شهر رمضان ما أجمل لياليه! وما أحلى أيامه! جعلنا الله وإياكم ممن صامه فأحسن صيامه, وقامه فأحسن قيامه, ورزقنا فيه التوبة والإنابة والاستقامة, ليكون لنا شهيداً مشفعاً يوم القيامة.
أما بعـد:
عباد الله: هذه وقفة مع بعض الأعمال والسلوكيات، والتصرفات الخاطئة, التي يعملها كثير من المسلمين في هذا الشهر الكريم، رجالاً كانوا أو نساءً.
أحبتي في الله:
يجب أن نسأل أنفسنا، لماذا أوجب الله علينا الصيام والإمساك عن الشراب والطعام طيلة النهار؟ فالله تعالى لا يريد أن يعذبنا بهذا, وهو غني عنا، ورزقنا هذه النعم وأحلها لنا ثم قال لنا: أمسكوا عنها من طلوع الفجر إلى غروب الشمس, وبين لنا العلة في ذلك لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
إذاً يكفي هذا ولذلك لا يحتاج أن نقول: الصيام يهذب النفس, أو يهذب الجسد, أو يصحح الإنسان, أو أنه حمية من الأمراض, يكفي في فوائد الصيام الأخروية، وغيره من العبادات، أنه سبب للنجاة من عذاب الله، والفوز بمرضاته, هذا كاف.
أولاً: تهذيب النفس:
لأن العبد إذا صلى وصام وتعبد لله عز وجل يصبح عنده ورع, وخوف، ومراقبة, فيتق الله عز وجل في جميع أموره, ولذلك لا تجتمع العبادة الحقيقية الصادقة لا تجتمع مع الفجور أبداً، اسمع ماذا يقول الله تعالى عن الصلاة، يقول تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45].
فإذا رأيت إنساناً يصلي ويرتكب الفحشاء والمنكر, فاعلم أن صلاته فيها دخل وفيها دخن, وإنما هي صورة بلا حقيقة, صحيح أنها تُجزِئُه ولا يحسب كافراً ما دام يصلي, لكنه ما حقق الصلاة الشرعية الكاملة، التي تنهى عن الفحشاء والمنكر.
فالعبادة فيها تهذيب للنفس, فتجد العابد لله عبادة صحيحة نـزيهاً ونظيفاً, ولا تجد -مثلاً- في قلبه غلاً, أو حقداً, أو حسداً, أو بغضاء, أو كبراً, أو عجباً, أو غروراً, أو غشاً للمسلمين؛ لأن قلبه نظيف وهو يقرأ القرآن، ويقرأ قول الله عز وجل: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].
ولذلك كان العابدون الأولون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغيرهم, آية وأعجوبة في تهذيب نفوسهم وصلاحها, يتعاملون مع القرآن معاملة حقيقية, إمامهم وقدوتهم محمد صلى الله عليه وسلم قام ليلة حتى أصبح بآية واحدة يكررها، وهي قول الله عز وجل: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] حتى الفجر وهو يرددها ويبكي! فقال له أبو ذر: يا رسول الله! مازلت تردد هـذه الآية؟ قـال: {إني سألت ربي الشفاعة لأمتي فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً}.
ثانياً: العبادة العبادة من صوم، وصلاة، وغيرها، فيها تهذيب للمجتمع, فالمجتمع العابد لا تنتشر فيه الجرائم والموبقات, وغير صحيح أنك تجد الناس الآن في المساجد، ثم ما إن يتفرقوا من المسجد حتى يذهب كل إلى حال سبيله, هذا يغش, وهذا يخدع, وهؤلاء يجتمعون على لهو ولعب, وهؤلاء يجتمعون على سكر, وهؤلاء يجتمعون على غيبة, وهؤلاء يجتمعون على حرام, وقبل قليل كانوا في المساجد! هذا تناقض عظيم في حياة المسلمين اليوم!
ثالثاً: العبادة فيها جمع لكلمة المسلمين، لأن الأمة كلها تصوم في وقت واحد، وتفطر في يوم واحد، وتجتمع في المساجد للصلاة, وتجتمع في عرفات ومنى وغيرها للحج, فتجتمع كلمة الأمة, وتتوحد قلوبهم, ولا يكون عندهم أهواء، ولا اختلافات، ولا نـزاع فيما بينهم.
وما دمنا بصدد الحديث عن الصيام فانظر إلى واقع المسلمين خلال شهر الصيام, كيف يكون واقعهم؟!
يعني إذا كان الصيام صياماً حقيقياً شرعياً فلا بد أنه سوف يقلب حياة المسلمين, ويجعلها أفضل مما كانت في بقية العام، وهذا هو الطبيعي, خاصة وأن الشيطان يسلسل في شهر رمضان كما في الصحيح: {إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة -وفي لفظ- فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب النار وسلسلت الشياطين -يعني وضعت في السلاسل- وصفدت الشياطين -يعني وضعت في الأصفاد-} فلا يَخْلُصُون في رمضان إلى ما كانوا يخلصون في غيره, لكن انظر إلى مجموعة من السلبيات والأخطاء التي تقع في واقع حياة المسلمين اليوم، أفراداً وجماعات.
أما يعلمون أن الصلاة هي العمود الذي يقوم عليه الإسلام؟! وأنها الفيصل بين الإسلام والكفر؟! وأن {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} وأن {بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة} بحيث نقول: إن التارك للصلاة بالكلية مرتد عن الإسلام، فإذا كان كذلك فما بال أقوام لا يُعرفون في المساجد! وربما يَشتكي الواحد منهم, ويُزار في بيته ويُناصح، ويُستخدم معه كافة الأساليب فلا ينقاد إلى المساجد, بل يهرب منها, كما يفرق الشيطان من الحق!
فإذا جاء رمضان ازدحمت المساجد, أين أنتم؟!
رب رمضان ورب شعبان واحد, والدين لا يتغير, والإسلام ليس ألعوبة مثل دين النصارى واليهود, فإن اليهود والنصارى الآن يزعمون أنهم يعبدون الله تعالى يومًا في الأسبوع، يوم السبت عند اليهود, ويوم الأحد عند النصارى, ففي هذا اليوم يذهبون للكنائس، خاصة كبار السن, ويتعبدون على طريقتهم, فإذا انتهى ذلك اليوم, رجعوا إلى ما كانوا عليه من فجور, وانحلال, وتفسخ, وأكل للربا, وغش, ومشاهدة الحرام, وسماعه, والانغماس في أنواع الموبقات والمحرمات! فهم كما قال أحد النصارى: إننا نعبد الله في يوم واحد ونعبد بنكإنجلترا في ستة أيام، أي يعبدون المادة في بقية أيام الأسبوع.
فهل حق على هذه الأمة أن سلكت وأخذت مأخذ الأمم قبلها, فأصبحت تعبد الله تعالى في المسجد، فإذا خرجت خلعت جلباب العبادة والخوف من الله وبدأت تعمل بمقتضى أهوائها وشهواتها؟!
هذا هو الواقع عند كثير من المسلمين, وهو مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: {لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!} أي: هم اليهود والنصارى, أنتم تأخذون مأخذهم- قال الله عز وجل: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16].
فيقال لكل إنسان: يجب أن تعرف طريقك، إما أن تكون عبداً لله, أو عبداً للشيطان, ليس هناك حل ثالث, يقول الله عز وجل: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس:60-61] لا توجد أنصاف حلول, إما أن تكون عبداً لله، ملتزماً بأوامر الله, وحتى لو غلبك الهوى فأخطأت, تب سريعاً إلى الله, فتلقي بنفسك بين يديه, وتمرغ خدك ساجداً لله عز وجل وتقول: يا رب! اقبلني, فحينئذٍ تكون عبداً لله حقا, وإما أن تكون عبداً للشيطان, فتفعل ما تشاء والموعد أمامك!
قالت: ماذا تريد منه؟
قال: أريد أن أعلم أعبد هو أم حر؟
قالت: لا بل هو حر, قال لها: أخبريه بأن بشراً الحافييقول لك: إن كنت حراً فاصنع ما شئت, وإن كنت عبداً فلا تتصرف إلا بإذن سيدك. فضحكت المرأة وذهبت للرجل، وقالت: في الباب رجل مخبول! يقول: كذا وكذا, قال: كلا والله! هذا هو عين العقل، صدق, أنا عبد ولست حراً, أنا عبد لله عز وجل, وما عندي من مال ومتاع, لا يجوز لي أن أتصرف فيه إلا بإذن سيدي وهو الله تعالى, فتاب إلى الله تعالى، وكسر مزاميره, وطنابيره, وأقلع عما كان يفعله.
ينبغي أن نحدد موقفنا بوضوح إن كنا عبيداً لله, فالعبودية لله لا تقبل الشركة، أن تكون عبداً لله ولغير لله, يقول الله عز وجل: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك, من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك}, والله عز وجل هو أكرم الأكرمين.
فبالنسبة لعبيده الذين رضوا بعبوديته، فالله تعالى يجود عليهم, فإذا أخطئوا أو قصروا, أو فرطوا, ثم قالوا: يا رب! أخطأنا، وقصرنا، وفرطنا يفتح لهم أبوابه, ويقول لهم: لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] ويقول لهم: {يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني, فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي} قوله كلام، عطاؤه كلام، ومنعه كلام: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] كل شيء يكون بهذه الكلمة, ويقول: {يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا -يعني ملء الأرض- ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً, -لاحظ الشرط لأتيتك بقرابها مغفرة}.
فهو جل وعلا واسع, كريم, جواد, وهاب, وكفى من سعة كرمه جل وعلا أن يعطي الجنة! هل يستحق أحد الجنة؟
لا والله، لا أحد يستحق الجنة, يعني: يستحق أن يكون مخلداً في الجنة آماداً وآباداً متطاولة لا نهاية لها، في نعيم لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع, وحرير، وصحاف، ودر، ونعيم، ما تجلى لقلب بشر، أو دنا منه فكر! لا أحد يستحق هذا البتة, إلا بفضل الله تعالى.
فالله تعالى يعطي "هَذَا عَطَاؤُنَا [صّ:39] المهم أن تكون عند لله -فعلاً- في رمضان وفي غير رمضان، رمضان فرصة لنحدد أمورنا، فلا تبقى المسألة هكذا في المناسبات فقط، لابد أن نحدد الموقف جيداً إذا كنا عبيداً لله من الآن، نحدد طريقنا أننا عبيد لله, ونحرص على مرضاته, وحتى حين نخطئ نسرع بالتوبة إلى الله، قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].
- تعليمهم العبادة الحقيقية:
ومن الاهتمام بهذه الأمانة أن تدربهم على العبادة الحقيقية, فتدربهم على الصيام مثلاً, لأن كثيراً من الأولاد والبنات يبلغون حوالي عشر أو إحدى عشرة سنة، وخاصة من الفتيات، تبلغ ولا تصوم, لماذا؟!
لأنها تستحي أن تقول لأهلها إني قد حضت! وربما لا تعرف الأحكام, وبعض البنات قد تبلغ لتسع سنين, أو عشر سنين, أو إحدى عشرة سنة, أو اثنتا عشرة سنة, وأهلها ينظرون إليها على أن هذه طفلة, لا يراقبونها, ولا يراعونها, ولا يعرفون أحوالها, وكثير من هؤلاء الفتيات بعدما تبلغ سن العشرين والثلاثين, تتصل وتسأل، وتقول: أنا يوم كنت صغيرة بلغت وما صمت سنتين أو ثلاث سنوات, والأهل لا يدرون, وهي لا تعرف الحكم, أو ما أشبه ذلك, أو تكتم الأمر عن أهلها أحياناً!
وحتى من لم يبلغوا الحلم ينبغي أن يعودوا على الصيام، سواءً أكان ابن عشر, أم إحدى عشرة, أم اثنتا عشرة, فإنه يعود على الصيام حتى إذا لم يبلغ الحلم، ولو بعض الأيام, وفي صحيح مسلم من حديث الرُّبيع بنت معوذ: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر الناس بالصيام في يوم عاشوراء, قالت: فكنا نصوم ونُصَوِّمُ صبياننا} حتى إن الصبي إذا صاح محتاجاً إلى الطعام والشراب، يعطونه اللعبة من العهن وهي لعبة مصنوعة من صوف, أو من قطن, ويجعلونه يلعب بها ويتلهى بها، حتى يأتي موعد الإفطار, هذا في يوم عاشوراء, فما بالك بشهر رمضان؟!
ويعود الصبي الصلاة، فتأخذه معك إلى المسجد, وتعلمه آداب دخول المسجد, وآداب الصلاة, وآداب الخروج, وآداب القراءة, أما أن تأتي وتترك أولادك وبناتك، لا تدري ماذا يحدث لهم، فهذا خطأ كبير.
- عدم تركهم لوحدهم:
ومما يلتحق بهذا بل هو أشد منه خطورة أن كثيراً من الآباء يسافرون إلى العمرة، خاصة في العشر الأواخر من رمضان, والعمرة لا شك فيها فضل عظيم، ويكفي في فضلها أن الله تعالى أمر بها فقال: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصارية: {إذا كان رمضان فاعتمري، فإن عمرة في رمضان تعدل حجة معي} والحديث في صحيح البخاري ومسلم, وهذا فضل عظيم أن تكون كأنك حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وشهدت معه المشاهد, ووقفت معه بـ عرفة, وصليت وراءه، هذا فضل عظيم, لكن هل يصح أن يذهب الأب مثلاً بأسرته إلى مكة، وعنده بنات بالغات, مراهقات, ربما غير مؤدبات, ولا مُعلَّمات, ولا واعيات, ولا مدركات, فيذهب هو، وربما يعتكف في الحرم, ويترك الحبل على الغارب لهؤلاء البنات في الأسواق؟!
في البيع والشراء, ومعاكسة الشباب, والتسكع حتى في داخل الحرم! كم تؤذي كثير من النساء الصالحين والمعتمرين بمظهرها، وشكلها وسفورها وتبرجها، وروائحها إلى غير ذلك!
إنني أذكر أن بعض الشباب من الصالحين, بل ومن المتزوجين، رأيتهم وقد رجعوا من الحرم إلى بلادهم, وشفاههم يابسة, ووجوههم مكفهرة, ونفوسهم حزينة, وكأنني أعرف ماذا يريدون أن يقولوا! يريدون أن يقولوا: أتينا إلى هذا المكان, أتينا إلى بيت الله الحرام نريد سعادة النفس, والقرب من الله تعالى, والعبادة الصالحة, فإذا بنا نفاجأ أن بعض النساء اللاتي لا خوف عندهن من الخالق, ولا رقابة عليهن من المخلوق, قد لوثن هذا الجو، وهذه البيئة! فأصبح الإنسان يجد مناظر مثيرة ومؤثرة, فما بالك بالشباب غير المتزوجين؟!
هل هذا من الأمانة التي كلفت برعايتها؟!
وهل يتناسب مع كرامة شهر رمضان أن تتوجه أنت للعبادة وتترك من وراءك! هذا غير صحيح.
لأنه معذور, والمراجعون يأتون ويذهبون فلا يجدون من يستقبلهم! هذا ليس من رعاية الأمانة, ولا يتناسب مع كونك صائماً متلبساً بعبادة, وربما إن اشتغل واستقبل الناس يستقبلهم بأخلاق سيئة, ويشتد عليهم, وليس لديه استعداد أن يسمع من أحد شكاية, أو مناقشة, أو مراجعة, لأن نفسه وأخلاقه رديئة, وأعصابه مشدودة, فتجد أنه مستعد أن يتكلم على هذا, ويسب هذا, ويشتم هذا, وينال من هذا, والحجة أنه صائم!!
إذاً أين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم} الرسول عليه الصلاة والسلام يأمرك ما دمت صائماً إذا تعرضت لأحد ينال منك, أو يتعرض لك, أو يؤذيك, ألا ترد عليه بالمثل, فلا ترد النار بمثلها, بل قابل ذلك بالإعراض, وقل له: إني صائم، حتى تبين له: أنك تستطيع أن ترد عليه، لكن عندك من الورع، والخوف، ما يمنعك من ذلك, فإنك صائم متلبس بعبادة، لا تريد أن تفسدها على نفسك, وتخاطبه بما لا يليق, فما بال كثير من الناس ربما يقابلون من لم يحدث منه إساءة, ولا سابهم, ولا شاتمهم, بأسلوب عنيف, وعبارة جارحة, وأخلاق لا تليق, هذا ليس من رعاية الأمانة التي ائتمنك الله تبارك وتعالى عليها!
لا أحتاج إلى أن أجيب, لأن بإمكان أي واحد أن يأخذ جولة على عدد من الشوارع والمناطق خارج البلد, وفي حدود البلد, ليرى أكواماً هائلة من المجموعات من الشباب قد اجتمعوا على أمور بعضها محرم, مثل مشاهدة التلفاز وما فيه من أغانٍ، وموسيقى، ومسلسلات أحياناً رديئة, وبعضها على غيبة ونميمة, وبعضها على لعب كرة, وبعضها على أمور لا جدوى منها, ويظلون هكذا طيلة الليل! وربما أسعد لحظة عندهم في رمضان هي تلك اللحظة! ولا يتذكرون من ذكريات رمضان إلا تلك الليالي، التي قضيناها في مكان كذا، أو في محل كذا, نلعب، أو نتحدث، أو ما أشبه ذلك!
فإذا جاء النهار تحولوا إلى نيام, لا يعون ما حولهم, وربما ينام أحدهم حتى عن الصلوات, فأين رعاية الأمانة التي اؤتمن عليها الإنسان؟!
- الرسول في رمضان:
وحتى تدرك خطورة هذا الأمر انظر كيف كان الرسول عليه الصلاة والسلام في يومه في رمضان، حتى كأنني أتصور الرسول عليه الصلاة والسلام على مدى يوم كامل في رمضان, ماذا كان يفعل؟
قبل صلاة الفجر كان عليه الصلاة والسلام يتسحر، ولم يكن بين سحوره وبين صلاته إلا وقت يسير، قدر قراءة خمسين آية, ثم يصلي بالناس عليه الصلاة والسلام, ثم كان يجلس كالعادة في مصلاه بعد صلاة الفجر حتى ترتفع الشمس, ويصلي ركعتين, كما ثبت في صحيح مسلم، أنه كان يفعل ذلك عامة، وهو في رمضان خاصة, لكن رمضان كغيره في ذلك, ثم يصلي ركعتين، ثم كان عليه السلام يسافر في نهار رمضان للجهاد, كما سافر في غزوة بدر, وفتح مكة وغيرها, وكان يجلس للسائلين والمستفتين, وكان يعطي السائلين والفقراء, وكان يكثر من تلاوة القرآن؛ حتى إنه كان يأتيه جبريل فيدارسه القرآن في كل ليلة, معنى ذلك أنه عليه الصلاة السلام كان يسهر في الليل مع جبريل لمدارسة القرآن, فيختم القرآن مع جبريل -يعني في رمضان- وفي آخر رمضان صامه عليه الصلاة والسلام, عارضه جبريل بالقرآن مرتين, كما ورد في الصحيح من حديث فاطمة رضي الله عنها, وكان يكثر من تلاوة القرآن, والصدقة، ومناصحة أصحابه, وأمرهم ونهيهم, وقلما كان ينام عليه الصلاة والسلام, بل كان نومه، فإذا جاءت العشر الأواخر حدث ولا حرج, أي أنه في أول رمضان كان يقوم وينام، لكن إذا جاءت العشر الأواخر من رمضان طوى فراشه عليه الصلاة والسلام، فلا ينام ليلا أبداً!
كان إذا دخل العشر شد المئزر، وأيقظ أهله، وأحيا ليله, عليه الصلاة والسلام, فكيف تجد أن أتباع هذا النبي عليه الصلاة والسلام أصبح أرخص شيء عليهم هو الوقت! نجلس ليلة كاملة من بعد التراويح إلى وقت السحور على لعب ورقة, أو مشاهدة البرامج التافهة, أو سماع الكلام الرديء, أو لعب، وأحسن ما يقال فيه: أنه مباح! وقد يتعدى ذلك إلى أمور ممنوعة, هذا غير لائق.
فأنصح الإخوة بأن يرعوا الله حق رعايته، وأن يخافوا الله فيه, ينبغي أن يكون لك في الليل قدر تنام فيه؛ لأن نوم الليل لا يعادله شيء من نوم النهار, فتنام ما تيسر لك من الليل, ولو ثلاث ساعات أو أربع, حتى تكون في النهار طبيعياً، يمكن أن تجلس بعد الفجر في المسجد, وتؤدي الصلوات في أوقاتها, وتقوم بالعمل، سواء كنت موظفاً أو طالباً أو مدرساً, وتقرأ القرآن, أما كون الإنسان طيلة الليل سهراناً، فإنه في النهار حتى لو نام قبل السحور بنصف ساعة عندما يُوقظ للسحور يتمنى ألا يوقظ! فإذا أوقظ للصلاة يتمنى ألا يوقظ, فإذا أوقظ للعمل يتمنى ألا يوقظ!
ويذهب يؤدي عمله بسرعة، ثم يرجع وينام؛ لأن وضعه غير طبيعي, وهذا لا يليق أبداً, ينبغي أن ننظم وقتنا في رمضان بصورة صحيحة، تجعل الإنسان يستفيد من شهره.
وأهم قضية هي أن ينام الإنسان من ليله ولو قدراً يسيراً، بقدر ما يستطيع, ولا يسهر الليل كله, ومن المعروف أن السهر أصلاً لغير حاجة مكروه، حتى في غير رمضان {وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره النوم قبل صلاة العشاء, ويكره الحديث بعدها} ويقول عليه الصلاة والسلام: {لا سمر -يعني سهر- إلا لمصلٍ أو ذاكر أو مسافر} مثل طالب العلم, أو الذي يسهر مع ضيوفه, أو مع أهله، في أمور خاصة, فهذا لا حرج فيه, أما سهر لا طائل وراءه فالأصل أنه مكروه في غير رمضان، فما بالك في رمضان!.
إخواني الكرام: رمضان فرصة لا تعوض, لأن نجدد العهد مع الله جل وعلا, ونصحح أوضاعنا, ونصفي قلوبنا، وفرصة لأن نصلح ما فسد من أمورنا, والخائب كل الخيبة من خرج منه رمضان فعاد كما كان.
نسأل الله أن يقبل منا ومنكم الصيام والقيام, وأن يغفر لنا ولكم الزلل والإجرام, ويمحو عنا الذنوب والآثام, إنه هو الحي القيوم القيَّام.
اللهم ثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة, اللهم اهدنا صراطك المستقيم, اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا, اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: {من صلى عليّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، ما تعاقب الليل والنهار, وما كرت الأدهار ومرت الأعصار.
أما بعــد:
عباد الله: إن هذه الجلسة التي هي بعنوان (سلوكيات خاطئة في شهر الصيام) أود أن أتحدث فيها عن ثلاث ملاحظات جوهرية في حياة الصائمين.
الملاحظة الأولى: أن الصيام شُرِعَ في ضمن ما شُرِعَ له لتدريب الإنسان على الأمانة, فالصوم أمانة بين العبد وبين الله, وإنما يصوم العبد ابتغاء مرضاة الله، وطلباً لثوابه، وخوفاً من عقابه.
ولذلك فإن من المتناقضات الغريبة أن يكون الصائمون الذين يفترض أنهم أكثر الناس رعاية للأمانة, وحرصاً عليها, وخوفاً من الإخلال بها, أن يقع من كثير منهم التفريط في الأمانات العظمى، التي ائتمنهم الله تعالى عليها!
فأمانة الوقت مثلاً، الذي به يحاسب الإنسان، وينعَّم أو يعذب, هذا الوقت الذي هو أثمن ما مُنح الإنسان, من دخل الجنة فإنما دخلها لأنه حفظ وقته, واستثمره فيما يرضي الله، ومن دخل النار فإنما دخلها لأنه ضيع وقته فيما يسخط الله, يقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر:36-37] هكذا يزعمون، ويدعون ويتمنون، ويطلبون، فيأتيهم الجواب: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) أما أعطيناكم أعماراً, أما خلقتم, أما مُتّعْتُم حتى بلغتم سن الرجولة, وعقلتم, وفهمتم, وعرفتم, ثم أعرضتم وضللتم, ألم يحصل هذا؟
بلى حصل, أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37].
فالوقت: هو الذي يحاسب به الإنسان، فَيُنَعَّم أو يُعَذَّب, ومع ذلك فهذه الأمانة العظيمة يفرط فيها كثير من الصائمين, فيقضون ليلهم في السهر على مشاهدة المسلسلات التافهة, أو سماع الأغاني, أو لعب الورقة, أو الجلسات الضائعة, واسأل الأرصفة فإنها خير شاهد على ما يفعله الناس, وخاصة الشباب في شهر الصيام!
فإذا جاء النهار كانوا نائمين، جثثاً هامدة, وهذا هو شأن من سهر ليله، فأحيا ليله -بل أماته- في عبث في غير طائل, وجعل نهاره وقتاً للنوم, وربما فرط فيه في كثير من الواجبات, فليس هذا من رعاية الأمانة، أمانة الوقت.
وربما يفرطون في أمانات الدين الأخرى, وربما يرتكبون المحارم, وهذا يدل على أن صيامهم أصبح صياماً شكلياً لا حقيقياً, فهم أخذوا من العبادات أشكالها ومظاهرها، وغفلوا عن حقائقها ومعانيها.
حتى يصاب الواحد منهم بالتخمة من كثرة ما يتناول من الأطعمة والأشربة في هذا الشهر, وربما بعض الناس لا يتذكرون من رمضان إلا تلك الأغذية والأطعمة, حتى الصغار والصبيان تعودوا أنهم في هذا الشهر يجدون أطعمة وأغذية لا عهد لهم بها, فيفرحون برمضان لذلك!
وهذا الإنسان الذي يبذخ ويسرف؛ تجد أنه لم ينفق في سبيل الله تعالى, ولم يتعاهد المساكين، والمعوزين، والمحتاجين, لم تحدثه نفسه أن يصل المجاهدين في سبيل الله في أفغانستان, أو فلسطين, أو إرتيريا, أو الفلبين, أو غيرها. أولئك الذين يحمل الواحد منهم سيفه على عاتقه، أو يحمل بندقيته على عاتقه, وينام على الثرى، ويلتحف السماء، وربما لا يجد الواحد منهم كسرة خبز يسد بها جوعته, لا يلتفت إليهم, وهذا أيضا يؤكد أن الصيام لم يحقق غرضه وحكمته في مثل هؤلاء, لأن الصوم جوع، وبالجوع يتذكر الإنسان المحتاجين والجائعين، كما قال الأول:
لعمري لقد عظني الجوع عظة فآليت ألا أمنع الدهر جائعاً |
فمن العادة أن الإنسان إذا مسه الجوع والعطش تذكر المساكين، والمحتاجين، والفقراء, فجادت نفسه بالبذل والعطاء, أما أن يوسع الإنسان على نفسه هذه التوسعة, ويبذخ هذا البذخ, ويسرف هذا الإسراف، في ألوان الطعام والشراب, ثم ينسى المساكين, والفقراء, والمحتاجين, والمجاهدين, فلا شك أن هذا يدل على أنه ما راعى الأمانة حق رعايتها.
أم أن الحال العكس من ذلك؟ الواقع يقول لنا: لا, الحال على ضد ذلك, فإن رمضان مجال لتسيب أولادنا، وبناتنا، وأزواجنا!
فالأب في الليل مشغول بالسهر مع زملائه وأصدقائه, وفي النهار مشغول بالنوم بعض الوقت, والوقت الآخر يقضيه في أعماله إن كان موظفاً أو غير موظف, أما الأولاد وأهل البيت، فلا شأن له بهم ولا يدري! بل قد يكون بعض الطيبين والصالحين، ممن يبكرون إلى المسجد ويصلون التراويح, لا يدري ما شأن أولاده ولا بناته, فالأولاد الصغار يلعبون مع أمثالهم ونظرائهم, وربما يترتب على لعبهم هذا تورطهم في عصابات المخدرات, ووقوعهم في الجرائم الأخلاقية، من اللواط والسرقة وغيرها, وتعرضهم للاختطاف, وتعرضهم لحوادث السيارات والدهس وغيرها.
وكذلك البنات، قد يتعرضن لأمور كثيرة, باختيارهن أو بغير اختيارهن, والأب لا يدري من ذلك شيئاً, فهو إما في المسجد يصلي, أو مع شلته وأصحابه, أو نائم, أو في عمله!
أين رعاية الأمانة في هذا الشهر الكريم؟ إذا فرطت في أغلى ثروة تعتز بها في أولادك وبناتك!
فهذه من السلبيات التي يقع فيها الصائمون, ولا يجوز أن تحدث لا من الصائم ولا من غيره, لكن إن فُرِضَ جدلاً أنها حدثت من غير الصائم, فإنه لا يجوز بحال أن يتصور حدوثها من الصائم, الذي هو متلبس بعبادة, من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فهذه نقطة وهي قضية التفريط في الأمانات التي حملنا الله إياها في هذا الشهر الكريم.
وكثيراً ما تجد في المساجد أناساً يتسابقون في صلاة التراويح، وربما يقرأ الإمام آية واحدة أو آيتين, فإذا قرأ نصف وجه اعتبر مطيلاً للصلاة! وحدثني بعض الشباب الثقات أنه في بعض البلاد، كان الإمام يقرأ في كل ركعة آية واحدة من قصار الآيات, فمثلاً يقرأ في الركعة الأولى (ألم) الله أكبر, ثم يقوم في الركعة الثانية فيقول: (ص) الله أكبر, وهكذا طيلة الشهر الكريم! يقرأ آية واحدة من قصار الآيات, بل ربما يقرأ من الحروف المقطعة في أوائل السور ثم يركع ويسجد, وكثير من الأئمة لا يتمكن الذين يصلون خلفه من قراءة الفاتحة, ولا من التسبيح في الركوع والسجود, ولا من قول "ربنا ولك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه" ولا من قراءة التشهد في جلسة التشهد, ولا من غير ذلك, فهو يسرع, المهم: أنه متى ينتهي من الصلاة!
ولا شك أن هذا أَخْذٌ بشيء من مظهر العبادة، وغفل عن جوهرها, فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في رمضان وغيره إحدى عشرة ركعة, يطيلهن ويتمهن، ويطيل القراءة فيهن, ومن بعده كان أصحابه لما جمعهم عمر رضي الله عنه على صلاة التراويح، كانوا يطيلون القيام حتى يتكئون على العصي من طول القيام!
فالعبادة ليست عبثاً أو لعباً أو لهواً, العبادة خشوع ووقوف بين يدي الله تعالى, ولا بد أن يكون الإنسان محتسباً لهذه العبادة, أما أن تتحول العبادة إلى تسابق ومسارعة, فهذا لا شك أنه لا يجوز.
ومن هذا الحديث أخذ أهل العلم أنه يستحب للإنسان أن يختم القرآن في رمضان ما تيسر له, بقدر ما يطيق، وأن يكثر من تلاوة القرآن في رمضان؛ وذلك لأن رمضان هو شهر القرآن قال تعالى:شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنـزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185] فيه نـزل القرآن، من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا, وفيه ابتدأ نـزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فيستحب للعبد أن يكثر من قراءة القرآن وتلاوته ومدارسته, إما بنفسه أو مع الصالحين من عباد الله, لكن يقرأ القرآن بخشوع كما أنـزل, ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما قام ليلة كاملة بآية واحدة من كتاب الله يرددها حتى الصباح, وهكذا كان أصحابه من بعده.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سمع القرآن بكى! كما في الصحيح عن ابن مسعود أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: {اقرأ عليّ القرآن، قلت: يا رسول، أأقرأ عليك وعليك أنـزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري قال: فقرأت عليه من سورة النساء, حتى أتيت على قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً [النساء:41] قال النبي صلى الله عليه وسلم: حسبك الآن قال: فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم فإذا عيناه تذرفان } فكان عليه الصلاة والسلام يبكي ويخشع لقراءة القرآن, وكذلك الصالحون من بعده عليه الصلاة والسلام, فكان أبو بكر إذا صلى بالناس صلاة الفجر بكى حتى يسمع نشيجه من وراء الصفوف, وربما خنقته العبرة حتى لا يدري من وراءه ماذا يقرأ أبو بكر رضي الله تعالى عنه من القرآن!
بل عمر رضي الله عنه القوي الشديد الأيّد, كان يخشع للقرآن أعظم الخشوع, حتى ربما قرأ آية من كتاب الله فاهتز لها واضطرب, وجلس في بيته مريضاً أياماً يعاد.
- حال الناس مع القرآن:
أما أن يكون هم الواحد منا متى يصل إلى آخر السورة, أو آخر الجزء، أو آخر القرآن ومتى يختم! وربما هَذَّ القرآن هذّاً كهذّ الشعر, لا يقف عند وعده ووعيده, وحلاله وحرامه, ومعانيه, بل يهذّه هذا، لا يدري ما معنى القرآن, ولا يعتبر به ولا يتأثر!, فلا شك أنه ليس لهذا أنـزل القرآن, والله عز وجل يقول: كِتَابٌ أَنـزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29] ويجب أن نعلم -أيها الإخوة- علم اليقين أن القلب الذي يسمع آيات الله عز وجل, ثم تتلى عليه ولا يتأثر ولا ينكسر ولا يخشع, أنه قلب مريض إن لم يكن قلباً ميتاً، قال تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا [الجاثية:7-8] وقال: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [المرسلات:50] وقال: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثـية:6]
أليس من العجب وكل العجب أن نبكي عند دعاء القنوت؟ -مثلاً- وتسكب العبرات، وربما ارتفعت الأصوات والصيحات! وقبل ذلك بدقائق كنا نسمع الآيات البينات المزلزلات، التي لو أنـزلت على الجبال الراسيات؛ لتصدعت من خشية الله عز وجل، ثم لا ترق قلوبنا، ولا نتأثر ولا ندمع ولا نبكي! أين نحن من قول الرسول صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} هذا البكاء الذي نتصنعه أحياناً وربما نتأثر به بسبب حسن الصوت وجماله، أو خشوع الإمام, يجب أن نعلم أن هذا البكاء قد يدخل أحياناً في باب الرياء, لأن التكلف والتعمل من خلال الاجتماع، وارتفاع الأصوات له تأثير، والشيء الذين ينفعك عند الله هو الحقيقة التي ليس فيها بهرج ولا خداع ولا رياء ولا مجاملة, وإنما لله, ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} فالعين التي يخرج منها، مثل رأس الذباب، من البكاء من خشية الله، لا تمسها النار, كما قال عليه الصلاة والسلام لكن ما يدريك أن بكاءك من خشية الله؟!
إذاً: يجب ألا نغفل عن حقيقة العبادة، سواء حقيقة الصيام, أم حقيقة الصلاة, أم حقيقة قراءة القرآن, ولا شك أن أربع تسليمات، أو خمس تسليمات، تستغرق فيها ساعة كاملة في خشوع, وطمأنينة في القيام والركوع والسجود, أفضل من أربعين ركعة في نفس الساعة ليس فيها خشوع ولا طمأنينة ولا تسبيح ولا ذكر لله عز وجل.
ولا شك أن ساعة تقضيها في قراءة نصف جزء من القرآن بتدبر وتمعن وتعيد الآية التي تتأثر بها, وتحاول أن تعرض الآيات على قلبك، أفضل من نفس الساعة التي تقرأ فيها جزأين أو ثلاثة، هذّاً كهذِّ الشعر, إنما همك رأس السورة أو رأس الجزء, أو متى تختم القرآن!
قاله في المدينة, يعني صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد النبوي, مع أن صلاتها في المسجد النبوي أفضل من صلاتها في سائر المساجد بألف صلاة, فما بالك أيتها المسلمة بصلاتك في بيتكِ في غير المسجد النبوي.
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر