أما بعد:
أيها الإخوة.. إن هذا الدين الذي شرفنا الله تعالى به، وهو دين الإسلام جاء ديناً متميزاً عن جميع الأنظمة البشرية والشرائع الوضعية, وأقام الإسلام مجتمعاً متميزاً عن جميع المجتمعات البشرية الأخرى؛ فإن الأمة التي بناها الإسلام سواء على مستوى الفرد، أم مستوى الأسرة، أم على مستوى المجتمع كانت أمة متميزة في التاريخ كله, من أوله إلى آخره.
ومن جوانب هذا التميز الذي امتاز به دين الإسلام عن غيره: عناية الإسلام بالروابط الأسرية, سواء رابطة الابن بأبيه أم رابطة الأب بأبنائه، أم الزوج بزوجته، أم الأخ بأخيه... وهكذا، فكوَّن الإسلام أسرة قوية متماسكة.
فإذا نظرت إلى جيل الآباء من كبار السن، وجدت أنهم يوضعون في أماكن خاصة لهم؛ حين ينتهون من الحياة ويعجزون عن المواصلة في أعمالهم يودعون في هذه المراكز الخاصة بهم أو المستشفيات أو غيرها ولا أحد يهتم بشئونهم، حتى إن الذين عاشوا هناك وشاهدوا بأعينهم، يقولون: إن الأب يشعر بعظيم الامتنان لابنه لو زاره مرة في الشهر! ويقول أحدهم: إنني قد زرت أحد الآباء في هذه المراكز، فوجدته معجباً بي، ويثني عليّ أبلغ الثناء ويبجلني ويمجدني، ويقول: إن له ابناً لا يكاد يوجد له مثيل في عالمنا اليوم! فقلت له: وماذا يصنع لك ابنك؟ قال: إنه لا يتركني من الزيارة في كل شهر مرة, ولو دعته ظروف إلى تأخير الزيارة، فإنه يتصل بي بالهاتف حتى يعتذر عن هذه الزيارة!!
ومع ذلك فإن هذا الأب يعتقد ويظن أن ابنه ابناً مثالياً يكاد لا يوجد له مثيل! وذلك لأن تلك المجتمعات الكافرة لم تستظل بظل الإسلام, ولم تعرف الحقوق التي جعلها الإسلام -داخل الأسرة- للأب على أبنائه، وللابن على أبيه, والأخ على أخيه وهكذا..
وهذا جانب من جوانب التميز التي انفرد بها الإسلام عن غيره من الأنظمة البشرية، وانفرد بها المجتمع الإسلامي عن غيره من المجتمعات.
والموضوع الذي نتحدث عنه وهو "دور الشاب المسلم في بيته" هو يعبر عن جزء من هذه القضية الكلية؛ ولذلك، فإنني سأقتصر على الحديث عن هذا الموضوع؛ بل عن جوانب فيه.
فلا تقل لهما أف: وكلمة أف كلمة تقال عند الضيق والتبرم والتضجر, وهي كلمة بسيطة جداً, وإذا كان الله تعالى قد نهى عن أن يقول الابن لأبويه كلمة تدل على ضيقه وتضجره وهي كلمة أف؛ فإنه من باب أولى أن ينهى عن ما هو أشد من ذلك؛ كأن تقول لهما قولا غليظاً أو تتعدى ذلك بالإساءة إليهما باليد أو بغيرها.
ويحث الله سبحانه وتعالى على بر الوالدين، والإحسان إليهما في آيات كثيرة؛ بل ويشير إلى أنه حتى في حالة كون الأبوين مشركين، فإن الإنسان مطالب بالإحسان إليهما، وأن يصاحبهما في الدنيا معروفاً؛ دون أن يطيعهما في معصية الله عز وجل.
إذاً: فالأبوان بابان إلى الجنة، وإذا أدرك الإنسان أبويه، أو أحدهما عند الكبر، ولم يكونا سبيلاً إلى دخوله الجنة ببره بهما، وإحسانه إليهما؛ فهو إنسان يستحق أن يدعو عليه النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصيبه ذل، وأن يرغم أنفه.
وفي الحديث الآخر: في الصحيح أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ -رجل يتساءل عن أحق الناس بأن يحسن صحبته- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك, قال: ثم من؟ قال: أبوك}.
إذاً: ليس أحق الناس بحسن صحابتك هو الصديق! أو الزوجة! كلا؛ أحق الناس بالصحبة الحسنة منك، والخلق الجميل هي الأم ثم الأم ثم الأم وفي الرابعة تأتي منـزلة الأب؛ وعلى كل حال فالوالدان هما أحق الناس بحسن الصحابة, وفي حديث ثالث في صحيح مسلم -أيضاً- قَدَّم النبي صلى الله عليه وسلم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد -يريد أن يخرج إلى الجهاد في سبيل الله- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {أحيٌ والداك؟ قال: نعم قال: ففيهما فجاهد}. فرده النبي صلى الله عليه وسلم عن الخروج إلى الغزو والجهاد؛ رغم ما للجهاد من أهمية عظمى في الإسلام, ورغم أن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله؛ مع ذلك كله رده النبي صلى الله عليه وسلم عن الخروج إلى الجهاد، وقال له: ارجع إلى أبويك فجاهد فيهما, وفي لفظ آخر: {أن رجلاً قال: يا رسول الله جئت إليك لأجاهد معك، وتركت أبويّ يبكيان؟ قال له صلى الله عليه وسلم: ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما}.
لمن شيخان قد نشدا كلابا كتاب الله لو قبل الكتابا |
يشير إلى أنه وزوجته قد طلبا من ابنهما كلاب أن لا يخرج للغزو، وذكراه بكتاب الله الذي يأمره بالبر بهما, ثم يقول:
إذا هتفت حمامة بطن وجٍ على بيضاتها ذكرا كلابا |
تركت أباك مرعشةً يداه وأمك ما تسيغ لها شرابا |
فإنك والتماس الأجر بعدي كباغي الماء يلتمس السرابا |
ثم ذهب أمية من غده إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه, وألقى أمامه قصيدة مؤثرة يشتاق فيها إلى ابنه، ويطلب من عمر أن يرده إليه؛ بل إنه زاد على ذلك فقال -وهو يعرف خوف عمر من الله تعالى ورقته- يقول:
سأستعدي على الفاروق رباً له دفع الحجيج إلى بساط |
وأدعو الله مجتهـداً علـيه ببطن الأخشبين إلى بقاع |
يعني أنه سوف يستعدي الله تعالى الذي دفع الحجيج إلى عرفات؛ رغبة فيما عنده, ويدعو الله في مكة على عمر الذي أذن لابنه للخروج في الغزو، وجعله يترك أبويه؛ مع أن هذا الابن لم يخرج إلا بإذنهما؛ فلما سمع عمر رضي الله عنه هذه القصيدة تأثر! وسأله عن ابنه فقال: إنه قد خرج في غزو إلى فارس, فأرسل عمر بالبريد يطلب أن يرجع هذا الابن إلى المدينة, فلما رجع دعا عمر أباه, فقال له: ما أعظم عمل كان ابنك يحسن به إليك؟! فقال هذا الشيخ الكبير: إن ابني كان يحسن إليَّ بأعمال عظيمة لا أحصيها.
فسأل عمر الابن من دون أن يعلم الأب بأنه قد حضر من الغزو, فقال: ماذا كنت تصنع لأبيك؟ قال: إني كنت آتي بالناقة الحلوب، فأريحها ثم أغسل ضرعها حتى إذا برد حلبت له فسقيته؛ فطلب عمر من كلاب أن يحلب لأبيه كما كان يحلب بعادته، ثم سلّم هذا الحليب إلى أمية فلما أخذ الإناء، وفيه الحليب وشربه قال: والله إني لأجد في هذا رائحة كلاب؛ فبكى عمر، وبكى من حوله, ثم قال له: إن الله قد أقر عينك بابنك، فجاء إليه ابنه وقبله وعانقه وهو يبكي! وطلب منه أن يلازمه حتى الموت, وفعلاً بقي كلاب إلى جانب أبيه حتى مات
]].وهذه القصة رواها عدد من أصحاب السير والأدب، منهم: البيهقي في المحاسن والمساوي, والصلاح الصفدي في نفح الأمنيان, وأبو الفرج الأصفهاني وغيرهم.
هذه القصة، تدل على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة السابقة من أن الاشتغال ببر الوالدين، والإحسان إليهما، مقدم في حالة الاحتياج، حتى على الجهاد في سبيل الله عز وجل.
ولذلك بكى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يستغفر لها، وإنما نـزل في قبرها، وبكى بكاءً طويلاً, -ولا شك- أن بكاءه كان إشفاقاً عليها من هذا المصير الذي ينتظرها.
ولذلك فإن الأب الذي يدرك مصلحته، يحرص على استقامة ابنه؛ لأنه يعرف أن أول من يجني ثمرة هذه الاستقامة هو الأب نفسه, فإن الابن المستقيم يعرف حق الأبوين، ويقدرهما حق قدرهما.
فمن هذه الأخطاء:
والواجب على الشاب: أن يحسن التوفيق بين هذا وهذا, فإن هذه كلها واجبات منوطة في عنق الشاب, فهو مطالب ببر والديه، ومطالب بتعلم العلم, وحفظ القرآن, وصحبة الأخيار, والقيام بالواجبات الأخرى.
وعلى الشاب أن يحرص على القيام بهذه الأشياء كلها جنباً إلى جنب؛ فلا يزيد في بعضها على حساب البعض الآخر, ولا ينقص من بعضها لانشغاله بغيرهما.
وهي أن رجلاً من بني إسرائيل كان يشتغل في التجارة, فوجد أن التجارة تزيد يوماً وتنقص يوماً, ففي بعض الأيام تكثر أمواله وتنمو تجارته، وفي أيام أخرى تكسد تجارته وتقل أمواله, فقال: لا بد أن أبحث عن تجارة لا تبور, فسأل أهل العلم، فدلُّوه على العبادة والتزهد والرهبانية...
فبنى له صومعة، وجلس يتعبد فيها, وكانت له أم تحبه أشد الحب وأزكاه, فتأتي إليه، وتصيح من أدنى الصومعة باسمه -وكان اسمه جريج- فتقول له: يا جريج, فيطل عليها من أعلى الصومعة، فتحدثه وتبين له حاجتها, فيقضي ما تحتاجه من الأمور، أو تكتفي برؤيته, وقد رضيت بذلك، واطمأنت به.
وفي أحد الأيام جاءت كعادتها إلى أسفل الصومعة، وصاحت بأعلى صوتها: يا جريج.. يا جريج! فصادف أن جريجاً كان يصلي، فوقع في حيرة! يا رب! أمي وصلاتي -هل أجيب نداء أمي أم أستمر في صلاتي وعبادتي- فلم يجبها, وغلَّب أن يستمر في عبادته؛ ثم صاحت به مرة أخرى: يا جريج.. يا جريج..! فقال بينه وبين نفسه: يا رب! أمي وصلاتي, واستمر في عبادته؛ فنادته مرة ثالثة, فقال: يا رب! أمي وصلاتي, واستمر على عبادته, فغضبت أمه من ذلك، وقالت: أسأل الله ألا يميتك حتى يريك وجوه المومسات -المومسات جمع مومس, والمومس هي: البغي الزانية والعياذ بالله- وقد كنت أتعجب من هذه الدعوة، وأتساءل! لماذا اختارت أم جريج هذه الدعوة؟!
ولو دعت عليه بالفاحشة لوقع فيها كما ورد؛ لكن الله عز وجل صرف لسانها عن هذه الدعوة؛ فدعت عليه بهذه الدعوة وهي أن يريه الله المومسات, فكنت أتعجب، وأتساءل عن سر اختيارها لهذه الدعوة, حتى ظهر لي، والله أعلم أن مناسبة هذه الدعوة: أن جريجاً لما كانت العادة أنه إذا نادته أمه أشرف عليها من أعلى الصومعة, وكلمها وكلمته وانبسطت إليه, فرجعت وقد قرت عينها بمخاطبتها لابنها, ففي هذه المرة حرمها من أن تنظر إلى وجهه أو ينظر إلى وجهها -بسبب انشغاله بالعبادة- فدعت عليه دعوة تناسب الخطأ الذي صدر منه, وكأنها تقول: أما وقد انشغلت عن النظر إلى وجه أمك؛ فإني أسأل الله ألا تموت حتى ترى وجوه المومسات.
ومرت الأيام وكان في هذه القرية امرأة بغي, يضرب المثل بحسنها وجمالها, فكان الناس يوماً من الأيام يتحدثون عن جريج، وما بلغ من العبادة, فقالت: إنني أستطيع أن أفتنه! فقالوا: فافعلي إن استطعتي؛ فخرجت وتجمَّلت وتعرضت له، فلم يأبه بها ولم يلتفت إليها, وظل مقبلاً على عبادته، فجاءت إلى راعٍ بقرب الصومعة، فأمكنته من نفسها, وقيل: إن هذه البنت كانت أيضاً راعية غنم, وقيل: إنها كانت بنت الملك, وقيل: إنها كانت بغي, والأقرب فيما يظهر أنها كانت بغي, لأنها لو كانت بنت ملك؛ لكان الغالب أن لا تلتفت إلى الراعي، ولا تمكنه من نفسها, فالأقرب أنها كانت بغياً, بل قد وردت بهذا روايات صحيحة.
فحملت من الراعي فسألها الناس: من أين حملت؟ قالت: هو من جريج, وبلغ الخبر ملك هذه القرية, فأرسل إلى جريج يطلب أن يحضر إلى مجلسه, فذهب مجموعة من الناس إلى الصومعة التي يتعبد فيها, وصوتوا إليه يطلبون منه النـزول, وكان منشغلاً بصلاته فلم يلتفت إليهم, فبدءوا بالفئوس يضربون الصومعة ليهدموها, فلما رأى هذا الصنيع أتم صلاته، وأشرف عليهم، فقال: ما لكم؟ قالوا: انـزل إلينا وبدءوا يسبونه ويشتمونه. فتدلى من الحبل ونـزل إليهم، فجرجروه وتلتلوه، وبدءوا يضربونه ويعيرونه، وما زالوا به، حتى ذهبوا به إلى مجلس الملك...
ولما كان في عرض الطريق مر ببيت كانت تجلس فيه النساء الزانيات والعياذ بالله ورأى النساء فيه، فتبسم! فقالوا: لم يتبسم حتى رأى بيت البغايا! -هذا دليل جديد على أن الرجل يظهر الإيمان والعبادة والنسك ويبطن خلاف ما يظهر- وأخبروا الملك بذلك بعد أن وصلوا إليه, فقال له الملك: أنت جريج الذي صار مثلاً لزهده وعبادته تفعل بالمرأة ما فعلت من وقاعها حتى حملت منك؟! قال: أو قد ولدت؟ قالوا: نعم, قال: فأين الغلام, فأحضروه إليه, فصلى جريج ركعتين، ثم جاء إلى الغلام فطعنه في بطنه بيده وقال له: باغوس -وباغوس يعني: صغير أو صبي- أسألك بالله من أبوك؟ فنطق هذا الغلام، وقال: أبي الراعي, فتعجب الناس وأكبروا جريجاً، وعظموه وبدءوا يتمسحون به ويطلبون منه الدعاء! وقالوا له: نبني لك صومعتك من ذهب, وقد هدموها, قال: لا، قالوا: نبنيها من فضة؟ قال: لا أعيدوها من طين كما كانت.
فسألوه: يا جريج لما رأيت بيوت الزواني، وأنت في طريقك إلى مجلس الملك ابتسمت! فلم كنت تبتسم؟! قال: إني قد رأيت بيوتهن، ورأيت وجوههن، فابتسمت، لأنني عرفت أن دعوة أمي قد أحاطت بي؛ فإنها دعت عليَّ ألا أموت حتى أرى وجوه المومسات, فلما رأيت وجوههن ابتسمت لذلك.!!
والقصة هي أولاً -كما ذكرت- قصة صحيحة, رواها البخاري في مواضع من صحيحه, ورواها مسلم والإمام أحمد وغيرهم.
وفي هذه القصة عبر كثيرة جداً من أهمها:
العبرة الأولى: أن الإنسان يجب أن يعرف قدر أبويه, حتى وهو يشتغل بالعبادة، أو الدعوة، أو بالعلم النافع، أو بحفظ القرآن، وقد يقول قائل: هل أترك هذه الأعمال؟ أقول: لا, لكن عليك أن تتلطف بهما وأن تدرك أن برهما واجب, خاصة إذا احتاجا إليك, ولا يعدم الشاب الحكيم لا يعدم وسيلة صحيحة يستطيع بها أن يوفق بين بر الوالدين، وبين القيام بالواجبات الأخرى المنوطة به.
العبرة الثانية: وفي القصة أيضاً دليل على أن دعوة الأم على ابنها مستجابة, ولو كان الابن منشغلاً، ومنصرفاً في أمور حميدة, فإن هذه المرأة دعت على ابنها فأجيب دعاؤها، ولذلك فعلى الشاب أن يتقي دعوة أبويه، وأن يحرص على كسب رضاهما، ودعواتهما الصالحة.
وفي القصة عبر ودروس أخرى قد لا يتسع المجال لسردها, وبإمكان من يحرص على أخذ الفوائد من هذه القصة أن يرجع إلى فتح الباري، في كتاب الأنبياء ليجد الكلام المفصل الذي ذكره الإمام الحافظ ابن حجر حول هذه القصة.
التبرم من تصرفات الوالدين -الضيق من أفعالهما وأقوالهما- والسبب في هذا: هو أنَّ الأبوين غالباً من جيل آخر غير الجيل الذي منه الشاب بمعنى أن الفاصل الزمني بين الأب والابن كبير ولذلك فإن ثقافة الأب ومعلوماته تختلف كثيراً عن ثقافة الابن ومعلوماته, في أشياء كثيرة من أمور الحياة فيما يتعلق بالدراسة، وفيما يتعلق بالأصدقاء، وفيما يتعلق بقيادة السيارة مثلاً.. إلى آخره.
ولذلك فالأب من منطلق أنه أب يصدر توجيهات لابنه باستمرار, والابن يدرك في بعض الأحيان أن هذه التوجيهات غير مناسبة, وقد تكون فعلاً غير مناسبة, وقد تكون مناسبة -أحياناً- لكن عليك في جميع الأحوال أن تقابل توجيهات الأبوين بصدر رحب, فإن كانت صحيحة فاقبلها واعمل بها, وإن كانت خاطئة، فعليك أن تصرفها بطريقة حكيمة، ولا تواجه أباك أو أمك في وجوههم بما يكرهون.
فعلى الشاب -الحكيم- أن يحرص على تجنب التصرفات التي قد تشعر الأبوين بأنه يفضل غيرهما عليهما, لأن الأب والأم يشعران بأنهم -كما يعبرون- هم شمس على رءوس الذوائب, والشاب يستقبل الحياة, فكل تصرف تجاه صديقه أو زوجته، أو ولده يفسر من الأبوين أن هذا الابن قد أصبح يزاحم عليهما، بل قد أصبح لا يعيرهما الاهتمام الكامل.
فعلى الشاب أن يحرص على توجيه وإرشاد البيت عن طريق: قراءة الكتب المفيدة, ونشر الكتاب, ونشر الشريط المفيد الذي يحتوي على مواد طيبة كالقرآن الكريم، أو أحاديث أو خطب أو فتاوى لأهل العلم أو غير ذلك, ويحرص على التوجيه وربط إخوته بأصدقاء طيبين والتأثير على إخواته بكل وسيلة ممكنة.
وهذا الأمر يستفيد منه الشاب فوائد كثيرة تتبين بالأمر الثاني، وإنما قصدت هذا الأمر لأن كثيراً من الشباب يتساءلون في هذه الأيام أسئلة لا تنتهي، يقول الواحد منهم: أنا شاب مستقيم ولله الحمد.. وبيتي فيه كذا.. وكذا.. فما هي الطريقة الصحيحة في معالجة هذه الأشياء؟!
وبعض الشباب قد يتصرفون بصورة غير صحيحة، فأقول: إذا قمت بواجب الإرشاد والتوجيه، فإنك تكون قد بنيت جبهة في البيت، وكونت رأياً عاماً مؤيداً لك من إخوانك ومن أخواتك, فلو افتُرِض أن في البيت وسيلة من وسائل الإفساد... لم تصبح أنت وحدك الذي تحارب هذه الوسيلة، أصبح إخوتك وأخواتك -أيضاً- يحاربون هذه الوسيلة بل أغلبهم, فسهل عليك التخلص منها وإخراجها من البيت.
لا بد من سلوك السبيل الأمثل, والحكمة والموعظة الحسنة, وعليك أن تسعى لإخراجها بالوسيلة المناسبة، وتستعين بمن تربوا على يديك داخل البيت، وتوصي لأبويك من يقتنعون به، حتى يمكن إخراج هذه الأجهزة، وتغيير هذه المنكرات, فإن لم تستطع فعليك أن تقاطعها، وتربي إخوانك وأخواتك على مقاطعتها, فإذا وجد عدد من الإخوة والأخوات مقتنعين بإخراج هذه الأشياء؛ فحينئذٍ لا بأس بالتصرف الذي يفعله بعض الشباب، وهو أن يقوم بإزالة هذا المنكر بطريقة قد يكون فيها شيء من الشدة, لكنها شدة في موضعها.
بعض الشباب -مثلاً- اهتدى وكان بيته كله منحرفاً حتى الأبوان, وبدأ هذا الشاب -وهو واحد- بحملة للدعوة داخل البيت، وما هي إلا أشهر حتى استطاع التأثير في أخواته فاستقمن والتزمن بالإسلام, ثم أثر في عدد من إخوته, ثم قام هؤلاء بمجموعهم بإخراج الأجهزة المنحرفة، والمجلات المنحرفة وغيرها من البيت وأعدموها.. فاستسلم الأبوان لهذا الأمر.
بل إن هذا المد الطيب قد سرى إلى الأبوين، فبدأ الأب يحافظ على صلاة الجماعة في المسجد, وبدأت الأم أيضاً تحرص على فعل أمور الخير, وهذه قدوة حسنة لكل شاب مسلم، فعلى الشاب أن يحرص على أن يكون ذا شخصية قوية في البيت, حتى يستطيع أن يشارك برأيه في سائر الأمور التي يحتاج إليها الأهل، وعليه أن يحرص -حين تواجهه مشكلة، ويعجز عن حلها- على أن يستعين بأساتذته ومشايخه وأشياخه الذين لا يعدم منهم رأياً حسناً.
هذا مجمل ما أحببت أن أقوله في هذه العجالة، وأرجو الله أن يوفقني وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يوفقنا لصالح القول والعمل، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
الجواب: في الواقع أن مثل هذا السؤال ليس الجواب أن يقال لهذا الشاب: يجوز لك معصية أبويك -مثلاً- والتحق بالحلقة, كما أنه ليس الجواب أن يقال: اترك الحلقة، واترك مجالات العلم وأطع والديك, ليس الجواب هذا ولا ذاك.
إن الشاب في معظم الحالات يستطيع بالحكمة أولاً، وبالاستمرار والمحاولة ثانياً أن يوفق بين الأمرين, وهناك عدد كبير جداً من الشباب كانوا يواجهون مثل هذه الحالات، وفي النهاية استطاعوا التغلب عليها.
مثلاً قد يكون عند الأب سوء فهم، فإذا رأى أن الابن حريص ومصر، وفي نفس الوقت هو حريص على طاعة أبيه, فإن الأب يلين عند ذلك, فينظر في هؤلاء الأصدقاء فيجدهم أصدقاء طيبين وصالحين, فيرتاح ويطمئن, وقد يكون الأب يريد ابنه لأعماله الدنيوية، حتى يكون معه في البيع أو الشراء أو في المزرعة, فإذا رأى الأب إن الابن يحرص على قضاء حاجاته في أوقات فراغه، مع مشاركته في الأنشطة الخيرية الأخرى، فإنه يرضى بهذا القدر, وقد يدرك الأب أن ابنه، لو كان منحرفاً لما نفعه بأي صورة من الصور, فهو الآن حين استقام أصبح ينفعه في أشياء كثيرة.
وفي النهاية لو أصرَّ الأب -مثلاً- على ابنه أنه لا يمكن أن يصحب الطيبين، ولا أن يحضر هذه الحلقات فيجوز للابن أن يحضر الحلقات وأن يصحب الطيبين، وأن يحرص على رضا أبيه ما استطاع، ويلين له في القول، ويحرص على قضاء حاجاته، ومساعدته في أعمال دنيوية وغير ذلك.
الجواب: القصة حصلت، وجريج يصلي فنادته أمه, فامتنع من إجابتها, فالسائل يسأل لو افترض أنه يصلي فدعته أمه، فهل يجيبها أم لا؟ وهذا سؤال وجيه.
والجواب عليه: أن العلماء اختلفوا في ذلك, فمنهم من قال: يجيبها إن كان في نافلة، ولا يجيبها إن كان فريضة, ومنهم من قال: يجيبها إن كان في نافلة، أو كان في فريضة وقتها موسع، ولا يجيبها إن كان في فريضة ضاق وقتها, ومنهم من قال: لا يجيبها, وهناك قول لعله أقرب للصواب, وهو أنه ينظر في حال الأم، فإن كانت الأم تتأثر وتغضب وتنفعل لو لم يجبها الابن، وكان هو في صلاة نافلة، فإنه يجيبها حينئذٍ, أما إن كانت الأم لا تتأثر من ذلك ولا تغضب له أو علمت أنه في صلاة؛ لأن النساء والرجال عندنا إذا علموا أن ابنهم في صلاة لا يغضبون عليه لو لم يجبهم, فلو جهر مثلاً بآية ليشعر أمه أو أباه بأنه يصلي؛ لسكتت أمه وسكت أبوه عن مناداته حينئذٍ، حتى يفرغ من صلاته.
لكن لو افترض أن هناك أماً عندها حالة من العصبية والانفعال أو ما أشبه ذلك, ولا يمكن أن تقبل من ابنها إلا أن يجيبها، أو أنها في حالة تدعو إلى إجابتها، كأن تكون مستعجلة، فلا بأس أن يجيبها حينئذٍ.. والله أعلم.
أما سؤال: هل شرع من قبلنا شرع لنا؟ فهذه المسألة اختلف فيها الأصوليون، لكنهم اتفقوا على أنه ليس بشرع لنا فيما ورد في شرعنا ما ينسخه أي أن: الذين قالوا: بأنه شرع لنا, قالوا: ما لم ينسخ. والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر