لنا وقفات حول قول المؤلف رحمه الله تعالى: (وعقيدتي).
أولاً: نحن نعلم أن عقيدة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى هي عقيدة السلف الصالح ، وأنه رحمه الله تعالى من أحرص الناس على اتباع سلف الأمة، وما من قول يقوله في مسائل الاعتقاد إلا حرص أن يأتي عليه بنص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو كان فيه فهم لأحدٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما دامت عقيدة شيخ الإسلام هي عقيدة أهل السنة والجماعة ، وهي عقيدة سلف الأمة؛ فإن السلف لهم مصادر في عقيدتهم يعتمدون عليها في أخذهم هذا المعتقد.
ولم تُربط العقيدة بمسائل العقل ليعتبر مصدراً مستقلاً استقلالاً كلياً، ويُعتمد عليه اعتماداً كاملاً، وإنما جعل العقل دالاً لمعرفة الكتاب والسنة، والسبب: لأن العقل مخلوق لله سبحانه وتعالى، فكيف يمكن أن يحكم على ما يتعلق بمسائل الاعتقاد وعلى أخبار الرب سبحانه وتعالى، ثم إن العقول محدودة، وإطارها ضيق، ولا تستطيع التجاوز عن الحد الذي حدها الله لها، وأما من تجاوز بعقله عما خلقه الله عليه فإنه يتخبط في الظلمات ليس بخارج منها.
ثانياً: أن العقل ضعيف التأثر، وسرعان ما يتغير الإنسان، يدخل عليك الإنسان بتصور جازم به، ثم تجده بعد ذلك ينطلق إلى آخر فيتغير بمتأثرات وغيرها، ثم يرجع لك بصورة غير الصورة التي دخل عليك بها من قبل، ولهذا عقول الناس تختلف باختلاف المؤثرات والأجواء التي يعيش فيها.
سبحان الله! كم من الناس عاشوا في بلاد الإسلام، وكانوا على صفاء ونقاء! ولما انطلقوا إلى بلاد الكفر مسخت عقولهم، وبعضهم تأثروا بما تعلموا به، فجاءوا بأمور جديدة على الناس لم تكن معروفة، مما يدل على أن العقل يتأثر بالمؤثرات التي تحيط به سواء كانت النفس أو الهوى أو التعلم أو غيرها، فلا يمكن أن يكون معتمداً أبداً يعتمد عليه في مسائل الصفات، ولهذا ظل (الفلاسفة) ولئن كان الناس يسمونهم (فلاسفة) ينسبونهم إلى الإسلام، وفي الحقيقة بعضهم لا ينسب إلى الإسلام؛ نظراً لأقواله المنحرفة عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ذُكر في مسائل الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وإن كنا قلنا في الدرس الماضي: إن سلف الأمة دائماً ينتسبون إلى الإمام أحمد رحمه الله ورضي الله عنه لما تميز به، فكتب في رسالته لـعبيد الله بن يحيى كما روى الإمام ابن الجوزي بسنده عن عبد الله ابن الإمام أحمد، قال: كتب أبي إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان يبين له منهجه رضي الله عنه وأرضاه: "لست بصاحب كلام، ولا أرى الكلام في شيء من هذا، إلا ما كان في كتابٍ أو حديثٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه رضي الله عنهم، أما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود".
ونجد أمراً عجيباً وتنبيهاً لطيفاً هنا: مسائل الاعتقاد نجد أنها جاءت تلقينية: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:1-2].. قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون:1-2].. قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ [البقرة:136].. قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً [الأنعام:14].. قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام:19].. قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [غافر:66].. قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا [الأنعام:71] كلها مسائل عقيدة تلقن الأمة إلى قيام الساعة أن تتمسك بها، مما يدل على أنها توقيفية يُتبع فيها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وبهذا نعلم أن العقيدة هي ما يدين الإنسان به ربه، ويؤمن به في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته.
بعد أن أخذنا مصادر العقيدة، ننطلق فنتكلم عما تتميز به العقيدة الإسلامية، ونقول: إنها تتميز بمزايا:
منها: فيما يتعلق بالرب سبحانه وتعالى، نحن نعلم بأن الله موجود، ونعلم بأن له الأسماء الحسنى والصفات العلى، لكن كيفية تلك الصفات الله أعلم بها كما قال الإمام مالك : "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" وتصبح هذه الأصول من مسائل الاعتقاد غيبية لا يمكن إطلاقاً أن ندركها إلا على ضوء الكتاب والسنة.
العقيدة الإسلامية توقيفية، ويقصد بالتوقيفية أنه يتبع فيها الكتاب والسنة، وهذه من أهم ما تتميز بها، فلم يجعل الله للعقول فيها مجالاً، ولذلك نقول: إنها ليست محطة لاجتهاد أحد من العلماء، وليس لأحد أن يغير مسائل الاعتقاد بوجهٍ من الوجوه.
ونجد أنها في المقابل وسط بين طائفة النصارى الذي غلوا في عيسى عليه الصلاة والسلام، ووصفوه بأن أعطوه صفات الرب سبحانه وتعالى، وجعلوا له حق التصرف في الإحياء والإماتة، وله حق التصرف في الكون كله، وأصبح أهل السنة وسطاً بين هؤلاء، فأثبتوا لله الأسماء الحسنى والصفات العلى.
وهكذا في مسألة العبودية، فهم وسط بين الدهريين الذين ينكرون وجود الله تعالى بالكلية -وكذلك في عصرنا الشيوعين الذين يقولون: لا إله والحياة مادة- والدهريون الذين قالوا: مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ [الجاثية:24] وبين طوائف المشركين الذين عبدوا آلهة متعددة، فقريش عبدت عند الكعبة ثلاثمائة وستين صنماً من دون الله، وجاءت هذه العقيدة (عقيدة أهل السنة والجماعة ) لتعلن للناس أن لا إله إلا هو سبحانه وتعالى، وعجبت قريش!! مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص:7] وقالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5] مستنكرين لهذه الألوهية.
وهم كذلك وسط في أمورٍ متعددة، ولقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى على وسطية أهل السنة والجماعة بكلام نفيس، بيَّن فيه أنهم وسط بين الملل السابقة، كما أنهم وسط يبن الطوائف التي تعيش بين ظهراني المسلمين، فهم وسط في أسماء الله وصفاته بين المشبهة والمعطلة، فـالمعطلة نفت الصفات كلياً، وقالوا: إن الله ليس له الأسماء الحسنى ولا الصفات العلى.
ووسط بين المشبهة الذين يقولون: إن يد الله مثل يدي، وسمع الله مثل سمعي، قاتلهم الله أنى يؤفكون، فإن هذا أمر لا يجوز لنا بأي وجه من الوجوه، بل لله سبحانه وتعالى الأسماء الحسنى والصفات العلى، ونقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].
ووسط بن القدرية الذين ينفون القدر، وهذا ينطبق على المعتزلة ، وكذلك الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان مجبور على فعله.
ووسط في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الذين يكفرونهم ويجعلونهم خارجين من الإسلام، وبين طوائف تؤله بعض الصحابة وتعظمهم، وتجعل لهم تصريفاً في الكون وتدبيراً، ولذلك أصبح أهل السنة والجماعة وسطاً بين الطوائف المنحرفة، ولسنا بصدد الحصر لوسطية أهل السنة في كثير من مسائل الاعتقاد.
وسبحان الله! إنك إن تنطلق إلى تاريخ الكنيسة تجد عجباً، فكلما مر عليهم قرن أو قرنان اجتمع مجلس الكنائس فطوروا العقيدة لتناسب العصر، وما من عصرٍ إلا وتجد فيه تجديداً وتغييراً، أما عقيدتنا فهي ما كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهي ما كان عليها الإمام أحمد رحمه الله، وهي ما كان عليها شيخ الإسلام ابن تيمية، وهي ما كان عليها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله إلى قيام الساعة، ثابتة لا يجوز تغييرها، ولا يمكن أن يزاد فيها ولا ينقص منها.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة إلى قيام الساعة) وذكر شيئاً من خصائصها ومن صفاتها، ونسأل الله أن نكون من هؤلاء.
ونحن في مسائل الاعتقاد لا نكتم على أحد، ولا يقال لأحد: إنك لم تبلغ الرتبة، فلا يمكن أن تصل إليك هذه المسائل الاعتقادية.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض هذه العقيدة على أبي بكر وعمر كما يعرضها على الأعرابي الذي يتبع الإبل يرعاها وغيره، وهو قد يكون من أقل الناس معرفة ودراية، لم يكتم النبي صلى الله عليه وسلم عقيدته على أحد، بل لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لمن ليس له علم: إنك لم تبلغ الرتبة، انتظر فترة من الزمن حتى تترقى وتصل إلى مرتبة تعرف فيها مسائل الاعتقاد، يأتي النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الجاهل، ومع ذلك يأمره بأصول الاعتقاد والإيمان، ويأتيه سيد القوم وربما العالم، وربما أعلى الناس رتبة، ويعرض عليه أصول الاعتقاد كما يعرضها على هذا وهذا سواء، يأمرهم بتأصيل هذه المسائل الاعتقادية.
والعجب أننا نجد في الديانة النصرانية مسائل غامضة، وكم نجد من الناس الذين دخلوا في دين الله تعالى من النصارى وكان سبب إسلامهم: أنهم لا يجدون من الوضوح ولله الحمد كما في مسألة التوحيد والعقيدة عندنا، ويجدون إشكالات وغموضاً في مسائل الاعتقاد عندهم، ولو سألوا أساقفتهم عُتِّب عليهم، ولم يقبل منهم أن يسألوا نظراً لأنها مراتب عندهم.
ويشابه النصارى غلاة الصوفية الذين يقولون: إن من سأل منع أو سحبت منه بركة العلم، ولم يستفد من الشيخ، ويقال: إنك لم تصل إلى رتبة، فانتظر حتى يرقيك الشيخ إلى هذا المستوى، وهذا ليس في عقيدة أهل السنة والجماعة ، وليس في عقيدة سلف الأمة، بل تعرض العقيدة ناصعة واضحة كالشمس في رابعة النهار لكل من أراد أن يستفيد منها، فهي ولله الحمد واضحة وبينة بياناً كاملاً، ولقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم يرسي معالم العقيدة، ويؤصلها في نفوس الصحابة رضي الله عنهم، ولم يكن ولله الحمد فيها شيء من الغموض.
أول ما يتميز به منهج سلف الأمة في تقرير العقيدة: تحكيم الكتاب والسنة في كل قضية من قضايا الاعتقاد، وعدم رد شيء من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يقول الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65] وجعل الله الكتاب والسنة باقيين إلى قيام الساعة يستفيد الناس منهما في مسائل النزاع والاختلاف، وبينه الله سبحانه وتعالى: (ولو ردوه إلى الله والرسول) جاء الأمر بالرد إلى الله والرسول في مسائل الاختلاف.
ومنها: الأخذ بما ورد عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسائل العقيدة، بل في المسائل كلها.. في الفروع وفي مسائل الأصول، أي: في أصول الإيمان، وفي مسائل التشريع التي وردت من صلاة وزكاة.. وغيرها.
منها كذلك: عدم الخوض في مسائل الاعتقاد مما ليس للعقل فيه مجال، وهي فيما يتعلق بالمسائل الغيبية، فإن العقل له حدود معينة، ومن منهجهم رحمهم الله ورضي عنهم أنهم لا يقحمون العقل فيما لا يقدر عليه أبداً، ولا يجعلون العقل يتجاوز الحدود التي جعلها الله له، فلا يجاوزون الحد الذي حده الله لهم، ولذلك انضبطت عقولهم، وانضبطت قلوبهم وجوارحهم، فلم يوجد عندهم شيء من الانحراف.
ومنها كذلك: عدم مجادلة أهل البدع، ويقصد بالمجادلة لأهل البدع في الحدود التي لا يستفاد منها، وليس المعنى: ألا يرد على المبتدعة، وألا يبين بطلانهم، فلقد وقف أئمة أهل السنة رحمهم الله تعالى في وجوه المبتدعة، وألقموهم الحجر، فشيخ الإسلام ابن تيمية كم له من الصولات والجولات، وقبله الإمام أحمد رحمه الله، وكثير من أئمة أهل السنة وقفوا في وجوه المبتدعة مبينين بطلان ما هم عليه، وانحرافهم عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ويقصد بالمجادلة: تلك المجادلات التي تعقد في المجالس العامة، والمناظرات التي يجلس فيها الصغير والكبير، ويسمع لها الذكر والأنثى والعالم وغير العالم، فتلك مجادلات ربما يكون فيها نوع من الخطر، ولقد نقل عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى وقيل له: ألا تناظر المعتزلة ؟ وكان المعتزلة لهم صولات وجولات في عهد الإمام أحمد رحمه الله، وكانت لهم الصدارة في تعليم الناس، وفي الإفتاء، وفي تدريس الناس وغير ذلك، وكانوا يعقدون المناظرات أمام الناس في المساجد وغيرها، ولما قيل للإمام أحمد : ألا تناظرهم؟ قال: "ليس من نقص في قضية المناظرة والمجادلة، وإنما أخشى أن أرد رداً فلا يفهمه بعض الحاضرين فيكون لبعضهم فتنة" أي: أنه يُوجِدُ في قلبه نوعاً من الشكوك، وإلا فإن أئمة أهل السنة قد ألفوا الكتب، وقد ناظروا هؤلاء المبتدعة، وبينوا عوارهم وفضحوهم.
ومنها كذلك: عدم مجالسة المبتدعة، ويقصد بالمجالسة: تلك المجالس التي يُطمئن إليها، بل الواجب أن يكون الإنسان بعيداً عن هؤلاء المبتدعة مخافة أن يتأثر بهم، وكم من الناس من تأثر بمجالستهم للمبتدعة، بل أعظم ما يكون من ذلك: ضعف قضية الولاء والبراء في النفوس، مما يؤدي إلى محبة المبتدعة والأنس بهم، والبشاشة في وجوههم، وعند ذلك يضعف في نفسه النصح لهم، ودلالتهم إلى الحق ومناظرتهم، وبيان الحق الذي قد تمسك به، ولقد كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى ينهى عن حضور مجالس الحارث المحاسبي وغيره؛ نظراً لأن لديه شيئاً من مذهب الكلابية، وكان السلف يمنعون من حضور مجالس المبتدعة، مخافة أن يتأثر الناس بفكرهم.
كذلك من منهج أهل السنة في تقرير العقيدة: الحرص على جماعة المسلمين ووحدتهم، ولعل ذلك يدل على أن الشيطان إلى الواحد أقرب، لكن من كان مع جماعة المسلمين من علماء الأمة وكبارهم وموجهيهم، ومن المنقادين للحق من العلماء والدعاة وغيرهم كان على الحق، خاصة إذا كان منهج هؤلاء هو الحرص على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذا فيما يتعلق بقول شيخ الإسلام:
يا سائلي عن مذهبي وعقيدتي |
ونقول للأحبة: ينبغي لك إذا سئلت عن مسألة، إن كان معك أو تعرف الحق فيها كالشمس، فلا مانع من الإجابة، ولكن إذا وجد في المجلس من هو أعلم منك وأحسن منك في التأصيل والتقعيد، فينبغي أن تسكت ولا تستشرف لها، ولهذا روي: (أجرؤهم على الفتيا أجرؤهم على النار) ولأن قضية بيان الحكم كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله وغيره: بيان أن هذا هو قول الله، أو هذا الذي قال به الرسول صلى الله عليه وسلم، والإفتاء في هذه الأمور خطره عظيم؛ لأنه ينسب إما إلى الله في قضية الحكم، أو أن هذا هو قول رسوله صلى الله عليه وسلم، ووجب على الإنسان أن يربي نفسه على قضية التورع في الإفتاء، ولهذا ذكر بعض السلف مبيناً واقعاً كان يعيشه ومحذراً منه: [إنكم لتفتون في أمور لو كانت في عهد
والعجب أن نجد بعضاً من المبتدئين في طلب العلم يفتي في قضية الطلاق بالثلاث، وفي مسائل الحيض، وفي مسائل عظيمة، يعجب الإنسان كيف يجرؤ.. سمع فتوى وانطلق بها، وليس الأمر بقضية الفتوى أنه عرضها ثم يلقيها، بل إنه يقيس عليها وينظر لها، ويعطي مسائل متعددة استنباطاً من هذه، وما علم أنه ربما يقع في أمرٍ ويخطئ فيه، ويصبح هذا الرجل يتدين لله بغير علم، فأصبح هذا الإنسان قد أضله بدلاً من أن يهديه إلى هذا الأمر.
أتذكر قصة من اللطائف وهي قصة مع شيخنا العلامة حفظه الله وأمد في عمره، وأقول للأحبة: كلما ازداد علمك كلما عرفت بأنك على جهل، وتحتاج إلى زيادة علم.
أتذكر أني زرت شيخي حفظه الله وأمد في عمره! مع أحد العلماء الكبار الذين يشار إليهم بالبنان، وكنت معه في استفتاء في بعض المسائل، جمعناها لعرضها على شيخنا العلامة، وكانت من المسائل المعضلة.
وجاء العالم الكبير الذي جئت معه يعرض على الشيخ بعضاً من هذه المسائل، ثم لما عرض عليه السؤال قال: إننا لم نجد كلاماً لأهل العلم كثيراً، وبضاعتنا في هذه المسألة قليلة، فقال عالم الأمة شيخنا العلامة أمد الله في عمره: كلنا قليل العلم، فوقفت مبهوراً، عالم كبير وفي مصاف كبار العلماء، ومع ذلك يقول: بضاعتنا في هذه المسألة قليلة، وعالم الأمة يقول: كلنا قليل العلم.
وأقول للأحبة: إذا كان هذا كلام العلماء الكبار، فمن نحن أمام هؤلاء؟
إن هذا مما يوجب علينا أن نحرص على الزيادة من العلم، وعلى الحرص على القراءة والتحصيل والاستفادة، شحذاً للهمم في المواصلة في الطلب، وهذا هو الواجب علينا أن نسير على ضوئه.
رزق الهدى من للهداية يسأل |
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى هنا: (رزق الهدى) ولعلنا نشم من قوله: (رزق الهدى) حسن تلطف من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، حيث لم يأنف من هذا السؤال: ما هي عقيدتك أنت؟ بل تلطف به، ويظهر من هذه العبارة أن شيخ الإسلام ابن تيمية يدعو له بالهداية إلى صراط الله المستقيم، وإلى المعتقد الصحيح، وأن الهداية هي بيد الله وحده لا شريك له.
وينبغي أن نعلم من قول المؤلف:
رزق الهدى من للهداية يسأل |
أنه ليس كل سؤال يكون سبباً للهداية، وإنما السؤال الذي يكون مقصد الإنسان به معرفة الحق والتمسك به، والحرص على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هؤلاء هم الذين يهدون، ولكن الأسئلة التي كان يطلبها المشركون من محمد صلى الله عليه وسلم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء:90].. وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ [الإسراء:93] تجدها أسئلة لا يريدون منها الحق، فهؤلاء لم يرزقوا الهداية، وينبغي أن نستفيد فائدة وهي: أنه ينبغي للمسلم أن يكون همه وقصده الوصول إلى الحق والبحث عنه، فإذا كانت هذه نيته فإن الله يوفقه ويهديه ويرشده لمعرفة الحق.
فائدة أخرى: نقول: إن الهداية لا بد فيها من عمل الأسباب، وليست الهداية تنـزل على الناس من السماء، ولذلك نقول للأحبة: قد تأتي لأخٍ لك أو لقريب لك لا يصلي، ثم تقول له: يا أخي اتق الله! صلِّ .. أدِ الصلاة، فتجد إجابته عجيبة، فيقول لك: يا أخي! احمد الله أن الله هداك وأنا ما هداني، اسأل لي الهداية، يريد أن تنزل عليه الهداية من السماء! لا، ولهذا قال شيخ الإسلام:
رزق الهدى من للهداية يسأل |
من بحث عن الهداية وفقه الله وسدده ودله على الخير.
ولهذا لما بحث أبو ذر وعمر بن عنبسة عن الهداية وعن الدين، هداهم الله، لكنهما لو جلسا ولم يسألا ولم يبحثا لم تنزل عليهما الهداية من السماء، بل لا بد.. ولهذا قال الله: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:5-7] إذاً.. لا بد من قضية العمل حتى ترزق الهداية، وييسر الله لك أمورها.
1- رزق طيب.
2- رزق خبيث.
ومنه الكسب الخبيث، هو الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حلوان الكاهن ومهر البغي، وكسب الحجام بصفة النقص، والعجب من المعتزلة فإنها تقول: إن الرزق الحرام ليس برزق أو إن المال الحرام ليس برزق، وأن الله لا يرزقه؛ بناءً على تأصيلهم في مسألة أصل من أصول المعتزلة الخمسة: وهو العدل، وقالوا: إن الله لا يرزق الحرام أبداً وإنما الله يرزق الحلال، فلو كان الله يرزق الحرام ثم يعذب عليه لكان عندهم ظالماً، وهذا الكلام باطل، والنتيجة قالوا: إن الله عادل، إذاً الله لا يرزق الحرام، وكذلك الله لم يكتب المعاصي على العبد وغيرها من الأصول التي تكلم عليها المعتزلة.
سبحان الله! نجد في اللغة العربية بعضاً من الأمور يريد العلماء أن يعرفوها فيأتون بضدها، الليل ضد النهار فقط، ولا يحتاج إلى تعريف، ومثله إذا قالوا في قضية الهدى يقولون: هو ضد الضلال، والضلال ضد الهدى، كأنه من الأمور التي يعرفها الناس ومن الأمور اليقينية.
لقد ورد في القرآن آيات كثيرة في مسألة الهدى، والله يقول: إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى [الليل:12] أي: إن علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلال، وقال سبحانه وتعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17] أي: بينا لهم طريق الحق وطريق الضلال، وبينا لهم طريق الإيمان وطريق التوحيد، ولكنهم استحبوا الضلالة على الهدى فلم يريدوه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) وقيل: إن الذين هداهم الله تعالى إلى الحق: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وأرضاهم.
وقال بعضهم: إن من أسماء الله الهادي، قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير سورة الفاتحة، عند قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] قال: الهدى يطلق ويراد به:
الإطلاق الأول: ما يقر في القلب من الإيمان، قال: وهذا لا يقدر على خلقه في قلوب العباد إلا الله سبحانه وتعالى، ولعلها تسمى هداية التوفيق والإلهام، ويدل على هذا قوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56] ويقول الله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة:272] وفي قوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ [الأنعام:125].
الإطلاق الثاني: يطلق ويراد به بيان الحق وتوضيحه، والدلالة عليه والإرشاد، كما في قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] وهذه تسمى هداية الدلالة والإرشاد، الأولى لا يقدر عليها إلا الله، أما الثانية فهي للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وللدعاة إلى الله؛ لأنهم يدعون الناس ويدلونهم ويرشدونهم إلى الحق، وللعلماء وطلاب العلم وللآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فهم يصفون للناس دلالة الإرشاد، وتوضيح الحق وبيانه، وقد قال الله: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [الرعد:7].
يجب أن نعلم أن الهدى لا ينزل على الإنسان من السماء، بل لابد من بذل الأسباب، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "سؤال الهداية متضمن لحصول كل خير والسلامة من كل شر.
وقال: (إن الهداية هي البيان والدلالة، ثم التوفيق والإلهام، وكأن أول طريق لها البيان والدلالة، قبل أن يحدث للإنسان بيان ودلالة لا يحصل له التوفيق والإلهام، وأصبح لا سبيل إلى البيان والدلالة إلا من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام)، وهذه قاعدة، فلن تستطيع دلالة الناس إلى الحق إلا عن طريق الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهذا أمر معلوم، فمن أراد أن يدل الناس إلى الحق بدون أن يكون مستنده النبوة أو الرسالة فلن يستطيع إيصال الحق إلى الناس، فإذا حصل البيان والدلالة والتعريف ترتب على ذلك هداية التوفيق، وحصل له الفلاح والسعادة بالهدايتين جميعاً.
المرتبة الأولى: التكليم، وهو أن يكلم الله عبده يقظة بلا واسطة، وهي أعلى المراتب، كما حصل لموسى عليه الصلاة والسلام لما واعده ربه، وكما حصل لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج.
المرتبة الثانية: مرتبة الوحي، وهذه تختص بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كما في قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء:163].
المرتبة الثالثة: مرتبة إرسال الملك إليه،
وهو إرسال الرسول الملكي إلى الرسول البشري، فيوحي الله إليه بما أمر الله أن يوصله إليه، كما كان جبريل يأتي إلى محمد صلى الله عليه وسلم بل جبريل يأتي الأنبياء جميعاً، وهذه المراتب الثلاث يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: إنها خاصة بالأنبياء لا تكون لغيرهم أبداً، وكل هذه المراتب الثلاث قد حصلت لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم.
المرتبة الرابعة: مرتبة التحديث، كما حصلت لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كان في الأمم قبلكم محدثون، فإنه في أمتي
لطيفة من اللطائف: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "إن هذه الأمة ليس فيها محدثون كثير" وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت في الأمم السابقة، ويذكر العلة من ذلك والسبب، قال: استغناء بكمال شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته فلم تحتج إلى محدثين كثير في هذا الأمر؛ لأن الشريعة قد كملت ولله الحمد، فلم يحوج الله الأمة بعد محمد صلى الله عليه وسلم إلى مُحَدَثٍ أو ملهمٍ، أو إلى صاحب كشف كما تقوله الصوفية .
المرتبة الخامسة: مرتبة الإفهام، ولهذا ذكر الله في قصة داود وسليمان: إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ [الأنبياء:78] ثم قال الله: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79] فالفهم نعمة من الله سبحانه وتعالى على عبده، وهو نور يقذفه الله في قلب من شاء فيعرف به ويدرك ما لا يدركه غيره.
ومثله قصة ابن عباس رضي الله عنهما عندما كان يجلس في مجالس عمر رضي الله عنه وأرضاه، وكان عمر يصدره في المجالس، فقال الصحابة الكبار: إن لدينا أبناءً مثله في سنه فلماذا لا يجلسون؟ فسأل عمر عن قول الله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] ما تفهمون منها؟ قال الصحابة: إنه إذا فتح على النبي صلى الله عليه وسلم مكة فإنه أمر بالاستغفار، قال: ما تقول يا بن عباس؟ [قال: إن هذا دليل قرب أجل النبي صلى الله عليه وسلم] ففهم ابن عباس فهماً دقيقاً، بمعنى: أنها انتهت الرسالة، وقد كملت مهمة محمد صلى الله عليه وسلم، والآن أمر بقضية كثرة الاستغفار لله سبحانه وتعالى والإنابة إليه.
المرتبة السادسة: مرتبة البيان العام، وهو تبيين الحق وتمييزه من الباطل بأدلته وشواهده وأعلامه، ولذلك يقول الله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [التوبة:115] فأصبح الإضلال الذي يحدث للناس عقوبة من الله تعالى بعد البيان، أما كون الناس يضلون وليس عندهم وضوح ولا أدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهذا أمر معلوم، لكن بعد أن يبين لهم يحدث الضلال، ولا شك أن هذا عقوبة؛ لأنهم أعرضوا عما ذكروا به: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5] لأنهم هم المنحرفون.
وذكروا أن البيان يحدث بأمرين: بالآيات المسموعة وهي القرآن وغيره، وبالآيات المشاهدة، ولعل كثيراً من الناس يصلون إلى الآيات المسموعة ويعرفونها، لكن الآيات المشاهدة لا تحدث لهم، والله يقول: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [آل عمران:190] ويعتبر من الآيات المشاهدة موت العلماء، ولاشك أنها آيات عظيمة، وثلمة تحدث في الأمة، ونقص لا يشعر به ولا يعرف خطره إلا من كان متميزاً وفاهماً.
منها: الآيات التي تحدث في الأمم من الزلازل والبراكين وغيرها .. آيات، من الناس من يتعظ ومن الناس كما قال الله تعالى: وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس:101] فلا يستفيدون شيئاً.
المرتبة السابعة: البيان الخاص: وهو البيان المستلزم للهداية الخاصة، وهي هداية التوفيق والإلهام.
المرتبة الثامنة: مرتبة الإسماع، وسنتكلم على مرتبة الإسماع في البيت الثاني والله قد قال في القرآن: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:23].
ويقصد بالإسماع هنا ليس إسماع الآذان وإنما إسماع القلوب، ولهذا تجدهم يسمعون الآيات ويسمعون رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن، لكنهم لا يستفيدون، ولهذا قال الله: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:23].
المرتبة التاسعة: مرتبة الإلهام، والله يقول: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:7-8] والمقصود بالإلهام هنا: أن يُجْعَلَ في قلب الإنسان تمييزه بين الحق والباطل، ولعل من الإلهام أن الإنسان إذا أذنب ذنباً سرعان ما يتوب، ويعرف بجرمه وبمعصيته، وبأنه خالف الحق، أو أنه إذا مر في طريق ميز بين أهل الحق والباطل، وميز بين أهل المعصية والطاعة، وميز بين الطريق الذي يأخذه والطريق الذي لا يأخذه، وهذا لا شك أنه نعمة ينعم الله بها على من يشاء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو: (اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي) ولهذا يقال: كل مؤمن فإنه قد ألهمه الله رشده، إذ أنه اتبع محمداً صلى الله عليه وسلم وأعرض، وأهل العقيدة الصحيحة ألهموا رشدهم إذ لزموا ما كان عليه سلف الأمة، وأعرضوا عن أقوال أهل البدع وما كانوا عليه.
المرتبة العاشرة: الرؤيا الصادقة، ولا شك أن الرؤيا الصادقة جزء من النبوة، وهي أن يراها المسلم أو ترى له، وسبحان الله! تكثر الرؤى في آخر الزمان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول بعثته أول ما بدأ به الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، مصداقاً لرؤيته صلى الله عليه وسلم، وهذا مما يتميز به النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل هذه كانت من أوائل ما تأتي للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتصبح الرؤى الصادقة للأنبياء إرهاصاً لهم ومقدمات لنبوتهم؛ حتى لا تفجؤهم قضية النبوة، فإنهم يبدءون يرون الرؤى ثم تقع، ثم تتكرر عليهم، ثم تأتي المرتبة التي بعدها حتى ينزل عليهم الوحي، ويؤمروا بقضية التبليغ.
أما بالنسبة للمسلمين أو لأفراد الناس فلا يمكن أن نقول: مقدمات للنبوة، بل هي جزء من أجزاء النبوة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يراها الإنسان أو ترى له، وتصبح إذا كانت الرؤيا صادقة.
ولعلنا نذكر من اللطائف هنا ونختم بها: الرؤى إما أن تكون أضغاث أحلام، وإما أن تكون رؤى صادقة، فأضغاث الأحلام لا يلتفت إليها أصلاً، والرؤى التي قد تكون صادقة تنقسم إلى قسمين: رؤىً تسر الإنسان ويفرح بها، ورؤىً تسوءه، أما الرؤى التي تسر الإنسان فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم ما يحب، فليحدث من يحب مخافة أن يحسده أحد) مثل الإنسان رأى أنه سلم على الرسول صلى الله عليه وسلم، أو رأى أنه دخل الجنة، أو رأى أنه تزوج، أو أنه كسب مالاً، هذه رؤى طيبة، فهذه نقول: يحدث من أحب بها.
أما إذا رأى الإنسان ما يكره، مثل أن يرى أنه مقتول، أو أن على رأسه طائر، أو رأى أنه سقط في بئر، من الرؤى المفزعة، أو شخصاً يلحقه بسلاح، فلا شك أن هذه الرؤى تحزن القلب، وقد تؤثر عليه تأثيراً مباشراً.
بعض الناس يقوم من النوم وهو يبكي من شدة ما رأى، أو يصيح بأعلى صوته مما رأى، فماذا يعمل المسلم هنا؟ بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أدباً عظيماً، وكان عمر يقول: [إني لأرى الرؤيا فتهمني، أو فتمرضني شهراً من فزعها] ثم دله النبي صلى الله عليه وسلم: أولاً: أن يتحول الإنسان عن موقعه الذي هو عليه، فإذا كان على جنب انتقل على الجنب الآخر، وإذا كان على ظهره انتقل على جهة أخرى.
ثانياً: أن يتعوذ بالله من شر ما رأى، وأن ينفث ثلاثاً، ثم أمره النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا يخبر بها أحداً) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها لا تضره بعد ذلك) وفي بعضها أنه يتوضأ ويصلي، ولكن إذا عمل بهذا لا يضره شيء أبداً، وهذا هو هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد تكون الرؤى لا شك مفزعة.
وينبغي للإنسان ألا يفسرها، ولقد فسر يوسف عليه الصلاة والسلام للذين رأيا رؤيا وهما في السجن، أحدهم رأى أنه يعصر خمراً ويسقي ربه، والآخر رأى أنه يحمل على رأسه خبزاً تأكل الطير منه، فأخبر يوسف عليه الصلاة والسلام بعد أن دعاهم إلى العقيدة الصحيحة: أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ [يوسف:39] ثم بين لهم أن أحدهم يصلب فتأكل الطير من رأسه، لو أُخبر الإنسان بهذا الخبر بأن رأى رؤيا مفزعة وقيل له: إنك ستموت وتقطع إرباً بحادث سيارة، يصبح لا يركب سيارة إلا وهو ينتظر متى يتقطع.
ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا يحدث بها أحداً، وأن يتعوذ بالله من شرها فإنها لا تضره شيئاً، وهذا من أدب الإسلام في قضية الرؤيا، ومما ينبغي للمسلم أن يكون حريصاً عليه.
ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر