إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب التأويل في الحلفللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • التأويل منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم، ومن التأويل المذموم الغلو في تحميل النصوص القرآنية ما لا تحتمل، اعتماداً على نظريات قد تكون صحيحة، وقد تكون خاطئة، وهذا المسلك الجديد له آثاره السيئة. أما التأويل في الحلف بالطلاق فقد يكون جائزاً دفعاً لظلم الظالم وهو من رحمة الله بعباده، ومن تيسيره عليهم، وقد اعتنى علماء الإسلام بهذا الباب وبينوا أحكامه ومسائله، وفي هذا الدرس بيان لذلك.

    1.   

    التأويل

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [ باب التأويل في الحلف ].

    التأويل عند العلماء: صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر، فاللفظ له معنى في ظاهره ومعنى في باطنه، ويحتج بالمعنيين، لكن المعنى القوي هو الظاهر، والمعنى الخفي هو المستتر، فالمتأول يصرف الكلام عن ظاهره إلى معنى مغاير مغيب في باطنه، وهذا التأويل يقع في النصوص وينقسم إلى قسمين:

    تأويلٌ محمود، وتأويل مذموم.

    التأويل المحمود

    أما التأويل المحمود: فهو تأويل النص بنص يصرفه عن ظاهره إلى معنى آخر، فحينئذٍ نقول: إن هذا التأويل تأويل محمود، مثال ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) (لا وضوء) يحتمل: لا وضوء صحيح، ويحتمل: لا وضوء كامل، فلما وجدنا كتاب الله عز وجل لا يأمر بالتسمية مع أنه أمر بالتسمية عند الذبح والذكاة فقال: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ [الأنعام:118].. وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ [المائدة:4] فلما وجدناه في الوضوء وهو من أجل العبادات وأعظمها -لأنه مفتاح الصلاة- لم يأمر بالتسمية فيه فهمنا أن معنى: لا وضوء أي لا وضوء كامل، فصرفنا (لا وضوء) من نفي الصحة إلى نفي الكمال، ووجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في حديث عثمان في الصحيح- يتوضأ وضوءاً تاماً كاملاً، ولم يذكر عثمان أنه تلفظ بالتسمية جهرة، أو اطلع على تسمية منه، فقال: إنه توضأ نحو وضوئي هذا، وهذا يدل على أن الأفعال كانت دون ذكر ودون أي قولٍ، فهذا يدل أيضاً على أن المراد بالحديث الأول: لا وضوء كامل، فيصرف النص من ظاهره الراجح إلى معناه المرجوح؛ لأن الأصل أن نحمله على أنه: لا وضوء صحيح.

    مثال آخر: (لا إيمان لمن لا أمانة له) لا نقول لا إيمان يعني أنه -والعياذ بالله- كافر بالكلية، كما يقوله الخوارج، وإنما نقول: إنه إذا كان خائناً للأمانة فقد انتقص من دينه وإيمانه على قدر خيانته -نسأل الله السلامة والعافية- فيؤول ويصرف الحديث عن ظاهره لوجود نصوص أخرى تدل على أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر، فهذا تأويل، لكنه تأويل محمود؛ لوجود نصوص يعرفها العلماء الراسخون والأئمة المهتدون المهديون، فهؤلاء إذا أولوا نصاً وصرفوه عن ظاهره فإننا نقبل هذا التأويل، ولا نلجأ للتأويل إلا عند وجود نصوص أخرى تصرف النص الأول عن ظاهره.

    مثال آخر: (لا يدخل الجنة عاق) لو أخذ على ظاهره لكان معناه أن العاق في النار: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7] فإذا أخبر أن العاق لا يدخل الجنة فمعنى ذلك أنه في النار؛ لأنه لا يوجد منزلة بين المنزلتين. فهذا الحديث يؤول على وجوه:

    الوجه الأول: لا يدخلها في الدخول الأول الذي يكون لأهل الجنة السابقين؛ لأنهم يخرجون من عرصات يوم القيامة فيدخلون الجنة، وأما أهل الكبائر فإنهم إذا شاء الله يدخلون النار تطهيراً ثم ينقلون إلى الجنة، فحينئذٍ يكون الدخول هو دخول التشريف والتكريم؛ ولا يمنع من دخولهم الجنة بعد أن يطهروا من كبائر الذنوب، فكأن العاق -والعياذ بالله- موعودٌ بالعذاب لا محالة.

    الوجه الثاني: قال بعض العلماء: المعنى: أنه لا يوفق لحسن الخاتمة -نسأل الله السلامة والعافية- ولا يختم له بخاتمة أهل الإيمان، فيكون المراد: أنه لا يوفق، فلا يدخلها حقيقة؛ لأنه يختم له -والعياذ بالله- بخاتمة الكفار، وهذا قد يقع استدراجاً، فحينئذٍ لا تتعارض النصوص؛ لأنه إذا ختم له بخاتمة السوء فلا إشكال.

    الوجه الثالث: أنه محمول على الوعيد، كما اختاره سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله وكان يقول: هذا محمول على الوعيد الشديد، وحينئذٍ لا يكون على ظاهره.

    هذا كله تأويل؛ لوجود نصوص أخرى تدل على أن الكبائر لا تستوجب الخلود في النار أبداً، وإنما تستوجب دخولها تطهيراً إن لم يعف الله عن العبد؛ لأن مرتكب الكبائر عند أهل السنة والجماعة تحت مشيئة الله، إن عذبه الله فبعدله، وإن عفا عنه فبمحض إحسانه وكرمه وفضله لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].. وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [الرعد:41].

    الشاهد أن هذا تأويل، لكنه تأويل بنصوص وأدلة، فهو تأويل محمود.

    التأويل المذموم

    أما التأويل المذموم فهو: العبث بنصوص الكتاب والسنة بالأهواء والآراء والاجتهادات التي لا تنبني على أصول صحيحة يقوى معها صرف اللفظ عن ظاهره، فهذا التأويل تلاعب بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وصاحبه مطموس البصيرة؛ لأنه يعطل نصوص الكتاب والسنة ويلعب بها، كما يفعل بعض المتعصبة الذين يتعصبون لأئمتهم ولمشايخهم، فيعتقد أحدهم أن شيخه لا يمكن أن يخطئ، وكأنه نبي معصوم، فكلما جاء نص مخالف لشيخه لم يقبله وقال: هذا النص فيه وفيه وفيه، فيأتي بتأويلات وتكلفات وتعسفات، تترك بها نصوص الكتاب والسنة، وترمى والعياذ بالله وراء الظهور، فهذا إن لم يتداركه الله عز وجل برحمته فهو على خطر عظيم، ولذلك تجد أمثال هؤلاء محرومين من هدي الكتاب والسنة؛ لأنهم أعملوا فيها المعاول ففسدت أفهامهم وأعمالهم.

    والواجب على المسلم أن يكون وقافاً عند الحق، وأن يكون الحق أحب إليه من كل أحد؛ لأن الله فرض علينا اتباع الحق ومحبته ولزومه، وبين أنه لا نجاة للعبد إلا بهذا الحق، وأن السماوات والأرض ما قامتا إلا من أجل الحق وللحق، فينبغي لكل مسلم أن يكون عنده تجرد.

    إذاً: التأويل المذموم هو: صرف للنصوص والتلاعب بها بالأهواء والآراء، وهو مصادمة لحجج الله البينة الميسرة المنيرة، وإذهاب لنورها وبهائها، وإن كان نورها لا يذهب ولا ينطفئ أبداً، فالحق يعلو ولا يعلى عليه.

    الإعجاز العلمي والتعسف في فهم القرآن

    ومن التأويل المذموم: إسقاط آيات من كتاب الله عز وجل على النظريات التي لا أصل لها، والتلاعب بنصوص كتاب الله عز وجل، وتكلف الإعجاز فيها بشيء لا يمت إلى هدي الكتاب والسنة ولا إلى هدي السلف -في تفسير كتاب الله عز وجل- بصلة.

    فمثل هذا لا يجوز، سواء كان في العلوم الطبيعية من طبٍ وهندسة أو في غيرها.

    وقد سمعت بعض من ينتسب إلى الإعجاز يقول في قوله الله تعالى: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق:19] يقول: إن هذا في صعود القمر، ولا يشك مسلم أن هذا تلاعب بكتاب الله؛ لأن الله أقسم فقال: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق:19-19] أي: (والله لتمرن) يقسم الله جل جلاله أنكم لتمرن يا معشر الكفار، ويا معشر المؤمنين، بأحوال الآخرة طبقاً عن طبق، وطبقاً بعد طبق، ستمرون بالقبور وعرصات القيامة، فهذا الأمر هو الذي وقعت فيه الخصومة، وهو الذي كذب به المشركون وردوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت به آيات القرآن، فمن قال: (المراد بها صعود القمر لأننا ما نصعد القمر إلا إذا اتسق) فقد تلاعب بكتاب الله عز وجل وقال على الله بغير علم.

    فالحذر الحذر من مزالق الشيطان فقد يوقعك في القول على الله بدون علمٍ وبدون حجة.

    وينبغي لكل مسلم أن لا يقبل مثل هذه التفاسير، بل يعتمد على تفسير الأئمة والعلماء، وخاصة أئمة السلف؛ لأن كتاب الله فسر، ومرت هذه القرون كلها وكتاب الله يفسر بهذا التفسير البين الواضح النير، الذي لا إشكال فيه، فاتبع سلفك الصالح، ودع الأمور المحدثات.

    ثم لو أننا رأينا نظرية من النظريات فجربنا كتاب الله عليها، ولوينا نصوص الكتاب لتوافق هذه النظرية، ثم تبين بعد عشرات السنين أنها خطأ!! ماذا يقول الناس؟ وماذا يقال عن كتاب الله عز وجل؟

    نحن نعلم علم اليقين أن الله سيري عباده آياته، فلا نتأول كتاب الله بمثل هذه التأويلات، أما إن وجدت أدلة واضحة مثل علوم الأجنة وعلوم الطب التي وجد أنها تدل عليها نصوص الكتاب والسنة فنفرح بهذا؛ لأنه عزٌّ وحجة ودلالة على صحة هذا الدين وصدقه، ولكن لا نبالغ، فإن الغلو في الأشياء يوجب الشر؛ والله يقول: لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171] فلا نبالغ في هذه الأمور، ولا نتكلف التأويل.

    بعض هؤلاء يتبجح فيرد كلام العلماء الأوائل، ويقول: كانوا يفهمون كذا وكذا، كأنه يسخر بهم ويتهكم بهم، حتى أني سمعت من يشار إليه بالبنان في الإعجاز يتهكم على تفسير حبر الأمة وترجمانها عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه، فلا بارك الله في من تهجم عليه، فينبغي الحذر من مثل هذه الأمور.

    وما كان محتملاً فعلينا أن نقول: إن هذا يحتمل كذا، فنورده بكل أدب؛ لأنه لا يوجد نص يدل عليه، والسلف لهم فهمهم وهذا الشيء الذي نورده إذا كان نص كتاب الله يحتمله فينبغي أن نتأدب مع السلف ونبين ما يحتمله التأويل والنظر، ولكن دون أن نغلو أو نبالغ، فإن الغلو لا خير فيه، وكل شيء جاوز حده انقلب إلى ضده، وأعداء الإسلام يريدون منا مثل هذا، يريدون أن نشكك في السلف الأوائل، ومعلوم أنه إذا تكلم أحد بمسألة في الإعجاز من أجل أن يقنع كافراً، فقد لا يقتنع الكافر حتى يلج الجمل في سم الخياط.

    فلماذا يطعن في أئمة السلف؟! وما هي الفائدة؟!

    بل إن الكافر الذي تجاوره قد يعجب بهذا الطعن فيحاول أن يخرج شيئاً جديداً ويدعي به خطأ الأوائل، فمن كان يظن أنه قد أحسن في هذا، فالواقع أنه قد أساء.

    فالحذر كل الحذر من هذه التأويلات! والحذر الحذر من التهكم على سلف الأمة، فالسلف والعلماء رحمهم الله هم أعلم الناس بتفسير كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهم أعلم بمواطن التنزيل، وخاصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم بلسان العرب ومدلولات هذا اللسان.

    فعلينا أن نأخذ الحيطة من هذه التأويلات والتفسيرات الجديدة، ونحن لا نقول بردها كلها ولا نقول بقبولها كلها، وإنما نعرضها على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكل شيء أسفر كتابُ الله عليه دليلاً قبلناه.

    ثم الله يقول: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ [فصلت:53] ما قال: في القرآن بل قال: (فِي الآفَاقِ)، وأراهم الله آياته، وانظر كيف ينظرون إلى الآيات من فوقهم ومن تحتهم، وعن يمينهم وعن شمالهم، ومن أمامهم ومن خلفهم، وفي أنفسهم، ومع ذلك لم تزدهم إلا إعراضاً وصدوداً، وهذه هي الحقيقة التي أثبتها كتاب الله عز وجل، فلماذا نلهث وراء هؤلاء، بل ونتكلف في ذلك حتى نرد على سلف الأمة وأئمة الإسلام على حساب أمثال هؤلاء الذين لا يدخلون الإسلام إلا بإعجاز، وقد يخرجون منه بأدنى شبهة؟! يقول الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [الحج:11] بعض من يتأثر بهذه التأويلات ويبالغ فيها إذا أصابته أقل فتنة انقلب على وجهه: خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11].

    فالواجب الحذر من التأويلات في كتاب الله أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلينا أن نلتزم بمنهج السلف والصحابة، فإذا سألك الله يوم القيامة: لم فهمت هذه الآية على هذا الوجه؟ قلت: فهمت هذه الآية بآية أخرى -لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً- أو بقول رسولك عليه الصلاة والسلام، أو بقول حبر الأمة وترجمان القرآن الذي دعا له صلى الله عليه وسلم بفهم كتاب الله عز وجل، وفُتِح عليه بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثله ثقة يرضى ويؤتمن على دين الله عز وجل.

    فالمقصود: أن التأويلات المذمومة ترد سواء كانت في العلوم الشرعية أو كانت في المعارف الطبيعية، والتأويل صرف النص عن ظاهره إلى معنى آخر، والمعنى الآخر معروف بالمعنى الباطن، وعند الكلام يقصدون الظاهر ولا يقصدون الباطن إلا بقرينة، يقول مثلاً: رأيت أسداً فوق جمل، هل الأسد يركب على الجمل؟ لا، فنفهم من هذا أنه رأى رجلاً شجاعاً وصفه بأنه أسد، أو يقول: أتيت المسجد فاغترفت من بحر، ويقصد عالماً على منهج الكتاب والسنة رآه بحراً، علمه غزير فاغترف منه، أو يقول: أتيت فلاناً وسألته حاجتي فوجدته بئراً لا تكدره الدلاء، والعرب عندهم أن البئر إذا كان ماؤها قليلاً ونُزِح منها تغيرت، لكن إذا كان ماؤها كثيراً لم تتغير، ولو اغترف منها ما اغترف يبقى الماء صافياً من كثرته، فالكريم الجواد الذي ماله لا يقطعه عن أحد، إذا جئته وسألته المرة الأولى، ثم المرة الثانية، ثم المرة الثالثة، ثم المرة الرابعة، يفرح بمجيئك؛ لأنه يحب الإحسان، ولا يعرف قبض يديه، لكن البخيل إذا جئته لا تنال المرة الأولى منه إلا بشق الأنفس، وأما المرة الثانية فيقفل بابه، فلذلك تعبر العرب عن هذا المعنى بالبئر الذي لا تكدره الدلاء، يعني: أنه رجلٌ يعطي ويعطي ولا تؤذيه كثرة المسألة، ولا كثرة الإلحاح، وذلك من كرمه، فلما تقول: أتيت فلاناً فوجدته بئراً! هل الرجل يصير بئراً؟! لا، فهذا صرف للفظ عن ظاهره، لأنك لا تريد بئراً حقيقياً ولا تريد دلواً حقيقياً وإنما تريد معنى باطناً.

    المعاريض في الكلام للحاجة

    وكما أن التأويل في النصوص محمود ومذموم، فكذلك التأويل في الكلام، فقد تكون محقاً في تأويلك، تستخدمه عند الحاجة، مثل أن تدفع عن نفسك ظلم ظالم، فتأتي بكلامٍ تقصد شيئاً ومن يسمعك يفهمه على المعنى الذي يريد، مثل قوله عليه الصلاة والسلام : (نحن من ماء) فكل إنسان مخلوق من الماء: خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق:6] فصار من سمعه يقول: أي ماء؟ ماء بني فلان؟ ماء بني فلان؟ وصدق النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قال له: (نخبرك ممن نحن إن أخبرتنا) لأنه كان يخاف العيون فلما أخبرهم الرجل بما يريدون سألهم: ممن أنتم؟ -لأنهم كانوا ثلاثة- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن من ماء) فأخبره أنه مخلوق من ماء، وهذا نوع من التورية، وفي الأثر: (إن في التورية لمندوحة عن الكذب).

    فقد تبتلى ببلاء فجعل الله لك فسحة في الخروج من هذا البلاء بالتورية، مثلاً: قرع على بابك رجل يعطلك عن عبادة، أو أنه يغتاب الناس، نمام، فيه شر، فتريد أن تبتعد عن شره، فيقول ابنك أو البواب الذي على الباب: خرج إلى الصلاة، لكن ما قال: لم يعد، وفعلاً أنت قد خرجت إلى الصلاة ورجعت.

    كان إبراهيم النخعي سيداً من سادات التابعين، وإماماً من أئمة السلف رحمه الله برحمته الواسعة، وكان عنده جارية فإذا جاءه الثقيل الذي يشغله عن العلم، ويشغله بغيبة الناس يستئذن عليه خط دائرة على الأرض، وتضع أمته أصبعها في الدائرة وتقول: والله ما هو فيها -يعني: ليس في الدائرة- فيسمع الذي في الخارج: ما هو فيها؛ فيظن أنها تعني أنه ليس في البيت، وإنما مرادها ليس في الدائرة.

    وكان مهنا من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله عنده توريات، فكان إذا استأذن أحد يريد الإمام أحمد أو يريد المروزي من خيار أصحاب الإمام أحمد وكان مهنا يحبه ولا يحب أن يشوش أحد عليه أو يشغل الإمام عنه فكان يقول: إن المروزي ليس هنا، ويضع إصبعه على كفه، يعني: ليس في كفه وهذه تورية.

    كذلك أيضاً قالوا: من أمثلة ذلك: أن يكون مظلوماً يحلَّف بالطلاق، فيقول -مثلاً: نسائي طوالق، ويعني بنسائه: محارمه، أخته وأمه وبنته وعمته وخالته، وهن طوالق، ولا يقصد نساءه اللاتي في عصمته، ومن أمثلتها قول: جواريَّ معتقات، أو: أعتقت جواريّ، والمراد بالجواري: السفن التي يملكها؛ لأنها جوارٍ في البحر، أو يقول -مثلاً-: والله ما رأيت فلاناً كأن يكون هناك شخص يريد أن يقتل آخر ظلماً، فإذا قلت: إنك رأيته، تكون قد دللت عليه ويحصل الضرر، فتريد أن تنقذ نفساً محرمة -كما ذكر الإمام ابن قدامة وغيره من الأئمة- فتقول: والله ما رأيت فلاناً وتقصد برأيت: الضرب على الرئة، أي: ما ضربته على رئته وكذلك تقول: والله ما ذكرت فلاناً، أي: ما تكلمت بذكره، وما ذكرته في مجلس، فهذا كله يقول النبي صلى الله عليه وسلم عنه: (إن في التورية لمندوحة عن الكذب).

    لكن على طالب العلم أن يحذر من هذا، وعلى العالم أن يحذر من التوريات خاصة مع العوام فمن يسيء الفهم سيقول: الشيخ يكذب، والإمام يكذب؛ لأنه قد يفهم خطأ، فلذلك ينبغي استعمالها بحذر، فهي سلاح ذو حدين؛ فالإنسان إذا لم يحتج إليها ولم يكن مظلوماً ولم تكن هناك ضرورة فعليه أن يبتعد عنها ما أمكن.

    ولا شك أن الصدق كله خير وبركة، لكن الله وسع على العباد، فهذا من التوسعة والرحمة على العباد، وفيه حديثٌ صحيحٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في التورية لمندوحة عن الكذب) وهي التي تسمى بالمعاريض، وكان عليه الصلاة والسلام يفعل هذا حتى في المزاح، وقد أمسك صحابياً من وراء ظهره فقال: (من يشتري مني هذا العبد؟ فقال: إذاً تجدني كاسداً، قال: إنك عند الله لست بكاسد) وهذا من ملاطفته عليه الصلاة والسلام، وقال لامرأة لما شكت زوجها: (زوجك الذي في عينه بياض، فقالت: لا يا رسول الله! إنه مبصر)، ظنت أنه يقصد أنه أعمى، فقال: (يا أمة الله! كل عينٌ فيها بياض).

    وقال ملاطفاً لعجوز: (لا تدخل الجنة عجوز، فبكت فقال لها: ألم تسمعي قول الله عز وجل: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً [الواقعة:35]) فهذا كله من الكلام الذي لا يراد ظاهره، وإنما يراد به معانٍ أخرى، اقتضت جلب المصلحة أو درأ المفسدة، فتجوز هذه التورية، وهذا في الحقيقة من عظمة هذا الدين؛ لأنه: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:195] فاللسان العربي اختار الله له أشرف كتبه وأفضلها وهو القرآن، ومن عظمة هذه اللغة أنها تحتمل المعاني العديدة، ومن هنا أجمع العلماء على عدم جواز ترجمة القرآن حرفياً؛ لأنه ليس هناك لسان بهذه السعة، وبهذا الإعجاز العجيب البديع الغريب الذي يتضمن ما تتضمنه هذه اللغة، فلا يستطيع المترجم مثلاً أن يترجم: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187] لا يستطيع أن يترجمها بلسان آخر مع إبقاء المعاني الجميلة البديعة الموجودة فيها، وهكذا قوله تعالى: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223] لو ترجمت حرفياً إلى لسان آخر لكانت غير واضحة، فيحتاج في ترجمتها إلى جمل عديدة، حتى يبين هذا المدلول، ولا يمكن أن يوجد في لسان مثلما يوجد في اللسان العربي من المعاني العجيبة، والكلمة الواحدة ربما جاء فيها أكثر من عشرة معانٍ، وهذا من سعة اللغة، ومن هنا كانت المعاريض والمندوحات بشيء يحتمله اللفظ جائزة.

    1.   

    التأويل في الحلف

    يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ باب التأويل في الحلف.ومعناه: أن يريد بلفظه ما يخالف ظاهره ]:

    أي: في هذا الموضع أبين لك جملة من المسائل في الحلف بالطلاق، أو ذكر الطلاق المعلق على شيء يقصد منه الحالف شيئاً غير اللفظ المذكور، وهذا الباب بابٌ مهم من أبواب الطلاق، اعتنى به الأئمة رحمهم الله على اختلاف المذاهب: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة رحمهم الله، حتى إن الظاهرية أشاروا إلى جملة من مسائله لأهميته وورود السنة بالإذن به.

    وهو سعة ورحمة من الله عز وجل بعباده، فإن الإنسان قد يُظلم ويُطلب منه أن يطلق زوجته ويعلق طلاقها على أمرٍ ما، وهو مظلومٌ فيه، وربما أكره على أن يتكلم بالطلاق، أو يعلق طلاق زوجته على فعل شيء أو ترك شيء، فمن رحمة الله عز وجل أن جعل للعباد فرجاً ومخرجاً فيقول كلاماً وينوي شيئاً آخر، وحينئذٍ يكون للمطلِّق ظاهرٌ وباطن، فظاهره يدل على وقوع الطلاق إن اختل أمره، وباطنه أنه لا يقصد ذلك الظاهر الذي تلفظ به.

    وقد تقدم بيان التأويل، وما هو مراد العلماء رحمهم الله به، وأن المقصود به: أن ينوي الإنسان شيئاً في قرارة قلبه ويتلفظ بكلامٍ يحتمل الذي نواه، وحينئذٍ يكون السامع قد فهم شيئاً والمتكلم يريد شيئاً آخر، وإذا كان التأويل في الطلاق، فمعنى ذلك أن السامع يظن أنه مطلق، والواقع أنه لا يقصد إيقاع الطلاق، بما قصده من ذلك التأويل.

    وبينا أمثلة التأويل وصوره التي ذكرها العلماء رحمهم الله، وهذا من سعة اللغة العربية، فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذا اللسان واسعاً، ومن هنا ساغ للمكلف أن يتلفظ بألفاظٍ يسمعها السامع ويظنها شيئاً ويريد المتكلم بها شيئاً آخر.

    وبينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل هذه الرخصة ونبه الأمة عليها فقال في الحديث الصحيح: (إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب) فبين عليه الصلاة والسلام أن المؤمن يستطيع أن يتخلص من الكذب -الذي هو من أقبح الأمور وأشنعها- بالتورية.

    والتورية: أن يورِّي فيأتي بكلامٍ محتمِل فيقصد باطنه والسامع يظن ظاهره.

    يقول رحمه الله: (باب التأويل في الحلف) أي باب التأويل في مسائل الطلاق خاصة في التعليق، أي سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالتأويل في الحلف في الطلاق.

    وبين أن معناه أن يأتي بلفظٍ ولا يريد ظاهره، ومعنى ذلك أنه يشترط في اللفظ أن يكون محتملاً، يقول: جواري، ومراده السفن، لأنها تجري، وقد أخبر الله عز وجل عن ذلك وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ [الشورى:32] فيقول: جواري عتيقات، أو يقول: نسائي طوالق مني، ومراده بالنساء محارمه الذين هن لسن بزوجاته، ففي هذا مندوحة للإنسان إذا أكره وألجئ إلى الطلاق، وهذا من رحمة الله ولطفه بعباده.

    قال المصنف رحمه الله: [فإذا حلف وتأول يمينه نفعه إلا أن يكون ظالماً ]

    أي حلف على شيءٍ وكان حلفه بلفظٍ محتمل فقال: امرأتي طالق مالك عندي شيءٌ، أي إن كان عندي شيء فامرأتي طالق، فهذا ظاهر اللفظ، ومراده بالمال مالٌ معين، وكان الذي استحلفه بهذا المال ظالماً جائراً عليه يدعي أن له عنده حقوقاً والواقع أنه ليس له عنده حقوقاً، فألجأه أن يحلف بالطلاق، مثلاً: شخص قوي وعنده قوة قال له: أعطني العشرة الآلاف التي عندك قال له: أظن أنني سددتها لك، أعطيتها لك، قال: إذاً احلف بأن نساءك طوالق أو امرأتك طالق إن كنت لم تدفع لي هذه العشرة الآلاف أو إن كانت هذه العشرة الآلاف عندك، فحلف بطلاق زوجته أنه ما له عنده شيء، وقصد مالاً غير النقد التي هي العشرة الآلاف، أو قصد أنه ماله عنده شيء من ناحية الحق الثابت وهذا من حقه، أو قصد شيئاً آخر غير الذي فهمه سواء كان في عين المال، أو كان في صفة المال وحاله، فكل ذلك ينفعه إلا أن يكون ظالماً.

    1.   

    شروط التأويل في الحلف

    إذاً: شرط التأويل أن لا يكون الحالف ظالماً، فإن كان ظالماً أو مغتصباً لحقوق الناس وحلف أنه ما اغتصب أو أنه ما سرق، أو أن شخصاً أعطاه أمانة فخانها -والعياذ بالله- فحلف أنه ما خان، وقصد التورية، فإن ذلك لا ينفعه.

    إذاً: للتأويل شرطان:

    الشرط الأول: أن يكون اللفظ محتملاً للتأويل الذي ذكره مثلاً يقول: ما لك عندي شيءٌ، ويقصد بما النفي فإن هذا ينفعه في الظاهر، أو يقصد بما الموصولة أي: الذي لك عندي شيءٌ فينفعه هذا التأويل لأن اللفظ محتمل.

    الشرط الثاني: أن يكون غير ظالم في ذلك الحلف أو ذلك الطلاق الذي تلفظ به.

    1.   

    مسألة: إن حلفه ظالم على شيء فنوى غيره

    يقول المصنف: [فإن حلفه ظالمٌ (ما لزيد عندك شيءٌ) وله عنده وديعة بمكة فنوى غيره، أو بما الذي، أو حلف ما زيد هاهنا ونوى غير مكانه، أو حلف على امرأته لا سرقت منه شيئاً فخانته في وديعة ولم ينوها لم يحنث في الكل].

    حلفه ظالمٌ ما لزيدٍ عنده شيءٌ، وكان الحلف على المال، فحلف أن زوجته طالق إن كان له عنده شيء، ويقصد في المدينة، أو في جدة فإنه ينفعه؛ لأن الذي نواه في قرارة قلبه وقصده أنه ليس له عنده شيءٌ في موضعٍ والحال كذلك، فإذاً بر في حلفه، ولا يقع عليه الطلاق، وهذا إذا كان مظلوماً، أو يقول: ما لزيدٍ عندي شيء، وقصد بما الذي، أي: الذي لزيد عندي شيءٌ، وحينئذٍ يستقيم اللفظ، ويكون باراً بحلفه؛ لأن الواقع أن لزيدٍ عنده شيئاً لكنه مظلوم، فحلف بهذه الصورة ليتخلص ويدفع المظلمة عنه.

    لماذا فرق بين كونه ظالماً أو مظلوماً؟

    قالوا: إذا كان مظلوماً فمقصود الشرع أن يدفع الظلم عنه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) فمقصود الشرع دفع الظلم ورفعه عن الناس، ولا يجيز الشرع الظلم، كما قال تعالى في الحديث القدسي: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً) فإذا حلف لدفع الظلم عن نفسه فقد وافق مقصوده مقصود الشرع.

    وقد قرر العلماء هذا الأصل كما أشار إليه الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه النفيس (الموافقات) وهو من أوائل العلماء وجهابذة أئمة الأصول الذين تكلموا على المقاصد والنيات، قال رحمه الله: (قصد الشرع من المكلف أن يكون قصده موافقاً لقصد الشارع)، قصد الشرع من المكلف في جميع أموره الباطنة أن تكون موافقةً للشرع، فهو لما نوى أن يدفع الظلم عن نفسه بنية غير التي تلفظ به؛ وافق مقصود الشرع من إحقاق الحق وإبطال الباطل، فهذه التورية جائزة غير جائرة، ومشروعة غير ممنوعة، مأذونٌ بها شرعاً، لأنها محققة لمقاصد الشريعة، فوسع الله بها على عباده، وقد أفتى بها بعض العلماء رحمهم الله، وصاحب التورية قد تنفعه ولا تؤثر في عصمة زوجته، ولا يقع الطلاق؛ لأنه نوى غير ما تلفظ به في الظاهر، وقال عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)، وأشكل في هذه المسألة حديث مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك) فدل على أن من حلف يميناً فإنه يقبل منه الظاهر ولا يقبل منه الباطن؛ لأنه على ما يصدقك عليه صاحبك، فدل على أن المسموع هو الذي عليه العمل وأن الذي وقعت عليه يمينه هو المعتبر، ولكن بين العلماء عدم التعارض وأن المقصود من هذه اليمين: اليمين في مقاطع الحقوق، وهي اليمين التي تكون في المظالم ويحلفها الإنسان في القضاء أو يحلفها في الخصومة والنزاع، ويعتقد أنه مصيبٌ فيما قال، وصائبٌ فيما ذكر، فحينئذٍ لا بد وأن تكون اليمين موافقة لما حلفه عليه القاضي؛ لأنه لو فتح هذا الباب لتلاعب الناس بالأيمان، وأصبحت يمين القضاء لا يتوصل بها إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل.

    ومن هنا فرق العلماء في التورية بين أن يكون ظالماً وبين أن يكون مظلوماً، وفرقوا بين أن يكون محقاً وبين أن يكون مبطلاً، فقالوا: إذا نوى في قرارة قلبه غير الذي تلفظ به فيما إذا كان محقاً أو مظلوماً فإن ذلك ينفعه؛ لأنه بهذا الفعل احتال حيلة شرعية، وقد دلت النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم على صحة الحيلة الشرعية، وأنه مأذونٌ بها شرعاً، قالوا: فلو بقي الحديث: (يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك) على ظاهره لما استطاع المحق أن يصل إلى حقه، ولأمكن المبطل أن يصل إلى باطله؛ لأنه ألجأه إلى اليمين واضطره إليها من أجل أن يصل إلى الحرام، فمن هنا ضيق عليه وقيل: يكون مأذوناً له شرعاً أن يوسع على نفسه بأن ينوي غير ما تلفظ به ليدفع عن نفسه الظلم، كما قال صلى الله عليه وسلم : (نحن من ماء) فجعل الرجل يقول: من ماء بني فلان، أو بني فلان، ومراد النبي صلى عليه وسلم بقوله: (نحن من ماء) ما ذكر الله عز وجل: خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق:6] وهذا يدل على أن الأمر به سعة، وأنه لا بأس بالتورية، وأنها جائزة.

    [أو بما الذي] قال: امرأتي طالق ما لك عندي شيءٌ؛ لأنه إذا قال: ما لك عندي شيء أي الذي لك عندي شيء و(ما) بمعنى (الذي)، ومن فقه القاضي أنه لا يقبل من الخصم أن يقول لخصمه: ما لك عندي شيء؛ لأنه يحتمل أن يقول: ما لك عندي شيء، أي الذي لك عندي شيءٌ، وحينئذٍ تضيع حقوق الناس بهذه التورية فلابد أن يقول: ليس لك عندي شيءٌ، لأنه لا يستطيع أن يدخل في هذه الجملة تورية، وبناءً على ذلك لو قال له: بقيت لي عندك عشرة آلاف، قال: ما بقيت لك عندي عشرة آلاف، وهو ظالمٌ له بالعشرة آلاف، فقال له: احلف على طلاق زوجتك أنه ما بقي لي عندك شيء، فقال: زوجتي طالق ما لك عندي شيء، أي: العشرة الآلاف التي لك عندي هي لك عندي، فعلى هذا يكون المعنى صحيحاً، وما نواه في قرارة قلبه قد أصاب به، وتنفعه هذه التورية ولا تضره بشيء أبداً.

    [أو حلف ما زيدٌ هاهنا ونوى غير مكانه]

    قال: امرأتي طالق ما زيد هاهنا، كان زيد مظلوماً؛ وهناك ظلم يريد أن يأخذه ليؤذيه أو يعرضه للحرام، أو مثلاً: هناك امرأة يعتدى عليها، فقال له: احلف أنها ليست في الدار، فحلف بطلاق زوجته أنها ليست في الدار وقصد امرأة غيرها، ينفعه ذلك لأنه يتوصل إلى إحقاق حقٍ وإبطال باطل، ودفع مظلمة عن مظلوم، وهذا موافق لنصوص الشرع، وبعض الأئمة -رحمهم الله- استعملوا شيئاً من التوريات في التخلص من الأذية والضرر.

    ويسوغ ذلك إذا جاء شخص يستأذن للدخول عليك وأنت تعرف أن هذا الشخص جاء بمشكلة أو جاء في بلية أو فيه ضرر، فاستأذن؛ فلك أن تستعمل معه التورية، فإذا قال: فلان موجود؟ فيرد عليه الأهل: بقولهم: فلان خرج، ومرادهم أنك خرجت قبل ساعة، وكنت قد خرجت ذلك اليوم، لكن ما قالوا: لم يعد، بل قالوا: خرج إلى الصلاة، وأنت خرجت إلى الصلاة، فهذه تورية، أو يقول المجيب: غير موجود ويشير إلى الغرفة، يعني غير موجود في الغرفة، وكان إبراهيم النخعي إذا جاءه ضيفٌ ثقيل خط على الأرض دائرة، وكانت جاريته تجيب، وتضع أصبعها في الدائرة فتقول: ما هو فيها، يعني ليس في داخل الدائرة، وهو ليس داخل الدائرة بل خارج عنها، وهذه من توريات السلف رحمهم الله؛ لأنه في بعض الأحيان قد يكون في دخول الشخص ضرر عليه، إما أن يتسبب في قطيعة رحم، أو يكون مغتاباً نماماً، أو يكون عنده بلاء أو فتنة، فالمقصود أنك تريد أن تدفع الضرر عنك، أو أنت مرهق متعب، ومثله لا يرد، فيسوغ لك أن توري وإلا فمن حقك أن تمنعه من الدخول، وهذا حق من حقوقك، لكن ليس كل الناس يفهم هذا الحق.

    وهنا ننبه أنه ينبغي أن لا يحرج المسلم أخاه المسلم خاصة في مثل هذه القضايا، هل فلان موجود أو غير موجود؟

    ومن الأمور التي ضيعها كثير من الناس إلا من رحم الله السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستئذان، وفيها رحمة من الله عز وجل على عباده، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من استأذن ثلاثاً فلم يؤذن له فلينصرف) يعني: إذا قرعت الباب ثلاث مرات ولم يُجب أحد فيجب عليك أن تنصرف، فهذه هي السنة، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    لو أن الناس طبقوا هذه السنة لارتاحوا من كثير من الإحراجات، يستأذن ثلاث مرات فإذا لم يؤذن له انصرف؛ لأن الله أعطى صاحب الدار حقاً أن لا يخرج لمن جاءه، وإن كان من حق الزائر أن تكرمه، وأن تستقبله، لكن ربما جاء في وقت ليس من حقه أن يأتي فيه، وربما جاء وعندك ما هو أهم وأولى وأحق خاصة العلماء، والأئمة، والخطباء، ومن انشغل بمصالح المسلمين العامة، فهؤلاء ينبغي على من يزورهم أن يتقي الله فيهم، خاصة في الأوقات الحرجة قبل الدرس، أو قبل المحاضرة، حيث تكون وراءه أمة تريد أن تنتفع بعلمه، فيأتي أناس يجلسون معه ويضيعون عليه وقته، فهذا لا يجوز لما فيه من الإضاعة للوقت، ولما فيه من الإضرار والأذية، وقد حرم الله على الصحابة أن يبقوا بعد طعامهم مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ارتبطت به الأمة، وكان بعض العلماء يقول: هذا الأصل مطرد في غير النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن المعنى الموجود في النبي صلى الله عليه وسلم موجودٌ في غيره، فإن غيره من العلماء مبتلى بما ابتلي به عليه الصلاة والسلام، وإن كان هناك فرقٌ بين الاثنين، فربما كان العالم عنده محاضرة، أو كان عنده درس يفيد به الأمة فلا ينبغي أن يؤذى ويحرج بمثل هذه التوريات؛ لأنه إذا أحرج بهذه التوريات ثم خرج ورآه من وري له -خاصة إذا كان من الجهال- ظن أن أهله يكذبون، وظن أنه كذب، وحينئذٍ يقع في سوء الظن، ويقع في التهمة، وهو الذي أحرج نفسه، فلذلك ينبغي أن لا يحرج المسلم أخاه، هذا بالنسبة للخاصة وكذا للعامة، فإذا علمت أن أخاك له أوقات يُزار فيها تخيرت هذه الأوقات، وأخذت بالسنة، والله تعالى يقول: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28] ليس هناك أبلغ ولا أكمل من كلام الله جل وعلا، وشهد الله من فوق سبع سماوات؛ أنك إذا اتقيت الله وانصرفت فإنه أزكى لك، وكان بعض العلماء يقول: جربت ذلك فوجدت الزكاة، حتى أني استحب في بعض الأحيان أن آتي للشخص وأستأذن عليه ويقول لي: لا أستطيع، لأني أبحث عن هذه الزكاة، وأبحث عن هذا الخير الذي شهد الله عز وجل به من فوق سبع سماوات: هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28]، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا التمسك بالسنة.

    وعلى المسلم أن يحرص على مثل هذا لأنها تترتب عليها حقوق وأمور، فعليه أن لا يكون مؤذياً لإخوانه المسلمين وأن لا يحيجهم لمثل هذه التوريات في الزيارات، وكذلك في الخصومات، فربما يسأل الشخص أخاه عن أمرٍ ما، فيخبره أخوه بالأمر، فيشك في خبره، ويقول له: احلف بطلاق زوجتك، فلا يجوز أن يحرج الناس في أقوالهم وأخبارهم بتطليق زوجاتهم أو أن يحلفهم الأيمان المغلظة على أنهم صادقين.

    هناك أمر يغفله كثير من الناس -إلا من رحم الله- وهو أنك إذا سألت أخاك المسلم عن شيء ما وأخبرك، فالأصل أن تصدقه؛ لأن الأصل في المسلم أن لا يتهم بالكذب، فإذا جئت تقول له: احلف، أو قال له -والعياذ بالله-: احلف بطلاق زوجتك، فقد هدم بيته، وشتت ولده، وأضر به ضرراً لا يرضاه لنفسه، فليس من الإيمان ولا من كمال الإيمان أن يضر المسلم أخاه، فليحب له ما يحب لنفسه، وكما أنه يحب أن الناس تصدقه فيما يخبر به فلا ينبغي له أن يحرج الناس في أخبارهم، فيقول: احلف لي أن زوجتك طالق، إذا كان هذا الأمر ليس بصحيح، وبعض الأحيان تكون في أمور تافهة، وعلى الأئمة والخطباء أن ينبهوا الناس على مثل هذه القضايا، وهي الإحراج بالطلاق، وعلى المفتي -إذا جاءه من يقول: فلان أحرجني فحلفت بطلاق زوجتي- أن ينبه أنه لا يجوز أن يدخل زوجته، ويقحمها في مثل هذه الأمور، ولربما حلف بطلاق زوجته بالثلاث في أمرٍ من أتفه الأمور، وفي قصة هل وقعت أو لم تقع، أو في حادثة جرت أو لم تجر، أو هل هي على صفة كذا أو لا، فلا يجوز أن يُحرج المسلم حتى يضطر إلى التأويل، ولا يجوز أن يُحرج حتى يحلف بطلاق زوجته، بل على المسلم أن يصدق أخاه المسلم؛ فإن كان صادقاً فالحمد لله، وإن كان غير صادق فالله يتولى أمره.

    1.   

    مسألة: إذا حلف على زوجته بالطلاق إن سرقت منه شيئاً فخانت الوديعة

    [أو حلف على امرأته (لا سرقت مني شيئاً) فخانته في وديعة ولم ينوها لم يحنث في الكل]

    لو خاف منها السرقة فقال لها: تحلفين أنك لا تسرقين مني فحلفت أنها لا تسرق، أو قال لها: إن سرقت مني فأنت طالق، فهددها بالطلاق إن سرقت، ثم شاء الله عز وجل أنه احتاج إليها في يوم من الأيام وقال لها: خذي هذه العشرة آلاف وضعيها عندك وديعة أو أمانة، فأخذت العشرة آلاف فخانته فيها وتصرفت فيها، فحينئذٍ الذي حلف عليه أو علق الطلاق عليه هو السرقة وما قصد سرقة الودائع، وسرقة الودائع خيانات ولا تعتبر من السرقة؛ لأن السرقة شيء، والخيانة شيء آخر، فالوديعة خيانتها ليست سرقة شرعاً، ولذلك من خان الوديعة، فعلى الصحيح لا تقطع يده؛ لأنه ليس بسارق شرعاً، واختلف في جاحد العارية كما سيأتينا -إن شاء الله- في باب السرقة.

    فإذا قال لها: إن سرقت مني شيئاً فأنت طالقٌ، فخانته في الوديعة، فإنها لم تسرق حقيقة إلا إذا قصد مطلق الخيانة، فإن قال لها: إن سرقتِ مني فأنت طالق، يعني: إن خنتني في أي مال أو شيء ائتمنتك عليه فأنت طالق؛ فحينئذٍ تطلق. هذا بالنسبة لمسألة إذا حلفها على السرقة وحصلت منها خيانة الوديعة.

    1.   

    الأسئلة

    حكم إحراج المسلم ليحلف بالطلاق

    السؤال: لو قال المستحلف للحالف: احلف أن نساءك طوالق لو كان لي شيء عندك، فهل في ذلك خدشٌ في الإيمان إذا لم يرض المستحلف من الحالف أن يحلف بالله لو ألجأه إلى الطلاق أثابكم الله؟

    الجواب: ذكرنا أنه ينبغي أن لا يحرج المسلم أخاه المسلم، إلا إذا كان الرجل كذاباً جريئاً على حدود الله وأنت محتاج إلى المال، ومتضرر بظلمه لك فأحببت أن تحرجه، أو كذب عليك في أمر عظيم، أو إنسان والعياذ بالله منتهك لحدود الله عز وجل، وجاء في قضية انتهك فيها حدود الله، وجاء يعبث مع رجلٍ صالح أو عالم أو صابر فأحب أن يردعه، فقال له: علق الأمر على طلاق زوجاتك، فربما يحلف الأيمان المغلظة والعياذ بالله ولا يبالي، لكن لو قال له: طلق نساءك يكون الأمر عنده أشد، فإن أحب أن يردعه ويزجره فهذه مقاصد معتبرة وهو مأجور إذا قصد إصلاحه، وقصد إحقاق الحق وإبطال الباطل، ولا بأس بذلك، لكن لا ينبغي أن يكون ذلك ديدن الإنسان، ولا ينبغي للزوج أن يدمر بيته ويشتت أهله، ويفرق جمعه بمثل هذه الأمور التافهة، ويقول له: أهلي عندي أكرم من أن أطلقهم على هذا الشيء، فينبغي أن يستشعر نعمة الله عليه بالزوجة، وإكرام الضيف لا يتم بطلاق الزوجات، وإحقاق الحقوق وإبطال الباطل لا يكون بمثل هذه الأمور، بل لها وسائل شرعية معروفة علينا أن نلتزم بها، وهذا الوارد في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا حلف اليمين نحن نصدقه، من حلف لنا بالله نصدقه على الظاهر، وفي الحديث قال: (يا رسول الله! الرجل فاجر ولا يبالي -يعني يحلف اليمين ولا يبالي- فقال صلى الله عليه وسلم: ليس لك إلا يمينه) فنحن نقبل ما قبل الله لنا، ومن حلف اليمين قبلنا منه، فإن فر من خصومه في الدنيا، وفر من جبار الأرض، فلن يفر من جبار السماوات والأرض، ولن يستطيع أن يفر من خصومه يوم القيامة إذا أُخِذ من حسناته أو أُخِذ من سيئات صاحبه والعياذ بالله فوضعت على ظهره، وحمل أثقالها بين يدي الله عز وجل، وعذب بها في عذاب الله عز وجل، نسأل الله السلامة والعافية.

    فعلى كل حال لا ينبغي التساهل في مثل هذه الأمور وينبغي على الأئمة والخطباء توجيه الناس؛ لأن الناس يحتاجون إلى توجيه، وينبغي لكل إمام مسجد أن لا يمر عليه أسبوع إلا وله جلسة إمامية يذكر الناس بمثل هذه الأمور التي تقع في معاملاتهم، لما فيها من عظيم الأجر والثواب، فكم من بيوتٍ هدمت، وأسر شتتت، بسبب جهل الأزواج والزوجات بالحقوق الواجبة عليهم؛ لأن الناس لا يعلم بعضهم بعضاً، ولا يرشد بعضهم بعضاً، فهذه الأمور التي تقع من الطلاقات المعلقة سببها الجهل، فتأتي في أمور تافهة يعلق عليها الطلاق، فلو وجه الناس أن البيوت أمانة، وأن الزوجة أمانة، وأن الأولاد أمانة، وأنه حرامٌ على الإنسان أن يدمر أهله وبيته ويفرق جمعه، فمن الذي يرضى أن يدخل الضرر على أولاده وأقرب الناس إليه وأهله وحبه وزوجه، فينسى فضلهم عليه حتى يقول هذه الكلمة التي تكون سبباً في طلاق زوجته وذهاب أسرته؟

    فهذه أمور كلها تحتاج إلى توجيه، فإذا لم يحصل التوجيه، والتعليم للناس عظمت الغفلة، ولا تذهب الغفلة إلا بالتذكير، وبتعاهد الأئمة والناصحون بارك الله في علومهم وبارك الله في نصائحهم وتوجيهاتهم، ولذلك العالم والشيخ والإمام إذا وجدت له جلسة في الأسبوع أو جلسة كل يوم بعد صلاة العصر يوجه فيها كلمة قصيرة للناس فيما يحتاجونه بعلم وبصيرة، تجد هذا الحي مباركاً فيه، قليل المشاكل، كثير العلم، كثير الفائدة، كثير النفع، والموفق من وفقه الله.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل، والله تعالى أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755822488