وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
وها نحن الليلة مع سورة الفتح المدنية، هذه السورة المباركة التي قال فيها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( لقد أنزلت علي سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس. ثم قرأ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1] ).
فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوة هذه الآيات منها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا * هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا * وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [الفتح:1-7].
أخبره بأن فتح الله عز وجل آت لا محالة، قال بعض الصحابة: كيف هذا الفتح؟ فأخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إذا ما فتح اليوم فسيفتح غداً، والفتح حاصل، وما هي إلا السنة السابعة والسنة الثامنة وفتح الله عليهم مكة ودخولها، وقبلها دخلوا خيبر، والحمد لله.
هناك لطيفة علمية مقبولة ومعقولة: وهي أنه أيام كان في بدر قال: يا رب! إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد، وعاتبه الله، فمن شدة ألمه وخوفه من مهاجمة المشركين خاف أن يفتن المؤمنون ويهلكوا، ومن سيعبد الله بعد ذلك؟ فهذا اعتبر ذنباً، وهو قوله: رب إن تهلك هذه العصابة فلن تُعبد؛ لأنه في بدر في السنة الثانية، ونحن الآن في السنة السادسة. والذنب الذي تأخر ورد أنه في غزوة حنين لما تجمع المشركون وكادوا يهزمون المسلمين وفر من فر وانهزم من انهزم أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم حفنة من تراب وقال: باسم الله، ورماها في وجوههم فعموا وتشتتوا، هنا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لولا أني رميتهم ما فروا، فهذه اعتبرت أيضاً ذنباً، فالله هو الفاعل.
فهذان الذنبان: الأول في بدر والثاني في حنين، فقال تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:2].
الجواب: لو عرفنا عظمة الله وجلال الله وكمال الله ذاك الذي خلق كل شيء وبيده كل شيء، ذاك الذي يقول للشيء: كن فيكون، لو امتلأت القلوب بهذا فلن نستطيع أبداً أن نذكره إلا وترتعد فرائصنا أو نخر ساجدين، وها نحن ندخل في الصلاة ورغبتنا أن تنتهي، هذه وحدها كافية، كيف تتكلم مع الله والله معك وتود أن تخرج من المكالمة؟ هذه وحدها تعتبر مما لا يطاق، لو نؤاخذ بها فلن نسعد، كيف دخلت في الصلاة تتكلم مع الله وترغب أن تنتهي؟! هذه رغبتنا، إذا أطال الإمام غضبنا، نود أن نخرج، فكيف تود أن تخرج من الكلام مع ربك؟
فعظمة الله عز وجل من يقوى على تقديرها؟ فكان الحبيب صلى الله عليه وسلم يشعر بهذا، ويحس به، فمن ثم يتوب إليه ويستغفره، ليس معناه أنه أذنب ذنباً أو ارتكب جريمة أو فعل معصية، إنما تقصيرنا في تقدير عظمة الله وجلاله وكماله، وحبه وطاعته، فيكفي هذا لأن نتوب إلى الله كل يوم مئات المرات ونستغفر الله، هذا الذي سمعتم هو الحق.
أولاً: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1]، ثانياً: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:2]، ثالثاً: وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا [الفتح:2-3] أعطاه هذه العطايا مقابل ما عانى وقاسى من الأتعاب، وفضل الله عليه عظيم.
وقوله تعالى: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا [الفتح:3] بشرى، والله! ما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نصره الله على كل أعدائه في هذه الديار، على المنافقين والمشركين، وارتفعت راية لا إله إلا الله في هذه الديار كلها.
وزيادة الإيمان تحصل بكل عمل صالح تعمله، يزداد إيمانك إلى أن تموت، ما من عمل صالح من صلاة أو زكاة أو صيام تعمله في صدق إلا ويزداد إيمانك، وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا في كل فترة ينزل عليهم فرض من الفروض، فرضت الصلاة، فرض الصيام، الزكاة، الحج، الجهاد، ويزداد بذلك إيمانهم، وحين دخلوا الإسلام دخلوه بلا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم أخذ تعالى ينزل قرآنه ويبين لهم العبادات وهم يعبدون الله وإيمانهم ينمو ويزيد.
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا [الفتح:4] بخلقه حَكِيمًا [الفتح:4] في تدبيره وتصرفه، فخففوا عن أنفسكم أيها المؤمنون، واحمدوا الله عز وجل واشكروه؛ لأنهم كانوا في كرب عظيم وهم راجعون من الحديبية إلى المدينة.
فقال تعالى: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا [الفتح:5] هذا أولاً، وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ [الفتح:5] قبل ذلك، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا [الفتح:5] وهو النجاة من النار ودخول الجنة، أي فوز أعظم من هذا الفوز: تكفير السيئات ومحو الذنوب لتزكو النفس وتطيب ويقبلها تعالى في جواره في الجنة؟ أي نعيم أعظم من هذا النعيم وفوز أكبر من هذا الفوز؟
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: الذنب الذي غفر لرسول الله صلى الله عليه وسلم من المعلوم بالضرورة أنه ليس من الكبائر في شيء، وهو من باب: حسنات الأبرار سيئات المقربين ].
من هداية هذه الآيات التي تدارسناها الآن والفضل لله والحمد لله: أن الكبائر لم يرتكبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله! ما فعل كبيرة أبداً، معصوم محفوظ بحفظ الله، وإنما من باب: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فصلاتنا هذه التي نصليها هي عند المقربين سيئة ما هي بصلاة، صلاتنا التي نصليها كما تشاهدون حيث ندخل مع الله ونخرج عنه ونتركه ونذهب هنا وهناك بقلوبنا والعياذ بالله، وما نشعر أننا نتكلم مع الله وأننا مع الله، وهكذا كل العبادات يجب أن نكون فيها مع الله، فلهذا حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقد بينت لكم أنه كان صلى الله عليه وسلم يستغفر في اليوم مائة مرة، ليس معنى هذا أنه يذنب أبداً، وإنما يشعر بأنه ما وفًّى ما يجب عليه لله.
وقد قلت: انظر إلى الرب العظيم الذي خلقك وصورك، وبيده ملكوت كل شيء يحيي ويميت وهو رب العالمين، فكيف لا ترتعد فرائصك إذا ذكرته أو وقعت ساجداً؟
فمن هنا يجب أن نستغفر الله ونتوب إليه لا مائة مرة، بل مئات المرات، اقتداء برسولنا صلى الله عليه وسلم.
[ ثانياً: إنعام الله على العبد يوجب الشكر، والشكر يوجب المغفرة وزيادة الإنعام ].
أنعم الله علينا بنعمة الإسلام فيجب أن نشكر الله عز وجل، والشكر يحقق لنا المزيد من النعمة ومغفرة الذنب.
[ ثالثاً: بيان مكافأة الله لرسوله والمؤمنين على صبرهم وجهادهم ].
من هداية هذه الآيات: بيان مكافأة الرب تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من أصحابه على ما عانوه وقاسوه وعاشوه تلك الأيام الصعبة في الحديبية، فالله كافأ رسوله وكافأ أصحابه عما كانوا يعانونه في ذاك الصراع بينهم وبين المشركين، والمنافقون في المدينة يضحكون ويفرحون، فعوضهم الله بما سمعتم، فالرسول صلى الله عليه وسلم آتاه الفتح، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأعطاه النصر، والمؤمنون غفر ذنوبهم، وهكذا مكافأة الله لعباده المؤمنين.
[ رابعاً: بيان أن الكافرين يحزنون ويغمون لنصر المؤمنين وعزهم، فيكون ذلك عذاباً لهم في الدنيا ].
في الآيات بيان أن الكافرين والمنافقين يكربون ويحزنون إذا انتصر المؤمنون وأيدهم الله، وذلك هو العذاب لهم في الدنيا قبل الآخرة، وهذا دلت عليه الآية الأخيرة: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ [الفتح:6]، فلما نصر الله الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أصاب المنافقين والمنافقات والمشركين كلهم كرب وهم وحزن والعياذ بالله تعالى حتى هلكوا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر