إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. سلمان العودة
  5. شرح بلوغ المرام
  6. شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الغسل وحكم الجنب - حديث 120-123

شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الغسل وحكم الجنب - حديث 120-123للشيخ : سلمان العودة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • اختلف الفقهاء في حكم بعض الأغسال، منها: غسل من غسل ميتاً، فذهب الظاهرية ومن وافقهم إلى وجوبه، وحمله الجمهور على الندب لصوارف ذكروها، وذهب أحمد وآخرون إلى وجوب غسل الكافر إذا أسلم، وذهب الجمهور إلى الاستحباب على تفصيل لبعضهم، كما ذهب أحمد في رواية إلى وجوب غسل الجمعة، وخالفه الجمهور فقالوا بالاستحباب، وبعضهم أوجبه على من له روائح منفّرة.

    1.   

    شرح حديث: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من أربع ...)

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونصلي ونسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    أما اليوم فعندنا أربعة أحاديث، الحديث الأول عندنا في هذه الأحاديث هو حديث عائشة رضي الله عنها: ( أن رسول صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من أربع: من الجنابة، ويوم الجمعة، ومن الحجامة، ومن غسل الميت ).

    تخريج الحديث وكلام أهل العلم فيه

    حديث عائشة هذا عزاه المصنف لـأبي داود، وذكر أن ابن خزيمة صححه، وقد رواه أيضاً الإمام أحمد في مسنده، والدارقطني والبيهقي .

    وفي إسناد هذا الحديث: مصعب بن شيبة، وقد ضعفه الإمام أحمد، وأبو زرعة، والبخاري، والدارقطني، والنسائي .. وغيرهم، ووثقه آخرون كـيحيى بن معين والعجلي، وروى له الإمام مسلم في صحيحه، فهو من رجال مسلم، ولكنه ضعيف، ولذلك فإن خلاصة القول فيه: أنه ضعيف، كما لخصه الحافظ ابن حجر في التقريب حيث قال: لين الحديث. وقال الذهبي في الكاشف : فيه ضعف . ومدار هذا الحديث عليه، ولذلك فإنه حديث ضعيف، وهكذا حكم عليه الأئمة؛ فإن أبا داود رحمه الله روى الحديث هذا في موضعين من سننه : الموضع الأول: في كتاب الطهارة، والموضع الثاني: في كتاب الجنائز، وقال في الموضع الثاني عقب الحديث: وحديث مصعب ضعيف، فيه خصال ليس العمل عليها. هذا كلام أبي داود .

    وذكر الإمام ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود : أن أبا داود نقل عن الإمام أحمد تضعيف هذا الحديث.

    إذاً: يكون الإمام أحمد أيضاً ضعف هذا الحديث.

    وكذلك نقل عن البخاري تضعيفه، وكذلك الدارقطني أعله بـمصعب بن شيبة هذا، وكذلك ابن المنذر ضعف جميع الأحاديث الواردة في غسل الميت، ومنها هذا الحديث، ومثله النووي .

    فالحديث ضعيف عند جمهور أهل العلم، وعلته وجود مصعب بن شيبة فيه، وقد ضعفه أكثرهم كما سبق، وأما تصحيح ابن خزيمة له لما هو معروف من تساهله رحمه الله في تصحيح الأحاديث.

    الأغسال الواردة في حديث: (كان رسول الله يغتسل من أربع ...)

    وفي الحديث ذكر أربعة أغسال كان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل منها.

    الغسل من الجنابة

    الغسل الأول: من الجنابة، وهذا واجب بالاتفاق، وقد سبق الكلام فيه في درس ماض، فلا كلام في وجوب الغسل من الجنابة.

    الغسل للجمعة

    الغسل الثاني المذكور في الحديث: الغسل يوم الجمعة، وغسل يوم الجمعة سيأتي الكلام عليه -إن شاء الله- في الحديث الذي بعده، أو في الحديثين اللذين بعده.

    الغسل من الحجامة

    والغسل الثالث: الغسل من الحجامة؛ غسل الإنسان بعد الحجامة، وهذا روي عن علي القول باستحبابه، وهو مستحب عند الشافعي، وهو مستحب أيضاً في رواية ضعيفة عند الإمام أحمد .

    والصحيح: أن الاغتسال للحجامة لا يستحب؛ لعدم ثبوت هذا الحديث فيه، ولذلك كان رأي الجمهور، وهو الصحيح من مذهب الإمام أحمد : عدم استحباب الغسل من الحجامة، وقد سبق في هذه الدروس حديث أنس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وصلى ولم يتوضأ، ولم يزد على غسل محاجمه )، وهذا الحديث كما سلف: رواه الدارقطني ولينه، ورواه البيهقي وغيره، وفيه صالح بن مقاتل وهو ضعيف، لكن يكفي في عدم ثبوت مشروعية الاغتسال للحجامة أنه لم يرد فيها حديث صحيح، لم يرد فيها إلا هذا الحديث، وفيه مصعب بن شيبة كما علمتم وهو ضعيف.

    الغسل من غسل الميت

    أما الغسل الرابع المذكور في الحديث هذا: فهو الغسل من غسل الميت، وفي الغسل من غسل الميت ثلاثة أقوال:

    القول الأول: أنه يجب على من غسل ميتاً أن يغتسل، وهذا روي عن أبي هريرة وعلي رضي الله عنهما أنهما قالا: (من غسل ميتاً فليغتسل)، وروي عن سعيد بن المسيب والحسن البصري والزهري، وهو قول الظاهرية كما صرح به ابن حزم في المحلى : القول بوجوب الغسل من غسل الميت.

    وما حجة من قالوا بهذا القول؟

    وحجتهم قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة : ( من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ )، قالوا: والأمر هاهنا في قوله: (فليغتسل) للوجوب، وهذا الحديث رواه الخمسة، وهذا حديث حسن فيه كلام كثير سبق في موضعه في باب الوضوء، ولكن خلاصة الكلام فيه: أن حديث: ( من غسل ميتاً فليغتسل ) حسن.

    القول الثاني في المسألة: أن الغسل من غسل الميت مستحب وليس بواجب، وهذا مذهب جماهير العلماء، وهو المشهور من مذاهب الأئمة الثلاثة: أحمد والشافعي ومالك، وحجتهم في الاستحباب:

    أولاً: أن الحديث السابق: ( من غسل ميتاً فليغتسل ) جاء ما يصرفه عن الوجوب.

    وهو حديث ابن عباس عند الحاكم والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس عليكم في غُسل ميتكم غسل، أو في غَسل ميتكم غسل، إنه مسلم مؤمن طاهر، وإن المسلم ليس بنجس، وإن بحسبكم أن تغسلوا أيديكم )، وهذا الحديث حديث حسن، وهو صريح في عدم إيجاب الغسل من غسل الميت، ( ليس عليكم في غسل ميتكم غسل )، فهو صارف للحديث السابق.

    ومما يرجح قول الجمهور: ما رواه الدارقطني وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما بسند صحيح أنه قال: ( كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل )، يعني: الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك فإن القول الثاني، وهو مذهب الجمهور: استحباب الغسل من غسل الميت وعدم وجوبه هو الراجح.

    والمذهب الثالث في هذه المسألة هو مذهب أبي حنيفة والليث، قالوا: لا يستحب الغسل من غسل الميت، واستدلوا بحديث ابن عباس السابق: ( ليس عليكم في غَسل ميتكم غسل )، وبذلك تعلمون أن مذهب الجمهور في هذه المسألة جمع بين النصوص؛ فأعمل جميع النصوص وقال باستحباب الغسل من غسل الميت لا بإيجابه ولا بعدم استحبابه، فهو وسط، وهو الراجح.

    هذه الأغسال الأربعة المذكورة في حديث عائشة رضي الله عنها.

    بيان سبب رواية مسلم عن بعض الضعفاء في صحيحه

    مصعب بن شيبة من رجال مسلم كما ذكرت وهو ضعيف، لكن ضعفه لعله يقال في إخراج مسلم لبعض أحاديثه ما قاله ابن القيم: أن مسلماً رحمه الله قد يخرج من حديث الراوي الضعيف ما وافق فيه الثقات، فيختار ويصطفي من حديثه، ويترك ما خالف فيه؛ بخلاف من يردون حديثه مطلقاً، وبخلاف من يلزمون مسلماً بإخراج كل ما رواه هذا الضعيف، فيكون مسلم سلك في ذلك طريقة وسطاً، وهي: أنه إذا وجد راوياً ضعيفاً كـمصعب هذا، فإنه لا يقبله بالكلية ولا يتركه بالكلية، بل يختار من أحاديثه ما عليه علامات الصحة ويترك ما سوى ذلك، فمن عاب على مسلم إخراج حديثه قد لا يكون مسلماً له ذلك، ومن ألزم مسلماً بأن يخرج جميع أحاديث هذا الراوي لا يوافق على ذلك أيضاً.

    سبب تضعيف أبي داود لحديث: (كان رسول الله يغتسل من أربع ...)

    أما سبب تضعيف أبي داود لحديث: (كان رسول الله يغتسل من أربع ...)؟

    فهو -والله أعلم- ضعفه لتفرد مصعب به، ولكنه أشار مع ذلك إلى أنه من حيث المتن فيه خصال ليس العمل عليها، ولعله يومئ إلى موضوع الغسل من الحجامة مثلاً، فإنه ليس بمشروع.

    1.   

    شرح حديث أبي هريرة في إسلام ثمامة بن أثال وأمر النبي له بالاغتسال

    الحديث الثاني: هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة ثمامة بن أثال عندما أسلم، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل.

    تخريج الحديث

    هذا الحديث عزاه المصنف لـعبد الرزاق، وقد رواه أيضاً الإمام أحمد والبيهقي وغيرهما، ورواه البخاري ومسلم بدون ذكر الاغتسال، ضمن قصة طويلة فيها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية قبل نجد، فوجدوا ثمامة بن أثال الحنفي

    سيد بني حنيفة فأخذوه، فربطه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سارية المسجد، فمر عليه في اليوم الأول، وقال له: يا ثمامة

    ما عندك! فقال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم
    )، يعني: إن تقتلني فورائي من يأخذ بثأري، وقيل: إن المعنى: إنني مستحق للقتل؛ لأنه قد يكون آذى المسلمين أو قتل منهم.

    وفي رواية: (تقتل ذا ذم) بالذال المعجمة، يعني: أن له ذمة، ولكن الصحيح الأول: (ذا دم).

    قال: ( إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءه من الغد، فقال له: ما عندك يا ثمامة

    ! قال: عندي ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، ثم جاءه في اليوم الثالث فقال: ما عندك يا ثمامة

    ! قال: عندي ما قلت لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة

    ، فأطلقوه، فذهب إلى حائط من حيطان المدينة فاغتسل، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله -وهو أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم- يا محمد! والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك هو أحب الوجوه كلها إلي، يا محمد! والله ما كان على وجه الأرض دين أبغض إلي من دينك، فقد أصبح دينك أحب الدين كله إلي، يا محمد! والله ما كان على وجه الأرض بلد أبغض إلي من بلدك، فقد أصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي، ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له: إنه قد أخذته خيل النبي صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى العمرة، فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر، فخرج إلى العمرة، فلما جاء مكة قال له بعضهم: قد صبوت؟ قال: لا، ولكنني أسلمت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله عليه الصلاة والسلام
    ).

    هذه رواية الشيخين، وقد ورد أنه: ( لما ذهب إلى اليمامة منع الحنطة والميرة عن أهل مكة حتى جاعوا وأصابهم الضر، فأرسلوا من يشفع لهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: إنك تأمر بصلة الرحم، فكيف تمنع عنا الميرة والحنطة؟ فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثمامة

    أن يبعث بها إليهم ).

    هذه القصة -وكما هو ظاهر فإن القصة في الصحيحين- ليس فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالاغتسال، بل فيها أنه هو اغتسل، أما رواية عبد الرزاق -كما هي في المصنف في الجزء السادس في صفحة تسعة-، فإنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اذهبوا به إلى حائط أبي طلحة

    ، وأمره صلى الله عليه وسلم أن يغتسل ).

    حكم الغسل للكافر إذا أسلم

    الحديث دليل على مشروعية الغسل للكافر إذا أسلم.

    وفي المسألة أقوال:

    أولها: أن الغسل واجب على الكافر إذا أسلم مطلقاً، وحين نقول: مطلقاً، فالمقصود سواء كان عليه جنابة في حال كفره أو ليس عليه جنابة، وسواء كان يغتسل من الجنابة في حال كفره أو لا يغتسل، فكل من أسلم وجب عليه الاغتسال حتى ولو كان لم يجنب في حال كفره، هذا هو القول الأول، وهو مذهب الإمام أحمد ومالك، واختاره ابن المنذر والخطابي .. وغيرهما.

    واستدل أصحاب هذا القول أولاً: بحديث الباب وقصة ثمامة ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يغتسل.

    واستدلوا ثانياً: بحديث قيس بن عاصم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره لما أسلم أن يغتسل بماء وسدر )، وحديث قيس هذا أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد وغيرهم، وهو حديث حسن؛ حسنه الترمذي والنووي وسواهما.

    ووجه الدلالة منه: وجوب الغسل على الكافر؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لـقيس بن عاصم بذلك، هذا هو القول الأول.

    واستدلوا من جهة النظر بأن الكافر غالباً لا يخلو مما يوجب الغسل عليه في حال كفره، فأقيمت هذه المظنة مقام المئنة، كما أن النوم ناقض للوضوء؛ لأنه مظنة خروج الحدث.

    أما القول الثاني في المسالة: فهو أن الغسل واجب على الكافر إذا أجنب في حال كفره، يعني: إذا أجنب الكافر قبل أن يسلم ثم اغتسل في حال كفره، أو أجنب قبل أن يسلم ولم يغتسل، فحينئذ يجب عليه الغسل إذا كان أجنب في حال كفره، وهذا مذهب الشافعي، وحينئذ يقول الإمام الشافعي : إن الغسل لمن لم يجنب سنة.

    والقول الثالث: هو أن الغسل لا يجب على الكافر إذا أسلم مطلقاً، يعني: حتى ولو أجنب في حال كفره لا يجب عليه الغسل، وهذا مذهب أبي حنيفة : أنه لا يجب عليه الغسل مطلقاً، بل يستحب له.

    إذاً: الشافعي وأبو حنيفة متفقان على استحباب الغسل، لكن اختلفا في إيجابه، فـأبو حنيفة يستحبه مطلقاً، وأما الشافعي فإنه يوجبه في حال، وهي إذا كان الكافر قد أجنب، فأما من قال: بوجوب الغسل على الكافر إذا كان أجنب، وهو مذهب الشافعي، فلعل حجتهم ظاهرة، وهي أنه جنب، والجنابة توجب الغسل على المسلم وغيره، وأما كونه اغتسل في الشرك فهذا لا ينفعه؛ لأنه لابد من النية والقصد في هذه الأعمال، أما حجة أبي حنيفة في عدم إيجاب الغسل مطلقاً، فهي قول الله عز وجل: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]، فقال: إنه غُفر له ما مضى بما في ذلك الجنابة التي كانت عليه.

    ومن حجته أيضاً ما رواه مسلم عن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في قصته الطويلة .. قصة إسلامه: ( إن الإسلام يجب ما قبله )، قال: فهذا دليل على أن الإسلام يجب ما سبق مما كان على الإنسان من جنابة وغيرها، واستدلال أبي حنيفة بهذين الدليلين فيه نظر؛ لأن المقصود بالمغفرة والجَب هو إزالة الذنوب التي على الإنسان، ولذلك قال في الآية: إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ [الأنفال:38] والمغفرة هي للذنوب.

    وكذلك في حديث عمرو بن العاص، قصة الحديث تدل على المقصود: ( فإن عمرو بن العاص لما مد يده إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه، فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقبض عمرو بن العاص يده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما لك؟ قال: يا رسول الله أريد أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قال: أشترط أن يُغفر لي، فقال: أسلم فإن الإسلام يجب ما قبله )، يعني: إذا أسلمت غفر لك ولا يحتاج الموضوع إلى شرط.

    والدليل الثالث من أدلة الأحناف: أن الذين كانوا يسلمون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كثير كثير، ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم بالغسل إلا في حالات نادرة، كما في قصة قيس بن عاصم وقصة ثمامة بن أثال، وإلا فجماهير الصحابة الذين أسلموا في مكة والأنصار وغيرهم وغيرهم؛ لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحداً منهم بالاغتسال، ولو كان هذا الأمر من الأمور الواجبة في عنق كل إنسان حين يسلم؛ لكان يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بها، ولكان هذا ينتشر ويستفيض، خاصة وأن الكافر من الطبعي أنه لا يفهم في أمور الدين شيئاً، فهو الآن أسلم، ويحتاج إلى أن تعلمه كل شيء، فلو كان الغسل واجباً على كل كافر أسلم للقنه الرسول عليه الصلاة والسلام أن يغتسل بعد أن يلقنه الشهادتين، وهذا لم يحصل، ولو حصل لنقل لنا نقلاً متواتراً.

    وكذلك لما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم -وهذا يصلح أن يعد دليلاً رابعاً، وأن كان تابعاً للثالث، لكن لا بأس بإفراده-: ( لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن قال: إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا اله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعملهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة )، ولم يرد في شيء من طرق الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بأن يأمرهم بالاغتسال، هذه أدلة أبي حنيفة، وهذه هي الأقوال الثلاثة في غسل الكافر إذا أسلم.

    الراجح في حكم غسل الكافر إذا أسلم

    أما الترجيح بين هذه الأقوال، فلعل الأقرب منها إلى الصواب -والله تعالى أعلم- أن الغسل على الكافر الذي لم يجنب سنة، أما الكافر الذي أجنب فيجب عليه الغسل من الجنابة، كما يجب الغسل على المسلم من الجنابة؛ وذلك جمعاً بين الأدلة القوية الظاهرة، فإن حديث قيس بن عاصم فيه الأمر بالغسل، وهذا أقل ما يدل عليه الاستحباب، بل الأصل دلالته على الوجوب إلا لقرينة، فنُعمِل هذا الحديث من جهة ونُعمِل الوجه القوي الذي ذكره الأحناف في عدم إيجاب الغسل، وهو أن الصحابة -كما هو معروف- كلهم كانوا خرجوا من كفر إلى الإسلام، فكان يجب على كل فرد منهم أن يغتسل، ولو كان هذا واجباً عينياً على كل فرد منهم لكان ينقل نقلاً متواتراً، ولا يكتفى بنقله في حالة واحدة أو حالتين، فيجمع بينهما بأن الغسل سنة لمن لم يكن عليه جنابة، أما من كان جنباً فيجب عليه الغسل كما يجب على المسلم.

    هذا ما يتعلق بحديث أبي هريرة وقصة ثمامة بن أثال.

    1.   

    شرح حديث: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)

    أما الحديث الثالث: فهو حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم ).

    تخريج الحديث

    هذا الحديث أخرجه السبعة، وسبق في مرات كثيرة بيان من هم السبعة فلا حاجة إلى تعدادهم.

    وقد روى الحديث البخاري ومسلم بزيادة: ( غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم والسواك، وأن يمس من الطيب ما يقدر عليه )، فزاد الشيخان في روايتهما السواك والطيب: ( والسواك وأن يمس من الطيب ما يقدر عليه ).

    معنى (واجب) في لفظ الحديث

    وقوله: (واجب) يعني: لازم، وهذا هو المعنى الصحيح لها، أما ما زعمه بعض الشراح من أن معنى واجب يعني: ساقط، مثل قوله تعالى: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [الحج:36] يعني: سقطت، فهذا قول ساقط؛ القول: بأن معنى (واجب): ساقط، هو قول ساقط، وهو تلاعب بالحديث النبوي؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يعقل أن يقول للناس: إن غسل الجمعة ساقط عن كل محتلم، والنصوص الكثيرة في ذلك معروفة، وقد ورد هذا المعنى عن نحو أربعة وعشرين صحابياً.

    حكم الغسل ليوم الجمعة

    الحديث يدل على وجوب الاغتسال في يوم الجمعة للجمعة، يعني: الغسل ما بين طلوع الفجر إلى ذهابه إلى الجمعة عند الجمهور.. يعني يغتسل بعد طلوع الفجر وقبل ذهابه إلى الجمعة عند الجمهور.

    فالحديث يدل على وجوب الغسل يوم الجمعة، ومثله أحاديث أخرى كثيرة، منها حديث ابن عمر رضي الله عنه الذي رواه الجماعة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل )، والأمر هاهنا ظاهره الوجوب، الأمر الأصل فيه أنه للوجوب: ( إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل ).

    ومن الأدلة أيضاً على وجوب الغسل حديث أبي هريرة المتفق عليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً؛ يغسل فيه رأسه وجسده ).

    فهذه ثلاثة أحاديث من أصح ما استدل به على وجوب غسل يوم الجمعة: حديث أبي سعيد، حديث ابن عمر، حديث أبي هريرة، وقد ذهب إلى وجوب الغسل يوم الجمعة جماعة من الصحابة منهم: أبو هريرة وعمر رضي الله عنهما، وطائفة من السلف كـالحسن البصري، وهو مذهب الظاهرية، وهو رواية عن الإمام مالك والشافعي : أن الغسل يوم الجمعة واجب على من أتى الجمعة، وحجتهم ما سبق.

    والقول الثاني في المسألة: أن الغسل يوم الجمعة مستحب ومندوب وليس بواجب، وهذا مذهب الجماهير من الصحابة والتابعين والسلف والخلف، وهو المشهور من مذاهب الأئمة الأربعة: أن غسل يوم الجمعة مستحب وليس بواجب، ولا تكاد تختلف في ذلك الرواية عن الإمام أحمد ؛ إلا قولاً ضعيفاً في المذهب.

    وحجة من قالوا بالاستحباب أحاديث: منها حديث عائشة رضي الله عنها -المتفق عليه- قالت: ( كان الناس مهنة أنفسهم أو مهان أنفسهم -يعني: كانوا يعملون بأيديهم وبأنفسهم في حروثهم وزروعهم وغيرها- فإذا راحوا إلى الجمعة راحوا في هيئتهم، فقيل لهم: لو اغتسلتم )، ووجه الدلالة من الحديث:

    أولاً: أنها بينت العلة في الأمر بالغسل وهي: التنظيف وإزالة الروائح الكريهة التي تكون على الناس بسبب كثرة أعمالهم خلال الأسبوع.

    وثانياً: قولها: ( فقيل لهم: لو اغتسلتم )؛ لأن (لو اغتسلتم) هذه للعرض والحث لا للإيجاب.

    ومن أدلة من قالوا بالاستحباب: حديث عائشة أيضاً -المتفق عليه- أنها رضي الله عنها قالت: ( كان الناس ينتابون الجمعة من بيوتهم ومن العوالي -والعوالي ضواحي على بعد أميال من المدينة المنورة - وعليهم العباءة من الصوف فتخرج منهم الريح، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم إنسان منهم وهو عندي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو أنكم اغتسلتم ليومكم هذا )، وهذا الحديث كسابقه يدل على ما دل عليه من استحباب الغسل ويوضح ما وضحه من بيان العلة، وهذا المعنى الذي جاء عن عائشة جاء عن ابن عباس أيضاً كما رواه عنه أبو داود وغيره في استحباب الغسل وبيان العلة فيه.

    وحديثا عائشة متفق عليهما، أما حديث ابن عباس فهو عند أبي داود .

    الدليل الثالث: عن ابن عباس بمعنى حديث عائشة عند أبي داود .

    الدليل الرابع: حديث أبي هريرة عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من توضأ يوم الجمعة ثم جاء إلى الصلاة واستمع وأنصت، غُفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام )، وهذا الحديث كما ذكرت رواه مسلم .

    فحديث أبي هريرة هذا ذكر فيه الوضوء: ( من توضأ يوم الجمعة )، ولم يذكر الغسل في هذه الرواية، وهذا الحديث من أقوى ما استدلوا به -كما قال الحافظ ابن حجر - لكن قد يشكل عليه أن الغسل جاء في رواية أخرى في الصحيح.

    1.   

    شرح حديث سمرة: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)

    حديث سمرة وهو الحديث الأخير في أحاديث هذه الليلة: حديث سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل ).

    الاستدلال بالحديث على استحباب غسل الجمعة

    وهذا الحديث واضح في عدم إيجاب الغسل يوم الجمعة؛ لأن قوله: ( من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت )، صريح بأن هذا المتوضئ قد قام بما يجب عليه ونعم ما فعل، وأن الغسل أفضل، ولكنه ليس بواجب.

    إذاً: يستدل من حديث سمرة بوجهين:

    أولاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت)؛ لأن كل من يعرف لغة العرب يفهم أن قوله: (فبها ونعمت) هل هي مدح أو ذم؟ مدح لهذا المتوضئ، وإشارة إلى أنه قام بما يلزمه.

    ثم نستدل ثانياً بقوله: (فالغسل أفضل) على أن الغسل أفضل، ولكنه ليس بواجب، وابن حزم يرد الاستدلال الثاني؛ لأنه يقول: إن الله تعالى يقول: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [آل عمران:110]، فهل عدم إيمان أهل الكتاب جائز؟ لا، ومع ذلك قال: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [آل عمران:110] كأنه يشير إلى أن أفعل التفضيل لا تدل على جواز الوجهين، لكن نقول: إن ظاهر الحديث في قوله: (من اغتسل فبها ونعمت)، يوحي بأن قوله أفضل يعني: وليس بواجب، وهذا المعنى ظاهر من الحديث.

    كلام أهل العلم في الحديث

    لكن ينبغي أن نعلم ما درجة حديث سمرة من الصحة، وهل يصلح للاستدلال به أم لا؟

    حديث سمرة هذا هو من رواية الحسن البصري عن سمرة، وفي سماع الحسن من سمرة اختلاف، فإن بعضهم أثبتوا سماع الحسن من سمرة مطلقاً، وهذا رأي علي بن المديني والبخاري فيما حكاه عنه الترمذي، فـعلي بن المديني والبخاري يقولون: إن الحسن البصري سمع من سمرة.

    وآخرون من أهل العلم كـالبزار يقولون: لم يسمع الحسن من سمرة.

    وبعضهم يقولون: سمع منه حديث العقيقة فقط، وسماعه منه حديث العقيقة ثابت في صحيح البخاري، فإن كان الحسن سمع من سمرة، فمعنى ذلك: أن هذا الحديث صحيح، وهذه طريقة من يقولون: إنه سمع منه كما ذكره الحافظ ابن دقيق العيد، ومن يقولون: إنه لم يسمع منه، فإنهم يضعفون هذا الحديث للانقطاع، فإن كان الحديث حسناً أو صحيحاً فبها.

    وإن كان ضعيفاً للانقطاع فإن للحديث شواهد عديدة وإن كانت ضعيفة إلا أنه يشد بعضها بعضاً.

    شواهد الحديث

    منها حديث أنس عند ابن ماجه والطبراني في الأوسط، ومنها حديث جابر عند البيهقي، ومنها حديث ابن عباس عند البيهقي أيضاً.

    إذاً: للحديث ثلاثة شواهد: حديث جابر عند البيهقي، وحديث ابن عباس عند البيهقي وحديث أنس عند ابن ماجه والطبراني في معجمه الأوسط.

    فهذا الحديث أقل أحواله مع هذه الشواهد أن يكون حسناً، وقد حسنه المحدث الشيخ الألباني في صحيح الجامع وفي صحيح أبي داود وفي غيرهما، وأقل أحواله أن يكون حسناً.

    الراجح في حكم الغسل للجمعة

    فهذا هو القول الثاني: أن غسل الجمعة مستحب وليس بواجب، وأدلتهم خاصة.

    أما الترجيح بين هذه الأقوال فالأقرب للصواب -والله أعلم- أن يقال: إن غسل الجمعة مستحب وليس بواجب إلا لمن يكثر منه العمل والكد في النهار وتظهر منه الروائح الكريهة، أو يكون فيه رائحة كريهة ملازمة لا تزول إلا بالغسل، فمثل هذا يجب عليه أن يغتسل، كالعمال الذين يمضون سحابة نهارهم في العمل والكد، ويخرج منهم العرق ومن شابههم، فمثل هؤلاء يجب عليهم الغسل؛ لأن العلة ظاهرة كما سبق في حديث عائشة وابن عباس، أما سواهم فإنه يطلب منهم الغسل ندباً واستحباباً، ولكنه استحباب مؤكد؛ لأن قوله: (حق) في حديث أبي هريرة، وقوله: (واجب) في حديث أبي سعيد يجعل الإنسان في حرج من ترك هذا الغسل، فلا ينبغي لمسلم أن يتركه كما ورد عن جمع من الصحابة كـابن مسعود وغيرهم أنهم قالوا: (ما كنت أحسب مسلماً يترك غسل الجمعة) ..

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755971745