إسلام ويب

تفسير سورة الضحىللشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    حكم التكبير عند قراءة سورة الضحى وما بعدها من السور وكيفيته

    سورة الضحى هي السورة الثالثة والتسعون من سور المصحف الشريف، وهي سورة مكية، وآيها إحدى عشرة. قال ابن كثير : روينا من طريق أبي الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بزة المقرىء ، قال: قرأت على عكرمة بن سليمان ، وأخبرني أنه قرأ على إسماعيل بن قسطنطين وشبل بن عباد ، فلما بلغت وَالضُّحَى ، قالا لي: كبر حتى تختم مع خاتمة كل سورة، فإنا قرأنا على ابن كثير فأمرنا بذلك، وأخبرنا أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس رضي الله عنهما فأمره بذلك، وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أبي بن كعب رضي الله عنه فأمره بذلك، وأخبره أبي أنه قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بذلك. فهذه سنة تفرد بها أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله البزي من ولد القاسم بن أبي بزة وكان إماماً في القراءات، فأما في الحديث فقد ضعفه أبو حاتم الرازي وقال: لا أحدث عنه، وكذلك قال أبو جعفر العقيلي : هو منكر الحديث، لكن حكى الشيخ شهاب الدين أبو شامة في شرح الشاطبية عن الشافعي : أنه سمع رجلاً يكبر هذا التكبير في الصلاة، فقال: أحسنت وأصبت السنة. وهذا يقتضي صحة هذا الحديث. ثم اختلف القراء في موضع هذا التكبير وكيفيته، فقال بعضهم: يكبر من آخر: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [الليل:1] وقال آخرون: من آخر وَالضُّحَى . وكيفية التكبير عند بعضهم أن يقول: الله أكبر، ويقتصر. ومنهم من يقول: الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر. وذكر القراء في مناسبة التكبير من أول سورة الضحى: أنه لما تأخر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتر تلك المدة، ثم جاء الملك فأوحى إليه وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:1-2]، إلى آخر السورة بتمامها كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحاً وسروراً، ولم يرو ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف، فالله تعالى أعلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والضحى والليل إذا سجى)

    قال الله عز وجل: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:1-2]. قوله تعالى: (وَالضُّحَى)، تقدم في تفسير سورة الشمس: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1]، تفسير الضحى بالصعود وارتفاع النهار ارتفاعاً عالياً، قال تعالى: أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأعراف:98]، أي: وقت ارتفاع النهار ارتفاعاً عالياً. قوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى): أي: اشتد ظلامه، وأصله من التسجية وهي التغطية لستره بظلمته، كما في قوله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا [النبأ:10]؛ لأن هذا الليل يستر ويغطي. ويقال: سجى بمعنى أظلم، وقيل: ذهب، وقيل: أقبل، وقيل: سكن، وقيل: استقر ظلامه. قال الطبري : قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى)، يعني: والليل إذا سكن بأهله وثبت بظلامه، كما يقال: (بحر ساج) إذا كان ساكناً. وأرجح الأقوال في معنى سجى: سكن واستقر ظلامه وثبت.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ما ودعك ربك وما قلى)

    قال تعالى: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3]، هذا هو جواب القسم، والمعنى ما تركك وما قطعك قطع المودع. قال الشهاب في العناية: إنه عبر عن التوديع بالترك هاهنا، وفيه من اللطف بالنبي عليه الصلاة والسلام والتعظيم له ما لا يخفى؛ فإن الوداع إنما يكون بين الأحباب ومن تعز مفارقته، كما قال المتنبي : حشاشة نفس ودعت يوم ودعوا فلم أدر أي الظاعنين أشيع والمعنى: أن هذا المحبوب لما حصل الفراق وودعنا، فروحي ونفسي أيضاً فارقتني معه ليس هو وحده فقط، حتى إنني احترت أي واحد منهما أودع، أَأُودع هذا المحبوب الذي فارقني أم أودع روحي أو نفسي التي فارقتني أيضاً؟! فهذا شاهد على أن الوداع إنما يكون بين الأحباب ومن تعز مفارقته. وقيل في شرح الوداع: الوداع له معنيان في اللغة: الترك، وتشييع المسافر، فإن فسر بمعنى تشييع المسافر على طريق الاستعارة يكون فيه إيماء إلى أن الله سبحانه وتعالى لم يتركه أصلاً، وأنه معه أينما كان في كل حال وفي كل زمان، أما الترك لو تصور في جانبه فهو يدل على الرجوع، فالتوديع إنما يكون لمن يحب ويرجى عوده، وإليه أشار الأرجاني بقوله: إذا رأيت الوداع فاصبر ولا يهمنك البعاد وانتظر العود عن قريب فإن قلب الوداع عادوا أي: أن قلب كلمة (عادوا) هو (وداع). فهذا فيما يتعلق بالتوديع. والتوديع كما يقول أبو حيان : مبالغة في الودع؛ لأن من ودعك مفارقاً فقد بالغ في تركك. كما قلنا: إن التوديع يكون بالترك، ويكون بتشييع المسافر. وقوله عز وجل: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى)، يعني: ما تركك وما أعرض عنك، فهذا يؤكد نفس المعنى في قوله تعالى: (مَا وَدَّعَكَ). وقال بعضهم: وهذا لم أر من ذكره مع غاية لطفه، وكلهم فسروه بالمعنى الأول: (وَدَّعَكَ) بمعنى: تركك. ولما رأوا صيغة الفعل تفيد زيادة المعنى والمبالغة فيه، فيقتضي الانقطاع التام، قالوا: إن المبالغة في النفي لا في المنفي. وقرئ: (ما وَدَعَكَ) بالتخفيف، يعني: ما تركك. وهناك شاهد من السنة في استعمال كلمة ودع بمعنى ترك، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (إن شر الناس من ودعه الناس اتقاء شره)، قوله: (من ودعه) يعني: تركه الناس وابتعدوا عنه، اتقاء لسانه وبذاءته وفحشه. وورد شاهد أيضاً في الشعر يقول الشاعر: فكان ما قدموا لأنفسهم أعظم نفعاً من الذي ودعوا يعني: من الذي تركوا. وقال أبو الأسود : ليت شعري عن خليل ما الذي نما له في الحب حتى ودعه يعني: حتى تركه. وقال الشاعر أيضاً: وثم ودعنا آل عمرو وعامر فرائس أطراف المثقفة السمر يعني: هناك تركنا آل عمرو وعامر فرائس أطراف السيوف. وبعضهم استبعد قراءة اسمها: (ودعت) باعتبار أن استعمال ودع في اللغة العربية نادر، لكن يكفي أن القرآن الكريم ورد به، فما دامت صحت هذه القراءة فلا عبرة في هذه الحالة بكلام النحاة. وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، وإن كان استعمالها نادراً. وقد كان أحد الأدباء يكتب مقالات لبعض المجلات السيارة فلما عنّ له السفر كتب يودع القراء بقوله: أودعكم والله يعلم أنني أحب لقاكم والركون إليكمُ وما عن قلى كان الرحيل وإنما دواعٍ تبدّت فالسلام عليكمُ قوله: (وما عن قلى كان الرحيل) يعني: ليس هذا الرحيل عنكم هجراً ولا إعراضاً ولا بغضاً؛ لأن القلى يكون تركاً ينضم إليه بغض. فقوله تعالى: (وَمَا قَلَى) يعني: ما هجرك عن بغض. وقال الشهاب : وحذف مفعول قلى اختصاراً للعلم به، وهنا عدة أراء: قوله: (وَدَّعَكَ) فالمفعول هنا هو حرف الكاف، بينما هنا في كلمة (قلى) اقتصر على الفعل وحذف المفعول، الذي هو الكاف، فقال بعضهم: إنما اختصرها للعلم بها، وليجري على نهج الفواصل التي في السورة: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:3-5]، أو لئلا يخاطبه بما يدل على البغض، فمجرد وضع الضمير مع الفعل لم يرضه الله لنبيه عليه الصلاة والسلام، فما بالك بالفعل نفسه، فهو سبحانه لم يقل: (وما قلاك) مع أنه ينفيها، لكن أراد ألا يتعب قلب نبيه عليه الصلاة والسلام إذا قرن الضمير بالفعل مثل قول الله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ إلى قوله تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ [الأحزاب:35]، فقوله: (والذاكرات) أي: والذاكرات لله كثيراً، لكن حذفت للعلم بها، وأيضاً مراعاة للفواصل. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (وَمَا قَلَى) حذف كاف الخطاب لثبوتها في قوله: (ودعك) فدلت عليها. وقال بعضهم: تركت لرأس الآية، يعني: مراعاة للفواصل، والذي يظهر من لطيف الخطاب ورقيق الإيناس ومداخل اللطف، أن الموادعة تشعر بالوفاء والود، يعني: كلمة التوديع مأخوذة من توديع المسافر. مثلاً: الذي يودع المسافر ويخرج معه مسافة هم أحبابه الذين يريدون أن يبقوا معه إلى آخر لحظة ممكنة، حتى يتحرك القطار. إذاً: التوديع يكون فيه ملاطفة وود ومحبة ووحدة، فالموادعة تشعر بالوفاء والود، فمن ثم أبرزت فيها كاف الخطاب (مَا وَدَّعَكَ) يعني: لم تتأت موادعتك وأنت الحبيب والمصطفى المقرب صلى الله عليه وسلم. أما (قلى) ففيها معنى البغض فلم يناسب إبرازها؛ إنعاماً في إبعاد قصده صلى الله عليه وسلم بشيء من هذا المعنى؛ لأنه ما قلاه، كما تقول لعزيز عليك: لقد أكرمتك وما أهنت، ولقد قربتك وما أبعدت، وهذا المثال فيه إمعان في نفي الإهانة ونفي الإبعاد. والقلى يمد ويقصر وهو يعني: البغض. يقول الشاعر: أيام أم الغمر لا نقلاها ولو تشاء قفلت عيناها وقال كثير عزة : أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت جاء في السيرة ما يشهد لهذا المعنى ويبين دوام موالاته سبحانه وتعالى لحبيبه صلى الله عليه وسلم وعنايته به وحفظه له، فهو سبحانه ما تركه أبداً، فقد سخر له سبحانه عمه أبا طالب لينصره ويحفظه وقال عمه أبو طالب في ذلك شعراً: والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفيناً هذا ناشئ عن محبة طبعية؛ لأنه ابن أخيه، لكن ليست محبة شرعية. وذكر ابن هشام في رعاية عمه له صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا جن الليل وأرادوا أن يناموا فرش لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع أولاده، حتى إذا أخذ كل مضجعه عمد عمه إلى واحد من أبنائه فأقامه وأتى بمحمد صلى الله عليه وسلم لينام موضعه، ويجعل ولده مكان محمد صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان هناك من رأى مكانه في أول الليل ثم جاء يريده بسوء وقع السوء لابنه، وسلم محمد صلى الله عليه وسلم، كما فعل الصديق رضي الله تعالى عنه عند الخروج إلى الهجرة في طريقهما إلى الغار. (لقد كان أبو بكر رضي الله عنه في طريق الهجرة تارة يمشي أمامه صلى الله عليه وسلم وتارة يمشي وراءه، فسأله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون وراءك) يعني: أتذكر العدو فأكون أمامك حتى إذا كان هناك سوء يصيبني قبلك، ثم أتذكر الطلب من الخلف فأكون وراءك حتى إذا كان هناك سوء يصيبني ولا يصيبك. ويقول القاسمي رحمه الله تعالى: روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه القرآن أبطأ عنه جبريل أياماً فعير بذلك، فقال المشركون: ودعه ربه وقلاه، فأنزل الله: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3]) وفي رواية: (إن قائل ذلك إمراة أبي لهب ) وفي أخرى: (إنها خديجة رضي الله تعالى عنها) ولا تنافي لاحتمال وقوعه من الجميع، إلا أن خديجة لو صح أنها قالت له ذلك فيكون على سبيل التوجع والحزن والأسف. وفي رواية إسماعيل مولى آل الزبير قال: (فتر الوحي حتى شق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وأحزنه، فقال: لقد خشيت أن يكون صاحبي قلاني -يعني: جبريل- فجاء جبريل بهذه السورة وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:1-2]).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وللآخرة خير لك من الأولى)

    قال عز وجل: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى [الضحى:3-4]. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى)، فخير تأتي مصدراً كقول الله سبحانه والله: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا [البقرة:180]، قوله: (ترك خيراً) يعني: مالاً كثيراً بمعنى المصدر، وتأتي أفعل تفضيل محذوفة الهمزة بمعنى أخير. وهي هنا أفعل تفضيل: (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ) والدليل هنا على أنها أفعل تفضيل قوله: (من). مما يدل على أن الله سبحانه وتعالى أعطاه في الدنيا خيرات كثيرة، وما يكون له في الآخرة فهو خير وأفضل مما أعطاه في الدنيا، فيتوهم بعض الناس من الآية: (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى)، أن الآخرة خير له صلى الله عليه وسلم وحده من الأولى. فجاء النص يدل على أن هذا ليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم وحده، بدليل قوله تبارك وتعالى: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:198]، أي: للأبرار من المؤمنين، وكما قال تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار:13] وقال تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا [الإنسان:5]. أما بيان الخيرية هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففيها بيان ثواب الخيرية له في الدنيا، ثم الأفضل منها هو ما يكون في الآخرة، وصيغة أفعل التفضيل تأتي للمفاضلة بين طرفين يشتركان في أصل الوصف، بل إن أحدهما يزيد على الآخر، حينما تقول: علي أقوى من حسن، يعني: كلاهما مشترك في صفة القوة، لكن الأول أقوى من الثاني في هذه الصفة، فكذلك قوله: (خير لك من الأولى) تتضمن أن الدنيا خير له أيضاً، لكن الآخرة أفضل وأخير له من الأولى. فأما الخيرية التي آتاه الله إياها في الدنيا، فأشار إليها القرآن الكريم في هذه السورة وفي التي بعدها، ففي هذه السورة قال: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى [الضحى:6] يعني: تعهده الله سبحانه وتعالى منذ ولادته ونشأته صلى الله عليه وسلم فصانه عن دنس الشرك وطهره، وشق صدره ونقاه، وكان رغم يتمه سيد شباب قريش صلى الله عليه وسلم، حتى روي أن عمه قال عند خطبته خديجة له صلى الله عليه وسلم: فتى لا يعادله فتى من قريش حلماً وعقلاً وخلقاً إلا رجح عليه. كذلك قوله: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى:7-8] فهي نعم يعددها الله سبحانه وتعالى عليه، وهي من أعظم خيرات الدنيا من صغره إلى شبابه وكبره. ثم اصطفاؤه بالرسالة، ثم حفظه من الناس: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67]. ثم نصره على الأعداء، وإظهار دينه وإعلاء كلمته. أيضاً من الناحية المعنوية، قوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:1-4]. أما خيرية الآخرة على الأولى، فهي في قوله تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5]، يعني في الآخرة، وليس بعد الرضا مطلب. وفي الجملة فإن الأولى دار عمل وتكليف وجهاد، والآخرة دار جزاء وثواب وإكرام، فهي لا شك أفضل من الأولى. قال ابن جرير : أي: وللدار الآخرة وما أعد الله لك فيها خير لك من الدار الدنيا وما فيها. ثم يقول: فلا تحزن على ما فاتك منها، فإن الذي لك عند الله خير لك منها. وقال القاضي: (وَلَلآخِرَةُ) يعني: لنهاية أمرك خير من بدايته، فإنه صلى الله عليه وسلم لا يزال يتصاعد بالرفعة والكمال.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولسوف يعطيك ربك فترضى)

    قال عز وجل: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5]. أي: يعطيك من فواضل نعمه في العقبى حتى ترضى، وهذه عدة كريمة شاملة لما أعطاه الله تعالى في الدنيا. وبعض الناس أخطأ في تفسير هذا العطاء فقال: هي الشفاعة في أمته حتى يرضى. فعن ابن عباس قال: (عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يفتح على أمته من بعده كفراً كفراً -يعني: بلداً بلداً- فسر بذلك، فأنزل الله عز وجل: وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:4-5])، قال ابن كثير : إسناده صحيح، ومثله لا يقال إلا عن توقيف. ولذلك عمم القاسمي هنا فقال: وهذه عدة كريمة شاملة لما أعطاه الله تعالى في الدنيا من كمال النفس وعلوم الأولين والآخرين، وظهور الأمر وإعلاء الدين من فتوح واقعة في عصره صلى الله عليه وسلم، وفي أيام خلفائه الراشدين، وغيرهم من ملوك الإسلام، وفشو دعوته في مشارق الأرض ومغاربها، ولما ادخر له من الكرامات التي لا يعلمها إلا الله تعالى، وبالجملة هذه الآية جامعة لوجوه الكرامة وأنواع السعادة، وثبوت الإنعام في الدارين، حيث أجمله ووكله إلى رضاه، وهذا غاية الإحسان والإكرام. يعني: سيظل يعطيك ويوالي عليك النعم في الدنيا والآخرة حتى ترضى. وقوله: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) هذه الآية كنا قد أشرنا إليها مراراً أن بعض العلماء قال: إنها أرجى آية في القرآن الكريم، ووجه ذلك أن الله يشفعه في أمته حتى يرضى. وروى بعض الناس في ذلك بعض الأحاديث، وهي لا تصح، ومن هذه الأحاديث أنه عليه الصلاة والسلام قال عند نزول هذه الآية الكريمة وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5]: (إذاً: لا أرضى، وواحد من أمتي في النار) وإذا صح الحديث فإن المقصود بالأمة أمة الإجابة. وعبر بعض الشعراء عن هذا المعنى فقال: قرأنا في الضحى ولسوف يعطي فسر قلوبَنا ذاك العطاءُ وحاشا يا رسول الله ترضى وفينا من يعذب أو يساءُ هناك نصوص كثيرة في القرآن وفي السنة فيها أن من مات من أهل الكبائر وأهل المعاصي دون توبة يعذب في النار، وهناك أناس من الموحدين سوف يدخلون النار، ومنهم من يخرج بالشفاعة، ومنهم من يمكث إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى، والحديث معروف في آخر من يخرج من النار. إذاً: هناك من يعذب في النار، ويبقى إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى، لكنه لا يخلد فيها. وهذا الحديث: (إذاً: لا أرضى وواحد من أمتي في النار) إذا صح فيكون معناه: إذاً: لا أرضى وواحد من أمتي يخلد في النار، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام يرضيه ما يرضى ربه عز وجل، وهذا الحديث لم يثبت. ثم إن التعلق بهذا المعنى يفتح على الناس باب التواكل، ويغتر به بعض الجهال من أنه لا يرضى أن يدخل أحد من أمته النار، فهو من غرور الشيطان لهم ولعبه بهم؛ فإنه صلوات الله عليه وسلامه يرضى بما يرضى به ربه تبارك وتعالى، وهو سبحانه وتعالى يدخل النار من يستحقها من الكفار والعصاة، وقد ولع الحشوية بتقوية أمثال هذه الآثار المفتراة؛ تغريراً للجهال، وتزييناً لموارد الضلال، ولا حول ولا قوة إلا بالله. إذاً: الله سبحانه وتعالى حكم عدل، كما أن إدخال الجنة يكشف عن صفات الرحمة والإحسان والتفضل والإكرام، كذلك أيضاً كونه شديد العقاب فيعذب الكفار بعد إنذارهم، أو يعذب العصاة بعد إقامة الحجة عليهم، فهذا أيضاً يكون مظهراً لعدله وحكمته، وهذه من صفات كماله سبحانه وتعالى. إذاً: هذا الكلام يتعارض مع النصوص التي وردت من كون العصاة يدخلون النار فضلاً عن الكفار، مما ينبغي الحذر منه، وعدم الاعتراف بأقوال هؤلاء الشعراء وبهذه الروايات الضعيفة؛ لأنه لا يفرح بها كثيراً إلا المرجئة. ونحن قلنا: إذا صح قوله: (لا أرضى وواحد من أمتي في النار) فالمقصود أمة الإجابة، وإن كان هناك أحاديث أخرى فيها معنى قريب من هذا، لكن ليس بنفس الإطلاق، مثل حديث: (لا أزال أشفع يوم القيامة فأشفع حتى يناديني ربي: أقد رضيت يا محمد؟! فأقول: أي رب رضيت) هذا في حق من أذن له في الشفاعة فيهم. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم عليه السلام: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:36] ، وقول عيسى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم أمتي أمتي، وبكى، فقال الله تعالى لجبريل عليه السلام: اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فسله: ما يبكيك؟ فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فأخبره، فقال الله تعالى لجبريل عليه السلام: اذهب إلى محمد فقل له: إن الله يقول لك: إنا سنرضيك في أمتك، ولا نسوءك). فهذا يئول بالشفاعة وبغير ذلك. أما أنه لا يدخل أحد من أمته النار على الإطلاق، وأن هذا هو الذي يرضيه، فنحن نقول: يرضيه ما يرضي ربه تبارك وتعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ألم يجدك يتيماً فآوى)

    قال الله تبارك وتعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى [الضحى:6]. هذا تعديد لما أفاض عليه من أول أمره إلى ذلك الوقت. يعني: من أول نشأته يتيماً والله سبحانه وتعالى يرعاه ويحفظه ويكلؤه. فهذا تعديد لما أفاض عليه عز وجل من أول أمره إلى ذلك الوقت، من فنون النعماء العظام؛ ليستشهد بالحاضر الموجود على المترقب الموعود. فقوله: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) هذه كلها في الماضي، حتى يستشهد بالحاضر في إحسان الله فيما مضى، على إحسانه المترقب بقوله: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى). يعني: أنت قد لمست ذلك في ما مضى، فقطعاً سوف يحصل هذا فيما يستقبل ويكون أمرك إلى ازدياد. يقول الشاعر: إن رباً كفاك بالأمس ماكان فسيكفيك في غد ما يكون فيطمئن قلبه وينشرح صدره، والهمزة لإنكار النفي وتقرير المنفي على أغلب وجه، كأنه قيل: قد وجدك يتيماً فآوى، وقد وجدك ضالاً فهدى. والوجود هنا بمعنى العلم، روي أن أباه مات وهو في بطن أمه، وماتت أمه وهو ابن ست سنين، فكفله جده عبد المطلب ثم مات جده وهو ابن ثمان سنين ثم كفله عمه أبو طالب وعطف عليه فأحسن تربيته، وذلك إيواؤه عليه الصلاة والسلام المذكور في قوله: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ووجدك ضالاً فهدى)

    قال عز وجل: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:7]. أي: غافلاً عما أوحاه إليك من الهدى والفرقان، فهداك إليه وجعلك رسولاً له، كما في قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ [الشورى:52]. وقال الشهاب : الضلال مستعار من ضل في طريقه إذا سلك طريقاً غير موصلة لمقصده؛ لعدم ما يوصله من علوم نافعة من طريق الاكتساب. يعني: لم يكن النبي عليه الصلاة والسلام يسلك طريقاً يوصله للعلوم الفكرية التي ينالها الإنسان بالكسب، وإنما كان الذي امتن الله عليه به هو علم وهبي وليس كسبياً؛ لأن النبوة لا تكتسب، والله سبحانه وتعالى امتن على النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الوحي الذي هو العلم الوهبي. وقال بعضهم: قوله: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) يعني: وجد قومك ضالين فهداهم بك، على تقدير مضاف، كما في قوله: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف:82]، يعني: واسأل أهل القرية. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في كتاب (دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب) قوله تعالى: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) هذه الآية الكريمة يوهم ظاهرها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ضالاً قبل الوحي، مع أن قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30] يدل على أنه صلى الله عليه وسلم فطر على هذا الدين الحنيف، ومعلوم أنه لم يهوده أبواه ولم ينصراه ولم يمجساه، بل لم يزل باقياً على الفطرة حتى بعثه الله رسولاً، ويدل لذلك ما ثبت من أن أول نزول الوحي كان وهو يتعبد في غار حراء، فذلك التعبد قبل نزول الوحي دليل على بقائه صلى الله عليه وسلم على الفطرة. والجواب أن معنى قوله: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)، أي: غافلاً عما تعلمه الآن من الشرائع وأسرار علوم الدين، التي لا تعلم بالفطرة ولا بالعقل، وإنما تعلم بالوحي، فهداك إلى ذلك بما أوحى إليك. فمعنى الضلال على هذا القول: الذهاب عن العلم. وفي القرآن الكريم أن الضلال يطلق على الذهاب عن العلم بالنسيان أو نحو ذلك، ومنه قوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة:282]، فقوله: (أن تضل) أي: تذهب عن العلم، ومنه أيضاً قوله تعالى: لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:52] يعني: لا يذهب عن العلم، وكذلك قوله تعالى: قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ [يوسف:95]. ويقول الشاعر: وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلاً أراها في الضلال تهيم إذاً: قوله تعالى: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) يعني: ووجدك غافلاً عن هذا العلم، كما قال تعالى: وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [يوسف:3] أي: قبل القرآن، وقال عز وجل: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النساء:113] وقال عز وجل: وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص:86]. وبعضهم فسر الضلال في قوله: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) تفسيراً حسياً فقال: هو أنه ضل الطريق وهو صغير في شعاب مكة. وقيل: ضل الطريق في سفره إلى الشام، والقول الأول هو الصحيح، والله تعالى أعلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ووجدك عائلاً فأغنى)

    قال تبارك وتعالى: وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى:8]. قوله: (عَائِلًا) أي: فقيراً. قوله: (فَأَغْنَى) يعني: فأغناك بمال خديجة رضي الله عنها الذي وهبته إياك، أو بما حصل لك من ربح في التجارة. وقيل في تفسيرها: رضاك بما أعطاك من الرزق؛ لأن الغنى كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس). ويقول الشاعر: غنيت بلا مال عن الناس كلهم إلا الغنى العالي عن الشيء لا به فغنى النفس أعلى درجات الغنى. فقوله: (عَائِلًا) أي: فقيراً، يقول الشاعر: وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل يعني: وما يدري الغني متى يفتقر. وقال ابن قتيبة : العائل الفقير. أي فقير يسمى عائلاً، سواء كان له عيال أو لم يكن له عيال، لكن يقال: عال يعيل إذا افتقر. وأعال يعني: كثر عياله، كما قال تعالى: ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا [النساء:3].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر)

    قال عز وجل: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ [الضحى:9]، لا تنهره على ماله، فتذهب بحقه استعطافاً منك له. قوله تعالى: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحى:10]. قال ابن جرير : أي: وأما من سألك من ذي حاجة فلا تنهره، ولكن أطعمه واقض له حاجته؛ لأن للسائل حقاً كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25]. قوله تعالى: (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره. فالمسلم إما أن يعطي وإما أن يقول كلمة طيبة، كما قال الله تعالى: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا [الإسراء:28]، فإذا أردت أن ترده ترده بكلمة طيبة، يقول الشاعر: لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم تسعد الحال يعني: أنفق الكلمات الطيبة التي لا تكلفك شيئاً. وقال الله سبحانه وتعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة:263]. يعني: قد يلح السائل في السؤال فيحاول أن يحرج المسئول ويستفزه إذا أحس أنه لن يعطيه شيئاً، فقال الله سبحانه وتعالى: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ) يعني: إما أن تقول قولاً معروفاً، وأيضاً مغفرة يعني: تتجاوز عما يحصل منه من الأذى أو الإلحاح أو الإحراج أو نحو ذلك، فلا ترد عليه إذا قال كلاماً لا ينبغي. وقال إبراهيم بن أدهم : نعم القوم السؤّال يحملون زادنا إلى الآخرة. يعني: لو كنت مسافراً من مكان إلى مكان بعيد ومعك الزاد والمتاع الثقيل فقال لك رجل: أنا أحمل عنك هذا المتاع وأوصله إلى المكان الذي تريده. فهو يشبه السؤّال الذين يسألون الصدقات بعمال البريد، يعني: أنهم ينقلون لنا الزاد من الدنيا إلى الآخرة. وقال إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى: السائل بريد الآخرة، يجيء إلى باب أحدكم فيقول: هل تبعثون إلى أهليكم بشيء؟! يعني: هل تريد أن تبعث لوالدك أو لوالدتك أو لقريبك الذي مات بشيء؟! وقد ذهب الحسن فيما نقله الرازي عنه إلى أن المراد من السائل من يسأل العلم، فيكون في مقابلة قوله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:7]، يعني: كما أنك كنت غافلاً عن هذا القرآن، وعارياً من هذا العلم النبيل، ثم إن الله سبحانه وتعالى هداك إليه بالتعليم وبالهبة وبالوحي، فتقابل هذه النعمة بألا تنهر من يسألك أو يسترسل من علمك. قال ابن كثير : أي: وكما كنت ضالاً فهداك الله، فلا تنهر السائل في العلم المسترشد. ويؤيد هذا المعنى ما ورد في أحوال الذين كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم بيان ما يشتبه عليهم، فمنهم: أهل الكتاب الممارون، ومنهم: الأعراب الجفاة، ومنهم: من كان يسأل عما لا يسال عنه الأنبياء، فلا غرو أن يأمره الله تعالى بالرفق بهم، وينهاه عن نهرهم، كما عاتبه على التولي عن الأعمى السائل في سورة عبس. وقال ابن العربي رحمه الله تعالى: وأما السائل عن الدين فجوابه فرض على العالم على الكفاية. (وكان أبو الدرداء ينظر إلى أصحاب الحديث فيبسط رداءه لهم ويقول: مرحباً بأحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أنه كان إذا أتاه طلبة العلم يقول: مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الناس لكم تبع، وإن رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيراً).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأما بنعمة ربك فحدث)

    قال الله تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11]، ما المراد بهذه النعمة؟ قيل: هي النبوة، وقيل: القرآن، وقيل: هي عامة في جميع الخيرات. فالتحديث بنعمة الله يكون بشكرها وإظهار آثارها، كما جاء في الحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً عليه ثياب رثة فسأله: ألك مال؟ قال: نعم، قال: من أي المال؟ قال: من كل المال آتاني الله سبحانه وتعالى، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: من كان له مال، فليرى أثر نعمة الله عليه وكرامته)، فهذا تحديث فعلي بنعمة الله، وكذلك يشرع الحديث القولي إذا أمن الإنسان العجب، فيتحدث بنعمة الله تبارك وتعالى عليه. أما النبي عليه الصلاة والسلام فقد أوجب الله عليه التحدث بهذه النعم بشكرها وإظهار آثارها، وعلى المسلم أن يحرص على أن تقضي الحاجات من طريقه، وهذا هو سر الأمر بالتحدث بها، فالغني مثلاً يظهر أثر النعمة عليه بحيث يتوجه الفقير إليه ويسأله. وفي الآية تنبيه على أدب عظيم: وهو التصدي للتحدث بالنعمة وإشهارها؛ حرصاً على التفضل والجود والتخلق بالكرم، وفراراً من رذيلة الشح الذي رائده كتم النعمة والتمسكن والشكوى، ومن عادة البخلاء أن يكتموا مالهم؛ لتقوم لهم الحجة في خفض أيديهم عن البذل، فلا تجدهم إلا شاكين من القل، أما الكرماء فلا يزالون يظهرون بالبذل ما آتاهم الله من فضله، ويجهرون بالحمد بما أفاض عليهم من رزقه، فالتحديث بالنعمة كناية عن البذل وإطعام الفقراء وإعانة المحتاجين، فهذا هو معنى قوله تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ). ويشهد لذلك قول الله تعالى: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) فأنت عرفت في نفسك ما يكون فيه الفقير، فأوسع في البذل على الفقراء، وليس القصد في مجرد ذكر الثروة، فإن هذا يتنزه عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يذكر ما عنده من نقود وعروض، ولكن الذي عرف عنه أنه كان ينفق ما عنده ويبيت طاوياً صلى الله عليه وسلم. وقد يقال: إن المراد من هذه النعمة النبوة، ولكن سياق الآيات يدل على أن هذه الآية مقابلة لقوله: وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى فيقابلها قوله عز وجل هنا: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ، فتكون النعمة بمعنى الغنى، ولو كانت بمعنى النبوة لكانت مقابلة لقوله: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى . وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر).

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755896495