيها مدرسة أسد بن فرات ، و عبد الله بن فروخ ، وغيرهم يختلفون بين مدرسة أهل مصر، ومدرسة أهل المدينة، ومدرسة أهل الرأي، وما كان بالكوفة، وما كان من وراء ما وراء النهر، ومذهب الإمام أحمد عليه رحمة الله مذهب الحنفية في العراق، ومذهبه في الشام في فلسطين، ثم ما جاء بعد ذلك استقرار مذهبه في بلاد نجد، وجود المذهب الشافعي في اليمن والمدرسة، وأصل نشأة هذه المدرسة وجود مذهب أبي حنيفة في مصر فيما نقله بعض الفقهاء من الكوفيين، ثم تلاشى بعد ذلك، والكلام أيضاً على مذهب الإمام أحمد في مكة، ونقلة المذهب عنه بعد ذلك، وأئمة المذهب الحنابلة في مصر البهوتي وغيره مما يطول جداً من الخوض في هذا الباب، ولكن تكلمنا على ما يحتاج إليه طالب العلم من هذه المذاهب من جهة الأصول.

    وأسأل الله جل وعلا أن يوفقني وإياكم لمرضاته، وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أهل الفقه في الدين، وأهل البصيرة بالتأويل، وأهل المعرفة والقصد الحسن، وأسأله جل وعلا أن يجعلني وإياكم ممن سلك به المنهج القويم والصراط المستقيم، وأسأله سبحانه وتعالى أن يسددنا في أقوالنا وأعمالنا، وأبصارنا وحواسنا وأن يأخذ بجوارحنا إليه فبه نتكلم، وبه نسمع، وبه نبصر، وبه نمشي، وبه نبطش، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755956308