سبق أن الإيمان عند أهل السنة مركب من ثلاثة أشياء: القول، والعقيدة، والعمل، وتعريفه كما يعرفه أهل السنة في كتبهم هو: قول وعمل واعتقاد، وبعضهم يزيد في هذا التعريف ويقول: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
أما المرجئة فهم ثلاث طوائف لا يخرجون عنها، كما ذكرهم أبو الحسن الأشعري في (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين)، فقال: إنهم ثلاث طوائف.
الطائفة الأولى: الذين يقولون: إن الإيمان هو: العلم والمعرفة، ويُدخلون في هذا شيئاً من أعمال القلوب، وهي الخضوع والإقرار والمحبة فقط، فيقولون: إن الخضوع والإقرار والمحبة تدخل في الإيمان، وما عدا ذلك من أعمال القلب مثل الخشية والإنابة والخوف إلى غير ذلك لا تدخل فيه. وهؤلاء افترقوا إلى أكثر من عشرين فرقة، ولكن يجمعهم هذا القول.
الطائفة الثانية: الذين قالوا: إن الإيمان هو القول باللسان، وهؤلاء هم الكرامية خاصة، ويلزمهم أن يكون المنافق مؤمناً على هذا القول؛ لأن المنافق يقول بلسانه ولكن قلبه منطوٍ على الكفر.
الطائفة الثالثة: الذين يقولون: إن الإيمان قول وتصديق، وهؤلاء أقرب هذه الفرق الثلاث إلى أهل السنة، وهؤلاء لهم حجج شرعية من الكتاب والسنة، ولكنها لا تدل على ذلك.
الوجه الأول: ظنهم أن الإيمان والمعرفة إذا وجدت في القلب فإنها تكون هي الإيمان، وأنها تكون منفكة عن عمل القلب وتحركه، في إنابته، وإرادته، وخوفه، وخشيته، وغير ذلك، وغلطوا في هذا غلطاً عظيماً؛ لأن الإنسان يعرف التفاوت العظيم بين الناس في هذه الأمور، فضلاً عن غلطهم في إخراج عمل الجوارح عن الإيمان.
الوجه الثاني: أنهم ظنوا أن كل من حكم الله جل وعلا بكفره أو حكم الرسول صلى الله عليه وسلم بكفره، فإنما هو لخلو قلبه من العلم والمعرفة، فعندهم -مثلاً- إبليس ما عرف الله، وفرعون ما عرف ما جاء به موسى، وهكذا بقية الكفار، وهذا من أعظم الغلط أيضاً.
والمقصود: ذكر الأصول التي يأخذون بها، والتي غلطوا فيها وخالفوا أهل السنة حتى يتبين للإنسان سلامة مذهب أهل السنة، وأنهم على يقين من ذلك وعلى أصل أصيل، وأن المخالفين لهم غالطون غلطاً بيناً واضحاً.
أما الفرقة الثالثة التي قالت: إن الإيمان قول وتصديق، فإن بعضهم يجعل هؤلاء من مرجئة الفقهاء، ولكن كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية إن مرجئة الفقهاء لا يقتصرون على هذا، فإنهم لا يقولون إن الإيمان قول وتصديق فقط، بل يجعلون الأعمال إما من مقتضى التصديق أو من واجباته ومن لوازمه، ويتفقون مع أهل السنة على أن الذي يترك العمل الذي وجب عليه، أو يفعل ما حظر عليه من المحرمات، أنه مستوجب للعقاب، فإذا كانوا متفقين مع أهل السنة في ذلك، فيصبح الخلاف لفظياً، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان.
فمنها: أن الله جل وعلا غاير بين الإيمان والعمل، وهذا كثير في الكتاب، كقول الله جل وعلا: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فعطف الإيمان على العمل، فقالوا: إن العطف يقتضي المغايرة.
الدليل الثاني: أنهم قالوا: إن الله جل وعلا خاطب المؤمنين باسم الإيمان قبل مخاطبتهم بالأوامر والنواهي، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]، ونحو هذه الآية، فجعلوا هذا دليلاً على أن العمل غير الإيمان.
الدليل الثالث: يقولون: لو أن رجلاً آمن بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم لحظةً قبل الظهر ثم قبل دخول وقت صلاة الظهر مات لحكم بأنه من أهل الجنة، وأنه مؤمن، وهو لم يعمل خيراً في إسلامه، فجعلوا هذا أيضاً من الأدلة على أن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان.
وكل هذه الأدلة منقوضة، ونقضها واضح لا يحتاج إلى الاستدلال عليه؛ لأن أدلتهم مجرد ألفاظ خالية عن المعاني التي ربط الله جل وعلا بعضها ببعض، فقد يُعطف الشيء على نظيره أو على مثيله، وقد يكون عطف عام على خاص أو بالعكس، كما هو معروف، يقول جل وعلا: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [الأعلى:1-4] إلى آخر هذه المعطوفات، وهي لا تدل على المغايرة.
أما كون الخطاب جاء باسم الإيمان فهذا أيضاً واضح أنه ليس دليلاً على أن العمل غير داخل في الإيمان؛ لأن الذي يمتثل الأوامر هو من تحلى بالإيمان.
وأما دليلهم الثالث فنقول: هذا لم يجب عليه إلى الآن أي عمل، وهو ما ترك شيئاً من الإيمان وجب عليه، وإنما امتثل في قلبه واستعد للعمل، ولكنه لم يصل إلى الوقت الذي يجب عليه العمل فيه، فليس ملوماً.
وبهذا نعرف أن مذهب أهل السنة في الإيمان هو المذهب الصحيح الذي يجب أن يُعتقد، ومن أجل ذلك يذكره العلماء في العقائد.
أما أهل المعاصي الذين فيهم الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة والخوارج فقد سبق الكلام عليهم، وبيان أن الذي يرتكب كبيرة لا يسلب منه الإيمان بالكلية، ولا يعطى الإيمان الكامل، فلا يطلق عليه الإيمان مطلقاً، وإنما يطلق عليه بقيد، فيقال: إنه مؤمن ناقص الإيمان، أو يقال: إنه مؤمن مرتكب كبيرة أو كبائر، أو يقال: إنه مؤمن فاسق، أو إنه مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، كما يعبر بذلك كثير من أهل السنة.
وكذلك قوله جل وعلا: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، فمعلوم أن هذه الآية نزلت في يوم عرفة في حجة الوداع، وقد استدل البخاري بهذه الآية على أن الإيمان ينقص.
ووجه الاستدلال بها: أن الذي يقبل الزيادة يقبل النقص، وأن الدين قبل أن يتم كان ناقصاً، ولا يلزم من هذا أن الذين توفوا قبل ذلك اليوم كان إيمانهم ناقصاً، بل كان إيمانهم كاملاً؛ لأن هذا هو الذي يجب عليهم.
ومن المعلوم أن المرجئة أنفسهم يقرون بزيادة الإيمان، بمعنى: أنه إذا جاء شيء من الأوامر أو النواهي والتزم بها فإن الإنسان يزداد إيمانه بذلك، ولكن الخلاف في نفس التصديق الذي يكون في القلب هل يكون فيه زيادة ونقص أو لا؟ والصواب: أنه يزيد وينقص، فالتصديق الذي يكون في القلب -إذا سُلِّم بأن الإيمان هو التصديق- فإنه يزيد وينقص؛ لأن تصديق بعض الناس ليس كتصديق بعض، فبعض الناس لو شُكِكَ ولُبس عليه لشك، وبعضهم لا يقبل الشك؛ بل يكون تصديقه يقينياً، والعمل يتبع ذلك، فبعض الناس يقوم بالعمل ويأتي به على الوجه المطلوب حسب استطاعته، وبعض الناس قد يخل به، وقد يتساهل.
سبق أن الإيمان عند أهل السنة مركب من ثلاثة أشياء: القول، والعقيدة، والعمل، وتعريفه كما يعرفه أهل السنة في كتبهم هو: قول وعمل واعتقاد، وبعضهم يزيد في هذا التعريف ويقول: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
الجواب: هم يختلفون، كما ذكرنا أنهم طوائف، فبعضهم الخلاف معهم لفظي، وبعضهم حقيقي.
الجواب: العلماء ذكروا أن الكفر خمسة أقسام: منها كفر التكذيب، ومنها كفر الإعراض، ومنها كفر الدعوة، أي: الذي يدعو غير الله، ومنها كفر النفاق، وليس محصوراً في كفر التكذيب فقط، فكون الإنسان يكذب فقد وقع في الكفر، ولكن كفر الجحود غير كثير؛ وذلك أن الله جل وعلا أيد رسله بمعجزات ودلائل باهرة يلزم منها أن يصدق رسوله، وأن يكون صادقاً، أما إذا كان التكذيب عناداً وجحوداً فهذا شيء آخر، والتكذيب بمجرد أنه ما تبين له قليل في الكفار.
والمقصود: أن الكفر أنواع، وليس محصوراً في كفر التكذيب، وهناك أنواع كثيرة ذكرها الفقهاء في كتب الفقه في كتاب سموه (حكم المرتد)، والمرتد: هو الذي ترك دين الإسلام بعدما كان مسلماً، فذكروا أشياء كثيرة، ولاسيما كتب الأحناف فإنهم توسعوا في هذا كثيراً، وبعض العلماء جمع شيئاً مما ذكره الفقهاء في كتب مستقلة، مثل ابن حجر الهيتمي ، فإنه له كتاب سماه ( الإعلام بقواطع الإسلام)، وهو مطبوع، ذكر أنواعاً كثيرة جداً إذا فعلها الإنسان صار كافراً، نسأل الله العافية! ونقل كلام العلماء في ذلك، ومنها كتاب (الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة) وغير ذلك من الكتب.
الجواب: على كل حال هذه الشروط التي شرطها الرسول صلى الله عليه وسلم لاشك أنها سنة، إلا الشيء الذي يثبت أنه خاص به صلوات الله وسلامه عليه، ولكن ينظر إلى المصلحة، والرسول صلى الله عليه وسلم عرف أن هذا لا يتم، ولهذا لما جاء أبو جندل يرسف في حديده، طالب به والده، فروجع فأبى، فنفذ الأمر، وهو شرط معتبر، ثم إن الذين جاءوا إليه صلى الله عليه وسلم وأرجعهم كونوا لأنفسهم عصابة حرب، وصاروا يحاربون قريشاً، ولا يتركون لها شيئاً يخرج إلا أخذوه، وفي النهاية طلبت قريش من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤويهم وأن يأخذهم ويفكهم منهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلم بالوحي الذي يوحيه الله إليه ما لا يعلم غيره، ولكن إذا قدر أن مثل هذه الشروط وقعت بين إمام المسلمين وبين الكفار فمرجعها النظر إلى المصلحة.
الجواب: الفرقة الناجية هي الطائفة المنصورة، ولكن قد تكون ناجية بلا نصر، يعني: تنجو وإن كانت مقتولة، ولا يستلزم أن يكون لها نصر؛ لأن الإنسان قد يثبت على حق فيقتل فيكون ناجاً، ولا يلزم أن يكون منصوراً على الكفار، فالنصر في الواقع هو الثبات على الدين. فكون الإنسان يثبت على دينه حتى يلاقي ربه فهذا هو النصر.
الجواب: ليس لازماً، والله أعلم بهم، ومثل هذا لا يوجد فيه نص على أنهم كلهم من الصحابة، ولا أنهم من غير الصحابة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر