الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، نحمده سبحانه وتعالى في كل آن وعلى كل حال، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وخاتم رسل الله نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره وسار على هداه.
أما بعد:
فعنوان هذا الدرس: (الاستيعاب والاقتباس في الدعوة).
وهو موضوع من المواضيع الدعوية التي لها أهميتها فيما نحتاج إليها في الاستفادة من الدعوة، وتوسيع دائرتها، وتكثير الراغبين في التزامها وحملها والتفاعل معها، فإن أمر الدعوة إلى الله عز وجل أمر عظيم، هو وراثة النبوة والسير على هدي سلف الأمة، وهو المهمة التي جعل الله عز وجل شرف هذه الأمة مكنوزاً فيه، كما قال سبحانه وتعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] وكما شرف الله عز وجل أصحاب الدعوة وأربابها وحملتها والناطقين بها والرافعين للوائها بقوله سبحانه وتعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33] ولذا فإن تناول هذا الموضوع وغيره من الموضوعات، إنما هو لأهمية الدعوة، سيما في وقتنا المعاصر وفي بيئتنا الحاضرة، وكثير من الموضوعات المتعلقة بالدعوة هي اجتهادات قابلة للأخذ والرد، ومحتملة للصواب والخطأ، وهي في كثير مما تستخلص منه تجارب واجتهادات ناشئة عن علم وبصيرة، وعن ممارسة وتجربة، وهذا الموضوع هو عبارة عن رءوس أقلام؛ لأن التفصيل فيه يحتاج إلى تطويل، خاصة فيما يتصل بالأمثلة المتعلقة بالواقع المعاصر، وخاصة إذا استجبنا لما قد يطلبه الإخوة من إجابة على بعض التساؤلات في وقائع معينة، أو في صور ومشكلات يمرون بها ويتساءلون عنها، ولذلك سوف يكون ما نجمله إن شاء الله عز وجل معيناً على الفهم والتطبيق في أمثلة أخرى، وفي ممارسات كثيرة متعددة.
وهذا الإقبال أصبح أكبر بكثير من الجهود التي تبذل في مجال الدعوة، فإن الصحوة قد سبقت الدعوة، فإذا بكثير من العقول تستنير وتطلب العلم والفقه والفهم، وإذا بكثير من القلوب تستضيء وتطلب النعمة والإيمان والهدى والاستقامة قبل أن تصلها جهود الدعوة بالكلمة المسموعة أو المقروءة، أو بالدعاة الذي يجوبون البلاد والديار، وهذا السبق لم يكن سبقاً عادياً أو محدوداً، بل كان سبقاً كبيراً ومنتشراً، فلذلك لابد من الحديث عن الاستيعاب لهذه الجموع الغفيرة المقبلة على الخير الراغبة في هذا الدين ونصرته وتأييده وحمل رسالته ونشر دعوته في كل مكان، ولا شك أن الناحية النظرية تقصر كثيراً عن الناحية العملية في مسألة الاستيعاب الذي سأذكر مرادنا منه والنقاط التي سأتعرض لها ضمن هذا الموضوع.
ولذلك لا يمكن لأرباب الدعوة الإسلامية أن يتألفوا القلوب، وأن يرشدوا العقول دون أن يطوروا أساليبهم، ودون أن يفكروا في اجتهاداتهم، وأن يراجعوا حساباتهم؛ ليستطيعوا أن يكونوا أكثر قرباً من المسلمين والمجتمعات الإسلامية من أولئك الأشرار، وليكونوا أيضاً أكثر إقناعاً للناس وترغيباً لهم في هذا الحق والخير الذي تخفق به قلوبهم وتطمئن إليه نفوسهم، ولذلك لابد لنا من أن نتحدث عن الاستيعاب والاقتباس في الدعوة، عل هذا الحديث يثير تفكيراً متواصلاً وتجارب متتابعة تزيد من قوة الدعوة وقدرتها على كسب مزيد من المسلمين إلى صفوفها وإلى رحابها الواسعة الخيرة.
لقد كان في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام أنموذج الداعية الذي يستوعب كل صنف من أصناف البشر في كل حالة من حالات الحياة عبر كل ظرف من ظروف الزمان والمكان، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام مثالاً يقتدى به، فلقد اشرأبت إليه الأعناق، وأحبته سويداء القلوب، وتعلقت به الأمة كلها، حتى إن مخالفيه شهدوا له بالحق والعدل والفضل؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان الداعية الكامل الذي ينبغي أن يحتذى ويقتدى به.
فهذا على سبيل المثال ثمامة بن أثال ، وقد كان على كفره، فأسره بعض المسلمين واقتادوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فربطه في المسجد عليه الصلاة والسلام لينظر إلى هذا المجتمع المسلم كيف يؤدي صلاته وعبادته، وكيف يسجد لربه ومولاه، وكيف يطيع رسوله وقدوته صلى الله عليه وسلم، وكيف تمتزج صفوفه وتلتحم، وكيف تأتلف قلوبهم وتعتدل، وكيف يمثل نموذجاً للمجتمعات البشرية على أرقى مستوى يمكن أن يعيشه الإنسان في هذه الأرض، وإذا بهذا البصر لذلك الكافر، وبذلك العقل لذلك المعرض، وبذلك القلب لذلك الذي حرم من نور الإيمان يفكر ويشتغل ويتدبر، ثم يخاطبه النبي عليه الصلاة والسلام فيقول له: (أما آن لك يا
وكذلك الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه وأرضاه، جاء إلى مكة وسبقت إلى أذنه الدعايات المغرضة، والحملات الإعلامية المشوهة أن لا تسمع محمداً صلى الله عليه وسلم ولا تجلس إليه؛ لأنه يفرق بين المرء وزوجه، ولأنه يسفه أدياننا وتراثنا وآباءنا وأجدادنا. وظلوا به كذلك حتى نجحوا نوعاً ما، لكنه نجاح هزيل لا يعتمد على قوة الإقناع، نجحوا إلى أن وصل نجاحهم أن أخذ كرسفاً -أي: قطناً- ووضعه في أذنيه ليصم أذنه عن سماع محمد صلى الله عليه وسلم، وكما نقول: حبل الكذب قصير. ثم إنه فكر بعقله وقال: أنا رجل من عقلاء الناس أعرف الكلام صوابه وخطأه، وأعرف الشعر نظمه ونثره، فلماذا لا أسمع فإن وجدت خيراً عرفت، وإن وجدت شراً أنكرت؟! فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فما هي إلا كلمات يسيرة حتى دخل الإيمان قلبه، وأقنعت الحجة عقله، وانقلب من فوره إلى مسلم لا يقبل بعلاقة مع زوجه ومع أبيه إلا أن تكون علاقة بمقياس هذا الدين، ووفق حقيقة التوحيد.
وهكذا سهيل بن عمرو الذي جاء يفاوض في صلح الحديبية بغطرسة الكفر، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لـعلي : (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم).
فيقول سهيل: لا، ولكن اكتب: باسمك اللهم. فيغض النبي صلى الله عليه وسلم الطرف؛ لأنه يريد أن يسحب الحجج الشكلية الواهية، وأن يبتعد عن المعارك الجانبية الكاذبة ليخلص إلى جوهر الموضوع، قال سهيل اكتب: باسمك اللهم. فقال لـعلي: (اكتب: باسمك اللهم)، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (اكتب: هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله) قال: لو كنا نعلم أنك رسول الله لما قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـعلي: (اكتب: هذا ما عاهد عليه محمد بن عبد الله).
وفي بعض الآثار أن علياً رضي الله عنه أبى أن يكتب من غيظه لتعنت المشركين، لكن النبي عليه الصلاة والسلام أصر عليه، وفي بعض الآثار والروايات أنه قال لأصحابه: (أشيروا على مكانها. فلما أشاروا إلى موضعها مسحها عليه الصلاة والسلام بيده) وهذا يمثل لنا قمة القدرة على ضبط النفس لأجل استيعاب الموقف وإقامة الحجة وإعلاء الراية.
وهكذا في مواقف شتى أختمها بحديث معاوية بن الحكم السلمي الذي نعلم من قصته لما صلى وعطس في الصلاة، ثم حمد الله وسط الصلاة، ولم يكن يعرف النهي عن الكلام في الصلاة، قال: (فجعلوا يحدون النظر إلي -يعني: الصحابة- قال: فقلت -على طبيعته وسليقته في أثناء صلاته-: واثكل أمياه! مالكم تنظرون إلي؟! قال: فجعلوا يضربون على أفخاذهم فعلمت أنهم يسكتونني فسكت، فلما قضيت الصلاة دعا بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي فوالله ما نهرني ولا كهرني ولا ضربني، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده خيراً منه قط، إنما قال لي: إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الناس).
وهكذا أمثلة كثيرة جداً، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مراتب الاستيعاب عند الناس؛ لأنه ليس كل الناس يستوعبون الأمر كاملاً، ولا يأخذونه على تمامه، فقال عليه الصلاة والسلام: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله عز وجل ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله).
إذاً لابد من أن نعرف أن منازل الناس تتفاوت بتفاوت أفكارهم وهممهم وحماسهم وقوة عزائمهم، فينبغي لنا أن نسير بسير الضعيف، وكما قيل: سيروا بسير أضعفكم. وكما قيل: الضعيف أمير الركب. هذا من حيث النظرة العامة، أما عندما نطلب مهمات خاصة وأموراً ذات حساسية كبيرة وقضايا ذات أهمية خاصة فلابد من أن نطلب لها الأكفياء الذين عندهم من المؤهلات ما يناسبها، أما أن أطلب من الرجل العامي المسلم الضعيف الذي لم يتلق تعليماً عريضاً، ولم يحفظ من القرآن والسنة والفقه شيئاً كثيراً فإنني أحمله ما لا يطيق، فإذا حملته ما لم يطق أدبر وولى، وإذا لم أستوعبه خسرته، وخسرت كذلك الطاقة الدعوية الموجودة عنده التي كان ينبغي أن تستثمر وأن يستفاد منها.
ولقد كانت امرأة عجوزٌ على عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم تقم الأذى من المسجد، فلما ماتت وهي امرأة عجوز ليس لها تلك المنزلة العالية غضب لها النبي عليه الصلاة والسلام حين لم يؤذنوه حتى يشهد دفنها عليه الصلاة والسلام.
والحكمة -أيضاً- مطلوبة، فإنه قد يضيق الوقت، وقد لا يمكن بذل الجهد، لكن لابد من أن يكون هناك الحكمة التي يخلص بها الداعية مما يطلب منه ولا يستطيعه في صورة مؤدبة وحكيمة، فقد جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام حكيم بن حزام فسأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه أي: طلب حاجته، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يصده ولا يمنع عنه عطاءه؛ لأنه يريد أن يكسب القلوب وأن يتألفها، وأن يجعل القلوب تتعلق بالداعية الذي يمثل الدعوة ويمثل القدوة، بل قال له عليه الصلاة والسلام: (يا
فلابد من الصبر والحكمة عندما يجهل الجاهل، وعندما يخطئ السائل، وعندما يعترض المعترض، لابد من أن يكون مع الصبر حكمة تسدده وتصوبه.
قال الرافعي الأديب رحمة الله عليه في وصف الذي يعتزل الناس: لماذا يعتزل؟ ولسان حاله يقول: إنه يعتزل لما في المجتمعات من فتنة وفساد وكذا.
قال الرافعي : ولعمري إن اعتزاله لرذيلة الرذائل.
ماذا سنستفيد من هذا الاعتزال؟ هل ستصلح به الحال؟ بل كما قال: لم نعرف صدقه ولا أمانته ولا سريرته وهو معتزل بين أحجار وكهوف لا يتعامل مع الناس، فيخبرون وعده إذا وعد، وصدقه إذا قال، ونجدته إذا استنجد به.
ولذلك لابد للدعاة من أن يخالطوا الناس، وأن يعرفوا معاناتهم في حياتهم اليومية، وفي مناهجهم التعليمية، في وسائلهم الإعلامية، وفي مشكلاتهم الاجتماعية، وفي عاداتهم وتقاليدهم، عندئذ يمكن من خلال المخالطة والمعاناة أن يكون الداعية بتوفيق الله عز وجل قادراً على أن يلمس الجراح، وأن يضع عليها نقاطاً من الدواء الذي يكون فيه الشفاء بإذن الله عز وجل.
وإنما يستعبد الناس الإحسان، كما قال الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان
فلابد من سماحة وطلاقة وجه، وحسبنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أرشدنا إلى مفتاح القلوب، وإلى السلاح الذي يكسر الحواجز والأبواب حول النفوس التي غلفتها الأهواء عندما قال: (تبسمك في وجه أخيك صدقة)، فما أحسن ذلك الرجل الذي تلقاه فتلقى ابتسامته تشرق كأنها شمس النهار، فيدخل السرور على قلبك، ويبدد ما علاك من الهموم، ويمسح عنك ما قد خالطك من الأحزان والأرزاء، ولا شك أن الداعية يلقى عناء كثيراً ومشكلات ومواعيد وكذا فيتبرم ويضيق، لكنه يكظم غيظه، ولا يبدي للناس إلا السماحة والكرم، فإذا جاءه الناس كان بيته مفتوحاً، وإذا أتاه السائلون كان ماله مبذولاً، وإذا استشاره المستشيرون كان نصحه جاهزاً ومبذولاً، فلابد من أن يكون على هذا النحو؛ لأنه إن كان كذلك استمال القلوب وارتبط الناس به.
ونحن نعلم أن أعداء الله عز وجل من النصارى واليهود وغيرهم قد دخلوا إلى كثير من ديار المسلمين عبر هذه الأبواب الثلاثة: باب الجهل، والفقر، والمرض، واستغلوا حاجة الناس فقدموا لهم الخدمات، وقدموا لهم معها الدعوات.
ونقول: إن الدعاة أولى الناس بهذا من الأعداء، هذا إذا أرادوا أن يستوعبوا وأن يؤثروا.
إذاً على الدعاة أن يكونوا أصحاب النجدات والتضحيات والمروءات، والمسابقة إلى تقديم الخدمات في كل المجالات، ولذلك لو نظرنا إلى بعض آثار هذا الإقبال على الدعوة والخير والإسلام سنجد أن من أسبابه أن الدعوة والدعاة وأن أهل الخير والصلاح وجد الناس -عندما خافوا- بعض أمنهم في هؤلاء الدعاة، ووجد الفقراء -عندما احتاجوا- سد حاجتهم في أموال الدعاة، ووجد الناس عندما مرضوا نجدتهم وإعانتهم من أرباب الصلاح والخير والدعوة والرشاد، ولذلك توجه الناس -بحمد الله عز وجل- توجهاً طيباً نحو الخير بإذنه سبحانه وتعالى وتوفيقه.
والاقتباس: هو استغلال الجوانب الحياتية والعلوم المادية في خدمة الدعوة واحتياجات المجتمعات الإسلامية.
إن هذا الدين الكامل الشامل جاء صالحاً لكل زمان ومكان، وجاء متواكباً مع كل جديد نافع، ليس فيه ما يتعارض مع علم صحيح، ولا مع خير يسوقه الله عز وجل للناس في هذه الحياة الدنيا، ولذلك من أهم أبواب الاستيعاب الاقتباس، وكما أشرت في أول الحديث فإن كل الموضوعات فيها حاجة إلى تفصيلات، ولكن حسبنا التأصيل والتذكير بالأصول المهمة التي يمكن أن تنبه على غيرها، وأن يستفاد منها في مجالات أخرى أكثر.
الجواب لا حرج؛ لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد اقتبس والتمس مما ينفع الأمة في مجالات الوسائل والتبليغ للدعوة والتأثير في حياة الناس وتقديم حلول المشكلات شيئاً كثيراً عظيماً، وجاء من بعده من أصحابه، فكانت أبواب الاقتباس والانتفاع أوسع وأوسع، سيما في عهد الخليفة العادل الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه دون الدواوين، وأنشأ ما لم يكن على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من أمور المسلمين العامة، ومن المصالح المرسلة التي يحتاجون إليها، والتي ينتفعون بها دون أن تكون متعارضة مع دين الله عز وجل، ولا مخالفة لنص شرعي، ولا لقاعدة كلية من قواعد هذا الدين العظيم، ولذلك جعل دواوين للجند، فجعل هناك جيوشاً نظامية وكتب أسماء أفراد الجيوش لتصرف لهم الرواتب، وجعل هناك نظاماً للبريد، وجعل هناك أنظمة أخرى كثيرة، وأوجد أنظمة للعس والمراقبة الليلية، وأوجد أشياء كثيرة مما تحتاجه الأمة، واقتبس هذا مما كان في الأمم من حوله، ومما أدى إليه اجتهاده مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم أجمعين.
إذاً لابد أن ندرك أن هناك حاجة ماسة للاقتباس في مجالات الدعوة، وأن الدعاة الذين يمارسون العمل الدعوي والتوجيه للمجتمع عبر كل صورة من الصور، وخلال أية وسيلة من الوسائل يحتاجون كثيراً إلى أن ينتفعوا وأن يقتبسوا ممن ليسو على ملة الإسلام؛ لأنه كما ورد في الحديث: (الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها)، وهذا حديث مرسل من رواية زيد بن أسلم رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه الترمذي وغيره، لكن المعنى فيه واضح وصحيح وصريح أن الإنسان المؤمن ينبغي أن يكون كيساً فطناً يستفيد من كل شيء حوله ما دام أنه ليس هناك ما يمنع من ذلك شرعاً.
إذاً لابد من أن نفهم وأن نهضم هذه الأساليب الإدارية حتى نخرج النتيجة في صورة عملية تنفع الدعوة ويستفيد منها الناس.
فهؤلاء أصحاب صلاح وتقوى وعبادة، لكن لا نأخذ منهم الحديث؛ لأنهم ليسوا متخصصين في علم الحديث، ليسوا حفاظاً، ولم يضبطوه لم يتفرغوا له، ولذلك أضرب مثلاً قد يكون طريفاً لكنه في صميم المسألة، أقول: عندما تعرض لك مسألة فقهية قد ترجع فيها إلى إمام المسجد، وعندما تحتاج إلى مشكلة اجتماعية قد تستشير فيها إمام المسجد، ولكن ما رأيك في رجل تعطلت سيارته وشكا إلى صديق له هذه المشكلة فقال له: اذهب بها إلى المهندس. قال: لا، لكن -إن شاء الله- سأعرضها على إمام المسجد. فقال الصديق: يا أخي! إمام المسجد ليس عنده علم بهندسة السيارات، فقال: لا. إن إمام المسجد رجل طيب صالح.
قلنا: صلاحه ليس له تأثير في هذه المسألة، ولا شك أن هناك تأثيراً للصلاح بالجملة، لكن التخصص له دور، فإذا أردنا أن نقتبس من علم الإدارة فلنأت بأهل علم الإدارة المتخصصين من أهل الخير والتقوى ليفيدونا وليبينوا لنا هذا العلم، وما يمكن أن نستفيده منهم، وإذا أردنا أن نستفيد من الإعلام ووسائله وطرائقه فلابد من أن نأتي بمن يعرف الإعلام، أما أن يكون الداعية هو الذي يفهم كل شيء ويعرف كل علم فهذا الذي أظنه لم تنجبه لنا النساء في عصرنا الحاضر، إلا من رحم الله، وإن وجد أمثال هؤلاء الذين يجمعون كثيراً من المزايا فإنهم قليلون، بل أقل من القليل.
نعم هناك عند بعض الناس عقول نيرة وملكات متميزة، لكن هؤلاء قلة.
إذاً لابد من أن نعطي التخصص أهميته ودوره، ولا يمكن أن يفتي الداعية مريضاً في مرضه كما يفتي الناس الآن في أمور لا يعرفونها، تجد الإنسان يشكو من مرض فيستفسر من أي شخص، فيقول له ذلك الشخص: نعم هذا المرض قد سبق وأن مرضت به وأعطاني الطبيب كذا وكذا فخذ هذا الدواء. فهذه فتوى جاهلة؛ لأنها لا تعرف مجال العلم، ولا تتأسس على مبدأ التخصص.
لذلك إذا أردنا أن تنتفع الدعوة فعلينا أن نستفيد من أرباب التخصصات.
أقول: هذا التضخيم ليس أمراً مقبولاً، والمبالغات عموماً ليست مقبولة؛ لأن المبالغات هي عبارة عن تضخيم، والتضخيم مثل الأورام السرطانية، ورم غير حميد يتضخم فيغطي جانباً آخر فتضيع أهميته وتقل في مقابل هذا التضخيم الزائد، وهذا التضخيم من حيث الاقتباس ينشأ عن جانبين:
الجانب الأول: جانب التخصص، فالذي يكون متخصصاً في الإدارة -على سبيل المثال- يقول لك: لا يمكن أن ينجح أي عمل دعوي إلا أن يأخذ بعلوم الإدارة. بل هذه قضية منتشرة على مستوى العلوم كلها، فصاحب علم الجيولوجيا يقول لك: علم الجيولوجيا هو الأساس. وأهل الكيمياء وأهل الفيزياء كذلك، أما صاحب الرياضيات فيقول لك: لا يمكن أن تصعد إلى القمر، ولا أن تغوص إلى الأرض، ولا أن تضرب في القتال إلا بالرياضيات. فكل صاحب تخصص يجعل كل الدنيا لا يمكن أن تتحرك إلا في ضوء تخصصه.
الجانب الثاني: الجانب العاطفي، فهناك عاطفة صادقة في الرغبة في التطوير والتحسين في وسائل الدعوة، ولذلك تطلب من منطلق العاطفة دون أن تعطي الأمر قدره وحقه.
ونقول: لو استجبنا لهذا التضخيم فأخذنا بجانب الإدارة والإعلام والأساليب الأمنية والعسكرية المتاحة والتجارب الموجودة دون أن نعطي الأمر حقه وقدره المطلوب فإننا سنضيع ما هو أهم، ألا وهو أساس الدعوة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والعلم الشرعي والتربية الإيمانية والتقويم السلوكي، أما تلك الأمور فإنما هي اقتباس لتكميل هذه المسيرة الدعوية لا أقل ولا أكثر.
وأضرب مثالاً الذين يريدون أن يبرزوا الجانب العلمي في الآيات القرآنية، وأن القرآن أخبر عن حقائق علمية سبق القرآن في ذكرها وبيانها قبل أن يكتشفها العلم الحديث، نعم هناك كثير من هذه الأمثلة، مثل خلق الإنسان من نطفة وعلقة ومضغة مخلقة وغير مخلقة، لكن قد تكون هناك حقائق أو نظريات ليست بثابتة ولم تثبت بعد، فيأتي بالنص أو الدليل القرآني ويقول: هذا المقصود به كيت وكيت. مع أن الدليل لا يدل عليه أو الآية لا تشير إليه، فهذا أنموذج قد يقع أيضاً في مسألة الاقتباس في مجالات الدعوة.
لأن الفترات التي سبقت لم يكن فيها للدعوة ولا لحركتها في الحياة اهتمام وعناية باقتصاد وإدارة وكذا، فلم يكن هؤلاء الناس مستوعبين إلا ضمن الأطر العلمانية والكفرية أو التغريبية، ولذلك أثروا في الأمة تأثيراً سلبياً كبيراً، عبر الإعلام وعبر الطب وعبر الهندسة، واليوم لابد من أن يتحول هذا التأثير إلى تأثير إيجابي إسلامي عبر الهندسة والطب والصحافة والإعلام، ولن نستوعب هؤلاء الناس إلا إذا أقررنا بأهمية هذه العلوم والاقتباس والاستفادة منها، وانظر إلى النقابات المهنية عندما تسلم أمرها أصحاب الدعوة وأرباب الالتزام الإسلامي كيف انطوى تحتهم كل أرباب المهن من الأطباء والمهندسين، ورأوا فيهم نموذج القدوة والعفة عن أكل المال العام، والخبرة في مجال التخصص والعمل الميداني المؤثر في واقع المجتمع، فكسبت الدعوة مكاسب عظيمة، ربما لم تكن تكسبها بمجرد الخطب ولا الكتب ولا المقالات، وإنما عبر هذه الأعمال الدعوية من خلال العلوم المقتبسة.
وأحسب أن فيما ذكرت إشارة للفكر، ليكون هناك إمعان للنظر وإعمال للفكر وتجربة وممارسة لتوسيع دائرة الاستيعاب للدعوة، وتوسيع دائرة الاقتباس النافع من العلوم والمجالات الحياتية التي تنفع الدعوة، وتفيد أمة الإسلام والمسلمين، ولعلي أذكر مثالاً يمكن أن نرى فيه ملامح معينة لبعض العلوم، أو لبعض المسائل التي تذكر في علوم الإدارة أو غيرها، دون أن يكون هناك اعتساف للنصوص.
نستنبط من هذا الحديث مسألة التكليف بالمهمات في العمل الإداري وجوانبها:
أولاً: لابد من معرفة المهمة والبيئة المحيطة بها.
ثانياً: لابد من إعطاء بعض التعليمات في خطوات التنفيذ.
ثالثا: لابد من التحذير من عوائق النجاح.
وهكذا نجد هذا في حديثه صلى الله عليه وسلم، حيث بين له البيئة التي سيأتي فيها حتى يعرف مهمته وطبيعته، وذلك بقوله: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب)، وأعطاه وسائل التنفيذ وهي التدرج بأن يبدأ بالعقيدة، ثم بالصلاة، ثم بالزكاة، ثم بين له عوامل ومحاذير ينبغي تجنبها حتى لا تفشل مهمته، فقال: (إياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).
وستجد كثيراً من الأمثلة يظهر لك فيها أن ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه من الغناء والكمال ما أنت في غنية غيره، لكنك تستفيد من هذه العلوم في كيفية فهمك لها من خلال هذه النصوص الشرعية.
عسى الله أن يوفق لما يحب ويرضى، والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر