إسلام ويب

شرح عمدة الأحكام [6]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مما اختص الله به هذه الأمة دون غيرها مشروعية التيمم، وذلك من التوسعة عليها ومن وضع الآصار والأغلال عنها، ولكن قد يسيء بعض الناس استخدام هذه الرخصة والتوسعة، ولذلك يجب على المسلم أن يتعلم أحكامها وشروطها كما بين ذلك العلماء.

    1.   

    مشروعية التيمم وصفته وأحكامه

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب التيمم:

    عن عمران بن حصين رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معتزلاً لم يصل في القوم، فقال: يا فلان! ما منعك أن تصلي في القوم؟ فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء. فقال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك).

    وعن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة، فأجنبت فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا. ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه)].

    هذا باب التيمم، والمراد به التطهر بالتراب عند فقد الماء كما هو معروف، وسمي تيمماً للأمر به كما في قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا [المائدة:6]، فلما سماه الله تيمماً أخذوا اسمه من هذه الكلمة.

    وسبب نزول الآيات في مشروعية التيمم، أنهم كانوا مسافرين في غزوة من الغزوات، ولما كانوا ذات ليلة في مكان سقط عقد لـعائشة في الليل، فأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام أن ينيخوا رواحلهم، فباتوا وليس معهم ماء يتوضئون به، فأنزل الله في تلك الليلة آية التيمم، وفيها يقول أسيد بن حضير لـعائشة : (ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، ما نزل بكم أمر أو شدة إلا جعل الله لكم منه مخرجاً، وجعل الله للمسلمين فيه خيراً).

    وقد ورد في الأحاديث أنه من خصائص هذه الأمة، يعني: أن من خصائص هذه الأمة التيمم بالتراب، قال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [المائدة:6].

    قوله: (يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ)، التطهير بهذا التراب تطهير معنوي، وذلك أن المسلم يستحضر أن ربه سبحانه أمره باستعمال التراب فيمسح به وجهه وكفيه، فهو يقصد ذلك امتثالاً لأمر الله.

    التيمم يرفع الحدثين

    ويرتفع بالتيمم الحدث الذي على البدن، سواء كان حدثاً أكبر أو أصغر؛ وذلك لأن الله تعالى ذكر الحدث الأصغر بقوله: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [المائدة:6] فالحدث الأصغر هو الذي يرتفع بالوضوء، وذكر الحدث الأكبر بقوله: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [المائدة:6]، وهو الذي يوجب الغسل، لكن عند عدم وجود الماء أو تعذر استعماله فكلا الحدثين يرتفع بالتيمم. قوله: (فَتَيَمَّمُوا) يعني: فاقصدوا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه.

    فجعل الله هذا التيمم رافعاً للحدث، وجعله طهوراً معنوياً يحصل به نفع ويحصل به استباحة الصلاة، وإن لم يكن فيه تنظيف للبدن ولا إزالة للوسخ ولا غير ذلك من أنواع النظافة، ولكنه تطهير معنوي جعله الله تعالى توسعة؛ لأنه لما فرض الوضوء والغسل فهو يعلم أن الماء قد ينعدم في بعض الأحيان أو يتعذر استعماله، فجعل له بدلاً وهو التراب، وإلا فالأصل أن الطهارة تكون بالماء، وقد ذكر الله في نفس الآية إعواز الماء في قوله: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [المائدة:6] ولهذا ذكر العلماء من شروط العدول إلى التيمم: أن يكون قد بحث عن الماء في رحله وفيما كان قريباً منه ولم يجده، أو وجده وكان قليلاً وهو بحاجة إليه للشرب أو للطبخ أو نحو ذلك، فحينئذٍ يعدل إلى التيمم، ففيه رخصة وفيه توسعة.

    والتيمم يحصل من الحدثين الأصغر والأكبر، فالآية نزلت في الأصغر عندما كانوا مسافرين وانعدم الماء واحتاجوا إلى الوضوء، فأمرهم بأن يتيمموا، فجعل التيمم بدلاً عن الوضوء الذي هو غسل الأعضاء الظاهرة، وذكر في الآية نفسها موجب الغسل في قوله: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [المائدة:6] فإن الملامسة هي الجماع، والجماع موجب للغسل لا الوضوء، فتكون الآية اشتملت على رفع التيمم للحدث الأصغر الذي يوجب الوضوء، ورفعه للحدث الأكبر الذي يوجب الغسل.

    والأحاديث التي عندنا تتعلق بالغسل، فإن حديث عمران في الغسل، وذلك أن بعض الصحابة تعاظموا أن التيمم يرفع الحدث الأكبر، فقالوا: كيف يرتفع غسل البدن كله بمسح الوجه وبمسح الكفين؟!

    فلأجل ذلك اعتزل ذلك الرجل الصلاة، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم وقد صلى بأصحابه وإذا بالرجل معتزلاً جالساً، فاستنكر جلوسه وتركه للصلاة، فسأله لماذا تركت الصلاة؟ فاعتذر ذلك الرجل بأن عليه حدثاً أكبر، وأنه أصابته جنابة من آثار احتلام أو نحوه، وليس معه ماء يكفيه للاغتسال، فعند ذلك أمره بأن يتيمم فقال: (عليك بالصعيد فإنه يكفيك)، والصعيد هو المذكور في قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [المائدة:6].

    تفسير الصعيد الطيب المجزئ للتيمم

    وقد اختلف العلماء في تفسير الصعيد، والصحيح أنه وجه الأرض المستوية الذي عليه تراب يمكن أن يمسح منه، وسمي بذلك لصعوده على وجه الأرض، أو لأنه يتصاعد منه تراب يعلق باليد، أو أنه إذا أتته الريح تصاعد منه التراب والغبار ونحوه، وقد يطلق الصعيد على وجه الأرض المستوية، كما في قوله تعالى: فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا [الكهف:40]، يعني: مستوية ليس فيها أشجار ولا ثمار، فأصبح الصعيد هو المستوي من الأرض، فإذاً التيمم يكون من التراب المستوي من الأرض.

    اشترط بعض العلماء أن يكون له غبار، وأخذ هذا الشرط من قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6] قالوا: إن كلمة: (منه) تدل على التبعيض، وأنه يعلق منه غبار في اليد يمسح منه الوجه ويمسح منه الكف، فإذا كان لا غبار فيه لم يكن هناك تمسح منه.

    والصحيح أنه لا يشترط ذلك وإنما يكفي ضرب الأرض إذا كانت مستوية وفيها تراب ونحوه.

    ويكثر السؤال عن الأماكن التي قد يعوز فيها التراب، يعني: المساجد المبلطة أو المفروشة مثلاً، والشوارع المسفلتة التي لا يوجد فيها تراب، والصحيح أنه يجوز ضرب وجه مثل هذه الأرض؛ لأن ذلك يصدق عليه أنه صعيد، ولكن لا بد أن يكون طاهراً حيث اشترط الله الطيب بقوله: (صَعِيدًا طَيِّبًا)، فإذا كانت نجسة لم تجز التيمم منها، فلو ضرب الأرض باليدين وتلك الأرض نجسة أو فيها قذر أو نحو ذلك، فإنه لا يصح التيمم به. وإذا كان المكان فيه فراش أو نحوه وفيه شيء من الغبار كفى أن يضرب وجه الأرض حتى يتطاير منه الغبار، وإذا لم يكن فيه غبار ولم يجد مكاناً يتيمم منه فإنه يأتي بتراب ليتيمم منه.

    وإذا لم يستطع إحضار التراب صلى ولو بدون تيمم، وذلك كالمرضى الذين يكونون في المستشفيات لا يجدون التراب ولا يستطيعون الوصول إلى الماء فهم معذورون، وقد ذكر الله تعالى المرض من جملة الأعذار كما في قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ [المائدة:6]، خص المرضى وإن كانوا يجدون الماء، وذكر المسافر لأنه غالباً يفقد الماء.

    فالمريض قد يصعب عليه استعمال الماء، وقد لا يستطيع الوصول إلى أماكن المياه، وقد لا يستطيع أيضاً غسل أعضائه من شدة المرض؛ فله أن يتيمم، فإذا كان على سرير والسرير عليه فراش نظيف ليس فيه غبار، فيمكن إحضار تراب له في طست أو في إناء ليضرب عليه، فإذا لم يتيسر كبعض المستشفيات التي يمنع فيها إحضار التراب ونحوه، فإنه إن استطاع أن يضرب الفراش ولو بدون غبار فعل، وإلا صلى على حسب حاله ولو بدون تيمم أو بدون تراب.

    والحاصل أن التيمم لا يكون إلا من الصعيد؛ وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (عليك بالصعيد، فإنه يكفيك)، وكما في الآية: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ [المائدة:6]، فإذا لم يتيسر صلى على حسب حاله.

    بيان إجزاء التيمم عن الغسل في حديث عمار

    وفي الحديث الثاني أيضاً الدلالة على أنه يكون من الحدث الأكبر، فإن عمار بن ياسر لما احتلم وكان في سفر وليس عنده ماء، وقد عرف أن الوضوء يقوم بدله مسح الوجه واليدين بالتراب، فاعتقد أن الغسل لا يقوم بدله إلا مسح البدن كله بالتراب، فتمرغ في الصعيد وتقلب فيه كما تفعل الدابة التي تتمرغ في التراب.

    وهذا ظن منه أنه لا يقوم مقام الغسل إلا التمرغ الكامل في التراب، وهذا من باب القياس، ولكن بيَّن له النبي صلى الله عليه وسلم أن الآية ليس فيها إلا مسح الوجه واليدين، مع ذكر الحدث الأكبر في قوله: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ منه [المائدة:6]، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن صفة التيمم أن يضرب الأرض بيديه وأن يمسح بهما وجهه ويمسح كفيه.

    عدد ضربات التيمم

    وقد اختلف في عدد الضربات، وحديث عمار ليس فيه إلا ضربة واحدة، وهو أصح من غيره.

    لكن ورد أحاديث فيها مقال منها قوله: (التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين)، فإن اقتصر على ضربة واحدة مسح وجهه براحته، ومسح كفيه بأصابعه، وخلل أصابعه وأدخل بعضها في بعض حتى يكون قد عمم.

    فالغبار الذي على الراحتين يمسح به وجهه، والغبار الذي على الأصابع يمسح به ظاهر الكفين وباطنهما وداخل الأصابع، وإن ضرب ضربتين فلا بأس، ضربة يمسح بها وجهه، وضربة ليديه.

    حد اليدين في المسح عليهما عند التيمم

    وأما حد اليدين، فالآية فيها إطلاق: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ [المائدة:6]، ولم يقل: إلى الكوع، ولم يقل: إلى المرفق، ولم يقل: إلى المنكب.

    فجاء في بعض الروايات: (التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين)، فذهبت الشافعية وغيرهم إلى أنه يمسح يديه إلى المرافق، والمرفق: هو المفصل الذي بين الذراع والعضد، وهو الذي يغسل إليه في الوضوء، ولكن في حديث عمار أنه اقتصر على مسح الكفين، والكف: هو الراحة والأصابع وما اتصل بها إلى المفصل، وفي بعض الروايات تحديده إلى الكوع، والكوع: هو المفصل الذي بين الكف والذراع، وقد يقال: إن الكوع هو طرف المفصل مما يلي الإبهام، والكرسوع: طرف المفصل مما يلي الخنصر، وهذا هو الراجح.

    في حديث عمار أنه مسح كفيه واقتصر عليهما، وهذا هو الذي اختاره الإمام أحمد.

    اشتراط النية وضرب الصعيد في صحة التيمم

    وبكل حال لا بد من النية كما تقدم، ولا بد أن يكون هناك مسح.

    ولهذا يقول العلماء: لو أن إنساناً صمد بوجهه أمام الريح فألقت في وجهه تراباً لم يكفه ذلك ولو مسح به؛ لأنه ما أخذه من وجه الأرض، والله يقول: (فَتَيَمَّمُوا) أي: فاقصدوا، ويقول: (فَامْسَحُوا).

    فلا بد أن يقصد ضرب الأرض ويستعمل التمسح الذي أمر الله تعالى به، ويكون المسح مرة واحدة، فلا يطلب فيه التكرار كما ورد في الوضوء، بل يقتصر على مرة واحدة؛ وذلك لأن القصد منه التعبد، والطهارة به طهارة معنوية وليست طهارة حسية كالطهارة بالماء، إنما هي طهارة معنوية، ولذلك كان لا بد من النية حتى يتم الامتثال.

    1.   

    شرح حديث (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي)

    قال المؤلف رحمه الله: [عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)].

    هذا الحديث أورده المؤلف في باب التيمم، حيث ذكر فيه التيمم بتراب الأرض، ويعتبر هذا الحديث دالاً على ميزة وفضل وشرف لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه ذكر الخصائص التي اختصه الله بها وهي خمس في هذا الحديث، ولكن لا يدل ذلك على الحصر، بل له خصائص أخرى سواء اختص بها عن الأنبياء قبله، أو اختص بها عن أفراد الأمة.

    ذكر العلماء من خصائصه الشيء الكثير، وسرد ذلك البيهقي في أول كتاب النكاح، حيث أنه اختص بأشياء في النكاح منها ما في قوله تعالى: خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50]، ومنها جمعه بين تسع نسوة، وهذه الخصال دالة على ما فضله الله به على الأنبياء قبله.

    الخصلة الأولى: نصرته عليه الصلاة والسلام بالرعب مسيرة شهر

    فالخصلة الأولى قوله: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر).

    الرعب: هو الخوف الذي يكون في قلوب الأعداء بسبب غزو الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، فالله يجعل في قلوبهم رعباً منه وخوفاً وفرقاً، بحيث إنهم لا يقدمون على قتاله ولا يصبرون على مواجهته، بل يتفرقون وينخذلون وينهزمون ويتبعثر جمعهم، وذلك نصر من الله تعالى وتأييد له حتى يتم أمر الله ويعلو دينه، ؛ لأن الله تعالى قد وعده بإظهار هذا الدين كما في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33].

    فلما وعده بإظهار هذا الدين عرف بأن للدين أعداء وله مقاومين وحسدة يحسدونه على ظهوره وعلوه؛ وذلك لأنهم يفارقون مألوفاتهم إذا اعتنقوه، ويتركون دين أسلافهم وآبائهم وعقائد أجدادهم، فيفرق بينهم وبين ما هم عليه، فلما كان كذلك كان ولا بد أن يوجد من يعادي هذا الإسلام ويحول دون انتشاره، فإذا هم النبي عليه الصلاة والسلام بغزو أولئك الأعداء قذف الله في قلوبهم الرعب، وألقى عليهم الخوف والفرق، فتفرقوا وذهبوا، وإن قاتلوا لم يصمدوا للقائه ولا لمقاتلته.

    قد أخبر الله عز وجل بشيء من ذلك كما في قصة بني النضير، في قول الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الحشر:2] أي: الخوف والفزع، فلم يطمئنوا حتى هربوا وفارقوا ديارهم؛ وذلك بسبب هذا الرعب.

    وهكذا لما تحزبت الأحزاب وأحدقوا بالمدينة في سنة خمس بقيادة أبي سفيان ومن معه من قريش ومن غطفان ومن سائر المشركين، فلما اشتد حصارهم قذف الله تعالى في قلوبهم الرعب، وكذلك في قلوب من عاونهم فقال تعالى: إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [الأحزاب:9]، إلى قوله: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا [الأحزاب:26]، كل ذلك من آثار هذا الرعب.

    والصحيح عند العلماء أن هذا الرعب باق في قلوب أعداء الإسلام، سواء كان الذي يقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم أو صحابته أو من هو على دينه، فمتى صمد المسلمون لقتال عدوهم، ومتى حققوا إسلامهم وصححوا عقيدتهم، وسلموا من الدخل والدخن ومن الاضطراب في المعتقد؛ فإن الله تعالى سيلقي في قلوب أعدائهم الرعب والخوف؛ تحقيقاً لوعد الله تعالى بنصر نبيه: (نصرت بالرعب).

    قوله: (مسيرة شهر) يعني: إذا هم بغزو قوم وبينه وبينهم مسيرة شهر على الأقدام وعلى الرواحل؛ فإن أولئك الأعداء يخافونه وبينهم وبينه هذه المسافة، ولا يصبرون على مقابلته، وكذلك يكون حالهم مع أتباعه.

    الخصلة الثانية: جعل الله الأرض مسجداً وطهوراً لنبيه وأمته

    الخصلة الثانية هي الشاهد من باب التيمم، وهي قوله: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً).

    قوله: (وجعلت لي الأرض) يعني: وجه الأرض.

    قوله: (مسجداً) المسجد هو الموضع الصالح للسجود عليه والصلاة فيه.

    قوله: (طهوراً): والطهور معناه ما يتطهر به.

    يعني: أن الله تعالى فضل هذه الأمة ونبيها بأن أباح لهم أن يصلوا إذا أدركتهم الصلاة في أي بقعة، قد كان الأمم قبلنا لا يصلون إلا في كنائسهم وصوامعهم وبيعهم ومعابدهم وأديارهم، فلا يصلي أحدهم إلا في ديره الخاص به أو نحو ذلك، ولكن الله تعالى وسع على هذه الأمة، فالمسافر إذا أدركته الصلاة فلا يؤخرها، بل يصليها في أي بقعه من الأرض الطاهرة التي ليس فيها شيء مما نهي عن الصلاة فيه، إذ الأصل أن كل بقعة من الأرض تصلح أن تكون مصلى للمسلم إذا أدركته الصلاة.

    سمعت أن بعض الناس يحتج على جواز الصلاة في البيوت وفي الأسواق، ولكن ليس في هذا حجة، إنما الحديث حجة في أن المصلي إذا أدركته الصلاة وليس هناك موضع مخصص له، فإنه يصلي في تلك البقعة، أما إذا كان هناك مواضع للصلاة كالمساجد المبنية المهيأة لها، فإن المساجد إنما بنيت لأجل عمارتها بطاعة الله تعالى، والكلام على هذا ليس هذا موضعه.

    وأما كون الأرض طهوراً فمعناه أن من فقد الماء فإنه يتطهر بالتراب كما في آية التطهر به، وهي قول الله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [المائدة:6]، إلى قوله تعالى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [المائدة:6].

    سمى النبي صلى الله عليه وسلم الأرض طهوراً؛ لأن التيمم بها يرفع الحدث، والحدث هو ما يقوم بالبدن عند وجود ناقض من النواقض، فإذا انتقض وضوء الإنسان ولم يجد ماءً جاز له أن يتيمم بالتراب، ويقوم ذلك مقام الماء، توسعة من الله تعالى، ولم يكن ذلك في الأمم قبلنا، فإنهم لا يرتفع حدثهم إلا الماء ولا يباح لهم أن يتيمموا بالتراب، فعلم الله المشقة التي تنال الأمة لأجل فقد الماء فأباح لهم أن يتيمموا وأن يحبسوا ما معهم من الماء لطعامهم وشرابهم وغيرها.

    ولكن لا ينبغي التساهل في هذا غاية التساهل، فإن كثيراً من الناس يتيممون والماء قريب منهم أو معهم، فالماء إنما جعل ليطهر البدن طهارة ظاهرة، والماء لا شك أنه يرفع الأحداث ويزيل الأخباث ويطهر النجاسات، والتراب إنما هو مبيح للصلاة ورافع للحدث رفعاً مؤقتاً، وبشرط أن لا يوجد ماء؛ لقوله تعالى في الآية الكريمة: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [المائدة:6]، فإذاً لا يباح التيمم مع وجود الماء أو مع القرب منه أو مع توافره وتيسره.

    ذكر لي كثير من الإخوان أنهم خرجوا مع أناس والماء معهم كثير، حيث كان معهم سيارات محملة بالماء أو خزانات أو نحوها ملأى بالماء ومع ذلك يتيممون، هؤلاء لا يجوز لهم التيمم والحال هذه؛ لأن التيمم إنما شرع عند فقد الماء وهؤلاء معهم المياه التي في السيارات وفي الأواني الكبيرة، ولو كانوا سيجلسون مثلاً أربعة أيام أو خمسة أيام، ولكن ما دام معهم هذا الماء بهذه الكثرة فلا يحل لهم التيمم.

    وذكر أنهم يغسلون الأواني غسلاً بليغاً، فإذا أكلوا أو شربوا في إناء فإنهم يصبون عليه ماءً كثيراً، وإذا أكل أحدهم وغسل يديه غسلهما بماء كثير يتجاوز ما يتوضأ به الإنسان أو يغتسل به، ومع ذلك يتيممون إذا حضر وقت الصلاة، فلا شك أن هذا خطأ وأنه توسع في شيء ليس فيه هذا التوسع.

    كما ذكر أيضاً أن معهم عدداً من السيارات، وأن المياه قد تكون قريبة منهم، أو البلاد التي هم حولها قد تبعد عنهم نصف ساعة أو ساعة بالسيارة أو ما أشبه ذلك، وأنهم متى بدا لأحدهم غرض أو شراء شيء كنعل مثلاً أو ملح أو كبريت أو ما أشبهه حركوا لأجله سيارة، فإذا كان كذلك فباستطاعتهم إذا قل عليهم الماء أن يرسلوا سيارة ويأتوا بماء في براميلهم ولا يكون عليهم حينئذ نقص، ولو غابت السيارة يوماً من أجل الإتيان بالماء، فإذاً لا يجوز لهم التيمم.

    قد عرفنا بعضاً من المسافرين يحملون معهم الماء ويتوضئون به إذا كان في إمكانهم أن يصلوا إلى الماء بعد ثلاث ساعات، مع أنهم يسيرون على الأقدام وعلى الرواحل، وأدركنا أيضاً بعض أهل البوادي يرسلون إلى الماء لأجل الوضوء يوماً ذهاباً ويوماً إياباً، فيرسلون الراوي ليرتوي لهم فيغيب عنهم يومين، والماء في ذلك الوقت في غاية الصعوبة، وإنما يؤتى به في القرب، ومع ذلك لا يتيممون.

    فإذاً: لا ينبغي التوسع في مثل هذا، بل إذا خرج جماعة للنزهة وكان معهم هذا الماء فليستعملوه في الوضوء ولا يتيمموا والماء معهم بهذه الكثرة، أما إذا كانت المسافة طويلة أو كان هناك صعوبة في تحصيله أو يوجد ولكن بثمن رفيع، فحينئذ لا بأس بأن يعدلوا إلى التيمم؛ لأنهم معذورون في ذلك.

    الخصلة الثالثة: إباحة الغنائم للرسول صلى الله عليه وسلم ولأمته

    قوله: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي):

    الغنائم: غنائم المقاتلين، فإذا قاتل المسلمون أعداءهم وانتصروا عليهم فهربوا وتركوا أموالهم من دواب ومن أمتعة ومن مدخرات ونحو ذلك، وأخذها المسلمون واستولوا عليها وتقاسموها بينهم، فقد أباحها الله تعالى لهم كما في قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا [الأنفال:69]، وقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ من شيء [الأنفال:41]، يعني: اعلموا أن ما استوليتم عليه من الغنائم: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال:41]، فعرف بذلك أن الغنيمة كانت محرمة على الأمم قبلنا، وكانوا إذا غنموا جمعوا الغنيمة، فتنـزل عليها نار فتحرقها، أما هذه الأمة فإن الله علم ضعفها فأباح لها التمتع بها والتملك لها.

    الخصلة الرابعة: اختصاصه عليه الصلاة والسلام بالشفاعة العظمى يوم القيامة

    قوله: (وأعطيت الشفاعة):

    الشفاعة: المراد بها هنا نوع من أنواع الشفاعة وهي الشفاعة العظمى، وسيأتينا أقسام الشفاعة في توحيد العقيدة وأن النبي صلى الله عليه وسلم له عدة شفاعات، ولكن أكبرها هي الشفاعة التي يتخلى عنها أولو العزم من الرسل حتى تصل إليه صلى الله عليه وسلم، وهي الشفاعة العظمى، وتكون عندما يطول بالناس الموقف فيستشفعون بالأنبياء فيقولون: ائتوا آدم، فيقولون: يا آدم اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، ثم يأتون نوحاً عندما يعتذر آدم، فيقولون له كذلك، ثم يأتون إبراهيم ثم موسى ثم عيسى -هؤلاء هم أولو العزم- ثم يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها).

    هذه هي الشفاعة العظمى، وفسرت بالمقام المحمود كما في قوله تعالى: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، ولا شك أنها ميزة وفضيلة وخصيصة عظيمة له يوم القيامة يحمده بها الأولون والآخرون، هذه خصلة من الخصال التي ميزه الله تعالى بها وفضله على غيره من الأنبياء قبله.

    الخصلة الخامسة: إرساله وبعثه صلى الله عليه وسلم إلى الناس عامة

    قوله صلى الله عليه وسلم: (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة):

    يعني: أن كل نبي بعث إلى قومه خاصة، قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ [نوح:1]، وقال تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا [الأعراف:65]، يعني: أخاهم في النسب، وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا [الأعراف:73] يعني: في النسب أيضاً، وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا [الأعراف:85] يعني في النسب أيضاً.

    وبذلك كان كل نبي منهم يدعو قومه فيقول: يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ [نوح:2] كما في قول نوح، وهود كما في قول الله تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:65] فدعا قومه، فدل على أن رسالته خاصة بقومه، أما نبينا عليه الصلاة والسلام فقد فضل بفضائل كثيرة، منها عموم رسالته وبقاؤها واستمرارها إلى قيام الساعة.

    أما عمومها فلأنه بعث إلى الأسود والأحمر، وبعث إلى القاصي والداني، قال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28] يعني: أرسلناك للناس كافة أي: لكل الناس، وقال تعالى: لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19] أي: من بلغه القرآن فمحمد صلى الله عليه وسلم مرسل إليه.

    وأخبر عليه الصلاة والسلام عن عموم رسالته بقوله: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي، أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم لا يؤمن بي، إلا أدخله الله النار)، فهذه خصوصية.

    وأما بقاء شريعته واستمرارها إلى يوم القيامة فلأنه خاتم الرسل والأنبياء.

    1.   

    ذكر ما لا يجوز التيمم به

    والشاهد من حديث جابر ما بينه في الخصلة الثانية من كونه جعلت له الأرض مسجداً وطهوراً، يعني يتطهر بالتراب كما يتطهر بالماء.

    وقد بين العلماء أن هذا العموم قد يستثنى منه بعض الأشياء، وذلك لأنه جاء في بعض روايات الحديث: (وجعلت تربتها طهوراً)، فخص التربة، فقالوا: إذاً لا يتيمم إلا بالتراب، ولكن الصحيح أيضاً أنه يتيمم بالرمل، ولو لم يكن له غبار، ومعلوم أن الرمل لا غبار له ولكنه يعلق باليد، فكل شيء يعلق باليد إما غبار وإما رمل فإنه يتيمم به.

    وأما وجه الأرض على ما قاله بعضهم فلا، يعني كونه يتيمم بكل ما تصعد على وجه الأرض وأخذوا ذلك من قوله: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا [المائدة:6]. لكن نقول: لو كان مثلاً على صخرة، وكان في إمكانه أن ينزل ويجد تراباً فإنه لا يتيمم منها إلا إذا لم يجد غيرها.

    واشترط بعضهم التراب؛ لأن الله قال: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6] قالوا: كلمة: (منه) تدل على التبعيض، أي: أنه لا بد أن يعلق باليد شيء منه حتى يمسح به.

    واستثنوا ما كان نجساً فلا يجوز أن يتيمم بالأرض النجسة؛ لأن الله اشترط طيبها، في قوله: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [المائدة:6]، فإذا كانت نجسة فليست صعيداً طيباً.

    وكذلك إذا كانت محترقة كالرماد مثلاً فلا يتيمم به؛ لأنه لا يوصف بأنه طيب، وهكذا كل شيء محرق كالنورة وما أشبهها، وهكذا أيضاً ما ليس بتراب، كدقيق الحنطة ولو كان على وجه الأرض؛ لأنه لم يكن تراباً، ولم يكن من وجه الأرض ولا من الصعيد.

    فإذاً التيمم خاص بما كان على وجه الأرض مما هو من أجزائها ومما هو ملتصق بها.

    وفي هذا القدر كفاية لمعرفة ما أباح الله تعالى التيمم به، ومعرفة الحكمة والعلة التي لأجلها أبيح التيمم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756382590