إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. سلمان العودة
  5. شرح بلوغ المرام
  6. شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب سترة المصلي - حديث 247-250

شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب سترة المصلي - حديث 247-250للشيخ : سلمان العودة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يشرع للمصلي أن يدافع من أراد الاجتياز بين يديه، واختلف العلماء في قطعه للصلاة، فمنهم من قال: لا يقطع الصلاة شيء، ومنهم من قال: يقطعها المرأة والكلب والحمار، ومنهم من فصل في ذلك.

    1.   

    شرح حديث ابن عباس فيما يقطع الصلاة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    بقي عندنا في باب سترة المصلي أربعة أحاديث:

    الحديث الأول هو حديث أبي داود والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه دون آخره -كما يقول المصنف- وقيد المرأة بالحائض.

    الحديث رواه أيضاً ابن ماجه والبيهقي، ومتن الحديث عندهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يقطع الصلاة المرأة الحائض والكلب ).

    فلو أن المصنف رحمه الله ساق المتن لكان أهون من الطريقة التي ساق بها الحديث، فالحديث متنه: ( يقطع الصلاة المرأة الحائض والكلب )، فسياقه أسهل من طريقة المصنف: [ ولهما عن ابن عباس نحوه دون آخره، وقيد المرأة بالحائض ]، فروى الحديث بالمعنى، ومع ذلك أطال فيه وأوجد نوعاً من اللبس كما سوف يتضح بعد قليل.

    تخريج الحديث

    الحديث رواه أبو داود والنسائي -كما ذكر المصنف- وغيرهما مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك من طريق شعبة بن الحجاج عن قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس رضي الله عنه، وخالف شعبة غيره من أصحاب قتادة فرووه موقوفاً على ابن عباس لا مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وممن خالف شعبة في ذلك هشام الدستوائي وخالفه همام بن يحيى وخالفه أيضاً سعيد بن أبي عروبة، فهؤلاء ثلاثة من أصحاب قتادة : سعيد بن أبي عروبة وهمام وهشام، كلهم خالفوا شعبة فذكروا الحديث موقوفاً؛ ولذلك قال يحيى بن سعيد القطان وأبو داود : إنه تفرد برفعه شعبة، وكأن كلامهم يشير إلى تضعيف رفع الحديث وأن الصواب مع من أوقفوه، وأن الصواب أن الحديث موقوف على ابن عباس، فهو من قوله وليس من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    المقصود بقول المصنف: (دون آخره)

    قول المصنف: [دون آخره] هذا فيه إيهام، ما معنى دون آخره؟

    قد يكون [دون آخره] مقصوده ( والكلب الأسود )؛ لأنه آخر حديث أبي ذر، أو قوله: ( الكلب الأسود شيطان )، وهذا هو الراجح في نظري؛ وذلك أن المصنف ساق ثلاثة أحاديث كالتالي:

    ساق حديث أبي ذر رضي الله عنه: ( يقطع صلاة الرجل المسلمِ المرأةُ والحمار والكلب الأسود ) وفي آخره ( الكلب الأسود شيطان )، ثم قال: [ رواه مسلم ].

    ثم ساق بعده حديثاً آخر قال: [ وله عن أبي هريرة نحوه دون الكلب ]، ثم قال: [ ولـأبي داود والنسائي عن ابن عباس نحوه دون آخره ] يعني: دون قوله: ( الكلب الأسود شيطان )؛ فإن هذه الكلمة ليست موجودة في حديث ابن عباس .

    هناك احتمال آخر أن قوله: [ دون آخره ] يعني: دون آخر حديث أبي هريرة الذي لم يسقه المصنف؛ فإن حديث أبي هريرة الذي رقمه عندنا (246) آخره قوله: ( ويقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل )، فيحتمل أن يكون قول المصنف: [ دون آخره ] يعني: دون آخر حديث أبي هريرة، لكن الأقرب هو الأول؛ لأنه ما دام أنه ما ساق حديث أبي هريرة فيبعد أنه يحيل على متنه.

    إذاً: قوله: [ دون آخره ] يعني: آخر الحديث.

    على أي حال ليس هناك إشكال؛ لأن حديث ابن عباس نفسه محفوظ متنه، فإن متن حديث ابن عباس -كما سقت لكم-: ( يقطع الصلاة: المرأةُ الحائضُ والكلب ).

    معاني ألفاظ الحديث

    في حديث ابن عباس هذا رضي الله عنه قوله: ( المرأة الحائض )، فما المقصود بالمرأة الحائض؟ يحتمل أن يكون المقصود بالمرأة الحائض المرأة البالغة، فإن البالغة تسمى حائضاً، وقد سبق معنا حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار )، ( لا يقبل الله صلاة حائض ) يعني: بالغة ( إلا بخمار ).

    إذاً: الحائض يحتمل أن يكون المقصود به المرأة البالغة، بمعنى: أن الصبية الصغيرة لا تقطع الصلاة، وهذا معلوم معروف؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو حامل أمامة كما سبق معنا؛ لأنها كانت صبية صغيرة.

    الاحتمال الثاني: أن يكون المقصود بقوله: ( الحائض ) التي نزل بها الحيض، وعلى هذا تكون المرأة لا تقطع الصلاة إلا إذا كانت في حال حيضها، أما في حال طهرها فلا تقطع الصلاة، وهذا مذهب منسوب لـابن عباس رضي الله عنه وعطاء بن أبي رباح، ورجحه بعض أهل العلم كـالقرطبي صاحب المفهم، وليس هو القرطبي صاحب التفسير بل هو غيره، وعلل ذلك بأن المرأة الحائض تحمل النجاسات؛ فلذلك أصبحت تقطع صلاة المصلي.

    وقال الصنعاني في سبل السلام : إنه إذا صح الحديث حمل المطلق على المقيد. يعني: الأحاديث التي ورد فيها أن المرأة تقطع الصلاة تحمل على المقيد، وهو حديث ابن عباس الذي دل على أنه لا يقطع الصلاة إلا المرأة الحائض، كما حمل المطلق على المقيد في شأن الكلب، فإنه ورد في بعض الأحاديث الكلب، وورد في بعضها تقييده بالكلب الأسود؛ فحينئذ نحمل المطلق -وهو قوله: (الكلب)- على المقيد وهو قوله: (الكلب الأسود)، هذا على فرض صحة الحديث مرفوعاً.

    والاحتمالان كلاهما وارد في الحديث، وإن كان الأول أقرب عندي: (أن المقصود بالحائض: المرأة البالغ) وهذا هو الذي فهمه أكثر الصحابة والعلماء من هذا الحديث.

    1.   

    شرح حديث أبي سعيد في مدافعة المصلي من يمر بين يديه

    أما الحديث الثاني: وهو حديث أبي سعيد رضي الله عنه ( إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان ) متفق عليه. وفي رواية: ( فإن معه القرين ).

    تخريج الحديث

    هذا الحديث رواه البخاري في الصلاة (باب: يرد المصلي من مر بين يديه)، ورواه مسلم أيضاً في الصلاة (باب: منع المار بين يدي المصلي)، ورواه أبو داود والنسائي ومالك في الموطأ وغيرهم.

    قصة الحديث

    وله قصة سبق أن ذكرتها، وهي أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه كان يصلي -كما قال أبو صالح السمان - في يوم الجمعة إلى شيء يستره، فجاء رجل أو شاب من بني أبي معيط فأراد أن يمر بين يديه فدفعه أبو سعيد الخدري، فذهب الشاب فلم يجد مساغاً، فرجع فدفعه أبو سعيد أشد من الأولى، فنال الشاب من أبي سعيد، ثم ذهب إلى مروان -وهو أمير المدينة يومئذ- فأخبره الخبر، فلحقه أبو سعيد فدخل على مروان فقال له مروان : ما لك ولابن أخيك؟ يعني: لم فعلت به هذا؟ فقال أبو سعيد : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره ) إلى آخر الحديث الذي ساقه المصنف هاهنا. فهذه قصة الحديث.

    تسمية المار بين يدي أبي سعيد رضي الله عنه

    من هو المار؟ ذكر في رواية الشيخين أن المار هو من بني أبي معيط، وجاء في رواية عند أبي نعيم في كتاب الصلاة أنه الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وهذا بعيد، فليس هو الوليد بن عقبة ؛ لأدلة:

    أولها: أن الوليد لم يكن شاباً يومئذ، بل كان في الخمسين، ولفظ الحديث (أراد شاب من بني أبي معيط).

    الدليل الثاني على أنه ليس هو: أن الوليد بن عقبة لما قتل عثمان رضي الله عنه ترك المدينة وسكن الجزيرة في العراق حتى مات، (موضع يقال له: الجزيرة في العراق، سكنها حتى مات) ولم يكن بالمدينة.

    الدليل الثالث: قوله في الحديث: إن مروان قال له: ما لك ولابن أخيك، فلو كان الوليد بن عقبة ما كان ابن أخيه؛ لأن والد الوليد عقبة مات كافراً، فليس أخاً لـأبي سعيد حتى يكون ابنه ابن أخيه، فلا يقال له: ابن أخيك؛ لأن أباه كان كافراً ومات كافراً.

    إذاً: ليس هو الوليد بن عقبة .

    وجاء في بعض الروايات أنه ابن لـمروان نفسه كما في سنن النسائي، وسماه في مصنف عبد الرزاق داود بن مروان.

    وهذا أيضاً بعيد، وإن كان الحافظ ابن حجر مال إلى تعدد القصة، لكن القول بتعدد القصة مذهب ضعيف.

    والأقرب ما استظهره الحافظ ابن حجر رحمه الله من أنه يحتمل أن يكون المار ابناً للوليد بن عقبة، فالراوي قال: الوليد بن عقبة وهو ابن الوليد بن عقبة ؛ وذلك لأنه يكون شاباً، وكذلك هو ابن أخيه؛ لأن أباه مسلم، ولا يمنع أن يكون في المدينة، فهذا أقرب ما يقال في المار أنه ابن الوليد بن عقبة وليس الوليد بن عقبة نفسه.

    معاني ألفاظ الحديث

    قوله: (فلم يجد مساغاً) في القصة التي سقتها يعني: مسلكاً أو ممراً (فنال من أبي سعيد ) يعني: سبه وشتمه.

    وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فليدفعه): أراد أحد أن يجتاز -أي: يمر- فليدفعه أي: يمنعه من المرور باللطف وبالأخف والأسهل فالأسهل.

    (فإن أبى فليقاتله) هذا من المقاتلة وهي مفاعلة من القتل، وقوله: (فليقاتله) يعني: يدفعه بصورة أشد من الأولى؛ ولذلك جاء في مستخرج الإسماعيلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فليجعل يده في صدره فيدفعه ) هذا معنى فليقاتله. يعني: يجعل يده في صدره ثم يدفعه لئلا يمر بين يديه.

    وقال بعض الفقهاء: بل هذا حقيقة، يقاتله يعني: يدفعه بالأخف، فإن لم يندفع بالأخف دفعه بالأشد حتى لو آل الأمر به إلى قتله، حتى يكون إذا ما اندفع إلا بالقتل يقتله، وهذا صرح به الشافعية وكثير من الفقهاء، وقالوا: لو قتله حينئذ وما اندفع إلا بقتل فقتله فحينئذ دمه هدر ولا شيء عليه؛ لأنه ترتب على أمر مباح، وما ترتب على المباح فلا ضمان فيه، فأخذوا بظاهر المقاتلة.

    وأنكر هذا جماعة من أهل العلم منهم: ابن العربي وابن عبد البر وابن أبي جمرة وغيرهم، حتى قال ابن عبد البر في التمهيد في الجزء الرابع: (إن المدافعة هي الدفع بالأخف فالأخف، والظاهر أن هذا خرج على سبيل التغليظ). يقول: قوله: (فليقاتله) خرج على سبيل التغليظ، ثم قال ابن عبد البر : (وأجمعوا على أنه لا يقاتله بسيف ولا يخاطبه ولا يبلغ به مبلغاً تفسد به صلاته). أنه لا يقاتله بسيف ولا يخاطبه -يعني: يكلمه- ولا يدفعه أو يبلغ به مبلغاً تفسد به صلاته، مثل كونه يمشي ويتلفت ويتحرك من أجل دفع هذا المار بين يديه.

    حتى قال ابن عبد البر : (بلغني عن عمر بن عبد العزيز -في غالب ظني- أن رجلاً دفع أخاه فكسر أنفه في الصلاة، فضمنه عمر بن عبد العزيز ذلك، وهذا دليل على أنه لم يكن له ذلك، وإلا لما كان عليه ضمان فيما فعل). ثم ذكر عن سفيان الثوري أنه كان يدفع من مر به دفعاً عنيفاً.

    وقد روى أبو داود عن الثوري قصة أو خبراً لطيفاً، أنه كان يقول: [ إنه ليمر بي الرجل ويتبختر فأدفعه دفعاً عنيفاً، ويمر بي الرجل الضعيف فأدعه ]، يعني: الثوري رحمه الله كان يفرق بين الناس، فإذا مر به إنسان متكبر يتبختر في مشيته ويجر إزاره يريد أن يقطع صلاته دفعه دفعاً عنيفاً، كما فعل أبو سعيد بهذا الغلام من بني أبي معيط؛ وذلك ليؤدبه ويزيل ما في نفسه من الكبرياء ويقبع أنفه بذلك، فإذا مر به الرجل الضعيف فإنه كان لا يدفعه، وفعل الثوري ليس حجة في ترك هذا الضعيف، بل يمنع الضعيف، لكن لا شك أن منع الضعيف الذي يندفع بيسر ليس كدفع القوي المتكبر المتبختر.

    قوله عليه الصلاة والسلام: ( فإنما هو شيطان ) شيطان مشتق من الشطن، شطن أي: بعد، وذلك لبعد الشيطان من رحمة الله وبعده من الخير، وقوله: ( فإنما هو شيطان ) يحتمل أمرين:

    الأمر الأول: أنه شيطان على الحقيقة، وهذا هو الراجح والأقرب: أنه شيطان حقيقي؛ وذلك لأن الشيطان يدخل فيه الجني والإنسي، كما قال الله عز وجل: شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ [الأنعام:112] فالجني يسمى شيطاناً، والإنسي المارد والمتمرد يسمى شيطاناً أيضاً، فعلى هذا يكون شيطاناً؛ لأنه عاص لله عز وجل متمرد أراد أن ينقص من صلاة المصلي .

    الاحتمال الثاني: أن يكون المقصود بقوله: ( فإنما هو شيطان ) أن فعله فعل الشيطان.

    وهناك احتمال ثالث دلت عليه رواية ( فإن معه القرين )، وهو أن يكون المقصود بقوله: ( فإنما هو شيطان ): فإن معه الشيطان؛ ولذلك جاء في الرواية ( فإن معه القرين )، والقرين: هو المقارن للإنسان من شياطين الجن يأمره بالمنكر وينهاه عن المعروف، ولا يفارقه أبداً، فهذا هو القرين، وكل إنسان له قرين.

    وقول المصنف: [ وفي رواية: ( فإن معه القرين )].

    الرواية هذه أين توجد في ظاهر كلام المصنف؟ قال: [متفق عليه، وفي رواية: ( فإن معه القرين )] أين توجد هذه الرواية؟

    ظاهر الرواية أنها قد تكون موجودة في الصحيحين؛ لقوله: [متفق عليه، وفي رواية].

    وهذا الذي فهمه الصنعاني ؛ ولذلك أنكر على المصنف قوله: [وفي رواية]. وقال: (إنني لم أجدها في البخاري وإنما هي في مسلم من رواية أبي هريرة ). هكذا يقول الصنعاني، يقول: وجدتها في مسلم من رواية أبي هريرة ( فإن معه القرين ).

    أقول: وحتى ما قاله الصنعاني رحمه الله غير جيد، فإنها ليست من حديث أبي هريرة، وإنما هي في مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنه، وقد أشار إليها المصنف في فتح الباري وفي تلخيص الحبير وغيرهما في الحديث أنها من رواية ابن عمر وليس من رواية أبي هريرة.

    فوائد الحديث

    حديث أبي سعيد فيه فوائد كثيرة:

    منها: مشروعية السترة للمصلي، وسبق ذكر ذلك.

    ومنها: مشروعية دفع المار بين يدي المصلي، وقد ذهب الظاهرية إلى وجوب دفعه، وذهب الجمهور إلى أن دفعه مستحب وليس بواجب.

    وهل دفع المار بين يدي المصلي لمصلحة المصلي أو لمصلحة المار.. أيهما؟ أنت حينما تمنع الإنسان من المرور بين يديك هل تدفعه لمصلحتك أنت أم لمصلحته هو؟

    قال بعض أهل العلم: تدفعه لمصلحته هو حتى لا يصيبه إثم، وهذا الذي ذهب إليه ابن أبي جمرة شارح البخاري.

    الاحتمال الثاني: أنه لمصلحة الطرفين لمصلحة المار ولمصلحة المصلي.

    الاحتمال الثالث: أنه لمصلحة المصلي نفسه؛ لئلا يقطع على المصلي صلاته أو ينقص من أجره، ولا شك أن القول بأنه لمصلحة المار فقط ضعيف؛ لأن المصلي في شغل في الصلاة لا يمكن أن ينصرف عنه بالتسبب في زوال الإثم عن آخر، خاصة إذا كان الآخر هذا هو الذي جر الإثم إلى نفسه.

    لكن القول بأنه لمصلحة المار ولمصلحة المصلي هو الوجيه، لمصلحة المصلي في عدم التشويش عليه وعدم قطع صلاته ولمصلحة المار في عدم الإثم عليه بالمرور، فالقول بأنه لمصلحتهما معاً هو المتجه.

    ومن فوائد الحديث أيضاً: تحريم المرور بين يدي المصلي؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المصلي بأن يقاتله، ولم يأمره بذلك إلا لتحريم مروره، وكذلك وصفه بأنه شيطان وإنما يوصف بذلك من ارتكب معصية أو إثماً، ففي الحديث دليل على تحريم المرور بين يدي المصلي.

    ومن فوائده: أن الحركة اليسيرة في الصلاة لا تقطعها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدفعه فإن أبى فليقاتله، وهذه -لاشك- حركة لكنها حركة يسيرة وهي لمصلحة الصلاة، فحينئذ ليست بمحرمة ولا مكروهة، بل هي مستحبة، أقل ما يقال فيها: إنها مستحبة؛ وذلك لأنها حركة يسيرة لمصلحة الصلاة.

    ومن فوائد الحديث: أنه لا يدفع من مر من وراء السترة، بل يدفع من مر بينه وبين السترة أو مر بين يديه.

    ومن فوائد الحديث: مشروعية الدنو من السترة والقرب منها، ومن أين نأخذ هذه الفائدة؟

    من قوله: ( بين يديه) معنى (يمر بين يديه): بينه وبين السترة، معنى ذلك أن السترة قريبة، وما بينه وبين السترة هو ما بين يديه، ولا يقال: بين يديه إلا إذا كان قريباً، أما إذا كان بعيداً فلا يسمى: بين يديه، فدل على أنه يستحب للإنسان إذا صلى إلى سترة أن يكون قريباً منها.

    وقد يستفاد من الحديث: أنه من لم يكن له سترة فإنه لا يمنع المار؛ لأنه كأنه يكون قد أسقط حقه حينئذ في منع المرور بين يدي المصلي، قال بهذا طائفة كبيرة من الفقهاء، وفيه بعض النظر.

    ومن فوائد الحديث: مشروعية استقبال السترة، أنه يجعلها بينه وبين القبلة لا يجعلها عن يمينه ولا عن يساره، وقد جاء في أحاديث أنه لا يصمد إليها بل يجعلها عن يمينه أو عن يساره، ولكن الأحاديث ضعيفة، وعمومات النصوص الأخرى تدل على أنه يجعل السترة بينه وبين القبلة، يعني: يصلي إليها لا يجعلها عن يمينه ولا عن يساره.

    وقد أخذ أيضاً بعض الفقهاء من الحديث أنه يجزئ في السترة أي شيء، إنسان، حيوان، شيء طويل شيء قصير، المهم أن يكون شيء يستره؛ وذلك لقوله: ( إلى شيء يستره )، والشيء نكرة فتعم، (شيء) نكرة في سياق الإثبات فتعم كل شيء.

    هذه بعض فوائد حديث أبي سعيد .

    1.   

    شرح حديث: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً ...)

    الحديث الثالث: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً، فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يكن فليخط خطاً ثم لا يضره من مر بين يديه ).

    تخريج الحديث وكلام أهل العلم فيه

    يقول المصنف: [أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه ابن حبان، ولم يصب من زعم أنه مضطرب، بل هو حسن].

    حديث أبي هريرة هذا أخرجه -كما ذكر المصنف- أحمد وابن ماجه، وأخرجه أيضاً ابن خزيمة وابن حبان والبغوي في شرح السنة وغيرهم.

    وأيضاً أخرجه عبد الرزاق وأبو داود، وهو من رواية إسماعيل بن أمية عن أبي عمرو بن حريث عن أبيه أو عن جده عن أبي هريرة رضي الله عنه.

    فالحديث عند جميع المخرجين من رواية إسماعيل بن أمية عن أبي عمرو بن حريث عن أبيه أو عن جده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    وقولنا: (عن أبيه أو عن جده) يعني: في بعض الروايات قال: عن أبيه، وفي بعضها بدلاً من قوله: (عن أبيه) قال: (عن جده)، وهذا كما سيتضح بعد قليل ليس فيه إشكال، عن أبيه أو عن جده الأمر في ذلك قريب من قريب.

    الحديث اختلف فيه أهل العلم، فقد ضعفه أكثر العلماء، وممن ضعفه الإمام الشافعي في مذهبه الجديد وسفيان بن عيينة، قالا: (لم نجد شيئاً نشد به هذا الحديث -يعني: نقوي به هذا الحديث- ولم يجيء إلا من هذا الوجه). يعني: ليس له إلا طريق واحد، ليس له طريق آخر يقوى به، بل إسماعيل بن أمية نفسه راوي الحديث لما روى الحديث كان يقول للناس الذين عنده: (هل عندكم شيء تشدون به هذا الحديث؟). فيسألهم: عندكم طريق ثان تقوون به الحديث؟ هل عندكم شيء؟ فهو يعرف أن الحديث ضعيف لا يقوم بنفسه، يحتاج إلى حديث آخر يشده.

    إذاً: ضعفه أيضاً إسماعيل بن أمية راويه عن أبي عمرو بن حريث، وضعفه البغوي أيضاً والطحاوي، وجماعة من الذين ألفوا في المصطلح مثل ابن الصلاح في مقدمته في علوم الحديث، فإنه ساق الحديث كمثال للحديث المضطرب، وقال: هو مضطرب، وكذلك العراقي في التقييد والإيضاح وغيره والنووي في الخلاصة وفي المجموع فهم اعتبروا هذا الحديث غير صحيح، بل هو ضعيف.

    وفي الحديث علتان، فالذين ضعفوه ضعفوه من وجهين:

    الوجه الأول: قالوا: إنه مضطرب كما ذكر ابن الصلاح والعراقي وغيرهما.

    وما وجه اضطرابه؟

    وجه الاضطراب أولاً: قالوا: إن إسماعيل بن أمية مرة يقول عن أبي عمرو بن حريث عن أبيه عن أبي هريرة، ومرة يقول: عن أبي عمرو بن حريث عن جده عن أبي هريرة، ومرة يقول: عن أبي عمرو بن حريث عن أبي هريرة، فهذه ثلاثة أوجه: مرة عن أبيه ومرة عن جده ومرة يرويه بنفسه عن أبي هريرة .

    وكذلك قال: اضطربوا في اسم أبي عمرو بن حريث هذا واضطربوا في اسم أبيه أو جده، هذا وجه الاضطراب.

    وله أوجه أخرى كثيرة مضطربة، المهم أن الاضطراب هذا في الحديث يضعفه.

    لكن ابن حجر رحمه الله في كتاب النكت على ابن الصلاح -وهو كتاب عظيم في علوم الحديث- ذكر أن الاضطراب هذا لا يضعف الحديث؛ وذلك لأنه يمكن فيه الترجيح، فالأب يحمل على أن المقصود به هو الجد، والأوجه المذكورة يمكن الترجيح بينها، فليست بدرجة واحدة من القوة بحيث إنه لا يترجح بعضها على بعض، وبالترجيح لا يكون هناك داع للحكم على الحديث بالضعف، أما الاختلاف في اسم الرجل فإنه لا يضعف الحديث.

    الوجه الثاني من أوجه التضعيف: أن في سنده جهالة، فإن أبا عمرو بن حريث هذا وأباه أو جده كلاهما مجهول، وقد حكم الطحاوي بأنهما مجهولان لا يعرفان في غير هذا الحديث، لم يرد لهما ذكر إلا في هذا الحديث، ومن كان هذا شأنه لا يحتج به، ووافقه على ذلك ابن حجر، مع أن المصنف رحمه الله قال في هذا الموضع: إنه حديث حسن، مع ذلك هو وافق الطحاوي على أن الرجلين مجهولان، وذلك في كتابه التقريب في رجال الستة، لما ذكر أبا عمرو بن حريث قال: مجهول، ولما ذكر جده قال: الراجح أنه ليس بصحابي وأنه مجهول أيضاً.

    وبناء على ذلك فإن الحديث ضعيف بهذا الوجه الثاني، وهو جهالة راويه أبي عمرو بن حريث وكذلك جهالة جده.

    إذاً: هؤلاء ضعفوا الحديث.

    أما من صححه؟ فقد صححه جماعة أشار المصنف إلى بعضهم، منهم ابن حبان كما ذكر المصنف، قال: [ صححه ابن حبان فقد رواه في صحيحه ]، ومعناه أنه صحيح عنده، وكذلك الإمام أحمد نقل عنه ابن عبد البر وغيره أنه صححه، كذلك علي بن المديني نقل عنه تصحيح الحديث، والشافعي في مذهبه القديم صحح الحديث واحتج به، والبيهقي قال: (لا بأس بالاحتجاج به في هذا الحكم). وهذا يحتمل أنه حسن عنده، وإلا فهذا حكم شرعي لا يحتج فيه بحديث ضعيف، والمصنف في هذا الموضع قال: [بل هو حديث حسن]. ونقل المصنف أيضاً في النكت على ابن الصلاح أن الحاكم صححه، والواقع أن الحاكم -فيما أعلم- ما أخرج الحديث ولا أدري أين يكون صححه، وفي أي كتاب من كتبه.

    ولكن الراجح أن الحديث ضعيف لجهالة راويه كما أسلفت، فالقول قول من ضعفوه.

    شواهد الحديث

    الحديث له شواهد، لكن شواهده لا يصح تسميتها شواهد لأنها ضعيفة جداً؛ ذكر منها المصنف في النكت على ابن الصلاح حديث أبي موسى الأشعري بمعنى حديث الباب، وقد رواه الطبراني، لكنه في سنده أبو هارون العبدي وهو متروك، فالحديث لا يحتج به ولا يتقوى به حديث الباب.

    وله شاهد آخر ذكره المصنف أيضاً في كتاب المطالب العالية في زوائد المسانيد الثمانية عن ابن لـأبي محذورة عن أبي محذورة أنه قال: ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد من باب بني شيبة حتى أتى الكعبة، فاستقبل القبلة وخط خطاً معترضاً وصلى والناس يطوفون بين الكعبة وبين الخط ) ونسب هذا الحديث لـأبي يعلي، وقد بحثت في مسند أبي يعلي فلم أجد الحديث، وبحثت أيضاً في المقصد العلي في زوائد أبي يعلي الموصلي فلم أجده، فهل هو في المعجم أو في كتاب آخر؟ لا أدري، الله أعلم، المهم هذا الحديث كأنه أيضاً لا يصح، ولكن الحديث حتى لو كان ضعيفاً ضعفاً منجبراً لتقوى به حديث الباب، لكن إلى الآن لا يمكن الحكم عليه إلا بعد معرفة سنده والاطلاع عليه.

    الأقوال في حكم اتخاذ الخط إذا لم يجد المصلي سترة

    ما دام الحديث ضعيفاً فهل يخط أم لا يخط؟ هذه مسألة مختلف فيها، ذهب بعض أهل العلم إلى أنه يخط خطاً إذا لم يجد شيئاً، وهذا مذهب سعيد بن جبير كما رواه عبد الرزاق بسند رجاله ثقات كما يقول المصنف ابن حجر، وهو أيضاً مذهب الثوري، وهو القول القديم للشافعي وأحمد وإسحاق والأوزاعي، قال: (إذا لم يجد شيئاً يخط خطاً). واحتجوا بحديث الباب، ورأوا أن الخط خير من العدم.

    أما القول الثاني فهو مذهب الجمهور: مالك والشافعي في مذهبه الجديد وأبي حنيفة والليث بن سعد وأبي ثور وسواهم، يقولون: لا يخط، فإذا لم يجد شيئاً فإنه يصلي ولا يخط خطاً، وحتى الآن الذي يبدو أن مذهبهم أقوى -مذهب الجمهور- لعدم ثبوت الحديث.

    والذين يقولون بالخط اختلفوا كيف يخط؟ فبعضهم يقول: يخط خطاً منحدراً مثل الهلال بينه وبين القبلة، وبعضهم يقول: يخط خطاً طولياً مستقيماً.

    على كل حال الراجح -والله تعالى أعلم- أنه لا يخط، فإذا لم يجد شيئاً فإنه يصلي بدون خط ولا شيء عليه.

    ويمكن أن نقول: إن هذا تعبد -الخط تعبد-، والناس قد يتسامحون في السترة فيخطون وإن وجدوا سترة يصلون إليها أحياناً، فنقول: إن القول بالخط يفتقر إلى ثبوت الحديث في ذلك، بأن يكون صحيحاً أو حسناً، فإن ثبت حديث أبي محذورة أو كان ضعيفاً ضعفاً منجبراً تقوى به حديث الباب.

    يبقى الأمر على الضعف، ولا أرى أن يقال بذلك، خاصة أنه قد يدعو إلى التساهل في ذلك والتفريط كما ذكرت.

    1.   

    شرح حديث: (لا يقطع الصلاة شيء وادرءوا ما استطعتم)

    بعد ذلك ننتقل إلى الحديث الرابع، وفيه بحث طويل هو الذي جعلني أقول لكم: إننا قد نأخذ بعض الوقت.

    حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يقطع الصلاة شيء، وادرءوا ما استطعتم ).

    تخريج الحديث

    [ أخرجه أبو داود وفي سنده ضعف ] هذا الحديث رواه أبو داود كما ذكر المصنف في (باب: من قال لا يقطع الصلاة شيء).

    وذكره بإسنادين، وفي أحدهما قصة: أن أبا سعيد رضي الله عنه كان يصلي فجاء شاب من قريش فأراد أن يمر بين يديه فمنعه ثلاث مرات، فلما سلم أبو سعيد من صلاته قال: إنه لا يقطع الصلاة شيء، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ادرءوا ما استطعتم؛ فإنه شيطان )، فعلى هذه الرواية يكون الذي قال: لا يقطع الصلاة شيء أبو سعيد، ثم نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ادرءوا ما استطعتم؛ فإنه شيطان ).

    وقوله: (ادرءوا ما استطعتم) يعني: امنعوا. فإن الدرء والمدارأة هي المنع، يعني: امنعوه من المرور بين يدي المصلي بقدر ما تستطيعون.

    قاعدة أبي داود في تنازع الخبرين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطبيقها على حديثي أبي ذر وأبي سعيد في السترة

    وهذا الحديث قال أبو داود عقب سياقه: (إذا تنازع خبران عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى عمل أصحابه من بعده)، ماذا يقصد أبو داود بهذا الكلام؟

    الجواب: الخبران المتنازعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهما مثل خبر أبي ذر كما سبق: ( يقطع صلاة الرجل المسلمِ المرأةُ والحمارُ والكلب الأسود)، هذا خبر بين أنه يقطع الصلاة، وحديث أبي سعيد يقول: ( لا يقطع الصلاة شيء )، فهذان خبران ظاهرهما التعارض، هذا يقول: ( لا يقطع الصلاة شيء ) وهذا يقول: ( يقطع الصلاة المرأةُ والحمار والكلب الأسود ).

    فـأبو داود يقول: إذا تنازع خبران عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى عمل أصحابه من بعده. وعمل أصحابه من بعده ما هو؟ يعني: يعزز أي الحديثين؟ يعزز أنه (يقطع الصلاةَ المرأةُ والحمار والكلب الأسود) أو (لا يقطعها شيء)؟

    الجواب: أنه لا يقطع الصلاة شيء فعمل أصحابه صلى الله عليه وسلم من بعده يعزز حديث أبي سعيد الخدري أنه لا يقطع الصلاة شيء؛ وذلك لأنه جاء عن ابن عباس -ونقل أبو داود بعض هذه الآثار- جاء عن ابن عباس حديث أنه مر بين يدي بعض الصف وهو على حمار أتان -وقد سبق الحديث والإشارة إليه في الدرس الماضي- فلم ينكر ذلك عليه أحد، وكذلك حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهي معترضة بينه وبين القبلة، إضافة إلى آثار أخرى واردة عن جماعة من الصحابة: ابن عمر، علي، عثمان وغيرهم أنهم قالوا: (لا يقطع الصلاة شيء).

    فكأن أبا داود رحمه الله يرى أنه لا يقطع الصلاة شيء، ويرجح حديث أبي سعيد بأن عمل الصحابة رضي الله عنهم كان عليه، وسوف أعود بعد قليل إلى هذا الدليل الذي استدل به أبو داود رحمه الله. المهم هذا معنى كلامه، وهذا شرح كلامه.

    كلام أهل العلم في الحديث

    حديث أبي سعيد هذا ( لا يقطع الصلاة شيء، وادرءوا ما استطعتم ) فيه كلام، تكلم فيه أهل العلم من جهة بعض رواته.

    الراوي الأول الذي تكلم فيه من أجله هو: مجالد بن سعيد الهمداني الكوفي، ومجالد بن سعيد هذا تغير بآخره، ضعيف، ضعفه جماعة من أهل العلم كـالدارقطني والإمام أحمد والنسائي ويحيى بن معين وغيرهم، وقال آخرون: إنه صدوق كما قال يعقوب بن سفيان، قال: (صدوق)، وقد أخرج الإمام مسلم له مقروناً بغيره.

    والراجح في مجالد بن سعيد أنه ضعيف لكن ضعفه ليس شديداً، ولذلك قال الذهبي: (فيه لين). يعني: ضعفه ليس شديداً، فالرجل فيه ضعف لكنه ليس قوياً.

    الرجل الثاني الذي تكلم في الحديث من أجله هو راو يقال له: أبو الوداك بفتح الواو والدال المشددة، وأبو الوداك هذا اسمه جبر بن نوف البكالي بكسر الباء، وأبو الوداك هذا وثقه جماعة من أهل العلم، وثقه يحيى بن معين وابن حبان والذهبي.

    والنسائي قال مرة: (صالح). ومرة أخرى قال: (ليس بقوي). اختلف فيه كلام النسائي، مرة قال: صالح، ومرة قال: ليس بقوي.

    وذهب بعض أهل العلم إلى تضعيفه، لكن المشهور أنه ثقة كما ذكر الذهبي وغيره، وأقل أحواله أن يكون حسن الحديث، وهو من رجال مسلم على كل حال، أخرج له مسلم. فهو راو أقل ما يقال فيه: إنه صدوق حسن الحديث، ولذلك فإن من ضعف الحديث بـ أبي الوداك لم يصب، بل الرجل أقل أحواله أن يكون صدوقاً حسن الحديث، وإنما يضعف الحديث بالراوي الأول وهو مجالد بن سعيد الهمداني الكوفي .

    إذاً الحديث على أي حال ضعيف، يكفي أن يكون فيه راو واحد ضعيف ليضعف الحديث، فحديث أبي سعيد ضعيف .

    شواهد الحديث

    هل له شواهد؟ نعم له شواهد كثيرة تصل إلى نحو خمسة أحاديث.

    من شواهد الحديث: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه بمعنى حديث الباب ( لا يقطع الصلاة شيء )، وقد رواه البيهقي والدارقطني والباغندي في مسند عمر بن عبد العزيز وهو كتيب صغير مطبوع، وحسن هذا الحديث بعض أهل العلم، وممن مال إلى تقويته الشيخ أحمد محمد شاكر ففي تعليقه على سنن الترمذي مال إلى تقوية حديث أنس رضي الله عنه من طريق الباغندي، وفيه راويان متكلم فيهما، لكن ليس ضعف حديث أنس بشديد.

    أيضاً من شواهد حديث الباب: حديث أبي أمامة، وقد رواه الدارقطني أيضاً والطبراني، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: (إسناده حسن). والواقع أنه ليس بحسن، بل هو ضعيف، فيه عفير بن معدان وهو ضعيف لا يحتج بحديثه.

    من شواهد حديث الباب: حديث ابن عمر وجابر وأبي هريرة، وكل هذه الأحاديث الثلاثة -حديث أبي هريرة وجابر وابن عمر - ضعفها شديد، فهي لا تنجبر، لكن عندنا حديث أنس وعندنا حديث أبي سعيد وعندنا حديث أبي أمامة ضعفها ليس شديداً جداً، ولذلك حكم جماعة من أهل العلم بأن الحديث بمجموع هذه الطرق يرتقي إلى درجة الحديث الحسن، وممن حسنه -كما ذكرت- أحمد شاكر، فقد صرح بثبوت الحديث، وصرح جماعة من أهل العلم بقوته، وذلك بعملهم به وإيرادهم له كما قال أبو داود في الكلمة التي ذكرتها قبل قليل.

    ومما يقوي الحديث ويعضده: أن المعنى ثبت عن جماعة من الصحابة بأسانيد صحيحة، روى مالك في الموطأ عن ابن عمر بسند صحيح كالشمس أنه قال: (لا يقطع الصلاة شيء) فهذا كلام ابن عمر، وروى عن علي قال: بلغني عن علي أنه قال: [ لا يقطع الصلاة شيء مما يمر بين يدي المصلي ]، وروى سعيد بن منصور عن علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان بسند صحيح -كما يقول ابن حجر - أنهما قالا: [ لا يقطع الصلاة شيء ].

    وروى البخاري في صحيحه عن ابن شهاب الزهري أنه قال: (لا يقطع الصلاة شيء)، ثم ساق حديث ابن عباس في مروره بين يدي بعض الصف.

    إذاً: هذه الروايات كلها تعزز وتقوي حديث الباب في أنه لا يقطع الصلاة شيء؛ ولذلك فإنني أقول: إن الحديث وإن كان ضعيفاً من قبل مجالد بن سعيد إلا أن له شواهد، وله أقوال ثابتة عن جماعة من الصحابة -منهم ابن عمر وعلي وعثمان - تدل على أن الحديث له أصل، وأن أقل أحواله أن يكون حسناً، خاصة أن هذا الحكم مما لا يقال بالرأي، ولا يمكن لهؤلاء أن يحادوا ويخالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يقول: يقطع الصلاة شيء وهم يقولون: لا يقطع الصلاة شيء!

    الأقوال في قطع الصلاة بما يمر بين يدي المصلي

    ننتقل إذاً إلى المسألة الفقهية وهي: هل يقطع الصلاة شيء أو لا يقطع الصلاة شيء؟

    في هذه المسألة أقوال لخصتها في ثلاثة أقوال:

    القول الأول: قطع الصلاة بمرور المرأة والحمار والكلب الأسود وأدلته

    القول الأول: أن الصلاة تقطعها هذه الأشياء الثلاثة المذكورة في حديث أبي ذر، وهي: المرأة، والحمار، والكلب الأسود، ومعنى (يقطعها) أي: أن الصلاة تبطل بمرور هذه الأشياء وتفسد، وأن على المصلي أن يستأنف صلاته، هذا معنى القطع.

    وهذه إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله عنه، وهو مروي عن أبي هريرة وأنس وغيرهما من الصحابة، وأما من التابعين فهو مذهب عطاء بن أبي رباح والحسن البصري، وهو مذهب أهل الظاهر، ورواية في مذهب الإمام أحمد رجحها شيخ الإسلام ابن تيمية وانتصر لها في مواضع من كتبه، وابن القيم والشوكاني والشيخ ابن سعدي، وذهب إلى هذا جماعة من علمائنا وفقهائنا المعاصرين كالشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله، وكذلك الشيخ محمد بن عثيمين وغيرهما، ذهبوا إلى أن هذه الأشياء الثلاثة تقطع الصلاة، فإذا مر بين يدي المصلي مرأة أو حمار أو كلب أسود فإن صلاته تنقطع وتبطل بذلك.

    وحجتهم ظاهرة، حديث أبي ذر : ( يقطع صلاة الرجل المسلم إذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل المرأة والحمار والكلب الأسود )، فطردوا الحكم في هذه الأشياء الثلاثة وقالوا: كلها تقطع الصلاة.

    بل ذهب بعض أهل العلم إلى أبعد من ذلك وقالوا: مع هذه الأشياء الثلاثة يقطع الصلاة مرور الخنزير واليهودي والمجوسي والكافر، واحتجوا بحديث رواه أبو داود في ذلك وهو حديث منكر لا يحتج به، أنكره أبو داود نفسه وغيره، هذا هو القول الأول.

    القول الثاني: قطع الصلاة بمرور الكلب الأسود دون غيره وأدلته

    القول الثاني: قالوا بأنه يقطع الصلاة بعض هذه الأشياء دون بعض.

    وهذا قول فيه تفصيل كثير، لكن أذكر أمثلة له، مثلاً: الإمام أحمد قال -كما ذكر الترمذي عنه- قال: (يقطع الصلاة الكلب الأسود). يقول أحمد رحمه الله: (وفي نفسي من الحمار والمرأة شيء، أما المرأة فلحديث عائشة أن النبي عليه السلام كان يصلي وهي معترضة بينه وبين القبلة، وأما الحمار فلحديث ابن عباس أنه مر بين يدي بعض الصف).

    إذاً: أحمد رحمه الله جزم بأن الكلب الأسود يقطع الصلاة، أما المرأة والحمار فقال: (في نفسي منهما شيء)؛ ولذلك تجدون في كتب المذهب أن الصلاة تبطل بمرور الكلب الأسود، كما تجد مثلاً في زاد المستقنع يقول: (وتبطل بمرور كلب أسود بهيم فقط) يعني: لا تبطل الصلاة إلا بمرور الكلب الأسود البهيم، يعني: الذي كله أسود.

    أيضاً مما يدخل في القول الثاني الذي يقول تبطل بمرور بعض الأشياء دون بعض، من هذا القول: أنها تبطل بمرور المرأة الحائض دون غيرها كما سبق، وهذا مروي عن ابن عباس وعطاء وغيرهما.

    القول الثالث: أنه لا يقطع الصلاة شيء وأدلته

    القول الثالث: قالوا: لا يقطع الصلاة شيء لا المرأة ولا الحمار ولا الكلب الأسود ولا الأبيض ولا غيرهما، بل ولا الشيطان لو مر بين يدي المصلي فإنه لا يقطع الصلاة.

    فالقول الثالث، هو: أن الصلاة لا يقطعها شيء، وهذا مذهب جماعة من الصحابة كثيرة، بل هو مذهب أكثر الصحابة رضي الله عنهم، فممن ذهب إلى ذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه رواه عنه سعيد بن منصور بسند صحيح، وعلي بن أبي طالب رواه عنه سعيد بن منصور بسند صحيح، ورواه عنه مالك بلاغاً قال: بلغني عن علي رضي الله عنه أنه قال: (لا يقطع الصلاة شيء)، وابن عمر روى مالك عن نافع عن ابن عمر (أن الصلاة لا يقطعها شيء)، وكذلك هو مذهب عائشة رضي الله عنها، لما قيل لها: يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب قالت -كما في صحيح البخاري -: ( ساويتمونا بالكلاب والحمر؟ لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا معترضة بينه وبين القبلة اعتراض الجنازة، فإذا قام مددت رجلي فإذا سجد غمزني، والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح ). وإن لم يكن كلام عائشة مؤكداً أنها ترى كل هذه الأشياء، المهم أنه نقل عنها هذا القول. ونقل عن ابن عباس أيضاً رضي الله عنه أنه قيل له: إنه يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب. فقال: (كلا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10] لا يقطع الصلاة شيء، ولكن ادرأ ما استطعت)، فهذه هي الرواية الأخرى عن ابن عباس، وهو مذهب الجمهور بكل تأكيد، وقد نص على أنه مذهب الجمهور الترمذي لما ساق حديث ابن عباس في مروره بين يدي بعض الصف قال: (وعليه العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم، يرون أنه لا يقطع الصلاة شيء).

    وهو مذهب الشافعي.

    وممن ذكر أنه مذهب الجمهور أيضاً: النووي، فقد نسبه إلى الجمهور وعامة أهل العلم في مواضع من كتبه، وهو مذهب سفيان الثوري والشافعي وأبي حنيفة ومالك، بل قال الطحاوي : (أجمع أهل العلم على أن الإنسان لا تفسد صلاته بمرور إنسان). لكن هذا الإجماع الذي نقله الطحاوي لا يصح؛ فإن الخلاف فيه ثابت كما ذكرته قبل قليل، فإن من أهل العلم من يقول تبطل صلاة الرجل بمرور المرأة، والطحاوي نقل الإجماع على خلاف ذلك.

    المهم هذا مذهب الجماهير من أهل العلم: أن الصلاة لا يقطعها شيء أبداً، لا يقطعها قطعاً بمعنى يفسدها أو يبطلها، وإن كان يقطعها بمعنى آخر، المهم لا يبطلها أو يفسدها بحيث يجب أن يستأنفها الإنسان من جديد.

    واحتجوا بأدلة كثيرة سبق بعضها وأسردها بإيجاز:

    منها: حديث الباب ( لا يقطع الصلاة شيء، وادرءوا ما استطعتم )، فإن من حسنوا هذا الحديث أو صححوه احتجوا به على أن الصلاة لا يقطعها شيء، وهو نص -لو صح- في المسألة.

    الدليل الثاني: حديث ابن عباس : ( أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بـمنى إلى غير جدار، يقول: (وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام). وكان راكباً على حمار أتان، قال: (فمررت بين يدي بعض الصف وأرسلت الأتان ترتع فلم ينكر ذلك علي أحد ). فاحتجوا بذلك على أن مرور الحمار لا يقطع الصلاة، وهذا الاحتجاج فيه نظر، فإن بعض الصف كانوا مأمومين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بهم إماماً، وهل مرور هذه الأشياء بين يدي المأمومين يبطل صلاتهم؟

    الجواب: لا يبطلها؛ ولذلك هل المأموم مطالب أصلاً بوضع السترة؟

    كلا ليس المأموم مطالباً بوضع السترة، ولم ينقل عن الصحابة رضي الله عنهم ولا عن غيرهم من التابعين أنهم كانوا يضعون السترة وهم مأمومون، بل كانت سترة الإمام سترة لهم، وقد جاء في هذا حديث عند الطبراني ولكنه لا يصح، وبعضهم قالوا: (الإمام نفسه سترة لمن وراءه من المأمومين).

    فإذاً نقول: المأموم لا تُقطع صلاته، وليس له سترة حتى يمر بين يديها، وقد ذكر القاضي عياض وابن عبد البر إجماع أهل العلم على أن المأموم ليس له سترة، ولو مروا بين يديه. هكذا قال ابن عبد البر وعياض، وهذا الإجماع قد يكون فيه ما فيه لكنه مشهور وصحيح.

    من أدلتهم على المسألة: حديث عائشة رضي الله عنها، وسبق مراراً: أنها كانت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي معترضة اعتراض الجنازة، وقد احتجت هي بذلك على أن المرأة مرورها لا يقطع الصلاة، وقد رد بعض أهل العلم هذا الاحتجاج فقالوا: إنه يفرق بين المرور وبين كون المرأة معترضة أو نائمة، فقالوا: إن حديث أبي ذر في مرور المرأة، وأما حديث عائشة فهو أنها كانت معترضة بينه وبين القبلة. وهل بين المرور والاعتراض فرق؟ نقول: القضية كلها مبنية على ما هي العلة في القطع؟ فإن قلنا: إن العلة هي التشويش فأيهما أكثر تشويشاً المرأة المضطجعة أمام المصلي أم المارة؟

    المضطجعة أكثر تشويشاً من المارة بلا شك، فإن قلنا: إن العلة هي التشويش -كما هو مذهب أكثر أهل العلم- فحينئذ لا شك أن المضطجعة أكثر تشويشاً، ونقول: المارة من باب الأولى. وإن قلنا: إن العلة أمر آخر، مثل أن يكون الشيطان يمر معها مثلاً؛ فحينئذ يكون هناك فرق بين كونها تمر وبين كونها مضطجعة؛ ولذلك جاء في صحيح مسلم من حديث جابر وغيره: ( أن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان )، يعني: في إثارة الفتنة بالنسبة للرجل لا غير، وحينئذ يكون الأمر يرجع إلى قضية التشويش والإثارة وشغل المصلي عن صلاته.

    الدليل الرابع الذي استدلوا به: حديث ابن عباس رضي الله عنه الذي رواه أبو داود : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم فصلى، قال: فجاءت جاريتان قد اقتتلتا واختصمتا، فجاءتا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فنزع يد إحداهما من الأخرى وما بالى ذلك )، يعني: فك إحداهما من الأخرى واستمر في صلاته.

    والدليل الخامس هو: حديث الفضل بن العباس -وهو أيضاً في سنن أبي داود - قال: ( جاءنا النبي صلى الله عليه وسلم في بادية لنا فصلى ليس بين يديه سترة، وكلبة لنا وحمارة تعبثان بين يديه )، إذاً: أثبت الفضل أنه ليس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم سترة، وأثبت أن أمامه أو بين يديه كلبة وحمارة تعبثان بين يديه.

    والحديث قال النووي في المجموع: (إسناده حسن). وقال العراقي في طرح التثريب أيضاً: (إسناد حسن).

    هذه بعض أدلة الجمهور، وإلا فالواقع أن أدلتهم من الكثرة بحيث إنه يصعب أن أستقصيها في هذا الوقت.

    أجوبة الجمهور عن أدلة القائلين بالقطع

    ما هو جواب الجمهور عن أدلة القائلين بالقطع؟ أهمها حديث أبي ذر : ( يقطع صلاة الرجل المسلمِ والمرأةُ والحمار والكلب الأسود )، كيف أجابوا؟

    لهم أربعة مسالك في الإجابة عن هذه الأدلة:

    الجواب الأول: أن المقصود بقطع الصلاة: أنه ينقص أجرها، وليس المقصود أنه يبطلها ويفسدها بالكلية.

    المسلك الثاني: أن المقصود بقطع الصلاة: أنه يقلل من خشوعه ويقطعه عن الذكر في صلاته، وهذا ذكر النووي والقرطبي صاحب المفهم أنه هو جواب الجمهور، جمهور الجمهور -يعني: أكثر القائلين بعدم القطع- قالوا: إن المقصود بالقطع في الحديث أنه يشغله عن الذكر والخشوع.

    الوجه الثالث قالوا: إنه منسوخ، وهذا قول الطحاوي، ورجحه من المعاصرين الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي، قال: إن حديث: ( يقطع الصلاة ) منسوخ بحديث: ( لا يقطع الصلاة شيء ).

    ومما قوى به أحمد شاكر أنه منسوخ أنه جاء في رواية ذكرها الباغندي في مسند عمر بن عبد العزيز وغيره -وهي عند الدارقطني أيضاً-: ( أنه مر شيء بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سلم من صلاته قال رجل: سبحان الله سبحان الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما لك سبحت؟! قال: إني سمعت أنه يقطع الصلاة! قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يقطع الصلاة شيء )، فقالوا: دل على أن هذا الرجل المسبح سمع الحكم الأول أنه يقطع الصلاة كذا وكذا؛ ولذلك سبح في صلاته، فلما انصرف بين له النبي صلى الله عليه وسلم أن الحكم هذا نسخ وأنه لا يقطع الصلاة شيء من هذه الأشياء، فرجح بذلك أنه منسوخ.

    الوجه الرابع -وهو ضعيف- والحمد لله أنه جاء أخيراً لأنه ضعيف: قالوا بتضعيف تلك الأحاديث وترجيح هذه عليها، وهذا يفهم من كلام الشافعي رحمه الله في بعض المواضع؛ لأنه احتج بقول الله عز وجل: أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [النجم:38]، يقول -يعني: معنى كلامه-: ما صلة المصلي فيمن يمر بين يديه أن تبطل صلاته؟! ما علاقته به؟ لا تزر وازرة وزر أخرى؛ ولذلك فإن فعل المار لا يبطل فعل المصلي، كما قال الله عز وجل: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، وكأن هذا يدل على تضعيف الحديث، لكن الحديث في صحيح مسلم ولا يمكن تضعيفه بحال من الأحوال، وهذا -مسلك التضعيف- مسلك ضعيف.

    ما ينبغي لطالب العلم أن يلتزمه عند اختياره لقول معتبر من أقوال أهل العلم

    ننتقل للنقطة الأخيرة والمهمة، وهي: ما هو الراجح من هذه الأقوال؟

    لا شك أن المشهور عند طلبة العلم عندنا أن الراجح أنه: يبطل الصلاة مرور الأشياء الثلاثة: المرأة، والحمار، والكلب الأسود، المشهور عند طلبة العلم -المحققين عندنا- أن هذه الأشياء الثلاثة تبطل الصلاة، وقد كنت -علم الله- منذ شهور طويلة متردداً في المسألة، وأقرأ فيها وأبحث وأنظر وأتأمل، حتى وصلت بعد بحث طويل إلى الترجيح الذي سوف أقوله لكم الآن.

    وحين أقدم بهذه المقدمة لست أريد أن تقبلوا ترجيحي لأنه نتيجة بحث ودراسة، لا، إنما أريد -أولاً- أن تعذروني إذا اجتهدت فأخطأت، هذه واحدة.

    وأريد ثانياً: ألا يأتي طالب فيأخذ بما أقول مأخذ التسليم ويعمل به وينشره ويقبله لمجرد أن شيخه رجحه، كلا، فإن هذه أمور شرعية، من ترجح لديه شيء أو ظهر له بالدليل القوي شيء قال به، ولا يلزم الآخرين أن يوافقوه على ذلك، ولا ينبغي لأحد أن يقلد، إن كنت تريد أن تقلد فقلد العلماء الكبار، وإن كنت تريد أن تبحث وتجتهد وتصل إلى نتيجة فهذا جيد، ابحث وستصل -إن شاء الله- إلى الحق أو إلى ما أوصلك الله عز وجل إليه، وعلى كل حال فأنت معذور.

    والحقيقة أيضاً أنا مرادي أبعد من ذلك، ليس مرادي موضوع السترة فقط، مرادي في هذه المسألة وفي كل مسألة علمية أن يتعود الإخوان الطلاب -الحضور خاصة، وأقول: الحضور؛ لأن غيرهم لسنا مسئولين عن تصرفاتهم وأعمالهم، وإن كنا نريد لهم الخير- أن القضية ليست قضية تعصب لرأي رآه أستاذك ومعلمك فتقول به وتأخذ به وتجادل عنه دون وعي ودون فهم للدليل ودون هضم، كلا، بل يفهم من هذه القضايا العلمية أن الأمر فيها واسع، والاجتهاد فيها قديم، وما سأقوله أنا في هذه المسألة هو قول قال به جمهور العلماء من قبلي، فليس قولاً جديداً، وإن كان غريباً على بعض طلبة العلم كما أسلفت.

    فمن المهم دائماً أن طالب العلم يأخذ مع العلم الأدب والتربية، فإذا أخذ بقول أو ترجح لديه أو تعلمه وقال به؛ يكون مؤدباً في نشر هذا القول وفي مناقشة من يقول بخلافه، لا بأس أن تجادل وتناقش لكن بالحسنى، بالكلمة الطيبة، بهدوء، وإذا كان معك دليل فغيرك معه أدلة أيضاً.

    الراجح من الأقوال

    هذا تنبيه مهم أحببت أن أقدم به بين يدي القول الذي أرى أنه هو القول الراجح، أرى أن القول الراجح هو قول الجمهور: أنه لا يقطع الصلاة شيء، بمعنى: لا يبطلها ويوجب أن تستأنف من جديد، لا المرأة ولا الحمار ولا الكلب الأسود ولا غيره، بل ولا حتى مرور الشيطان يقطع الصلاة.

    وأهم الأدلة التي جعلتني أرجح هذا القول ما يلي:

    الدليل الأول: أن الشيطان نفسه دل الدليل على أنه لا يقطع الصلاة، وقد جاء هذا في أحاديث عدة، منها حديث أبي هريرة -وهو في الصحيحين-: ( أن الشيطان إذا أذن للصلاة أدبر حتى يكون بالروحاء، فإذا قضي الأذان رجع، فإذا ثوب بالصلاة -يعني: أقيم لها- أدبر، فإذا قضي التثويب رجع، حتى يخطر بين الإنسان وبين نفسه، يقول له: اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكره )، فهذا دليل على أن الشيطان يمر بين يدي المصلي ويخطر بينه وبين نفسه، وقد جاء ذلك أيضاً في أحاديث أخرى أنه حصل هذا للنبي صلى الله عليه وسلم بذاته، مثل أن الشيطان جاء للنبي صلى الله عليه وسلم بشهاب من نار -والحديث صحيح-: (أن الشيطان جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشهاب من نار يريد أن يضعه في وجهه، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وصرعه وخنقه، وقال: لولا دعوة أخي سليمان لأصبح موثقاً يلعب -أو يعبث به- صبيان أهل المدينة). والحديث رواه النسائي وغيره، وهو حديث صحيح، وأصله في الصحيح أيضاً.

    إذاً: الشيطان يمر بين يدي المصلي فلا يقطع صلاته، فما شبه بالشيطان كان بالأولى أنه لا يقطع الصلاة أيضاً، وما دونه فهو من باب الأولى أن لا يقطع على المصلي صلاته.

    الدليل الثاني: أنه لا يكاد ينقل عن أحد من الصحابة ولا من التابعين أنه أعاد الصلاة، أو أنه استأنف الصلاة من مرور أحد، إذ لو بحثت في جميع الكتب -وهذا في الواقع دليل لو تأملته لا بأس به وقوي- والمصنفات هل وقفت على صحابي أو تابعي كان يصلي فمرت بين يديه امرأة مثلاً، أو مر بين يديه كلب، أو حمار فقطع الصلاة ثم كبر من جديد؟!

    لو بحثت لا تكاد تجد في ذلك، اللهم إلا رواية واحدة عن الحكم بن عمرو الغفاري أنه صلى بجماعة في سفر، فصلى بهم وأمامهم سترة، فمر حمار بين يدي المأمومين، فلما سلموا من الصلاة قال: (إنه لم يقطع صلاتي ولكنه قطع صلاتكم)؛ ثم أعاد بهم الصلاة.

    وهذا الأثر على فرض صحته؛ فإنه مشكل حتى على من يقولون بقطع الصلاة؛ لأنهم لا يقولون بقطع صلاة المأموم، أو كثير منهم لا يقول بقطع صلاة المأموم، والآن الأثر هذا فيه أنه قال: (قطع صلاتكم).

    وهو مشكل أيضاً من جهة أخرى، فإنه لم ينقل أن الحكم أمرهم بأن يستأنفوا الصلاة مثلاً، ولو كانت الصلاة تنقطع كما تنقطع بالحدث مثلاً -لو أحدث الإنسان- لكان يجب أن يقطعوا الصلاة ويستأنفوها من جديد، يبدءون بها من جديد.

    فهذا من الأدلة: أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة أو التابعين أو غيرهم أنه كان يصلي فمر بين يديه شيء من هذه الأشياء فقطع الصلاة واستأنفها من جديد.

    الوجه الثالث: أننا لا نملك نصاً شرعياً يحدد لنا معنى القطع، فقد ذهب الجمهور إلى أن من معاني قطع الصلاة نقصان الأجر، وهذا ثبت عن ابن مسعود وغيره من الصحابة أنهم قالوا: (ينقص نصف أجره إذا مر بين يديه شيء). ولا إشكال على هذا؛ لأنه لا يقال: كيف ينقص نصف أجره؟ فإننا نقول لمن قال ذلك نقصان نصف أجره أهون من بطلان الصلاة كلها.

    فكونه ينقص نصف الأجر هذا أسهل من أن نبطل صلاته كلها، خاصة وقد ثبت هذا عن ابن مسعود وآخرين من الصحابة رضي الله عنهم.

    فنقول: إن القطع يحتمل نقصان الأجر، ويحتمل قطع الخشوع والذكر، ويحتمل قطع الصلاة بمعنى إفسادها، كل ذلك محتمل، ولم يرد لنا نص شرعي صحيح صريح واضح في أن المقصود بقطع الصلاة بطلانها وفسادها بحيث تستأنف، ولو ورد نص صريح في ذلك لكان حاسماً للنزاع في المسألة.

    الدليل الرابع: حديث عائشة وقد أسلفته، ونومها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وكونها أحياناً تنسل -كما ذكرت في الصحيح أيضاً، أنها يكون لها الحاجة فتنسل من بين رجلي السرير، يعني: تتحرك من أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وحديث عائشة هذا كان في الواقع مشكلاً عندي منذ زمن؛ لأننا نقول: مرور المرأة يقطع الصلاة، لكن نومها لا يقطع الصلاة! في هذا بعد؛ لأن الظاهر أن الحكم هنا متعلق بوجود أو حصول نوع من التشويش على المصلي، حصول نوع من التشويش عليه، وهذا التشويش حصوله بالنوم والاضطجاع أعظم من حصوله بالمرور؛ لأن المرأة إذا كانت نائمة يتذكر الإنسان من شأنها ما يتذكر إذا كانت مارة، وكذلك المرأة النائمة مقيمة مستقرة، بخلاف المارة فإنها تزول وتنتهي فلا يستمر أمرها.

    فلذلك حمل المرأة النائمة على أنها من باب الأولى بالنسبة للمارة -في نظري- فيه قوة ووجاهة عند التأمل والتدبر.

    لهذه الأوجه ولغيرها رأيت أنه لا شيء يقطع الصلاة، خاصة ونحن نجد أن الحديث الوارد -حديث أبي ذر : (المرأة والحمار والكلب الأسود)- ورد فيه استثناء الكلب الأسود، وورد فيه استثناء الحمار، أما استثناء الكلب عموماً فلحديث الفضل بن العباس كما أسلفته، واستثناء الحمار لحديث الفضل أيضاً ولحديث ابن عباس في مرورهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك المرأة في حديث عائشة رضي الله عنها.

    فكأن هذه الأشياء الثلاثة كلها ورد ما يدل على أنها لا تقطع الصلاة، وحديث أبي ذر هو أقوى حديث يدل على أن هذه الأشياء تقطع بها الصلاة.

    فـ الذي أطمئن إليه بعد بحث وتحر -كما قلت لكم- باجتهادي ولا أجزم به: أنها -بلا إشكال- لا تقطع الصلاة، لكنها تنقص أجرها إذا كانت من غير ضرورة، أو بتفريط من المصلي.. أو ما أشبه ذلك، أما إذا كانت لضرورة وبغير تفريط من الإنسان؛ فلعله لا يكون على الإنسان في ذلك شيء إن شاء الله تعالى.

    سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

    اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755947991