الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
لا زال الحديث في أحكام النجاسات، ولما ذكر رحمه الله الأحكام المتعلقة بإزالة النجاسة والشيء الذي تزال به النجاسة، شرع رحمه الله في محل الرخصة، وهو الشيء المعفو عنه، فقال: (يعفى في غير مائع ومطعوم عن يسير دم من حيوان) هذه المسألة الأصل فيها حديث ضعيف روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (أنه يعفى في الدم عن قدر الدرهم البغلي)، ثم تأيد هذا الحديث الضعيف بعمل بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما أُثر عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عن الجميع، أنهم كانوا لا يرون في قليل الدم شيئاً، فربما عصر الواحد منهم البثرة -وهي الحبة الصغيرة التي تكون في الوجه أو في اليد أو في الساعد- فخرج منها يسير الدم فلا يتطهر ولا يغسل الموضع، فأخذ العلماء رحمهم الله من هذا دليلاً على مسألتين:
المسألة الأولى: أن يسير الدم النجس معفو عنه.
المسألة الثانية: هل يلتحق بالدم غيره؟ فمن العلماء من قال: أقصر الرخصة على محلها، فأعفو عن الدم وحده، لأنه هو الذي ورد به الخبر، وهو الذي فعله الصحابة رضوان الله عليهم، ويبقى غيره على الأصل.
وقال بعض العلماء: ما دامت العلة التخفيف وأن اليسير لا يأخذ حكم الكثير، فنطرد ذلك في كل ما وافقه، فنقول: يسير النجاسة معفو عنه، ثم استثنى وقال: (في غير مائع ومطعوم) والصحيح المذهب الأول: أن الذي يعفى فيه عن يسير النجاسة هو الدم وحده، فلو سألك سائل عن مذي قليل خرج من الإنسان بشهوة لنظر أو فكر وشعر بخروجه منه، فهل نحكم بنجاسة الثوب الذي أصابه هذا الذي أو لا نحكم؟ إن قلنا: يعفى عن اليسير، حكمنا بجواز وضوئه وصلاته دون أن يغسل الموضع الذي أصابه المذي، وإن قلنا: إنه لا يعفى عنه؛ فحينئذٍ يكون حكمه حكم النجاسة الكثيرة سواء بسواء، فعند ذلك يجب غسله والوضوء بعده، وهذا بالنسبة للمسألة التي ذكرها المصنف مفرّعة على هذا الأصل، والصحيح: ما ذكرنا من أن الحكم يختص بالدم، وأن ما عدا الدم من النجاسات قليلها وكثيرها لا يشمله الرخصة، على ما تقرر من اعتبار الدم نجساً، وقد سبق بيان دليل ذلك، وكلام العلماء رحمة الله عليهم فيه.
أي: يعفى عن أثر الاستجمار في محله، ومن المعلوم أن الإنسان إذا قضى حاجته؛ فإنه ربما غسل بالماء، وربما استجمر بالحجارة، أما لو غسل بالماء فبالإجماع أنه يجب عليه غسل الموضع وإنقاؤه، وأما لو كان بالحجارة فمن المعلوم أن الحجارة لا تنقي الموضع على سبيل القطع كما يحصل في الماء، بل لابد من بقاء أثر للنجاسة في الموضع، وهنا يرد السؤال: لو فرضنا أن هذا الموضع هو الدبر، فلو أن إنساناً قضى حاجته ثم استجمر بالحجارة فأنقى الموضع بالحجارة، فإن الموضع -الذي هو الدبر- سيبقى فيه يسير نجاسة، وهذا اليسير يقولون: إنه معفو عنه، ولكن لا يعفى إلا بما هو في موضع النجاسة، أما لو تعدى موضع النجاسة فإنه لا يعفى عنه قولاً واحداً، كما لو كان على صفحة الإلية ونحو ذلك فإنه لا يعفى عنه.
إذا تقرر أنه يعفى عن يسير النجاسة في الدبر أو القبل إذا استجمر الإنسان، فما الدليل على هذا القدر الذي يعفى عنه؟
الدليل: ثبوت السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالاجتزاء بالحجارة، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن من استجمر وأنقى الموضع -بمعنى: أنه حصل منه الإنقاء بالحجر الأخير دون وجود أثر- فإنه يحكم بكونه متطهراً، وإنما تأتي النجاسة؛ لأن هذا الموضع وإن وضعت الحجر عليه وخرج نقياً فإن الموضع لا يزال متغذياً بالنجاسة، فإذا عرق الإنسان أو جالت يده بالعرق فلابد وأن تصيب الموضع، فإذا عرق المكان الذي يلي الموضع وسرى هذا العرق إلى الثوب أو إلى السروال الذي يلي الموضع فهذا معفو عنه؛ لأننا لو حكمنا بنجاسته لدخل الناس في حرج لا يعلمه إلا الله عز وجل، وهذا صحيح؛ ولذلك قالوا: إنه أمر الشارع بغسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء -كما يقول الإمام الشافعي - قالوا: لأن الحجاز كانت حارة، كان الناس في الغالب لا يستجمرون إلا بالحجارة ولا يغسلون، وكانوا يعتبرون غسل الفرجين وضوء النساء كما أثر عن بعض السلف، فكان الغالب منهم الاستجمار، قالوا: ومع هذا فإن الشرع لم يأمر بغسل الموضع، وإنما اكتفى بالحجارة، فدل على أنه إذا عرق الموضع أو جالت اليد في الموضع فإنه يعفى عن هذا اليسير.
(لا ينجس) أي: لا يحكم بكونه نجساً، بل هو طاهر، وهذا أحد قولي العلماء رحمة الله عليهم أن الآدمي لا ينجس بالموت.
وقال بعض العلماء: الأصل في الميتة أنها نجسة، واستثني الآدمي المسلم لقوله عليه الصلاة والسلام: (المؤمن لا ينجس) فبقي الآدمي المشرك على الأصل، وأكدوا هذا بقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28] قالوا: لما كانت الميتة في أصل حكم الشرع نجسة كما نص الله عز وجل في غير موضع؛ فإننا نقول: إن كل ميتة نجسة إلا ما ورد الشرع بإخراجه، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن لا ينجس) وهو عام، والقاعدة: (أن الأصل في العام أن يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه)، قالوا: نحكم بكونه نجساً إلا ما استثناه الشرع من الميتات، وقد استثنى الشرع المسلم المؤمن بقوله عليه الصلاة والسلام: (إن المؤمن لا ينجس) واستثنى ميتة البحر بقوله: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) فلم يحكم بنجاسة ميتة البحر، قالوا: فبقي الكافر والمشرك على الأصل من كونه نجساً، وهذا بالنسبة للمذهب الثاني عند العلماء رحمة الله عليهم.
وهناك مذهب ثالث: أن المشرك نجس حياً وميتاً -والمذهب الثاني وسط بين المذهبين- قالوا: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن لا ينجس) يؤكد أن الكافر ينجس، لأنه لو كان الآدمي طاهراً؛ لقال: إن الآدمي لا ينجس، لكن كونه يقـول: (إن المؤمن) يدل على أن الكافر ينجس، قالوا: إما نجاسة موت بمفارقة روحه -ولذلك يعتبر من الجيفة والميتات- وإما بالعموم سواء كان حياً أو كان ميتاً.
واعترض عليهم باعتراضات وجيهة منها: قالوا: إن نساء أهل الكتاب حل لنا نكاحهن، وإذا جاز لنا نكاحهن فإنه لابد من مخالطة.
واعترض عليهم بقصة ثمامة بن أثال الحنفي ، فإنه رضي الله عنه أخذته خيل النبي صلى الله عليه وسلم وهو ماضٍ إلى العمرة فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وربطه في المسجد، قالوا: ولو كان نجساً لما أدخله النبي صلى الله عليه وسلم المسجد، هذا بالنسبة للاعتراضات التي اعترضت عليهم.
وأجيب عنها أما كون نساء أهل الكتاب حل لنا؛ فإن قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28] اختلف هل المشركون يدخل فيهم أهل الكتاب أو لا؟ فنقول: إن الآية وردت في المشركين ولم ترد في عموم الكفار، إذ لو كان أهل الكتاب داخلين فيها لقال: إنما الكفار نجس، لكن قال: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ [التوبة:28] ووجدنا أن القرآن يفرق بين المشركين وأهل الكتاب لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ [البينة:1] فلما فرق بينهم علمنا أن قوله: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28] هم عبدة الأوثان والذين لا دين لهم سماوي، فهؤلاء يحكم بكون الواحد منهم نجساً، هذا من الأجوبة.
وأما بالنسبة للأجوبة على قيمة ثمامة بن أثال فقالوا: إنه خارج عن الأصل لمكان الحاجة، والقاعدة: أن ما خرج عن الأصل لا يعترض به، ولا يرد به الاعتراض في الاستدلال.
وهذا حاصل ما ذكر في مسألة: نجاسة الآدمي، فقال المصنف: (وميتة الآدمي)، أي: لا يحكم بنجاستها، وهذا -كما قلنا- قول طائفة من العلماء رحمة الله عليهم ولما قال: (الآدمي) فهمنا أنه يستوي في ذلك الكافر والمسلم.
أي: أن ما كان مما لا نفس له سائلة وكان متولداً من طاهر فيعتبر طاهراً.
(ما لا نفس له سائلة) النفس تطلق بمعنى الدم، قالوا: سمي الحيض نفاساً لمكان الدم الخارج، كما في الصحيحين من قول النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة: (مالك أنفست؟) وسمي النفاس نفاساً لوجود الدم فيه.
فالنفس تطلق بمعنى الدم، وتطلق بمعنى الروح، واختلف هل هي والروح شيء واحد أو لا؟ وهو خلاف معروف، لكن المقصود: أن من إطلاقات النفس: الدم، فيقولون: كل دابة ليس لها نفس، أي: ليس لها دم كالبراغيث، والصراصير، وبنات وردان، وكذلك البعوض وما كان مثل هذه الدواب، أو كان من الهوام، فكل ما لا دم له قالوا: يحكم بكونه طاهراً؛ لأنه إذا مات فلا يعتبر من الميتات المتنجسة بالدم؛ قالوا: لأن الميتة ما حكم بنجاستها إلا لمكان احتباس الدم فيها، بدليل أنها لو ذكيت كانت طاهرة، فهذا مستنبط من مفهوم حكم الشرع، قالوا: لما كان الحيوان الذي يذكى بالذكاة يطهر ويحل أكله ويعتبر طاهر الأجزاء، والميتة التي ماتت حتف أنفها وانحبس الدم فيها يحكم بنجاستها، عرفنا أن ما يذكى طاهر، وما لا يذكى نجس، فإن كان الميت مما لا دم له فإنه يخرج عن هذا الوصف، فليس له دم يراق، فيعتبر من الميتة الطاهرة التي لا يحكم بنجاستها، هذا وجه من يقول بطهارة ما لا دم له.
مثال ذلك: الصراصير ونحوها، لكن يستثنى من هذا إذا خرجت من مكان نجس، فيقال: متنجسة، وفرق بين المتنجس والنجس، فالنجس بذاته، والمتنجس بعارض، ويمكن تطهيره، فلو خرجت من مكان نجس وهي رطبة حكم بكونها نجسة.
والدليل على أن ما تولد من طاهر يحكم بطهارته: أن السوس كان يصيب التمر، ولم يأمر الله عز وجل ولا رسوله صلى الله عليه وسلم باتقاء ما كان فيه سوس، وكان يوجد في الأطعمة، ويوجد في التمور، ويوجد في الحبوب، ويوجد في الدقيق ومع هذا كان يؤكل ولا ينكر على أحد ولا يحكم بكونه ميتة، وهذا يكاد -بالإجماع- يكون دليلاً على أنه طاهر؛ وبناءً على ذلك: فكل ما تولد من طاهر فهو طاهر، فمثلاً: لو كان هناك طعام وتولد من الطعام دود والطعام طاهر؛ فنقول: إنه طاهر، فلو مات هذا الدود في مكان، وجاء الماء على المكان الذي فيه الدود وأصبح متشرباً به ثم أصاب الثوب؛ فنقول: إن الماء طاهر؛ لأن هذه الميتة ميتة طاهرة ولا تعتبر نجسة.
(وبول ما يؤكل لحمه وروثه): الحيوانات تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أذن الشرع بأكل لحمه.
القسم الثاني: لم يأذن الشرع بأكل لحمه، ثم كل من هذين القسمين منه ما أجمع على حكمه ومنه ما اختلف فيه.
يقول المصنف رحمه الله: (وبول ما يؤكل لحمه وروثه) التقدير: طاهر، أي: آخر الكلام أو الحكم فيه أنه طاهر.
أولاً: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتاه أقوام من عكل وعرينة واجتووا المدينة أي: أصابهم الجوى، والجوى نوع من الأمراض مثل الحمى؛ لأن مناطق أهل البادية تكون نقية ونافعة، فإذا دخلوا المدن يحصل عندهم نوع من الأمراض؛ لأنهم ألفوا المكان الطلق النظيف، والجوى سببه -كما يقول الإمام النووي رحمه الله-: اختلاف الموضع عليهم. لأنهم ألفوا طلاقة الجو ونظافة ما يؤكل وما يشرب، بخلاف المدن التي تكون وخيمة بسبب كثرة الناس بها وضيق أماكنها، فأصابهم الجوى، والعلة في ذكر الجوى هي: معرفة طب النبي صلى الله عليه وسلم كيف عالج الشيء بمألوفه، حتى أن الأطباء يعتبرون هذا من الطب النبوي، فبعض الأمراض يكون علاجها بِرَد الإنسان إلى مكانه الذي نشأ فيه، قالوا: إنه يتأثر بأرضها وهوائها ومائها، وكان بعض الأطباء يداوي بالماء الذي يكون في الموضع الذي ولد فيه الإنسان، فردهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، فلذلك اختلف العلماء:
فقال بعض العلماء: إنما أمرهم أن يشربوا من الأبوال والألبان؛ لأنهم مرضى، مع أن البول أصله نجس، فكأنه يقول: إنما أجاز لهم شرب بول البعير لكونهم مرضى ومضطرين لذلك، وهذا مذهب الشافعية، أي: أنهم يرون أن بول البعير وما يؤكل لحمه نجس.
وقال الحنابلة ومن وافقهم: إنما أجاز لهم شرب البول؛ لأن بول ما يؤكل لحمه وروثه طاهر، فأجاز لهم شرب البول لا من جهة المرض ولكن من جهة طهارة الذي يتداوى به.
فقول الشافعية: إن البول نجس وإنما جاز لهم شربه للتداوي، شددوا فيه في باب الطهارة، وخففوا في باب التداوي. أما الحنابلة فقالوا: البول طاهر ولا يجوز التداوي بالنجس، فخففوا في باب الطهارة، وشددوا في باب التداوي، وهذا من مرونة الشريعة! فقد تجد القول في مكان شديد ولكنه في مكان آخر يسر ورحمة، وقد تجده في موضع يسراً ورحمة، وفي موضع آخر شدة وابتلاء.
فالمقصود: أن الحنابلة رحمهم الله يقولون: البول طاهر وجاز لهم شربه لكونه طاهراً.
ونحتاج إلى منهج أصولي في الاستنباط حتى نعرف أي المذهبين أرجح، فهؤلاء يقولون: هم مرضى وجاز لهم التداوي به لكونها ضرورة، وهؤلاء يقولون: لا. بل هو طاهر ولا يجوز التداوي بالنجس على الأصل الذي قرروه: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها) فنريد أن نعرف الراجح من القولين.
القول الذي يقول: إن بول الإبل والبقر والغنم ونحوها مما يؤكل لحمه نجس هو قول الشافعية، فيقولون: لأن في الحديث وصفاً وهو قوله: (فأصابهم الجوى)، وفي روايـة في الصحيح: (فاجتووا المدينة) أي: أصابهم الجوى، قالوا: فالوصف المذكور في الحديث -وهو الجوى والمرض- مشعر بالحكم وهو التخفيف والرخصة، هذا بالنسبة لمسلك الشافعية.
الحنابلة قالوا: قولنا أقوى وأرجح؛ لأننا وجدنا أدلة أخرى من السُّنة تـدل على أن البول طاهر، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر على بعيره وطاف على بعيره، فلو كان بول البعير نجساً لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على البعير؛ لأنه إذا بال أصابه طشاش بوله، ولابد أن البعير يصيبه شيء من الطشاش أو يبقى شيء في الموضع، قالوا: فكونه عليه الصلاة والسلام يصلي ويوتر ويطوف على البعير -وكلها عبادات تشترط لها الطهارة- يدل ذلك على الطهارة.
الشافعية يجيبون عن هذا ويقولون: إن هذا من باب الرخصة والتيسير وهو خارج عن الأصل، ويقولون: قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في معاطن الإبل، فلو كان روث البعير طاهراً لما منع من الصلاة في معاطن الإبل.
الحنابلة يقولون: إنه منع عن الصلاة في معاطن الإبل لعلة غير النجاسة، وهي كونها أماكن الشياطين، والإبل خلقت من شياطين كما ورد في بعض روايات السنن.
فالمقصود: أن أصح الأقوال وأقواها: أن بول وروث ما يؤكل لحمه طاهر، فقد ركب النبي صلى الله عليه وسلم بعيره، وطاف على البعير، وأوتر على البعير، وهذا كله ظاهر الدلالة على طهارته.
وأما بالنسبة للقول بأن هذه رخص فنقول: إنه أجاز الصلاة في مرابض الغنم، فلو كانت الفضلة نجسة لما أجاز النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في مرابض الغنم، ولاشك أن أقوى القولين هو: القول بأن بول وروث ما يؤكل لحمه طاهر، ومذهب الشافعية رحمة الله عليهم في أن فضلة ما يؤكل لحمه نجسة فيه من المشقة شيء كثير، ولذلك من أشق ما يكون إذا كانوا في المساجد وجاء الحمام والطير، فإنهم يعتبرون ذرقه نجساً، وبمجرد ما يصيب الثوب لابد أن يذهب ويغسل ثوبه، فيجدون من الحرج والمشقة ما الله به عليم، حتى إن بعض متأخريهم أفتى بأن ذرق الطيور والحمام في المساجد معفو عنه لمكان الحرج والمشقة، فإنه ربما يكون هناك زحام -كأيام الحج- فيقوم من بين الناس من أجل أن يغسل موضع النجاسة ويطهر المكان.
إذا تقرر هذا فإن أصح الأقوال: أن بول وروث ما يؤكل لحمه طاهر، ويستنبط هذا من أن النبي صلى الله عليه وسلم أدى الصلاة والطواف على ظهر البعير، وأجاز الصلاة في مرابض الغنم، ففهمنا من الصلاة على ظهر البعير أن فضلته طاهرة، وفهمنا من إجازة الصلاة في مرابض الغنم أن فضلتها طاهرة، ثم نستنبط معنى آخر للقياس ونقول: قد حكم صلوات الله وسلامه عليه بنجاسة لحم الحمر الأهلية لكونها محرمة الأكل، فإنه لما نزل تحريمها أمر بإكفاء القدور وقال: (إنها رجس) فحكم بكونها نجسة لما نزل تحريم اللحم، فأخذوا من هذا دليلاً -وهذا من أنفس ما يكون في الاستنباط- على نجاسته ونجاسة الفضلة تبعاً، وإذا ثبت هذا فنقول: الفاصل في الحكم بنجاسة الفضلات والخارج هو أنه إما أن يكون من المأذون بأكله أو غير مأذون بأكله، فإن كان من جنس ما أذن بأكله فهو طاهر، وإن كان من غير ما أذن بأكله فهو نجس.
(ومنيه) أي: مني ما يؤكل لحمه فإنه يعتبر طاهراً، وقد ذكر هنا مني الدواب؛ لأن كثيراً من المسائل تترتب عليها أحكام، فمثلاً: مني الدواب يباع، وهذا موجود في مختلف أنواع الحيوانات، وقد تقرر في الشرع -ويكاد يكون قول الجماهير خلافاً للحنفية- أن النجس لا يجوز بيعه؛ لحديث جابر بن عبد الله : (إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام) فإذا ثبت أن النجس لا يجوز بيعه، وحكمت على المني الخارج من الحيوان الذي يؤكل لحمه أنه طاهر، ففي هذه الحالة لو سألك سائل عن بيع مني الحيوان كما يفعل بالحقن وتحقن به الإناث من أجل أن تخصب وتنجب، هل يجوز أو لا يجوز؟ فعلى القول بنجاسة فضلته: لا يجوز بيعه؛ لأنه لا يجوز بيع النجس، وعلى القول بطهارتها: يجوز بيعه؛ لأنه طاهر أشبه بسائر الطاهرات.
الرطوبة: سائل يخرج من الموضع من المرأة، وسواء خرج عند الجماع أو خرج في غير وقت الجماع، أي: سواء خرج عند الشهوة أو في غير وقت الشهوة، فهذا السائل للعلماء فيه وجهان مشهوران:
القول الأول: أن هذا السائل طاهر.
القول الثاني: أنه نجس، وهذا وجه عند الحنابلة وقيل: إنه المذهب، ووجه عند الشافعية.
والأقوى -واختاره غير واحد من المحققين- والصحيح: أنه نجس، وقد دلت السُّنة على نجاسته، ويحتاج إلى تأمل حتى يتبين هذا الدليل.
ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليغسل ما أصابه منها) وكان في أول الإسلام إذا جامع الرجل أهله ولم ينزل لا يجب عليه الغسل، وفيه حديث صحيح حيث قال عليه الصلاة والسلام: (إنما الماء من الماء) وجاء في الحديث الصحيح أنه طرق على رجل من الأنصار كان يريده في حاجة، فلما خرج الرجل خرج كأنه منزعج، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لعلنا أعجلناك؟ إذا أعجلت أو أقحطت فلا غسل عليك) يعني: إذا لم تنـزل فلا غسل عليك، وكان ذلك في أول الإسلام، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ولكن ليغسل ما أصابه منها) فالذي يصيب الفرج عند الجماع من غير المني هو الرطوبة، فكونه يأمر بالغسل منه يدل على كونه نجساً، وهذا نص صحيح صريح قوي في اعتبار الرطوبة نجسة، وقد أشار إليه بعض المحققين، ومنهم الإمام النووي رحمه الله في المجموع، وبين أن الرطوبة نجسة، ثم القياس والنظر الصحيح يدل على نجاسته، فإن رطوبة فرج المرأة منزلته منـزلة المذي من الرجل، قالوا: إنها مذي المرأة، فكما أن مذي الرجل يكون منه فكذلك المرأة، وإذا كان المذي نجساً فإن الرطوبة تكون نجسة؛ لأن النظير يأخذ حكم نظيره، فلو لم يدل الأثر لدل النظر على نجاسته، والسُّنة حاكمة على كل قول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بين أنه مأمور بغسله دل على نجاسته.
وقوله: (ورطوبة فرج المرأة) هذا تخصيص، فدل على أن الرطوبة من سائر بدن المرأة تعتبر طاهرة ولا يحكم بنجاستها، فالرطوبة والعرق من سائر البدن طاهر، سواء من ذكر أو من أنثى، ولكن المراد الرطوبة في موضع مخصوص.
(وسؤر الهرة) وهي: القط، ويستوي في ذلك ذكرانها وإناثها، والسؤر: الفضلة، واحد الآسار، وهذا السؤر صورته: أن تأتي الهرة وتشرب من إناء أو وعاء ثم تبقى فضلة، فهذه الفضلة يحكم بطهارتها؛ وذلك لما ثبت في الحديث الصحيح عن أبي قتادة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه أصغى لها الإناء ثم قال: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات) وهذا يدل على أنها طاهرة، إذ لـو كانت نجسة لبين النبي صلى الله عليه وسلم نجاستها، وفيه تيسير ورحمة بالناس؛ لأن الهرة تخالطهم وتكون معهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام مشيراً لهذه العلة: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات). ولذلك يقول العلماء: هي نجسة ولكن حكم بتخفيف الحكم فيها لمكان المشقة؛ وذلك بقوله: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات) قالوا: إذ لو كانت طاهرة في الأصل لقال: إنها طاهرة، لكن كونه يقول: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات) كأنه يقول: إن هذا فيه حرج وفيه مشقة، فخفف من أجل الحرج ومن أجل المشقة، وهذا مسلك بعض العلماء، ولذلك قالوا: كل ما كان في حكم الهرة فسؤره طاهر، حتى قالوا بالتخفيف في السباع فإذا طاف على الإنسان وكان معه، كما لو أنه ربى أسداً للصيد أو نمراً أو نحو ذلك من السباع وخالطه كثيراً، قالوا: يعفى عن فضلته وسؤره.
قال: (وما دونها في الخلقة) (دونها) يعني: أقل منها، وإنما قال: دونها؛ لأن القياس يأتي على ثلاثة أوجه:
الأول: قياس الأعلى على الأدنى.
الثاني: وقياس الأدنى على الأعلى.
الثالث: وقياس المساوي. هذه ثلاثة أحوال للقياس.
ضابط كونه أعلى أو أدنى أو مساويه هو: العلة، فإن كان الفرع الذي تقيسه أولى بالحكم من الأصل فهذا يسمى قياس أعلى، أي: أنك ألحقت المستحق للحكم أكثر مما ورد به النص، مثال ذلك: الله عز وجل يقول: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا [الإسراء:23] نهى عن قول: (أف) فتقول: يحرم السب والشتم كما يحرم التأفف بجامع كون كل منهما أذية للوالدين، وقد تقول بصورة أخرى تنبه على كونه قياساً أعلى. التأفف للوالدين حرام فسبهما أولى بالحرمة لما فيه مـن بالغ الضرر، أو بجامع الضرر في كلٍ، وهذا بالنسبة لما يكون أعلى، أو مساوياً: كأن تقيس ما مثل الهرة في الحجم والقدر والتطواف على الهرة.
أو دون: أي ما يكون متخلفاً فيه بعض أوصاف العلة، فيكون الأصل أولى بالحكم فيه من الفرع عكس الأول، فلو قست شيئاً علته أدون من علة الأصل، يعني: توجد فيه ولكنها أخف من علة الأصل فتقول: إن هذا قياس أدنى.
الشاهد: أنه قال: (وما دونها في الخلقة) وهذا من دقة المصنف، لأن الأصل لما قال: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات) قالوا: إن هذا مبني على التطواف ولذلك يقولون: الأصل نجاسة السباع وما في حكم السباع مما يأكل الحشرات ويغتذي بها، فقال: هذا الأصل يقتضي المنع والحكم بالنجاسة، فإذا جئنا نقيس شيئاً على المرخص عليه فإننا نبحث عما هو دونه حتى يكون أبلغ في اللحوق، وأما إذا كان مثله فإنه يقوى رده إلى الأصل، وإذا كان أعلى منه فهو أولى أن يبقى على الأصل.
فالهرة سؤرها طاهر ويستثنى مما سبق مسألة ينبغي التنبيه عليها وهي: أن تراها قد أصابت نجساً ورأيته على فمها؛ فإن سؤرها نجس إذا تغير بذلك النجس، صورة ذلك: لو رأيتها اغتذت بميتة، ورأيت فضلة اللحم الذي نهشته أو النجاسة التي أصابتها على فمها، فجاءت إلى الإناء فشربت منه وأفضلت، وقد وجدت طعم ذلك التي أكلت أو شربت منه من النجس في الماء فحينئذٍ تحكم بكونه نجساً، وهذا التنجيس لعارض لا لأصل، لكن نبه العلماء رحمة الله عليهم على هذا، ولذلك قال بعض الفقهاء -كما هو موجود عند المالكية وغيرهم-: وإن رئيت على فمه عمل عليها، (وإن رئيت) يعني: رأيت النجاسة (على فمه) يعني: فم الهر أو السبع، (عمل عليها) يعني: حكم بحكمها إن أثرت في الماء فالماء نجس، وإن لم تؤثر فالماء طهور.
سباع البهائم كالأسود والنمور ونحوها وهي العادية، فالسبع العادي: هو الذي يعدو على الناس وعلى الدواب.
والطيور تنقسم إلى قسمين:
منها ما هو من السباع، ومنها ما هو من غير السباع، والغالب في سباع الطيور أن تكون من ذوات المخالب، ولذلك حرم النبي صلى الله عليه وسلم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، وتحريم أكل كل ذي ناب من السباع يدل على نجاسته؛ لأننا نلاحظ في حديث الحمر أنها كانت جائزة وكان أكلها جائزاً فلما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم بتحريمها أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإكفاء القدور، فهي لما كان أكلها حلالاً كانت طاهرة، ولما حرِّم أكلها أصبحت نجسة، قال العلماء: وهذا دليل واضح -وهذا استنباط العلة- على أن تحريم اللحم يدل على نجاسة ذلك المحرم إلا ما استثناه الشرع.
وإذا ثبت هذا: فعندنا سباع البهائم لا يجوز أكل لحمها، وإذا لم يجز أكل لحمها فإنها نجسة؛ لأن تحريم اللحم ذاته يدل على نجاسته، ومن ثم يكون سؤره وفضلته في حكم أصله المتولد منه، وهذا يقوي أنه نجس، ولذلك قالوا: إن سؤر السبع نجس، وشاهد الحس قوي، فإن السباع تغتذي بالميتات وتغتذي بالنجاسات، بل قَلَّ أن تغتذي بطاهر، ولذلك يقولون: إنه حكم بنجاستها لدلالة الشرع والطبع، فإن العادة والاستقراء تدلان على مخالطتها للأقذار والنجاسات في غالب أحوالها.
وسباع الطيور: كالنسور والشواهين، وكذلك الصقور العادية والباشق، ونحوها من الطيور العادية، كلها يحكم على فضلاتها وسؤرها بالنجاسة.
والحمار الأهلي: الحمار ينقسم إلى قسمين:
أهلي، ومتوحش، فأما الحمار الوحشي: فهو الذي يكون في البر، ويختلف، ففي بعض الأحيان يكون مختلط الألوان، وهذا يكاد يكون القول واحداً على طهارته وحل أكله، وأما بالنسبة للذي يكون له لون واحد وهو الباهت القريب إلى الأكحل فهذا مختلف فيه:
فقال بعضهم: إنه يأخذ حكم الأهلي.
وبعضهم يقول: يأخذ حكم البري.
وبعضهم يقول: إن وجد في البر أخذ حكم البري، وإن وجد في القرى والمدن أخذ حكم الأهلي، أي: أنه ينظر إلى موضعه، فحمار الوحش جائز أكله، وهو طاهر، وأما الحمار الأهلي فكان أكله ولحمه طاهرًا في أول الأمر، ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه في عام خيبر، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بإكفاء القدور، فأكفئت وهي تغلي بلحمها، وأمر بغسلها، فدل على أنه نجس، ولكن استثني من ذلك ركوبه، كأن يكون منه عرق أو نحوه، فهذا مستثنى لمكان الحرج والمشقة، ولذلك قالوا: البردع التي تكون عليه إذا أصابها عرق لا يحكم بنجاستها، وذلك لفتوى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أثر عن أنس رضي الله عنه أنه لما لقيه ابن سيرين بعين التمر وهو مستقبل الشام مستدبر الكعبة ووجهه من ذا الجانب، يعني: على غير القبلة وسأله، فقال: (لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ما فعلته) وكان قد صلى على حمار، فدل هذا على أن عرقه وما يخالط الإنسان عند الركوب من العرق والفضلة أنه يغتفر ويعفى عنه، هذا بالنسبة للحمار الأهلي؛ لأنه نجس، ويستثنى منه ما ذكرنا، أما الحمار المتوحش فهو طاهر ولحمه طاهر وسؤره طاهر أيضاً.
منها ما هو منتزع من ذكر وأنثى من جنسه، ومنها ما هو مختلط، يجتمع فيه ماء ذكر من نوع من الحيوان وأنثى من نوع آخر، وهذا الذي يحصل في البغال، فإنه ربما نزى الحمار على المهرة التي هي أنثى الفرس فأولدها بغلاً، ولذلك إذا خرج هذا البغل، فهنا يرد الإشكال: هل نعطيه حكم الأب، أم نقول: الولد للفراش وللعاهر الحجر؟!
قال بعض العلماء: الشرع يغلب جانب الأنثى؛ بدليل قوله: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر) وهذا باب عظيم في الطهارات وفي اللحوم؛ لأنك إذا حكمت بكونه يتبع للأنثى فتقول: الفرس يجوز أكل لحمه -عند من يقول بجواز أكل لحمه- فإن تولد البغل من الحمار الأهلي والمهرة من الأفراس فيحكم بكونه طاهراً يجوز أكله، وإن قلت: إني أغلب جانب الأب أو الذكر فتقول بحرمته، لكن الصحيح: أن هذا الباب ينظر فيه إلا أصل آخر، وهو: (أنه إذا اجتمع حاظر ومبيح قدم الحاظر على المبيح) وخاصة في باب المطعومات؛ لثبوت السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه إذا كان في الطعام جانب حظر وإباحة؛ غلب جانب الحظر؛ دليل ذلك حديث عدي ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (وإن وجدت مع كلبك كلاب غيرك؛ فلا تأكل) مع أنه يحتمل أن الذي صاده كلبه فيحل له أكله ويحتمل أن الذي صاده كلاب غيره فلا يحل، فقال: لا تأكل.
وقال له: (إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل، وإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك لنفسه) فبين النبي صلى الله عليه وسلم تردد الحظر والإباحة، فالكلب إذا أرسلته وأكل من الفريسة فيحتمل أنه أمسك لك فيحل، ويحتمل أنه أمسك لنفسه فلا يحل، فقال: (فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف -ليس بيقين- أن يكون إنما أمسك لنفسه) أخذ العلماء من هذا أصلاً عظيماً وهو: تقديم الحظر على الإباحة، واستنبطوا ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم فانتهوا) فجعلوا مرتبة الحظر أقوى من مرتبة الإباحة؛ ولذلك القاعدة تقول: (إذا اجتمع حاظر ومبيح فإنه يقدم الحاظر على المبيح)، وهنا عندنا البغل إن قلنا: نقدم فيه جانب الحظر فإنه يحرم وهو نجس، وإن قلنا: إنه يقدم فيه جانب الإباحة؛ فيحلّ ويكون سؤره طاهراً؛ إعمالاً للأصل الذي يقتضي طهارته، والمصنف رحمه الله ألحقه بما ذكرناه.
وقوله: (والبغل منه) لم يقل: (البغل) بإطلاق، ولكن قال: والبغل منه، أي: من الحمار الأهلي، فمفهوم ذلك أنه إذا كان من غيره وهو الحمار المتوحش فإنه لا يعتبر سؤره نجساً.
الجواب: باسم الله. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:
في الحقيقة أن السائل متأدب؛ لأننا نسينا الكلام على مني الآدمي، وجزاه الله خيراً.
اختلف العلماء: هل مني الآدمي طاهر أو نجس؟ وذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول يقول: إن مني الآدمي طاهر، وهو مذهب الشافعية والحنابلة.
والقول الثاني يقول: إن المني نجس سواءً من الرجل أو المرأة وهو مذهب المالكية.
والقول الثالث يقول: إن المني نجس، ولكن خُفف في طهارته، وهو قول الحنفية، فقالوا: إن كان يابساً يحك، وإن كان مائعاً رطباً يغسل، وهذه ثلاثة أقوال لأهل العلم، أصحها وأقواها: أن المني طاهر؛ وذلك لثبوت السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي فيه وإن بقع المني وأثرها في الثوب، ولذلك القول بطهارته قوي، وفيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقد اختلف في رفعه ووقفه: (إنما هو بمنـزلة المخاط) فنـزّل النبي صلى الله عليه وسلم المني منـزلة المخاط بجامع كون كل منهما فضلة عن البدن، والمخاط طاهر بالإجماع، فكذلك المني طاهر، إلحاقاً للفرع بالأصل، هذا بالنسبة لمسألة المني، ولذلك لما نزل الضيف على أم المؤمنين عائشة وأصبح وقد احتلم، وإذا به قد غسل ثوبه أنكرت عليه عائشة ، وقالت: (كنت أحتّه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يصلي فيه وإن أثره في ذلك الثوب).
فالأقوى: أن المني طاهر، والقول بنجاسته محل نظر، ولهم أدلة تكلمنا عليها في شرح بلوغ المرام، فمن أراد التفصيل والإسهاب فليرجع إلى شرح عمدة الأحكام أو بلوغ المرام، فقد ذكرنا فيه المسألة بالأقوال والأدلة والردود والمناقشات، والصحيح كما ذكرنا: أنه طاهر، ويجزئ فيه الحك إذا كان يابساً، ولا حرج عليك أن تصلي ولو كان في الثوب، والله تعالى أعلم.
الجواب: الذي يرمى بالحجارة، أو بما يسمى في العرف بـ(النبال)، الذي يصيب الطيور ونحوها، هذا فيه تفصيل:
إذا كان الحجر قد أصاب الصيد، ولهذا الحجر سن بحيث جرحت الطير وخزقته؛ فإنه يحل أكله، وهذا نادر ويكاد يكون شبه مستحيل في الرمي، لكن في بعض الصور قد يقع.
وأما إذا أصابه بالحجر ومات الصيد بضغط الحجر، سواء رماه بيده أو بالنبال أو بالمعراض؛ فإنه وقيذ، والوقيذ: هو الذي يموت بفعل الرض بالحجر أو نحوه، ولذلك لا يجوز أكله إذا كان وجده ميتاً، والدليل على اشتراط الخزق: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله عدي بن حاتم فقال: (يا رسول الله! إني أصيد بهذه البزاة وأصيد بكلبي المعلم وبكلبي غير المعلم ثم ذكر له المعراض، فقال صلى الله عليه وسلم: إن خزق فكل، وما أصاب بعرضه فلا تأكل).
فالمعراض هو السهم الذي يكون بدون سن، ومعلوم أن السهام كانت توضع لها حديدة تسمى: الزج، مثلثة في رأس السهم، وهذه الحديدة المثلثة التي في رأس السهم ذكر العلماء رحمة الله عليهم الحكمة منها -كما ذكر ذلك القلقشندي في كتابه: (صبح الأعشى ) والدميري في (نهاية الأرب)- يقولون: إن هذه تعين على عدم تذبذب السهم، فهذه الحديدة في العادة إذا أصابت فريسة فإنها إما أن تقتلها أو تعقرها، ولذلك إذا أصابها السهم ثم نزعته أضر ذلك بالفريسة، ففي بعض الأحيان تكون الحديدة غير موجودة، ويكون السهم غير مزجج -أي: ليس فيه الزج الذي هو من الحديد- فهذا السهم الـذي يـصيد يصيد بالعرض؛ لأنه إذا أصاب بالخزق يكون مثل الحديدة، فسأل أبو ثعلبة رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن صيده بالمعراض، لأن المعراض يأتي ويضرب الفريسة بالعرض، كأن تكون الفريسة طائراً أو نحوه فيترنح السهم فيضرب الفريسة، فمع الخوف وشدة الضربة تسقط الفريسة ميتة، فسأل عن هذا؛ لأنه ليس فيه إنهار للدم ولا خزق للفريسة، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن أصاب بعرضه؛ فلا تأكل، وإن خزق فكل) فركب الأمر على وجود الخزق، فالحجر في حكمه، إن أنهر الدم دخل في قوله: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه؛ فكل) وإن لم ينهر دماً ولم يخزق؛ فإنه لا يجوز أكلـه وهـو الـوقيذ؛ ولذلك قال الله تعالى في المحرمات: وَالْمَوْقُوذَةُ [المائدة:3] فالموقوذة محرمة بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، فالطيور التي تصاد بالحجارة دون أن تخزق هذه محرمة ولا يجوز أكلها، وهكذا بالنسبة للطلقات النارية، إن كانت الطلقة لم تخزق؛ فإنه لا يحل أكل الصيد، وأما إذا خزقت ودخلت فيه وأنهرت دمه؛ فإنه صيد حلال، ويجوز أكله، والله تعالى أعلم.
الجواب: لبن الحمار الأهلي ينفع للسعال، وهذا من غرائب الأطباء القدماء، فإن السعال يأتي في الصدر وفي الصوت فيمنع الإنسان حتى من صوته، وخاصة السعال الديكي، فنظروا إلى أقوى الحيوانات صوتاً ونفساً فوجدوا الحمار، فأدركوا أن الغالب أن لبنه تكون فيه هذه الخاصية، ولذلك يرضع صغيره كبيره كما قال تعالى: إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19].
فالمقصود: أن هذا قد نبه عليه ابن خلدون -ويقولون: إن الطب اكتشافه كان بالاستقراء والتتبع؛ لأن الله وضع الدلائل والعلامات والأمارات- فاستنبطوا من خصائص الحمار وقوة صوته أن يكون لبنه نافعاً في هذا، ولذلك يستثنون لبن الحمار إذا أعيت الحيلة- عند من يقول بجواز التداوي بالنجس عند الضرورة- ويقولون: إذا أعيت الحيلة في المريض بالصدر جاز استخدامه، وهذا يقع، خاصة في بعض الأطفال -أجارنا الله وإياكم- أن يحصل لهم هذا، وأذكر بعض القرابة أنه سقط كالميت ما وجد له علاج، حتى جاء طبيب شعبي -وهذا قبل قرابة ثلاثين سنة- وقال: لا علاج له إلا قطرات يسيرة من لبن الحمار في أنفه، وفعلاً -سبحان الله العظيم!- لما نقطت شفي بإذن الله عز وجل، وقد أشار إلى هذا بعض العلماء بقوله:
وجاز الانتفاع بالأنجاس في مـسائلاً نظم بعدها يفي
في جلد ميتة إذا ما دبغا ولحمها للاضطرار سـوغا
وشحمها تدهن منه البكرة عـظامها بها تصفى الفضة
ولـبن الأتن للسعـال والجلد للرئمان فيه جـالي
(لبن الأتن) الأتان: هي أنثى الحمار (للسعال) أي: الديكي ونحوه، (والجلد للرئمان فيه جالي)، في بعض الأحيان تموت الناقة أو البقرة فيمتنع صبيها أو صغيرها من الأكل، فماذا يفعلون له؟ يأتون بجلد أمه ويضعون فيه العلف، فإذا شم رائحة أمه أقبل على الطعام، وهذا من غريب ما يذكرونه. فقال:
(والجلد للرئمان فيه جالي)، الرئمان: صغار البقر.
(جالي) يعني: واضح من الجلاء، فهذه كلها مسائل تستثنى من الأنجاس؛ لأن الجلد نجس، ولو دبغ جلد البقرة لخرج ما ينتفع به صغيرها؛ لأن الصغير يريد أن يشم رائحة أمه ودمها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر