أما بعد:
أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أحييكم في هذه الليلة التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما سنسمع فيها، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يثيبكم خيراً على حضوركم واستماعكم، ونسأل الله أن يجعل مجلسنا هذا من المجالس التي تثقل فيها أعمالنا يوم القيامة، إن دراسة قصص الصحابة رضوان الله عليهم لها أهمية كبيرة؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم هم أولئك الجيل الذي رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على عينه، ولقنهم مبادئ الوحي ومضامين الرسالة التي أنزلت عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم هذه الأمة قاطبة جنها وإنسها، ولذلك فإن هذا المربي العظيم عندما يربي ذلك الجيل على تلك التعليمات الإلهية، كتاباً وسنة، فإن ذلك الجيل لا بد أن يكون جيلاً عظيماً، جيلاً تستفيد منه البشرية إلى قيام الساعة، وهذا الجيل -أيها الإخوة- عبارة عن أفراد تجمعوا وآمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم، وانصهروا في تلك البوتقة الإيمانية التربوية، حتى خرجت تلك النماذج، وصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم يتفاوتون في ميزاتهم، وصفاتهم الشخصية، ولذلك نجد أن أرأف الأمة: أبا بكر وأشدها في أمر الله: عمر ، وأكثرها حياءً: عثمان ، وأحسنهم قضاء بين الخصوم: علي بن أبي طالب ، وأعلمهم بالحلال والحرام: معاذ بن جبل ، وأعلمهم بالفرائض: زيد بن ثابت ، وأكثرهم أمانة: أبو عبيدة عامر بن الجراح، وأعلمهم بالقراءة -قراءة القرآن- أبي بن كعب ، فإذاً الصحابة رضوان الله عليهم كانت صفاتهم الشخصية واستعداداتهم وقدراتهم تتفاوت، ومن مجموع هذه القدرات وتنوع هذه الشخصيات، تكون ذلك المجتمع المسلم.
وقال عليه الصلاة السلام مبيناً فضائل ذلك الرجل في الحديث الصحيح: (ما أقلت الغبراء - الأرض- ولا أظلت الخضراء - السماء- من رجل أصدق لهجة من
أما بالنسبة لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيح الذي يقول: (يا
قال ابن عباس : قال أبو ذر : (كنت رجلاً من غفار -قبيلة غفار- فبلغنا أن رجلاً خرج بـمكة يزعم أنه نبي، فقلت لأخي: انطلق إلى هذا الرجل فكلمه وائتني بخبره).
وفي رواية: أن ابن عباس قال: (لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بـمكة ، قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي، - مكة ، لأنها في وادي- فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق -أي الأخ- حتى قدم مكة وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر ، فقال: والله لقد رأيت رجلاً يأمر بالخير وينهى عن الشر) وفي رواية: فقال: (رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاماً ما هو بالشعر -ليس شعراً- فقال
هناك أسباب ذكرها ابن حجر رحمه الله قال: لأنه عرف أن السؤال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذي السائل، أو أن السؤال عن الرسول صلى الله عليه وسلم يؤذي المسئول عنه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أن كفار قريش لن يدلوا السائل على الرسول صلى الله عليه وسلم لعداوتهم له، أو يمنعونه من الاجتماع به، أو يخدعونه حتى يرجع عنه ولا يقابله، ولذلك كان أبو ذر رحمه الله حكيماً عندما لم يسأل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى أدركه الليل. وفي رواية: أنه قال: (وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد -يعني: أجلس في المسجد الحرام، وأشرب من ماء زمزم- فاضطجع رضي الله عنه، فرآه
أي: كأنه يريد أن يضيفه مرة أخرى، يعرض عليه الضيافة، وفيها تلميح إلى أنه ما هو قصدك؟ ماذا تريد؟ (أما آن للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه فذهب به معه، قال: فانطلقت معه لا يسألني عن شيء ولا أخبره بشيء حتى إذا كان اليوم الثالث، فعل مثل ذلك -أخذه معه إلى منزله في المساء، ويرجع
وفي رواية: (قمت كأني أصلح نعلي -في هيئة الذي يصلح نعله- فإذا أنا فعلت ذلك فأمض أنت دون أن تلتفت) معناها: أن تتابع سيرك فيما بعد، قال ابن حجر رحمه الله: ويحتمل أنه قالهما جميعاً، قال: كأني أريق الماء، أو كأني أصلح نعلي (فاتبعني حتى تدخل مدخلي، ففعل، فمضى ومضيت معه، حتى دخل ودخلت معه، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه، فقلت له: اعرض عليّ الإسلام، فعرضه الرسول صلى الله عليه وسلم على
وفي رواية: (ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل -إذا بلغك أننا ظهرنا على أعدائنا فتعال إلي من بلدك- فقال: والذي بعثك بالحق، وفي رواية: والذي نفسي بيده، لأصرخن بها بين ظهرانيهم) يقول: لا أكتم الأمر، ولا أكتم إسلامي، وسأذهب وأصرخ بالشهادتين بين ظهرانيهم، أي: بين ظهراني المشركين في مكة ، (فخرج فجاء إلى المسجد وقريش فيه، فنادى بأعلى صوته، يا معشر قريش! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ الذي غير دينه، وثار القوم فضربوه حتى أضجعوه، وأتى
وفي رواية قال: (ويلكم تقتلون رجلاً تعلمون أنه من غفار وهي طريق تجاركم إلى الشام ) انظر إلى ذكاء العباس يقول: أنتم الآن تريدون أن تقتلوا رجلاً من غفار وطريق تجارتكم تمر من بلادهم، فيمكن أن يثأروا له عن طريق تجارتكم؛ فأنقذه منهم (فأقلعوا عني -أي كفوا عني- ثم أصبحت الغد، فرجعت فقلت مثلما قلت بالأمس! فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ فصنع بي مثلما صنع بالأمس -ثاروا إليه، فضربوه- فأكب عليه
وفي رواية: (فتنافر إلى رجل من الكهان، قال: فلم يزل أخي
معنى هذا الكلام أنهم كانوا في الجاهلية، يتفاخرون بالشعر، أيهم أشعر من الآخر، ويتحاكمون إلى رجل ثالث يقضي بينهم أيهما أشعر من الآخر، فهنا تفاخر أنيس مع رجل رآه في الطريق، فاحتكما إلى كاهن، وهذا عمل حرام، لكن هذا وقع منهم في الجاهلية قبل أن يسلموا، فاحتكما إلى كاهن أيهما أشعر وجعل أنيس القطيع الغنم الذي معه -الصرمة- رهناً، وذلك الرجل كان معه قطيع آخر جعله رهناً أيضاً، فالذي يفوز ويكون أشعر من الثاني يأخذ القطيعين كلهم ويمشي، فكسب أنيس ، (فأخذنا صرمته فضممناها إلى صرمتنا، فأتانا
وهنا يمكن أن نجمع بين الروايتين ونقول: إن أبا ذر طلب من أخيه في هذا الوقت أن يذهب إلى مكة ، ليعلم له خبر النبي صلى الله عليه وسلم يقول أبو ذر : (فراث علي -أي: أبطأ عليه أخوه، لم يأت بسرعة- ثم جاء فقلت ما صنعت؟ قال لي: لقيت رجلاً بـمكة على دينك) فـأنيس الآن يرى أن أخاه على التوحيد، فقال: حينما ذهبت إلى مكة وجدت رجلاً على دينك، يزعم أن الله أرسله.
وفي رواية قال لي: (أتيت مكة فرأيت رجلاً يسميه الناس الصابئ، هو أشبه الناس بك، قلت: فما يقول الناس عن هذا الذي ظهر في مكة ؟ قال: يقولون شاعر، كاهن، ساحر -وكان أنيس أحد الشعراء- قال أنيس لأخيه: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم -لست بكاهن- ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر -أي طرقه وأنواعه- فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر) لا يمكن أن يكون شاعراً لأني أعرف أوزان الشعر وطرقه فلا يمكن أن يكون كلامه شعراً (والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون، قال: قلت: فاكفني حتى أذهب فأنظر).
هنا كأن أبا ذر قال لأخيه: إني بعثتك لتأتيني بتفاصيل، والتي أتيتني بها غير كافية، أنت أتيتني بأشياء مجملة، فأنا أريد أن أستقصي بنفسي، قال: (فأتيت مكة ، وقبل أن يأتي مكة قال له أخوه: كن على حذر من أهل مكة فإنهم قد شنفوا له وتجهموا) أي أنه لما عرف حال الناس ضد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: انتبه من أهل مكة ، فإنهم قد أبغضوه وعادوه، وكادوا له، وهذا يدل على أن هذه القصة وقعت والدعوة في مكة أصبحت جهرية؛ لأنهم عادوه، فإذا عادوه وشنفوا له وتجهموا له معنى ذلك: أنه أعلن الدعوة، ولذلك وقفوا منه هذا الموقف.
قال أبو ذر : (فأتيت مكة فرأيت رجلاً فقلت: أين الصابئ؟).
وفي رواية: (فتضاعفت رجلاً منهم) أي: بحثت عن واحد ضعيف مسكين، يقول أبو ذر : (وسألت هذا الضعيف قلت له: أين الصابئ؟) ما قال أين محمد؟ ولا أين نبي الله؟ قال: أين الصابئ؟ فلماذا سأل رجلاً ضعيفاً؟
لأن العادة أن الضعيف لا يخشى منه، فيجيب بسذاجة ولا يخشى منه أن يكون رجلاً شريراً، فهو ضعيف، لكن يبدو أن ذلك الوقت كان وقت شدة، بحيث إن هذا الرجل الضعيف لما سمع أبا ذر يسأل عن الصابئ قال: (فرفع صوته عليّ، فقال: صابئ، صابئ، فمال عليّ أهل الوادي بكل مدرة وعظم) أي: نبه كفرة قريش قال: الصابئ، الصابئ هذا الذي يسأل عن الصابئ، فمال عليه كفار قريش بكل مدرة وعظم: كل حجرة وعظم رموا به أبا ذر ، فيقول: (فرماني الناس حتى خررت مغشياً عليّ كأني نصب أحمر) والنصب: هو التمثال الذي كان كفار قريش يقيمونه، وكانوا يذبحون عنده حتى يصير لون التمثال الصنم أحمر من كثرة الدم، فرموا أبا ذر وضربوه حتى سال الدم منه، كأنه الصنم الذي عنده الدماء، تصور كيف رموه حتى سال عليه الدم حتى كأنه نصب أحمر! قال: (فخررت مغشياً علي، فارتفعت حين ارتفعت، كأني نصب أحمر -من كثرة الدماء التي سالت- فأتيت زمزم فغسلت عني الدماء، وشربت من مائها، فاختبأت بين الكعبة وبين أستارها) وكانت بطريقة بحيث أن الواحد يمكن أن يختبئ بين الكعبة وبين أستارها (.. ولقد لبثت يا بن أخي ثلاثين بين ليلة ويوم، وما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فقط، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني) فالبطن إذا سمنت تتثنى، واللحم إذا سمن جداً ينثني، فلو رأيت شخصاً سميناً جداً قبض يده تجد أنه صار ينثنى، فهذه الثنيات تسمى: عكن، ولذلك في حديث: المخنث الذي كان يدخل على بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ثم منعه الرسول صلى الله عليه وسلم من الدخول؛ لأنه قال: إذا فتح الله عليك الطائف فعليك ببنت فلان؛ فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فإنهم كانوا من قبل يحبون تزوج المرأة السمينة، ولذلك يقول هذا الرجل: إذا فتحت الطائف عليك ببنت فلان؛ لأنها تقبل بأربع أي: أنها من شدة سمنها من الأمام أربع ثنيات، وإذا أدبرت من الخلف تصير الأربعة ثمانية، أربعة من الجهة اليمنى وأربعة من الجهة اليسرى، لأن العظم الفقري ينصف العكن هذه، فهذا الرجل ليس بذكر ولا أنثى، وهذه طبعاً خلقة من الله عز وجل في ناس من هذا القبيل، وكان يدخل على النساء، وحكمه أنه ليس برجل مكتمل الرجولة، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن ذلك الرجل بدأ يصف النساء يقول: هذه كذا .. فمنعه من الدخول على نسائه صلى الله عليه وسلم، والشاهد: يقول أبو ذر : (فتكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سُخفة جوع) وفي رواية: (سَخفة جوع) سمن من ماء زمزم حتى تكسرت عكن بطنه! سمن جداً وما أحس بالجوع مطلقاً.
فقال: (وما وجدت على كبدي سخفة جوع) أي: ضعف الجوع وهزاله ما أحسست به، قال: (فبينما أهل مكة في ليلة قمراء) أي مقمرة (أضحيان) أي: مضيئة ( إذ ضرب على أصمختهم ) وأصمختهم أي: آذانهم، ومعنى ضرب الله على آذانهم أي: أنهم ناموا في إحدى الليالي قبل الوقت، مثل قول الله عز وجل: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ [الكهف:11] أي: ناموا، وأبو ذر الآن مختبئ بين الكعبة وبين أستارها، قال: (إذ ضرب على أصمختهم فما يطوف بالبيت -في هذا الوقت، لأنهم ناموا- من كفار قريش إلا امرأتان منهم تدعوان إسافاً ونائلة) أي: الصنمين، إساف ونائلة، هاتان المرأتان المشركتان تدعوان إسافاً ونائلة، قال: (فأتتا عليّ في طوافهما) في المكان الذي هو فيه، فقلت: (أنكحا أحدهما الأخرى) أبو ذر الآن يسب آلهة المشركين ويقول لهاتين المرأتين: زوجوا إسافاً من نائلة، زوجوا هذا الصنم، لأن إسافاً كان ذكراً ونائلة كانت أنثى، وقيل: إنهما كانا أرادا فعل الفاحشة في المسجد الحرام؛ فمسخهما الله حجرين، وبعد ذلك عبدهم الناس، والغريب أنهم عبدوهم! فقال: (أنكحا أحدهما الأخرى) يشتم قال: (فما تناهاتا عن قولهما) بل استمرتا على الطواف، قال: ( فأتتا عليّ ) في الشوط التالي بعدها، فقلت: (هنٌ مثل الخشبة، غير أني لا أكني) والهن في لغة العرب: يطلق على الفرج أو الذكر، كناية، أي: لفظ لطيف يطلق على الفرج، ماذا يريد أبو ذر رضي الله عنه؟ سب آلهة المشركين وعابها، بأقذع السباب، وهذا جائز كما قال أبو بكر رضي الله عنه للمشرك في غزوة الحديبية ، أمصص بضر اللات، لأنها كانت أنثى، فقال أبو ذر : (هن مثل الخشبة غير أني لا أُكني، أو لا أَكني) أي: أنا الآن أقول لكم -أبو ذر يقول-: أنا أقول قصة الإسلام، أقول: هن، لكن لما قلت للمرأتين الكافرتين، ما قلت: هن بل قلت: الكلمة الأصلية، نكاية في سب آلهة الكفار ( فانطلقتا تولولان ) لما سمعن المسألة كذا .. انطلقتا تولولان، والولولة: الدعاء بالويل، وتقولان: (لو كان هاهنا أحد من أنفارنا) والأنفار: جمع نفر أو نفير وهو: الذي ينفر عند الاستغاثة، أي: تتمنى المرأتان أن يكون ناس من الكفار ينصرون الصنمين، قال: (فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم و
فكان أول ما أكل زبيب الطائف (ثم غبرت ما غبرت) أي بقيت ما بقيت (ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني قد وجهت لي أرض ذات نخل) أي: أني أريت جهتها، لا أراها إلا يثرب ، وهذا قبل أن تسمى المدينة ، طيبة أو طابة ، فمن أسماء المدينة : المدينة، أو طيبة ، أو طابة، أو يثرب ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن إطلاق هذا الاسم عليها فيما بعد، ولذلك يكره أن يسمي الإنسان المدينة بـيثرب وإنما يقول: المدينة أو طيبة أو طابة .
أما إطلاق بعضهم المنورة على المدينة ، فليس له أصل وليس بمعروف، وإنما هو نشأ حديثاً ومتأخراً، وإلا هي تسمى: المدينة أو طيبة، أو طابة ، ولكن الناس هكذا اصطلحوا مكة المكرمة ، المدينة المنورة.
فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فهل أنت مبلغ عني قومك؟) هل يمكن أن تذهب وتدعو قومك الآن، هلا ذهبت إلى غفار، ودعوتهم إلى الإسلام (عسى الله أن ينفعهم بك، ويأجرك فيهم) فرجع أبو ذر من مكة إلى المكان الذي فيه أنيس وأمه، فقال أنيس : (ما صنعت؟ قلت: صنعت أني قد أسلمت وصدقت، قال: ما بي رغبة عن دينك -أنا لا أكره دينك- فإني قد أسلمت وصدقت، فأتينا أمنا، فقالت: ما بي رغبة عن دينكما، فإني قد أسلمت وصدقت) هذه بداية الخير (فاحتملنا -أي: ركبنا إبلنا- حتى أتينا قومنا غفاراً، فأسلم لي نصفهم -بالدعوة إلى الله، أسلم نصف القبيلة- وكان يؤمهم
لا. بل يجب عليه أن يرجع إلى البلد الأخف شراً، أو إلى المجتمع المسلم، ليجلس فيه؛ لأن سلامة الدين أهم من جميع الأشياء الأخرى.
ولو أن شخصاً شاباً -مثلاً- في بيت فيه خادمات فاتنات، ويعلم هذا الشاب أنه لو استمر بالبقاء في بيت أبيه وهؤلاء الخادمات حوله ورفض أبوه النصيحة ورفض إخراج الخادمات، وهذا الشاب بدأ فعلاً يخشى على نفسه، ولاحظ بوادر ذلك، فهل يجوز له أن يبقى في بيت أبيه؟
لا. بل يجب عليه أن يخرج من بيت أبيه، ويسكن في بيت أقاربه أو يدبر له مكاناً، ولا يجلس في مكان الفتنة.
ولذلك فينبغي لصاحب النعمة إن كان خشي من حسد الناس، ومن العين مثلاً، ألا يخبر بالنعمة التي هو فيها، ويخبئها، لأنهم قد يفشلون مشاريعه وخططه، وقد يصيبونه بعين، أو يصيبون النعمة التي هو فيها بعين متلفة فتزول.
والأمر الآخر، مشكلة تصديق الشائعات والتهم، وخصوصاً كثير من الشائعات والتهم مصدرها الحساد، فهم لا يريدون أحداً أن يعلو عليهم في أي شيء من الأشياء، ولذلك لو أن شخصاً علا عليهم بالمال، أو علا عليهم بمنصب أو علا عليهم بالعلم، حتى بالعلم الشرعي مع الأسف، أي: تجد هذا بين بعض الذين لا يتقون الله من المنتسبين إلى العلم، يحسدون من فضله الله عليهم، فيكيدون له، وينشرون الشائعات عنه، ويتهمونه بالتهم الباطلة، ويتلبسون بلبوس الناصحين على قلوب الذئاب! وقد يقولون له كلاماً، إننا نخشى عليك .. أننا نخاف عليك .. وإننا كذا .. حتى ينحجب عن أداء دوره التعليمي بين الناس، وقد يسعون بالوشايات عند الناس حتى يزيلوه عن مكانه، وقد يتهمونه بالتهم الباطلة وينشرونها بين الناس، حتى ينفروا الناس عنه، انتبهوا! قد يكون داعية ناجحاً، فيأتون إلى من يدعوهم مثلاً فيقولون: فلان فيه كذا، وفلان فيه كذا حتى يصدوهم عنه، حسداً من عند أنفسهم.
وهذا الحسد مشكلة كبيرة، ولذلك ينبغي على الإنسان دائماً أن يقرأ المعوذات، وأن يستعين بالله على أولئك الناس، وهذه القضية لا يسلم منها إلا النادر، أي حتى الناس الذين فيهم استقامة وفيهم دين قد يقع منهم الحسد، وحصل هذا فيمن قبلنا لبعض الكبار، ولذلك عائشة أثنت على زينب في حادثة الإفك، أثنت على زينب بأن الله عصم زينب ، فهناك منافسة بين عائشة وبين ضرائرها، زينب ما تكلمت بشيء مطلقاً، بل إنها أثنت على عائشة مع أنها فرصة حيث اتهم الناس عائشة بالإفك، إذاً تخوض معهم، فهي فرصة بأن تنال من ضرتها.
ولذلك الحسد بين الضرائر من المشاكل التي ينبغي على الزوج أن يراعيها، ولعلنا نفرد إن شاء الله درساً خاصاً ربما للنساء عن قضية الغيرة، التي تحدث بين النساء وبين الضرائر بالذات، ومعالجة هذه المشكلة وكيف يمكن للمرأة أن تتغلب عليها، وكيف يكون موقف الرجل من هذه الأشياء.
ثم سافرت إلى مكان بعيد جداً، فوجدت رجلاً بنفس الصفات فإنك تحس أن هذين النفرين من أهل الحق متشابهان ولو لم يكن قد تلاقوا من قبل ولا عرف أحد منهم الآخر، ربما تسأله: أتعرف فلاناً؟ يقول: لا، وتستغرب كيف تشبه صلاة ذلك صلاة الآخر، وكيف كلام هذا عن السنة والبدعة مثل كلام ذلك الرجل، وكيف تصور هذا عن الواقع يشبه تصور ذاك، فتستغرب من التشابه والتطابق في الوجهات أو في المعتقدات والأعمال والآراء.
ولكن الذي يبرر هذا الأمر أن الحق -أيها الإخوة- إذا وقر في النفوس، فإن أتباعه يتشابهون أينما كانوا، وعمر رضي الله عنه كان من الناس المعروفين بأنه يصيب الحق، فقد تنبأ بأشياء، أو كانت عنده فراسة وإلهام، ألهمه الله بأشياء حصلت فعلاً، مثل أنه كان يتحرى نزول تحريم الخمر ويعلن بذلك، فنزل تحريم الخمر، وكان يتحرى نزول آية الحجاب، ويرى أنه وضع غير طبيعي أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتجبن ونساء المسلمين، فنزلت آية الحجاب، وكان رأيه في أسارى بدر صائباً موافقاً للقرآن، وأشياء أخرى، كان فيها رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه موافقاً للحق، وهذه قضية إلهام يلهمه الله عز وجل، فأحياناً أهل الحق الواحد منهم من قد يهتدي إلى شيء من غير تعليم؛ بسبب سلامة فطرته، وصحة تفكيره، يهتدي إلى الحق، ولو ما دله عليه ولا علمه إياه أحد، وهذا أبو ذر ما علمه التوحيد أحد، لكن الرجل فكر في الواقع، فليس من المعقول أن هذه السماء يكون خلقها هبل، وهذه الأرض والأشجار خلقتها إساف ونائلة، لا بد أن يكون هناك واحد أوجد هذه الأشياء وخلقها، ولذلك عرفه وصار يعبده، فمن الذي علمه؟ فأصحاب الفطر السليمة لا بد أن يهتدوا إلى الحق، وربما يتشابهون في أعمالهم ومعتقداتهم.
فإذاً: بعض المهمات العظيمة، والأشياء المصيرية لابد أن يطلع الإنسان عليها بنفسه، إذا ما اشتفى من كلام الموثوقين، لأن هذه قضايا مصيرية، فلا بد أن يتحرى عنها، ويسأل عنها ويطلع هو عنها بعينيه ويسمع بأذنيه؛ حتى يكون السند عالياً جداً بينه وبين الحق، أو بينه وبين الواقع الذي يريد أن يطلع عليه.
فهذا رجل ذاهب إلى مكان فيه تضليل إعلامي على الرسول صلى الله عليه وسلم، والناس في عداء شديد، فعرف من يسأل، قال: ( فتضاعفت رجلاً ) ما سأل أي واحد من الناس وقال: أين الرسول صلى الله عليه وسلم وأين محمد صلى الله عليه وسلم؟ وإنما: (تضاعفت رجلاً وقلت: أين الصابئ) وهذا فيه ذكاء في البحث، ويجب أن نعلم -أيها الإخوة- أن الإنسان قد ينتقل إلى مكان لا يعرف فيه أعداءه من إخوانه، ولا يعرف فيه أهل الحق المحقين من غيرهم، ولا يعرف فيه الأحسن من الحسن، ولذلك عليه أن يتحرى بدقة وبشدة، عندما يذهب إلى ذلك المكان، وأن يكون ذكياً في معرفة أهل الحق، كما كان هذا الرجل الصحابي ذكياً في معرفة أهل الحق، ما يقول: دلوني على فلان، ولا دلوني على الناس الذين صفاتهم كذا وكذا، لأنه قد يُضلِّل عنهم، وقد يواجه تضليلاً إعلامياً وقد يواجه تكثيفاً في الآراء والأقوال التي تصرفه، ولذلك كان كلام ابن حجر رحمه الله دقيقاً جداً قال: قد يؤذى السائل وقد يؤذى المسئول، وقد يصدونه عن صاحب الحق، وقد يمنعونه من الالتقاء به، وقد يخدعونه حتى لا يلتقي بصاحب الحق.
هذه نقطة مهمة جداً، وقد يخدعونه حتى لا يلتقي بصاحب الحق، ويضللونه، ويصرفونه بشتى الصوارف عن أصحاب الحق، فهذه قضايا خطيرة، قضية حق وباطل، ولا يصح للإنسان أن يحجب دينه الرجال في مثل هذه الأمور، أو يتبع كلام الناس، ويمشي مع الإشاعات وعلى السائد أو على رأي الأغلبية، بل لا بد أن يكون دقيقاً فطناً حذراً ذكياً وهو يتوصل إلى الحق وأهله.
وليس بلازم أن أول شيء يفعله هو أن يستهزئ بهم ومعتقداتهم، بل أولاً يدعوهم بالحسنى ويجادلهم بالتي هي أحسن، فإذا رفضوا فيستخدم مثل هذه الوسائل، ونلاحظ أن لكل مقام مقال، فكان أبو ذر رضي الله عنه، أديباً جداً هنا، يقول: (فقلت: هن مثل الخشبة غير أني لا أكني) أي: أنه لما صار مع الراوي وهو مسلم فليس هناك داعٍ أن يقول له الكلمة القبيحة التي قالها لسب آلهة المشركين، ولذلك أتى بكلمة (هن) هذه كناية، قال: ( غير أني لا أكني ) لكني ما كنيت، لما قلت للمرأتين الكافرتين ما كنيت، وهذا من الأدب في استخدام العبارات، وفي أن لكل مقام مقال يناسبه، عندما تقول للمسلم شيئاً، ترويه خلافاً لما تجابه به الكفار وأصنامهم.
فإذاً لا تظنوا أن السخافة التي نرى بها أصنام الجاهلية ومنطقهم ومعتقداتهم هم ينظرون إليها بنفس المنظار، فنحن قد أنعم الله علينا بالإيمان فقد نرى أن شبههم تافهة، لكن في منظارهم هم القضية أن هذا حق، وأنه كذا، وكيف يُنْتقص ولا بد من الدفاع عنه، فال الله عنهم: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ [الأنبياء:68].. أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص:6] لا بد أن نصبر على الآلهة، ولا بد أن ندافع عنها، هكذا ينظرون، ولذلك من الخطأ أن تأتي إلى شخص عنده شبهة وتقول: ما هذا الشيء التافه الذي أنت مقتنع به، فهذا لا يصلح؛ لأنه هو ما يرى أنه تافه، وهذا لا يعتبر رداً.
وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغشى أماكن التجمعات التي قد يوجد فيها أناس يأتون للتوحيد، مثل ما فعل علي بن أبي طالب مع أبي ذر رضي الله عنه.
وهنا نقطة نحب أن نذكرها: لماذا وضع الرسول صلى الله عليه وسلم يده على جبهته لما قال أبو ذر : من غفار؟
لأنهم كانوا قطاع طرق، يقطعون الطريق على الحجيج ويسرقونهم بالمحجن، وهو شيء مثل العكاز، أي: أن قبيلة غفار كانوا مشهورين بقطع الطريق على الحجيج وسرقة الحجاج، مع أن الحجاج كانوا مشركين لكن وصل بهم السوء إلى هذا، فالرسول صلى الله عليه وسلم فعل حركة عفوية كيف يأتي رجل من الناس الذين يسرقون الحجاج؟! وكأنه أراد أن يستوثق منه أكثر، فقال: (متى كنت هاهنا؟ ومن كان يطعمك؟) حتى توثق منه صلى الله عليه وسلم، ثم كلمه عن الإسلام.
والترغيب في الدعوة إلى الله، وعظم أجر الدعوة إلى الله، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم) وتصور أن الشخص إذا دعا فله من الأجر مثل أجور من تبعه، عندما تسلم قبيلة أو قبيلتان فكم من الأجر يكون لهذا الشخص؟! ألا يكفي مثل هذا الكلام، حتى يكون هذا محمساً لنا وباعثاً لنا على الانطلاق والتحرك والدعوة إلى الله عز وجل ونشر الخير بين الناس.
وكذلك الأسماء الحسنة، تدع المجال لمن أراد أن يتفاءل بالخير، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (غفار غفر الله لها) لو كان اسمهم: (كعب) أو كان اسمهم: (حرب) أو (كلب) مثل بعض القبائل، فهذه الأسماء لا تتيح مجالاً للتفاؤل، ولذلك حيث الرسول صلى الله عليه وسلم على الأسماء الحسنة، حتى يتفاءل بها.
مضى عليها سنوات طويلة جداً، من الذي قدمها لنا؟
مثل ابن عباس رضي الله عنه، قال: (ألا أخبركم بإسلام
وبعد ذلك -أيها الإخوة-هذا الأسلوب اللطيف من ابن عباس رضي الله عنه في التعليم: (ألا أخبركم) ماذا في هذا الأسلوب؟ إنه تشويق للسامعين، ألا أخبركم بإسلام، ما قال: يا جماعة! أنا عندي محاضرة ألقيها عليكم؟
فينبغي لمعلم الناس والداعية إلى الله أن يعرف طرق التشويق وشد الانتباه حتى يستقطب الأفكار، والأذهان، حتى يستطيع أن يدخل وهي مفتوحة، فالناس يتفاوتون في استقصائهم للحقيقة، فمنهم من يكون استقصاؤه سطحياً، ومنهم من يكون استقصاؤه أعمق، وطريقة بحثه أعمق، والطرق التي يتوصل بها أعمق، وهذا الفرق واضح بين أنيس وبين أبي ذر ، ولذلك أبو ذر اتبع طريقة وأسلوباً ما أتى بها أنيس ، فإذاً هذا يعود إلى نتيجة تفاوت الأفهام، وأن البحث عن الحق لا بد أن يكون استقصاءً عميقاً، وأن الاعتناء بالبحث عن الحق نابع من الاهتمام بالحق، فبعض الناس يقول: أين الحق؟ هات الدليل؟ أعطني شيئاً؟ فقد أعطيه أي شيء وأي دليل حتى لو لم يكن دليلاً حقيقياً ولا صحيحاً، فيقتنع به ويمشي، لكن الأذكياء الذين هداهم الله عز وجل لا يقبلون بأي شيء، ولا يقبلون أي طريقة وأي فكرة، فلا بد من التمحيص، والبحث، والتدقيق، فـأبو ذر جلس فترة طويلة، وجلس يدقق، ولا يسأل أحداً، وعلي بن أبي طالب مع أنه مسلم فكل واحد كان يخفي عن الآخر، وعلي لا يسأله خلال ثلاثة أيام، حتى صار فيه نوع من الاطمئنان ثم بدأ يتوغل معه ويسأله، فإذاً أوصي كل أخ يبحث عن الحق: أن يكون دقيقاً في بحثه، عميقاً، وألا يكتفي بالأشياء السطحية، أو الأشياء التي يراها عرضاً أمامه، أو الأكثرية، أو الرأي العام، وإنما يدقق حتى يصل إلى الحقيقة، وهذا سيكون من دقة فهمه وهو مأجور على هذا عند الله، لأنه ما اتبع أي شيء، بل فحص ومحص الأمور ولم يقلد الرجال، وإنما قارن حتى وصل بعلمه الذي اطلع عليه، كلام أهل العلم، قراءة الكتاب والسنة، حتى أيقن أن هذا هو الحق وأن هذا هو الطريق المستقيم، ومن الناس شخصيات جريئة تركب المخاطر للوصول إلى الحق، أبو ذر أول ما ضرب ما قال: تركت الأمر، بل استمر، وضرب حتى صار أحمر اللون، ومع ذلك استمر، فالناس شخصيات، ويختلفون في الجراءة، وبعضهم يركب الأهوال، وهذه فيها الثواب من الله عز وجل، حتى يصلوا إلى الحق، واهتمام الصحابة بالقادمين إلى مكة يتلقطونهم، فـعلي بن أبي طالب شاهد الرجل قال: كأنه غريب، فكان نبيهاً، وليس عندما رآه قال: ما عليّ منه اتركه، قد يكون مسافراً، بل ضيفه أول يوم، وثاني يوم، وثالث يوم، ثم فاتحه في الموضوع.
بقي نقطتان أو ثلاثة في قضية الجرأة في الصدع بالحق، وأن ذلك تابع للمصلحة، وطلب كتمان الحق؛ لأجل المصلحة، والفعل الحسن من العباس رضي الله عنه في انتقاء الشيء الذي أقنع به كفار قريش فعلاً بأن يكفوا عن أبي ذر .
وبعد ذلك أيها الإخوة فإن تلك الشخصية العظيمة، شخصية أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، الذي تحمل ما تحمل، لأجل الوصول إلى الحق، والتعرف على الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تابعه، ثم ذهب داعية إلى قومه واجتهد فيهم ثم هاجر إلى المدينة ، وشهد الغزوات، وبعدما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم ظل ثابتاً، وكان لا يخشى في الله لومة لائم حتى تأذى منه بعض المسلمين في صدعه بالحق في عهد عثمان ، وطلبوا منه أن يأتي به إلى المدينة ، ثم بعد ذلك ذهب إلى الربذة ، وتوفي بها رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجزاه الله عن المسلمين كل خير، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، سبحانك الله وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر