الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فقد بدأنا في مدارسة الباب الثالث من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي عليه وعلى أئمتنا والمسلمين أجمعين رحمات رب العالمين، وقد دار هذا حول باب ما جاء في أن (مفتاح الصلاة الطهور)، ثم ساق الإمام الترمذي عليه رحمة الله في هذا الباب حديثين:
الحديث الأول رواه عن أربعةٍ من شيوخه: عن قتيبة بن سعيد ، وهناد بن السري ، ومحمود بن غيلان ، ومحمد بن بشار رضي الله عنهم أجمعين، عن علي رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)، قال أبو عيسى : هذا الحديث أصح شيءٍ في هذا الباب وأحسن.
ثم روى حديثاً آخر في هذا الباب رواه عن شيخه أبي بكر محمد بن زنجويه البغدادي ، وعن غير واحدٍ من شيوخه أيضاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الوضوء).
إخوتي الكرام! لا زلنا في المبحث الأول في دراسة إسناد الحديثين، وغالب ظني أننا انتهينا من ترجمة العبد الصالح سيد الحفاظ وإمام المسلمين في زمنه علماً وعملاً سفيان الثوري أبي عبد الله عليه وعلى أئمتنا رحمات ربنا، وآخر ما تكلمنا على هذه الترجمة المباركة فيما يتعلق بوصف التدليس الذي وصف به، وبينت معنى التدليس، وأقسام المدلسين الخمسة، بعض الإخوة يقول: إن بعض العلماء المعاصرين يقول: إن ابن عباس رضي الله عنهما كان من المدلسين، وأنه أول المدلسين في هذه الأمة.
والجواب: أن وصف ابن عباس رضي الله عنهما بذلك لا يصح، وإن كان روى أحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام بواسطةٍ وحذف تلك الواسطة، لكن ما أطلق على هذا الفعل من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وصف التدليس، التدليس كان فيمن بعدهم؛ لأن الراوي عندما يحذف شيخه الذي حدثه بالحديث، قلنا: هذا يوهم علينا الأمر، فقد يكون هذا المحذوف حوله كلام، فأما الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين سواءٌ سموا بأعيانهم أو لم يسموا لا يضر، ولذلك لو قال التابعي الثقة: حدثني من صحب النبي عليه الصلاة والسلام، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال كذا، ولم يسم الصحابي فالحديث له حكم الاتصال بالاتفاق.
فما جرى وصدر من ابن عباس رضي الله عنهما سماه أئمتنا بمرسل الصحابي، وهو ما رواه الصحابي عن النبي عليه الصلاة والسلام ولم يسمعه منه، إنما أخذه بواسطة صحابيٍ آخر، هذا يقال له: مراسيل الصحابة، ومراسيل الصحابة لها حكم الاتصال، وما خالف في ذلك إلا إمام واحد من أئمتنا الأبرار وهو الإمام أبو إسحاق الإسفراييني ، ولذلك يقول شيخ الإسلام الإمام العراقي في الألفية:
أما الذي أرسله الصحابي فحكمه الوصل على الصواب
والصواب يقابله الخطأ، فكأنه يقول: هناك إمامٌ من الأئمة قال: إن مراسيل الصحابة كمراسيل من بعدهم، نتوقف فيها حتى يتبين لنا من رووا عنهم عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا -كما قلت- خلاف الصواب.
فـابن عباس رضي الله عنهما كان عمره عندما توفي نبينا عليه الصلاة والسلام وانتقل إلى جوار ربه أربع عشرة سنة، أي ناهز الاحتلام، فأكثر الأحاديث التي رواها كانت عن الصحابة الكرام عن النبي عليه الصلاة والسلام، وكان أحياناً يصرح بالصحابي، وأحياناً يحذفه ويروي الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام مباشرةً دون أن يقول: سمعت، إنما يقول: قال النبي عليه الصلاة والسلام، أو أن النبي عليه الصلاة والسلام فعل وما شاكل هذا، من غير تصريح بالسماع، إنما يحذف من حدثه به من الصحابة الكرام.
هذا كما قلت يقال له: مراسيل الصحابة، وحكمها أنها متصلة، فليس حالها كحال التدليس الذي وصف به بعض المحدثين ممن جاء بعد الصحابة الطيبين رضوان الله عليهم أجمعين.
أيضاً عبد الرحمن بن مهدي أخرج حديثه أهل الكتب الستة، ونعته الإمام الذهبي في السير وفي تذكرة الحفاظ بأنه سيد الحفاظ، وقف مرةً مع وكيع بن الجراح في المسجد الحرام بعد أداء صلاة العشاء في المسجد يتذاكران حتى أذن المؤذن للفريضة وهما يتذاكران حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وذهلا عن الوقت، وهذا حال أئمتنا الأخيار عليهم جميعاً رحمة الله جل وعلا، يتذاكران حديث النبي عليه الصلاة والسلام بعد صلاة العشاء دون شعورٍ بالوقت حتى طلع الفجر! وتقدمت معنا ترجمة وكيع بن الجراح، توفي سنة سبعٍ وتسعين، يعني قبل عبد الرحمن بن مهدي بسنة، عليهم جميعاً رحمة الله.
وكنت ذكرت شيئاً من مناقب عبد الرحمن بن مهدي في بدء مدارستنا لدروس الحديث وهي قصةٌ طريفةٌ عجيبةٌ غريبة، كان يقول: لولا أن تحب المعصية لتمنيت أن يغتابني كل من في البلد، وأي شيءٍ أهنأ من أن تجد حسناتٍ في صحيفتك بدون عمل! يعني يقول: لولا أن تكون معصية لتمنيت أن يغتابني كل واحد، وحقيقةً هذا حال من ينظر إلى الآخرة ولا يأبه بالدنيا، لكن يقول: ما أريد أن ارتكب معصيةً بهذا الهم، وإلا لو كان الإنسان عاقلاً لما حزن عند اغتياب الناس له.
وتقدم معنا أيضاً قصة ثانية من أخباره أنه كان يجلس بعد صلاة الجمعة للدرس، فكان إذا كثر الجمع فرح واستبشر، وإذا قلّ الجمع حزن واكتأب، فعرض هذا على صديقه وشيخه الإمام الرباني بشر بن منصور في ذلك الوقت، فقال: ما تقول؟ قال: هذا مجلس سوء فلا تعد إليه، يقول عبد الرحمن بن مهدي : فما ذكَّرت فيه بعد ذلك، ما دامت النفس تتطلع للكثرة وتحزن للقلة، فحقيقةً ينبغي على الإنسان أن يحتاط، ولا يقولن معترض بعد ذلك: ليجاهد نفسه وينصرف إلى مجلسٍ آخر، لكن لما حصلت هذه الرعونات وهذه الآفات، والإنسان على نفسه بصيرة ترك، وهكذا كانت معاملتهم في هذه الحياة لربهم جل وعلا، وحقيقةً كأنهم ينظرون إلى الآخرة بأعينهم.
وتقدم معنا عند فضل مدارسة الحديث أنه كان يقول: لأن أحفظ حديثاً أحب إليّ من أن يغفر لي ذنبٌ، وقلنا: لأنه بحفظ الحديث يحصل أجوراً ومغفرة ذنوبٍ كثيرة أكثر مما لو غفر له ذنب، يقول: لو خيرت بين أمرين: أن يغفر لي ذنب وأن أحفظ الحديث لاخترت حفظ حديثٍ على مغفرة ذنبٍ.
ومن مناقبه: أنه كان يقرأ كل ليلةٍ نصف القرآن، فكان يختم القرآن كل ليلتين رحمه الله ورضي الله عنه، وهو ممن جمع الله له خير الدنيا وخير الآخرة، وكان طلبة العلم يقولون: دار عبد الرحمن بن مهدي تذكرنا بالدنيا والآخرة، فإذا دخلناها نرى فيها نعيماً ونعماً ويتحفنا ويسعدنا، فيها خيرات ليست كحال بيوت المشايخ الفقراء، وتذكر بالآخرة؛ لأنه ليس فيها معصية، بل مجالس خشية وتذكير بالله الجليل سبحانه وتعالى، نسأل الله أن يرحمه، وأن يرحم المسلمين أجمعين، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، هؤلاء هم المحدثون رحمهم الله ورضي عنهم.
عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا سفيان ، سفيان هو الثوري الذي تقدم معنا، فهناك إذاً قتيبة وهناد ومحمود بن غيلان ، شيوخ الترمذي الثلاثة، رووا الحديث عن وكيع ، عن سفيان ، وهنا محمد بن بشار رواه عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، فبدل وكيع عبد الرحمن بن مهدي فقط، أما سفيان هذا فمشترك في الإسنادين -في الطريقين- يعني من طريق شيوخه الثلاثة عن وكيع، ومن طريق محمد بن بشار عن عبد الرحمن بن مهدي، ثم سفيان شيخ عبد الرحمن بن مهدي، وشيخ وكيع عليهم جميعاً رحمة الله، ثم الإسناد بعد ذلك سيصبح واحداً للطريقين المتقدمين، اتفقا عند سفيان. وقد تقدمت ترجمته.
ونعت فيما يبدو لي عند أئمتنا لعلةٍ أخرى، وهي الرد على الروافض الذين يقعون في الشيخين في أبي بكر وعمر ، ويطعنون في خلافتهما، ويقولون: خلافتهما باطلة، فأئمتنا كانوا ينعتون ولد علي بإضافته إلى أمه، إشارةٍ إلى أن هذا القول باطل، وأما قولكم لو ثبت لكان في ذلك منقصة ومطعن في علي رضي الله عنه وأرضاه؛ لأن تصرفات الإمام غير الشرعي ليست شرعية، وقتال المرتدين في بلاد نجد من بني حنيفة وقع في عهد أبي بكر ، وسبى ذرية المرتدين، ووزعت الغنائم على المجاهدين ومنهم علي ، فأخذ امرأةً من السبي واستولدها، وولد له هذا المولود المبارك الذي سماه محمداً .
وولد محمد في العام الذي مات فيه أبو بكررضي الله عنهم أجمعين، إذاً حصل الاستيلاد في حياة أبي بكر، وولد في العام الذي مات فيه أبو بكر رضي الله عنه، وهذا كله في عهد خلافة أبي بكر ومن تصرفات أبي بكر ، فإذا كانت تصرفات هذا الخليفة غير نافذة ولا شرعية فكيف استباح علي أن يأخذ امرأةً من السبي وأن يستولدها؟! هذا برهانٌ قطعي على إقرار علي بصحة خلافة أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين، والفروج يحتاط فيها غاية الاحتياط.
ونحن عندنا أمران فيما يتعلق بالمصاهرة نقطع بهما لسان كل رافضي:
الأمر الأول: محمد بن الحنفية ، فإذا جاء رافضي ليطعن في أبي بكر قل له: أخبرنا عن محمد بن الحنفية من أبوه؟ إن قال: أبوه علي رضي الله عنه وأرضاه، فقل له: من أمه؟ امرأةٌ من بني حنيفة، كيف تم اتصال علي بها؟ عن طريق توزيعها من السبي، في عهد خلافة من؟ في عهد خلافة أبي بكر ، كيف استباح علي هذا العرض في عهد هذا الخليفة الذي لا تنعقد خلافته عندكم، وخلافته باطلة؟! فتصرفاته باطلة إذاً.
والقصة الثانية: قصة زواج عمر من أم كلثوم، وهي بنت علي وبنت فاطمة رضي الله عنهم أجمعين، فإذا كان عمر رضي الله عنه فيه ما فيه كما تقولون من الظلم والجور والجبروت والكفر على تعبيركم، كيف رضي علي أن يزوج ابنته لهذا الصحابي الذي تصفونه بما هو منه بريء؟ وهذه أوصافكم، وأوصاف الضالين أمثالكم، وليست هذه بأوصاف الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، فكأن أئمتنا كانوا يضيفون محمداً إلى أمه، لهذين الأمرين: للتفريق بينه وبين أولاد فاطمة ، والثاني: للإشارة إلى أن هذا الحدث له دلالة معينة في الرد على فرقةٍ ضالةٍ تتهم أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه، ففعل علي يرد عليها، والدلالة الأولى كما قلت معتبرة.
وقد قيل لـمحمد بن الحنفية رضي الله عنهم أجمعين: ما بال والدك علي يقدمك بين يديه لما لا يقدم به الحسن والحسين ؟ يعني: يكلفك ويرسلك والحسن والحسين يصونهما عن كثيرٍ من الأفعال؟ فقال: أما علمتم أن الحسن والحسين لـعلي بمثابة الخدين والعينين، وأما أنا فبمثابة اليدين، والإنسان يدفع الأذى عن خديه وعن عينيه بيديه، الحسن والحسين لهما مكانة، فأبوهما علي وأمهما فاطمة ، وأنا والدي علي لكن أمي دون فاطمة رضي الله عنهم أجمعين، فأنا إذاً أخدم أخوي الحسن والحسين ، كما أن الإنسان يخدم عينيه وخديه ووجهه بيديه، فأنا بمثابة يد تستعمل في خدمة علي وأولاده من نسل فاطمة رضي الله عنهم أجمعين.
محمد بن الحنفية هو أبو القاسم المدني ، ثقةٌ عالمٌ، من الثامنة، أخرج حديثه أهل الكتب الستة، توفي بعد الثمانين، ولم يجاوز المائة عليه رحمة الله، وهو ثقةٌ عالمٌ صالحٌ هذا الذي جاء في التقريب.
وذكر أئمتنا كما في تذكرة الحفاظ وسير أعلام النبلاء في ترجمة هذا العبد الصالح محمد بن الحنفية أنه كان يقول: من كرمت عليه نفسه لم يكن للدنيا عنده قدر، فالله ما جعل للنفس ثمناً إلا الجنة، فكيف إذاً يجعل الإنسان للدنيا قدراً عنده، ونفسه اشتراها الله جل وعلا وجعل ثمنها الجنة!
وكان يقول: أهل بيتين من العرب اتخذهما الناس أنداداً: نحن وبنو عمنا بنو أمية، أي: بنو أمية جعلهم الناس أنداداً من أجل عرض الدنيا للحكم الذي حصل لهم، وهكذا آل البيت الطيبون الطاهرون اتخذهم بعض الناس أنداداً وغلوا فيهم، أولئك من أجل الدنيا، وهؤلاء من أجل الدين.
إذاً: لبس الشيطان على الناس بهذين الفريقين:
آل البيت عبدهم بعض الناس من دون الله من أجل وساوس اخترعها الشيطان لهم، وزين لهم أن حب آل البيت حسنة لا يضر معها خطيئة، فإذا ادعى حبهم فليس عليه بعد ذلك لو ترك الصلاة والصيام، أو فعل كبائر الآثام!
والبيت الثاني بنو أمية، الذين ما عبدوا من أجل الآخرة بل من أجل الدنيا، وباع كثيرٌ من الناس دينهم من أجل الدنيا التي عند بني أمية، وهناك أناسٌ -كما قلت-: ضيعوا دينهم زعماً أنهم على دين عندما غلوا في آل البيت الطيبين الطاهرين رضوان الله عليهم أجمعين.
هذا فيما يتعلق برجال هذا الإسناد قبل الراوي من الصحابة الكرام وهو علي رضي الله عنه وأرضاه.
وقد تربى ونشأ في حجر النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن والده أبا طالب كان فقيراً، فكان محمدٌ نبينا عليه الصلاة والسلام يساعد عمه، فأخذ علياً وضمه إليه، ونبينا عليه الصلاة والسلام لما تزوج خديجة لم يكن علي موجوداً رضي الله عنه وأرضاه، إنما قلنا: ولد قبل البعثة بعشر سنين، ونبينا عليه الصلاة والسلام تزوج خديجة وعمره خمس وعشرون سنة، يعني أن علياً ولد بعد زواجه من خديجة بخمس سنين، وبعد ذلك ضمه نبينا عليه الصلاة والسلام إلى أسرته من أجل أن ينفق عليه مساعدةً لعمه، فنشأ في حجر النبي عليه الصلاة والسلام وفي كنفه وتحت رعايته وفي بيته قبل أن يبعث على نبينا وعلى آل بيته صلوات الله وسلامه.
وقد ثبت هذا في سنن الترمذي ومستدرك الحاكم من حديث جميع بن عمير التيمي ، وهو صدوقٌ كما قال الحافظ في التقريب، يخطئ ويتشيع، وتشيعه من تشيع الشيعة المتقدمين الذين يفضلون علياً على عثمان رضي الله عنهم أجمعين، وليس في ذلك طعنٌ في أحد من الصحابة الكرام، فهذا التشيع مع أنه مردود، لكن ليس فيه إثمٌ ولا معصيةٌ ولا حرج، والأمر في تقديم علي على عثمان اجتهادٌ لبعض المسلمين في العصر الأول، وسيأتينا أن الراجح والمعتمد تقديم عثمان على علي رضي الله عنهم أجمعين، فكان يقال لمن قدم علياً على عثمان : إنه شيعي دون أن يقع في أحدٍ من الصحابة، ودون أن يقدم علياً على أبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين.
أخرج حديثه أهل السنن الأربع، والإمام الذهبي أطلق حكماً شديداً في تعليقه على المستدرك فقال: متهمٌ ولم ينقل هذا عن عائشة أصلاً، وسأذكر -إن شاء الله- كلام عائشة رضي الله عنها وأرضاها، والحديث رواه الترمذي بسندٍ حسن عن بريدة ، فإذاً روي عن جميع بن عمير التيمي ، وروي عن بريدة رضي الله عنهم أجمعين، أما جميع بن عمير التيمي فيقول: دخلت مع عمتي على عائشة رضي الله عنها، وهذا يدل على أنه لم يكن عنده رفض ووقوعٌ في أعراض الصحابة، ولا يطعن في أمنا عائشة ، فهو دخل عليها، وسلم عليها من وراء حجاب، عمته دخلت إلى عائشة وهو جلس وراء الستر، يقول: فسألتها، وفي رواية بريدة يقول: سأل، وهنا يقول: فسألتها، أي: سأل جميع بن عمير التيمي أمنا عائشة رضي الله عنها: من أحب النساء إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ فقالت: ( كان أحب النساء إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام
وفي رواية بريدة في سنن الترمذي بإسنادٍ حسن: ( كان أحب النساء إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام
قال إبراهيم التيمي : يعني من أهل بيته، فأحب النساء إلى النبي عليه الصلاة والسلام من أهل بيته فاطمة ، وأحب الرجال إليه من أهل بيته علي ، لنزيل التعارض بين هذا الحديث والحديث الثابت في سنن الترمذي بسندٍ حسن صحيح عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: (أنه عندما جاء من غزوة ذات السلاسل دخل على النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله! من أحب الناس إليك؟ قال:
وحديث عبد الله بن عمرو ربما يكون في الصحيحين، ولكنه في الترمذي بسند حسن صحيح وقد نقلته من جامع الأصول (7/135) فنسبه إلى الترمذي فقط، فإذا كان في الصحيحين مع سنن الترمذي فهذا أيضاً خيرٌ على خير، لكن الحديث المتقدم قلت: هو في الترمذي والحاكم من رواية جميع بن عمير ، وفي الترمذي عن بريدة ، وفيه: (أن أحب النساء إلى النبي عليه الصلاة والسلام
فقال عبد الرحمن بن عوف : أنا أعزل نفسي، هل تولياني الأمر على أن أختار للمسلمين؟ فرضيا وقبلا برأيه؛ ولأن الرأي الذي قال به عبد الرحمن من أجل أن يحسم الأمر، فقال لـعلي وذكره بقرابته من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأنه إذا عهد إليه بالخلافة وبايعه ثم بايعه المسلمون أن يحكم بكتاب الله وبسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وألا يحيد عن الحق، وإذا ولى عليه عثمان ينبغي أن يسمع ويطيع ويبايع فأقر علي بذلك، وقال مثل هذا لـعثمان ، ثم خلا عبد الرحمن بن عوف بالمسلمين يستشيرهم حتى وصل إلى المخدرات في خدورهن يسألهن من يريدن أن يكون خليفةً على المسلمين بعد عمر ، يقول: فما رأيتهم يعدلون بـعثمان أحداً، كلهم يريدون عثمان ، فدعاه وبايعه وبايعه علي وسائر الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين وتمت البيعة.
إذاً هو أحد الستة في مجلس الشورى الذين توفي عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض.
والحديث إسناده حسن، وقول الإمام ابن تيمية عليه رحمة رب البرية في منهاج السنة النبوية في الجزء الثاني صفحة ثمانٍ وأربعين: الحديث باطلٌ موضوع لا يسلم له؛ لأن الحديث في سنن الترمذي ، وقد نص على تحسينه: حسنٌ غريب، وإذا كان حول الحديث كلامٌ يسير فتصحيح وتحسين الإمام الترمذي إن شاء الله يرفع القيل والقال، وفي إسناده الذي تقدم معنا جميع بن عمير ، وقد نعته الحافظ بأنه صدوق، فلا يصل الحديث إلى درجة الوضع بحال.
وقول الإمام ابن تيمية عليه رحمه الله: ما ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام عقد لقاءً بينه وبين أحد ولا بين المهاجرين أنفسهم غير مُسَلَّمٍ بشقيه، إنما هذا رأي الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله، ومحقق الكتاب في الطبعة الحديثية التي طبعت في تسع مجلدات في الجزء الرابع صفحة اثنتين ما فعل شيئاً نحو كلام الإمام ابن تيمية بل أورده وكأنه قضية مسلمة، ولم يبين أن الحديث في سنن الترمذي والمستدرك.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر حديث المؤاخاة بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين علي في الخطابة في ترجمة علي رضي الله عنه في الجزء الثاني صفحة خمسمائة وسبعة، ذكره في هذا المكان وما علق عليه بشيء، ما قال: إنه ضعيف، ولا قال: حوله كلام، إنما عزاه إلى الإمام الترمذي ، وذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام آخى بين نفسه وبين علي رضي الله عنه وأرضاه.
فإذاً الحكم على الحديث بأنه باطلٌ موضوع غير مسلم، والعبارة ليست دقيقةً في ميزان العلم والبحث.
وقد دعا له النبي عليه الصلاة والسلام في مناسبةٍ أخرى بأن يشفى أيضاً من مرضٍ كان فيه، فما أصابه ذلك الوجع أيضاً حتى لقي ربه، والحديث ثابتٌ في المسند وسنن الترمذي ومستدرك الحاكم ، وصحيح ابن حبان ، وإسناده صحيح، قال: (كنت شاكياً -يشتكي علةً في بدنه- فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أقول: اللهم إن كان قد حضر أجلي فأرحني، وإن كان أجلي متأخراً فارفعني -أي: ارفع هذا المرض عني لأقوم نشيطاً- وإن كان هذا المرض بلاءً فصبرني)، إذا كان هذا علامة حضور الأجل فعجل بموتي وأرحني، وإذا كان الأجل متأخراً فأسألك أن ترفعني وأن تزيل هذا المرض عني، وإذا قدرت علي بلاءً فصبرني عليه، (فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ماذا قلت؟ فأعاد
ففي موقعة خيبر بصق في عينيه فما اشتكى عينيه حتى مات رضي الله عنه وأرضاه، وذاك الوجع الذي أصيب به وشكى منه في بعض مراحل عمره أيضاً دعا له النبي عليه الصلاة والسلام بالعافية والشفاء، فما اشتكى ذلك المرض، ولا عاد إليه بعد ذلك.
وقد كناه النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، وورد هذا أيضاً في عدة أحاديث، منها ما في معجم الطبراني الأوسط ومعجم الطبراني الكبير، عن أبي الطفيل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعلي : (إن أحق أسمائك
وورد هذا أيضاً في عدة أحاديث أخرى أشار إليها الحافظ في الفتح في الجزء الثاني صفحة اثنتين وسبعين، من جملتها أيضاً أن النبي عليه الصلاة والسلام كناه بهذه الكنية عندما آخى بين المهاجرين والأنصار، ولما لم يؤاخ بين علي وبين أحد ذهب علي إلى المسجد فنام وهو غضبان، لم يحصل بينه وبين أحدٍ إخاء، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام وأيقظه ثم قال: (قم
أخرج الإمام البيهقي في السنن، وانظروا الأثر في الجزء الثامن صفحة تسعٍ وخمسين، ورواه في كتاب دلائل النبوة في الجزء السادس صفحة تسعٍ وثلاثين وأربعمائة بإسنادٍ صحيح، نص على صحته الإمام البيهقي عليه رحمة الله، والأثر رواه الطبراني في معجمه الكبير بسندٍ حسن كما في مجمع الزوائد في الجزء التاسع صفحة سبعٍ وثلاثين ومائة، عن زيد بن أسلم رحمه الله ورضي عنه، قال: دخل أبو سنان الدؤلي على علي رضي الله عنه يعوده في شكوى اشتكى منها، من علةٍ أصيب بها، فقال أبو سنان الدؤلي لـعلي : لقد تخوفنا عليك! يعني من أن تموت في شكواك هذه، نخاف أن تقبض، فقال علي رضي الله عنه: لكني والله ما تخوفت على نفسي، وقد سمعت الصادق المصدوق على نبينا صلوات الله وسلامه يقول: (إنك ستضرب ضربةً ها هنا، وضربةً ها هنا، وأشار إلى صدغيه)، وهو ما بين العين والأذن، فهما صدغان؛ واحد عن اليمين والآخر عن الشمال، (فيسيل دمها -أي: دم هذه الضربة، ودم هذه الضربة من الصدغين- حتى يخضب لحيتك، ويكون صاحبها أشقاها -أي: صاحب الضربة- كما كان عاقر الناقة أشقى ثمود)، فكأنه يقول لـأبي سنان: كيف تتوقع موتي على هذا الفراش من هذه العلة وهذه الشكوى، لا يمكن أن أموت على فراش، لا بد من ضربة ها هنا، وضربة ها هنا، ويسيل الدم، وتختضب هذه اللحية من هاتين الضربتين، ويكون الضارب أشقى هذه الأمة، كما أن الذي عقر الناقة هو أشقى قوم ثمود، وهذا هو عبد الرحمن بن ملجم الخارجي الضال الذي زعم أنه يتقرب إلى الله بقتل علي ، وما تقرب بذلك إلا إلى الشيطان الرجيم.
والحديث حديثٌ صحيح، وقد روي أيضاً عن عدةٍ من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين في كثيرٍ من كتب الحديث، رواه الإمام أحمد في مسنده، والطبراني في معجمه الكبير والبزار في مسنده قال الهيثمي في المجمع: رجال إسناده موثقون، وهو الحديث المتقدم عن عمار ، لكن يقول: التابعي لم يسمع من عمار ففيه انقطاع، تشهد له الرواية المتقدمة والرواية المتأخرة التي سأذكرها إن شاء الله، وفيه: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـعمار ولـعلي بعد أن أيقظ علياً من النوم وعليه التراب في غزوة العسير أو العشير، قال: (ألا أحدثكما بأشقى الناس أحيمر ثمود)، أي: الذي يميل إلى الحمرة، (ومن يضربك على هذه -يعني قرنه- حتى يبل هذه -يعني: يبلها من دمك- فيضربك على قرنك -يعني: على رأسك أو هامتك- حتى يسيل الدم على لحيتك)، والحديث رواه الإمام الطبراني وأبو يعلى وفيه رشدين بن سعد وثقه عددٌ من أئمتنا، وبقية الرجال ثقات، ورشدين بن سعد فيه غفلة الصالحين كما قال أئمتنا، وعدالته تامة كاملة، وهذه الرواية عن صهيب ، والرواية المتقدمة عن عمار ، هنا عن صهيب ، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـعلي رضي الله عنه: (يا
والحديث رواه الإمام أحمد في المسند، والبزار ، ورواه البيهقي في دلائل النبوة، ورجاله موثقون عن فضالة الأنصاري رضي الله عنه قال: (عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أموت حتى أضرب على رأسي وتختضب هذه منه)، يضرب فتختضب هذه اللحية المباركة الطاهرة، والحديث رواه أبو داود الطيالسي ، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في دلائل النبوة عن زيد بن وهب قال: جاء رأس الخوارج إلى علي رضي الله عنه وقال له: إنك ميتٌ يا علي ، فقال: كذبت، والذي خلق الحبة وبرأ النسمة، ولكني مقتولٌ من ضربةٍ على هذه وتختضب هذه، لا أموت على فراشي، والحديث رواه الحاكم في مستدركه بسندٍ صحيح أقره عليه الذهبي عن حيان الأسدي وهو أبو الهياج الأسدي رضي الله عنهم أجمعين.
ورواه البيهقي في دلائل النبوة والبزار عن ثعلبة بن يزيد ، ورواه البيهقي في دلائل النبوة عن أبي إدريس الأزدي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعلي : (إن هذه ستختضب من هذا)، يعني: لحيته من رأسه.
والحديث رواه الإمام أحمد وأبو يعلى ، وإسناد الحديث كما قال الحافظ في المجمع: رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن سبيع ، وهو ثقةٌ، هذا كلام الحافظ الهيثمي في المجمع، وذكر الحافظ ابن حجر في التقريب أنه يقال: عبد الله بن سبع ، يقول: مقبولٌ من الثالثة، فكلام الهيثمي ثقة، وهنا يقول: مقبول، وحديثه يقبل عند وجود شاهدٌ له أو متابع، ثم قال: ع س، أي: أخرج له النسائي في خصائص علي رضي الله عنه، ولم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة في الكتب الستة، وهو الحديث المتقدم: (إن هذه ستخضب من هذا)، يعني: لحيته من رأسه، ورواه البزار أيضاً، وإسناده حسن كما قال الهيثمي في المجمع عن عبد الله بن سبيع ، قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول: لتختضبن هذه من هذه، فما ينتظرني إلا شقي. يعني: لأجل أن يضرب هذه الضربة، فهو الشقي الذي أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام.
هذه سبع روايات، وهناك رواياتٌ كثيرةٌ أخرى انظروها في الجزء التاسع من مجمع الزوائد صفحة ستٍ وثلاثين ومائة إلى صفحة ثمانٍ وثلاثين ومائة في كتاب الفضائل والمناقب في وفاة علي رضي الله عنه وأرضاه.
والقول الثالث: تقديم علي على عثمان ، وإليه كان يذهب أهل السنة في الكوفة، ومنهم سفيان الثوري ، وقد رجع في آخر عمره أيضاً عن هذا القول، واستقر أهل السنة على تقديم عثمان على علي ، وهذا ما يشير إليه الإمام العراقي في الألفية فيقول:
والأفضل الصديق ثم عمر وبعده عثمان وهو الأكثر
أو فـعلي قبله خلف حكي قلت وقول الوقف جا عن مالك
فالأفضل الصديق ثم عمر ، هذا لا كلام فيه ولا خلاف، وبعد عمر عثمان وهو القول الأكثر عند أهل السنة، أو فـعلي قبله، أي: قبل عثمان، خلف حكي، قلت هذا من زيادة الحافظ العراقي على مقدمة ابن الصلاح، قلت: وقول الوقف جا عن مالك، أي: جاء وورد وأثر ونقل عن الإمام مالك عليهم جميعاً رحمة الله، والذي استقر عليه أهل السنة هو الحق، ويدل عليه أدلة كثيرة:
منها: ما ثبت في صحيح البخاري وسنن أبي داود والترمذي ، وهذا لفظ البخاري ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين قال: (كنا نخير بين الناس في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، نخير
وفي روايةٍ في صحيح البخاري وسنن أبي داود عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (كنا زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بـ
وفي صحيح البخاري ، وثبت في سنن أبي داود أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا نقول والنبي صلى الله عليه وسلم حي: أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم بعده
وثبت في سنن الترمذي بإسنادٍ حسن عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي:
وهذا -كما قلت- يدل على ما ذهب إليه أكثر أهل السنة الكرام في العصر الأول، وهو الذي استقر عليه مذهب أهل السنة بتقديم أبي بكر وعمر ، وهذا محل اتفاق، والتثليث بـعثمان ، ثم بعد ذلك علي رضي الله عنهم أجمعين، ففضلهم يكون على حسب ترتيبهم في الخلافة، وخيرهم من ولي الخلافة، وكان الصحابة يذكرون هذا والنبي عليه الصلاة والسلام بينهم حي فما كان ينكر عليهم عليه صلوات الله وسلامه، وكان يقرهم فيخيرون ويفضلون أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ، فيأتي بعد عثمان علي رضي الله عنه، فما أحدٌ قُدم على علي بعد عثمان غيره، فهو في الدرجة الرابعة، هذا محل اتفاق، لكن الخلاف: هل يكون الثالث في الفضل أو الرابع؟ أما الرابع فلا ينازعه في ذلك أحد.
هذا موقف أهل السنة نحو علي، حبه دين، ونتقرب بذلك إلى رب العالمين، ولا نقع فيه ولا في أحدٍ من آل البيت الطيبين الطاهرين، كما لا نقع في أحدٍ من الصحابة الكرام الطيبين رضوان الله عليهم أجمعين، ولا يعني أننا إذا فضلنا الخلفاء الراشدين الثلاثة على علي أننا نقدح في علي أو نطعن فيه، لا ثم لا! فإذا فضلنا خليل الرحمن إبراهيم على كليم الله موسى على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه، هل يلزم من هذا أننا نطعن في موسى؟ لا ثم لا! وإذا فضلنا الرسل على الأنبياء، وفضلنا أولي العزم على الرسل، وفضلنا نبينا عليه الصلاة والسلام على أولي العزم! فهل هذا يعني أننا نطعن في واحدٍ من هؤلاء الرسل الكرام؟ لا ثم لا، هم أهل خيرٍ وصلاح وهدى، لكن يتفاوتون في المنزلة، وأسأل الله جل وعلا أن يشفعهم فينا، وأن يجعل حبهم عظيماً في قلوبنا بحيث يكون هذا سبباً لمغفرة ذنوبنا، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وما عندنا عملٌ نتقرب به إلى الله بعد الإيمان به وتوحيده أكثر رجاءً من حبنا لأصحاب نبينا عليه الصلاة والسلام رضوان الله عليهم أجمعين.
وما يقوله بعض الضالين: إننا معشر أهل السنة الكرام لا نحب علياً وآل البيت الطيبين الطاهرين، فهذا ضلالٌ وبهتانٌ علينا! ولا يحب آل البيت إلا أهل السنة، لكن نحن وضعناهم في المنزلة التي وضعهم الله فيها، ولا يجوز أن نعبد أحداً مع الله ومن دون الله، ولا يجوز أن ندعي العصمة لأحدٍ من خلق الله، لا لـعلي رضي الله عنه ولا لأحفاده وأولاده، ولا نرفعهم إلى مرتبة الرسل، أو إلى ما هو أعلى من ذلك، ولا نخلع عليهم العصمة، فهذا كله ضلال، هم ينهون عنه رضي الله عنهم أجمعين، أما أن يقع قدحٌ فيهم فمعاذ الله أن نقرَّه، ونحن نتبرأ من الغلو فيهم، ومن معاداتهم، لا نسلك مسلك الرفض ولا مسلك النصب.
وإذا أردت أن تتحقق من موقف أهل السنة الكرام من آل البيت ومنزلتهم عندهم فانظر إلى أسماء أهل السنة الكرام، لا يخلو بيت من بيوت أهل السنة -إلا ما ندر- إلا ويحمل أسماء أهل البيت الطيبين الطاهرين مثل: فاطمة ، وعلي ، والحسن ، والحسين ، وهذا كما قلت: لنعبر وندلل على حبنا لآل بيت نبينا عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.
يذكر أئمتنا الكرام في ترجمة يعقوب بن إسحاق أبو يوسف بن السكيت ، توفي سنة أربعٍ وأربعين ومائتين للهجرة، وهو من أئمة أهل السنة الكبار صاحب كتاب إصلاح المنطق، وكان يعلم ويؤدب أولاد الخليفة المتوكل ، فكان مرةً في مجلس الخليفة المتوكل فدخل ولداه: المعتز والمؤيد ، فقال المتوكل لـأبي يوسف بن السكيت : أيهما أحب إليك وأفضل: ولداي: المعتز والمؤيد ، أو الحسن والحسين ؟ انظر لكلام هذا الشيخ السني في مجلس الخليفة -والخليفة المتوكل قال أئمتنا: كان فيه نصبٌ، أي: معاداةٌ لـعلي - انظر لجواب السني في مجلس الخليفة -ووالله لقطع رقابنا أيسر علينا من أن يؤذى أحدٌ من آل بيت نبينا عليه الصلاة والسلام- فقال: يا أمير المؤمنين! والله إن قنبراً خادم علي أفضل منك ومن ابنيك، تسأل عن الحسن والحسين ، أولاد فاطمة وجدهما رسول الله عليه الصلاة والسلام، لا يصح أن أقول: الحسن والحسين أفضل من ولديك، هذا تنقيص للحسن والحسين ، خادم علي قنبر الذي ما انفصل من صلبه ولا من بضعة النبي عليه الصلاة والسلام الطاهرة، وإنما حظي بخدمة هذا الصحابي الجليل أفضل منك ومن ابنيك، فغضب الخليفة المتوكل ، وأمر بإخراج لسان يعقوب بن السكيت من قفاه، فشقت رقبته وكسر رأسه وأخرج لسانه، وضربه غلمانه الأتراك بعد ذلك في مجلسه حتى مات! وأي حرجٍ فيما إذا مت من أجل إظهارك كلمة الحق والتعبير عن موقفك نحو آل البيت.
انظروا هذه القصة في سير أعلام النبلاء في الجزء الثاني عشر صفحة سبعة عشرة في ترجمة يعقوب بن السكيت ، ورواها الإمام الزبيدي في طبقات النحويين واللغويين، ورواها السيوطي في بغية الوعاة وطبقات النحاة، وانظروها في النجوم الزاهرة وشذرات الذهب في حوادث سنة أربعٍ وأربعين ومائتين للهجرة، هذا هو موقف أهل السنة الكرام نحو أهل البيت الطيبين الطاهرين رضوان الله عليهم أجمعين.
هذا فيما يتعلق برجال إسناد الحديث الأول بدءاً من شيوخ الإمام الترمذي حتى الصحابي الجليل راوي الحديث وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.
وأما الحديث الثاني فسأتكلم عليه إن شاء الله في أول الموعظة الآتية، أترجم أيضاً رجال إسناده وأولهم شيخ الإمام الترمذي أبو بكر محمد بن زنجويه البغدادي ، ثم بعد ذلك أختم الكلام بترجمةٍ موجزة لـجابر بن عبد الله الصحابي رضي الله عنهم أجمعين، ثم نتدارس فقه الحديث ومعناه إن شاء الله، وأما موعظة الغد فستكون في الغالب يعني المحدد لها والمعلن عنها في مواعظ عامة، وكنت بدأت كما تعلمون في موضوعٍ سابق ببيان مقياس وضابط وميزان أعمال الإنسان في هذه الحياة، وما يعني يوجد موضوعٌ طارئ على ذهني يحتاج إلى بحثٍ في هذه الأوقات، ولكن الأبحاث التي تحتاج إلى بحثٍ كثيرة، لكن لا يوجد شيءٌ يستدعي أن أعدله على ما أريد أن أكمله، ألا وهو تحفة المؤمن الموت، وقد بدأت في ذلك الموضوع وأخذ منا عدداً من المواعظ ولم ينته، فلعلني إن شاء الله أكمله في بعض المواعظ لعله في ثلاث مواعظ أو أربع إن شاء الله بحيث يكتمل الموضوع من بدايته إلى نهايته، ثم ندخل بعد ذلك في أمورٍ أخرى -إن أحيانا الله- وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، اللهم لا تجعل فينا ولا بيننا ولا معنا ولا منا شقياً ولا محروماً، اللهم اغفر ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر