إسلام ويب

مقصورة ابن دريد [4]- 2للشيخ : عبد العزيز بن علي الحربي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يستفاد من الوقف في القراءة تفسير المعنى وفهم المراد للمخاطب، والكلام ترد عليه الجمل الاعتراضية لأغراض متنوعة منها: التنزيه أو الدعاء أو التنبيه، والعرب لهم مذاهب في الاختصاص، فهم يصفون شيئين بشيء فيصبح كالعلم عليهما، فقد سموا التمر والماء بالأسودين، وسموا الشحم واللبن بالأبيضين، وسموا الذهب والفضة بالحجرين والحبيبين.

    1.   

    سهولة التوسع في اللغة العربية

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين،

    وبعد:

    أسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعل ما علمناه حجةً لنا لا علينا، إنه سميع مجيب.

    قال ابن دريد في مقصورته:

    [ رضيت قسراً وعلى القسر رضا من كان ذا سخط على صرف القضا

    إن الجديدين إذا ما استوليا على جديد أدنياه للبلى

    ما كنت أدري والزمان مولع بشت ملموم وتنكيث قوى

    أن القضاء قاذفي في هوة لا تستبل نفس من فيها هوى

    فإن عثرت بعدها إن وألت نفسي من هاتا فقولا لا لعا

    وإن تكن مدتها موصولةً بالحتف سلطت الأسا على الأسى

    إن امرأ القيس جرى إلى مدى فاعتاقه حمامه دون المدى

    وخامرت نفس أبي الجبر الجوى حتى حواه الحتف فيمن قد حوى

    وابن الأشج القيل ساق نفسه إلى الردى حذار إشمات العدى ].

    اليوم استأذنكم في ترك ذنب الوقت؛ لأنني على عجل، وعلى موعد، فربما ننتهي قبل العاشرة والقليل إن شاء الله يكفي، وأنا حريص ألا يترك هذا الدرس، ولذلك حضرت مع الارتباط، بعضكم يستعجلنا في موضوع قراءة أبيات كثيرة في كل يوم، ولكن في الحقيقة نحن لا نحتاج إلى ذلك، صحيح أن دراسة اللغة ومثل هذه الكتب تكون على أنواع، منها ما يكون للتصحيح فقط، ومنها ما يكون على طريقتي أنا حينما قرأت هذا الكتاب على الشيخ قرأته قراءةً سريعة، وأنا كنت وحدي، وإذا كان الإنسان وحده فإنه يجري وراء رغبته، أما والجمع كثير فإن لكل رغبة، ثم إننا أيضاً مهما توسعنا فمكثنا في بيت واحد سنةً كاملة على سبيل الافتراض فنحن ننتقل من لغة إلى لغة، من مفردة إلى مفردة، من كلام في اللغة العربية إلى كلام في اللغة العربية، نتكلم عن المفردات والدلالات وفقه اللغة والتراكيب وغير ذلك، واللغة العربية معلوماتها - وكذلك كل علم - بعضها آخذ بحجز بعض، فمهما توسعت في اللغة العربية ولو كان في جمل يسيرة فإنه يفتح لك آفاقاً في اللغة العربية، ويوسع لك أبواباً تدخل منها كيفما شئت، ولذلك أنا أحرص على ألا نستطرد استطراداً يخرجنا عن اللغة العربية، أما إذا كان في صميم اللغة العربية، أو حولها للضرورة أحياناً، أو لذهاب الذهن إلى شيء يتعلق بما أقوله، فهذا ليس فيه شيء، وليس فيه ضير، ندخل في شرح الأبيات.

    1.   

    شرح قول الناظم: (رضيت قسراً وعلى القسر رضا...)

    قال ابن دريد في مقصورته:

    [ رضيت قسراً وعلى القسر رضا من كان ذا سخط على صرف القضا ]

    (رضا): إما أن ننونه وإما ألا ننونه، وهذا على حسب المعنى الذي أفهمه أنا، يريد أن يقول: (رضيت قسراً وعلى القسر)، نحن في القراءات نحرص على الوقوف؛ لأن الوقف يفسر لنا المعنى، فهنالك من القراء من إذا قرأ فسر لك القرآن بقراءته؛ لأنه يقف في محل الوقف فتفهم المراد، ولكنه حينما يصل لا تعرف المراد إلا إذا كنت تعرفه من قبل، فالوصل والوقف لهما أثر.

    الرضا معناه وحكمه

    أراد أن يقول: إن هذا الرضا هو رضا إنسان ساخط على أقدار الله، أو يكون المعنى رضيت قسراً وعلى القسر رضا، يعني: هو مزج ما كان قهراً على ما كان رضاً، ما كان على رغم أنفه وهو القدر على رضا، يعني: هو رضي بالقوة.

    ومثل الكلام هذا الذي يحكى عن بعض الصوفية، حيث قام غلام يغني للناس: ويش علي من الناس ويش على الناس مني، هذا أصله بيت أورده ابن عطاء في كتابه.

    (الرضا)، نعرفه، واللفظة من مواد القرآن الكريم، قال الله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة:119]، رضا العبد عن الله: أن يقبل قضاء الله تعالى فيما يتعلق بالمكروه، هذا هو الرضا، والرضا منزلة من منازل السائرين، ومدرج من مدارج السالكين في منازل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، توسع ابن القيم في كتابه في شرح هذه المسألة، والرضا أكثر العلماء يقولون: إنه ليس بواجب، وإنما الواجب الصبر، لكن الرضا منزلة عالية يصلها من شاء الله من عباده.

    و(قسراً) مادة القاف والسين والراء تدل على المنع حيثما جاءت لا يشذ عن هذه الكلمة شيء، قسره يعني: منعه، وهل هذه اللفظة من مواد القرآن الكريم؟ هل جاء القاف والسين والراء في القرآن؟ هل من أحدٍ يستطيع أن يعمل ذهنه الآن بسرعة ويستخرج لنا لفظة في موضع واحد؟

    نعم، قسورة، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:51]، هي من قسرت، وفيها خلاف، ما هي القسورة؟ قيل: القسورة اسم للأسد، وقيل: الرماة، وقيل: الليل، أقوال في هذه المسألة أشهرها أنها اسم للأسد، والأسد محل المنعة.

    (من كان ذا سخط على صرف القضا)، (السخط) معروف، فهو: ضد الرضا، يقال فيه: سُخط وسَخط، ولعلنا ذكرنا لكم كلمات من هذا النوع تكون على وزن فُعْل وعلى زنة فَعَل، كما تقول: سُخْط وسَخَط، وولد وولد، وأرض وأرض، وعجم وعجم..، ألفاظ إن نطقتها بالتخفيف على زنة فُعْل فذلك حسن، وإن جعلتها أيضاً على زنة فَعَل فذلك حسن، هنالك قاعدة عند الكوفيين والبصريين: أن ما كان على زنة فُعل فلك أن تسكن وسطه، يعني: سخط تقول: سخط، وأما ما كان بالعكس فالأصل فيه أنه بالسكون، فهل تحركه؟ هنا وقف البصريون وقالوا: لا، وأما الكوفيون فقالوا: نعم، ونحن لأن هؤلاء الكوفيين ميسرون نميل معهم في غالب الأحيان؛ لأن كل شيء مبني على التيسير من أمور الدنيا وما يتبع الدين.

    الفرق بين القضاء والقدر

    (القضاء) هو: الحكم، والعلماء يختلفون في التفريق بين القضاء والقدر، القدر هو: التقدير، هذا أحسن الأجوبة، ولكن القضاء هو: الحكم، أي: تنفيذ ذلك التقدير، أنتم درستم في العقيدة: أن مراتب القدر أربعة، الله علم الأشياء فكتبها فأرادها فأوجدها بهذا الترتيب، إذاً المرتبة الرابعة هي القضاء، منهم من يقول: إن اللفظين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، كما يفرقون بين الإسلام والإيمان، لكن المعنى اللغوي للقضاء يدل على إنهاء الأمر، والقدر يدل على التقدير، فبهذا نستطيع أن نعرف المعنى الصحيح.

    أما قوله (صرف القضا) فمعناه تقلبه، ما يقلبه؛ لأن الإنسان لا يعلم ما الذي يجري عليه، ما الذي يدبر له، ما الذي يقضى له، فمرةً كذا، ومرةً كذا، هذا اسم تصريف وصرف؛ لأن التصريف هو التقليد، وهذه المادة جاءت في القرآن، يقول الله عز وجل: فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا [الفرقان:19] أي: منعاً ورداً للعذاب، وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ [الجاثية:5] تصريف أي: تقليب الرياح، صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [التوبة:127]، المادة واحدة ومعناها واحد.

    يقول في المعنى الإجمالي: رضيت قهراً على ما مضى، رضا امرئ نادم على القدر وتصاريفه، وهذا لا يجوز، ولكن كان ابن دريد يجري على طريقة الأدباء هذا من جهة، ومن جهة كان واقعاً في غمرات الحب وسكرته، والحب قد يفقد المرء الإيمان القوي أحياناً.

    1.   

    شرح قول الناظم: (إن الجديدين إذا ما استوليا...)

    يقول رحمه الله بعد ذلك:

    [ إن الجديدين إذا ما استوليا على جديد أدنياه للبلى ].

    الألفاظ المثناة للغلبة ونحوها

    (الجديدان): الليل والنهار، والعرب لهم مذاهب في الاختصاص، فهم قد يصفون شيئين بشيء، ويصبح ذلك كالعلم عليهما، فسموا الليل والنهار جديدين؛ لأن كل ليل جديد، هل هذه اللحظة التي تأتي بعد هذه الضربة مثلاً: هل هي قد مضت؟ بالنسبة لما قبلها لا، هي جديدة، وهكذا ما بعدها كل آت جديد، الليل والنهار كذلك، العرب تسمي الليل والنهار الأجدّين، إذاً يقال لهما: الجديدان الأجدان الملوان الفتيان العثران، والعثران: الغداة والعشي وكذلك الظهر والعصر، والأسودان: التمر والماء، والأحمران: اللحم والنبيذ، والأبيضان: الشحم واللبن، وقيل: الماء واللبن، والأهيمان أو الأيهمان أو كلاهما: الجمل الهائج والسيل، والغاران: الفرج والفم، وكذلك الطرفان، والأخبثان: البول والغائط، والحجران: الذهب والفضة، وكذلك الحبيبان، كل هذا جاء على أسلوب التسمية، العرب تطلق على الشيئين من باب التحليل، أو من باب الوصف بلفظ واحد يكون على صيغة التثنية، فقالوا مثلاً الحجرين: كلاهما حجر الذهب والفضة، يعني: كالحجر، الأخبثان: البول والغائط، ليس فيه تخصيص هذا نجس وهذا نجس.

    أحياناً تكون المسألة من باب التغليب، كما نقول في القمر والشمس نقول: القمران، الشمس أكبر من القمر، وأقوى من القمر، ولكنهم يغلبون لفظاً على آخر لمعنى من المعاني؛ قد يكون لقربه، وقد يكون لأنه أحب، ولأنه كما تعرفون في أكثر الشعر يكون التشبيه بالقمر، وقد يكون التشبيه بالشمس، لكن الشمس لأن فيها حرارة، وفيها توهج يقل التشبيه بها، ثم إن التشبيه بها بعيد، لكن القمر ممكن في البياض والجمال، وقد يكون أحياناً تغليب أحد اللفظين لخفته على اللسان، كما قالوا في أبي بكر وعمر: العمران؛ لأنه يصعب أن يقال: الأبوابكران أو يقال: البكران مثلاً ويكون فيه اجتزاز من الكلمة، فقالوا: العمران، وأبو بكر أفضل من عمر.. وهكذا.

    تصريفات مادة جدد

    هذه المادة هي جيم ودال ودال، جدد جدّ، يقول ابن فارس: لها ثلاثة أصول: الحظ والعظمة والقطع، هذه أصولها، فإذا وجدت كلمة جديد أو جدة أو جُدد أو جَدد أو جدى أو جدجد أو أي شيء فهي في الأصل ترد إلى واحد من هذه الأصول، الكلمة المضعفة التي هي الجيم والدال، والدال جاءت مثلثة في اللغة العربية، الجَد والجِد والجُد كله موجود في اللغة العربية، فالجد كما قال في مثلث قطرب:

    بفتحها أبو الأب والكسر ضد اللعب

    والضم لبعض القُلُب كان لبعض العرب

    الجَد في اللغة العربية أبو الأب، ويأتي أيضاً بمعنى العظمة، ويأتي أيضاً بمعنى الحظ، يقول الله عز وجل: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا [الجن:3]، وعند إعراب لفظ (جد ربنا)؟ نقول: جد فاعل، وما بعدها مضاف إليه، وهذه جملة اعتراضية دعائية قصد بها التنزيه، (تعالى): تعاظم، (جد ربنا): عظمة ربنا، أين الخبر؟ أصل الكلام (وأنه ما اتخذ صاحبةً ولا ولداً)، لكن جاءت هذه الجملة في الوسط، مثل صلى الله عليه وسلم، أو مثل حينما أقول لك: الأمر - سلمك الله - يحتاج إلى كذا وكذا، (سلمك الله) هذه جملة اعتراضية دعائية، فهنا المعنى العظمة، وجاء في الحديث: ( ولا ينفع ذا الجد منك الجد )، يعني: ذا الغنى أو الحظ؛ لأن الغنى هو الحظ، لا ينفعه منك الحظ، إنما ينفعه عمله.

    وأما الجد ضد الهزل، الجد يعني: ضد اللعب، في القرآن الكريم: وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ [فاطر:27]، جدد يعني: طرائق، ومفردها جدة كمدة ومدد، وجدة وجدد، وكلمة جدة أيضاً اسم للمدينة المعروفة، لا تقول: جَدة ولا جِدة، سأذهب إلى جِدة ولكن قل: سأذهب إلى جُدة بضم الجيم، ويطلق على جانب الشيء، أيضاً هي على ضفاف البحر، فجانب الشيء أيضاً يقال له كذلك؛ لأنه يكون طريقاً أو يكون ما هو بجانبه طريق، وهكذا، هذه المادة تدور حول هذه المعاني، وهذه أبرز ألفاظها، الذي جاء في القرآن سمعتم بعضه.

    و(الجديد): معروف فحينما تقول: ثوب جديد، كأنه جده النساج الآن، أي: قطعه، هو ثوب جديد؛ لأنه جد الآن يعني: قطع، فهي مادة ترد إلى مسألة القطع الذي ذكرناه، وهذا البيت من أبيات الحكمة، وهو كلام صحيح، فالإنسان تمر عليه الأيام والدهور والشهور ولا شك أنها تنقص منه وتأخذ منه، إلى أن يصبح بعد ذلك في مرتبة الضعف، ثم يصير من أصحاب القبور، هذا هو شأن الليالي أن تتجدد والإنسان لا يتجدد.

    بيان المجاز في قول الشاعر: (أشاب الصغير...)

    وقوله: (أدنياه للبلى)، أدنياه أي: قرباه للبلى، بلي الثوب بمعنى: أنه أصبح بالياً قديماً خلقاً، يقول حميد بن ثور الهلالي:

    أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومر العشي

    هذا البيت حينما درستم البلاغة وجدتموه في المجاز العقلي، هنالك مجاز يسمى المجاز العقلي، ويسمى المجاز الحكمي أو الإسنادي، هذا من أخطاء المصنفين أنهم أفردوه وحده من أجل الإسناد الخبري، وإلا فهو مع المجاز، ما نحتاج إلى تشتيت، يكفينا ما قيل في المجاز وما فيه من خلاف، فلا نحتاج إلى زيادة هم على هم، هذا البيت يقولون: إذا كان قائله قد قاله وهو يعتقد ذلك فليس بمجاز، وإن قاله المؤمن فهو مجاز؛ لأنه أسند الشيء والإفناء إلى كر الغداة ومر العشي، والذي يفعل ذلك في الحقيقة هو الله، ولكنه أسنده إلى غير ما هو له تجوزاً، والإسناد إلى غير ما هو له هذا معروف كما نقول: نهر جار وعيشة راضية، ونهاره صائم مثلاً ونحو ذلك، مسألة طويلة.

    في الشرح: إن الجديدين وهما: الليل والنهار؛ لأنها يتجددان إذا تعاقبا على المرء نقصا من عمره وقرباه للهلاك، فما بالك بمن أظناه الهوى حتى هوى، وهما إذا لزما شيئاً وكرا عليه أدنياه للهلاك كما قال الآخر:

    أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومر العشي

    1.   

    شرح قول الناظم: (ما كنت أدري والزمان مولع...)

    ثم قال رحمه الله بعد ذلك:

    [ ما كنت أدري والزمان مولع بشت ملموم وتنكيث قوى

    أن القضاء قاذفي في هوة لا تستبل نفس من فيها هوى ].

    البيتان مترابطان، هنا: (ما كنت أدري والزمان مولع بشت ملموم وتنكيث قوى أن القضاء..)، أصل الكلام: ما كنت أدري أن القضاء، وكما علمتم قبل قليل هذه الجملة اعتراضية بين ما كنت أدري وأن القضاء، إذا أردت أن تعرب تقول: ما: نافية، وكنت تعرفون حالها، يعني كان التاء اسمها، أدري: جملة في محل نصب خبرها، أدري تحتاج إلى مفعول، ما هو المفعول؟ أن وما دخلت عليه؛ لأن أن تسد وما دخلت عليه مسد مفعولين، فهذه جملة اعتراضية.

    أغراض الجمل الاعتراضية

    الاعتراض موجود في القرآن الكريم، والاعتراض عرفه في التلخيص فقال: أن يؤتى بجملة أثناء كلام أو بين كلامين متصلين بنكتة، هذه النكتة إما أن تكون التنزيه، وإما أن تكون الدعاء، وإما أن تكون التنبيه، هذه الثلاثة الأشياء، هنا قصد التنبيه، وأخبر بهذا الخبر، يعني الله عز وجل حينما يقول: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [النحل:57]، هذا أصل الكلام، (سبحانه) هذه جملة اعتراضية، القصد منها التنزيه، (ويجعلون لله البنات) (ولهم ما يشهون)، هنالك في سورة آل عمران وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ [آل عمران:73]، أصل الكلام ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى، قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ [آل عمران:73] هذه جملة اعتراضية، هنا قصد في الآية التنزيه، وأما الدعاء فمثل له في التلخيص بقول الشاعر:

    إن الثمانين وبلغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان

    إن الثمانين، هذا رجل طاعن في السن، أصبح شيخاً كبيراً؛ لأنه لا يسمع، يقول الجاحظ: إن ثقل السمع يورث هيبة، الإنسان إذا كان ثقيل السمع يورثه هيبة؛ لأنه يحتاج إلى كل إنسان يدنو منه ويرفع صوته، وهذا معذور، يعني يسمع متى شاء، فهو يعتذر ويقول: إن الثمانين التي بلغتها أنا وبلغتها أنت دعاء أسأل الله أن يبلغك إياها، يقول: لا، وأنتم تعلمون في الثمانين ماذا قال زهير:

    إن الثمانين وبلغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان

    هذه الجملة (وبلغتها) جملة اعتراضية، أراد بها الدعاء، وأما التنبيه فمثل له في التلخيص بقوله:

    واعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف يأتي كل ما قدرا

    واعلم أن سوف يأتي كل ما قدر، هذا أصل الكلام، لكنه جاء بهذه الجملة الاعتراضية (فعلم المرء ينفعه)، حينما أقول لك: اعلم -رحمك الله- أن كذا وكذا، فهذه دعائية رحمك الله، لكن أقول: اعلم -وما سأقوله لك يحتاج إلى انتباه- أن كذا وكذا، هذه تكون للتنبيه.

    والتلخيص هو للقزويني؛ لأن بعضكم قد يفهم أنه تلخيص الحبير.

    معنى كلمتي: (بشت) و(تنكيث)

    (مولع): ولع بالشيء إذا تعلق به وأحبه، (بشت): وهذه المادة درسناها ومعناها: تفريق، (ملموم): مجتمع، (تنكيث): نقض، (قوى): جمع قوة، الملموم تعرفون هذه المادة، هذه المادة معناها الجمع والاجتماع لمم، اللم، جاء في القرآن وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا [الفجر:19]، وجاء أيضاً كذلك إِلَّا اللَّمَمَ [النجم:32]، وهو ما ألم به الإنسان وطواه إلى نفسه، لكنه يكون لأنه يلوم به ويطويه إلى نفسه يجمعه إليه كأنه لا يرى لصغره.

    وأما التنكيث فقد جاء في القرآن: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ [التوبة:12]، مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا [النحل:92]، وجاء في القرآن: إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ [الزخرف:50]، والنكث كالنقض وزناً ومعنىً.

    اللم في لَمة ولِمة ولُمة هذه كلها موجودة في قطرب، أنا أوصيكم بدراسة مثلث قطرب؛ لأنه ممتع وسهل، فالإنسان إذا بدأ به يستفيد، وهناك يقول:

    كأن ما بي لَمة قد شاب شعر اللِمة

    وما بقي لي لُمه ولا لقى من نصب.

    يقول في الشرح: ما كنت أدري لما تجري به المقادير، ومن عادة الزمان الولع بتفريق ما اجتمع، ونقض القوى من كل شيء. هذا معروف.

    1.   

    شرح قول الناظم: (أن القضاء قاذفي في هوة...)

    قال رحمه الله:

    [ أن القضاء قاذفي في هوة لا تستبل نفس من فيها هوى ]

    (القضاء) عرفناه، (قاذفي)، القذف هو: الرمي بقوة، بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ [الأنبياء:18]، هناك من الكلمات ما تستطيع أن تفهم معناها منها، ولا يشذ عن هذا المعنى شيء من مادة قذف.

    (هوة): كحفرة وزناً ومعنىً، إلا أن الهوة تكون عميقة، والهوى بالفتح يقال: فلان في هوى يعني: في صعود، أما الهوي فهو انحدار، ومعنى (لا تستبل) أي: لا تبرأ، والمادة بلل، يقال: استبل وابتل وتبلل، الأصل في استبل: حسن حاله، مثلاً: حينما تكون عندك خبزة جافة، فبللتها في الماء فصارت رطبة وصارت حسنة صالحةً للأكل، هذا أيضاً كذلك حسن حاله، فمعنى استبل حسن حاله.

    جاء في الحديث في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو يخاطب المشركين: ( غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها )، يعني: لن أترك ما يتعلق بصلة الرحم، لكن لبلالها هل هي بالفتح أم بالكسر؟ هل هي ببَلالها أم ببِلالها؟ يعني هنالك من يقول: إنها بالفتح اسم لصلة الرحم، فصلة الرحم تسمى بَلالًا، لكن عملية الصلة، ذهابك إلى من تصله هذه بِلال بالكسر ، وبَلال بالفتح كقَطام.

    يقول النووي في شرح الحديث: إننا ضبطنا هذا اللفظ عن جماعات من المشايخ بالفتح وبالكسر، و حكم مثل هذا اللفظ أن الإنسان يكون فيه مخيراً بين أن يضبطه بحركات ثلاثة أو بحركتين، لكن الضمة لا تأتي هنا ولا ترد على لسان، فالوجهان صحيحان، لك أن تقول: ببَلالها، ولك أن تقول: ببِلالها.

    إذا بل من داء يخال بأنه نجا وبه الداء الذي هو قاتله

    إذا بل من داء، يعني شفي وبرئ من داء، يخال أي: يظن بأنه نجا، وبه الداء الذي هو قاتله، فيه داء أكبر من هذا.

    وشرح البيت الجملي: ما كنت أعلم أن القضاء سيقذفني في حفرة عميقة لا تبرأ نفس من وقع فيها؛ وذلك أن الحب أعمى، ولا قائد له يخلصه من وحشة الطريق حين يسمع نداء الحب.

    1.   

    الأسئلة

    أحسن كتاب للمبتدئين في فن الصرف

    السؤال: ما هو أحسن كتاب يبدأ به المبتدئ في فن الصرف؟

    الجواب: الصرف يحتاج إلى ذكاء، وهو جزء من النحو، لكن إذا اجتمعا أيضاً افترقا، فلا يصلح أن تدرسه وحدك، لا بد أن تدرسه على شيخ أو أستاذ، وتقرأه عنده.

    وخذها قاعدة عندما تريد أن تدرس كتاباً على أحد من الناس فاسأله فلعله يجيب، فبعض الكتب أحسن من بعض، اسأله عن الكتاب الذي يحسن أن تقرأه عليه، أو أيضاً من الكتب التي يعرفها ويفهمها، لكن هذا الكتاب ضَبَطه أحسن من غيره، فاجعله يختار لك الكتاب الذي تدرسه.

    وأما أنا لو سألتني كيف تبدأ؟ فأنا أقول لك: ابدأ بلامية الأفعال، لكنها صعبة، فيها صعوبة، فإذا بدأت تعرف تصريفات الأفعال، ووزن الأفعال، وكيف تقلب الأفعال، وما هي الأوزان التي لا تتجاوزها.. إلى آخره، وكذلك أسماء الفاعلين والمفعولين والمصادر وأسماء الآلة، إذا عرفت هذه الأشياء فكأنك بنيت هيكل المبنى، ثم لاستكمال البناء تدرس في كتب الصرف الأخرى.

    وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756224845