اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الحج: وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ [الحج:55-59].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات كيف أن الكفار في قلوبهم شك من هذا الدين، ولا يزال الذين كفروا في مرية وفي شك من هذا القرآن، أو من هذا الدين، بسبب ما يلقيه الشيطان في آذانهم وفي أسماعهم، وبسبب ما يوسوس به في صدورهم فيتشككون في أمر النبي صلى الله عليه وسلم،وفي أمر الدين حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم وهو عذاب يوم القيامة، لا يوم للدنيا بعده، فهو آخر أيام الدنيا فلن يكون بعده ليل ولا نهار، وإنما اليوم عند ربك كألف سنة مما تعدون، فلا حياة فيها تكليف بعد ذلك، وإنما بعد ذلك الحياة الأخروية التي فيها الجزاء والحساب.
قال تعالى: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا [طه:111] عنت: ذلت وقهرها الله سبحانه وتعالى فاستكانت وخشعت بين يدي الله رب العالمين، هذا في يوم القيامة، عرفوا وعلموا واستيقنوا أن الملك هو الله سبحانه وتعالى وأن الملك له، وأنه مالك يوم الدين كما هو مالك الدنيا، وفي الآخرة يبدو هذا بأن يذلهم جميعهم، وأن يقهرهم جميعاً ويريهم ناره، ويريهم عذابه، ويريهم جنته، ويسألهم واحداً واحداً، فكل إنسان مسئول عن نفسه وعن تقصيره وعما عمل في هذه الدنيا، فظهر الملك لله سبحانه وتعالى يجازي عباده يوم القيامة، وبان واتضح أن الملك لله وحده لا شريك له، فلا أحد يجرؤ أن يسأل الله عز وجل: لم فعلت كذا؟ ولا أحد يجرؤ أن يسأل الله عز وجل: لم أدخلت هذا الجنة؟ ولم أدخلت هذا النار؟ الملك يومئذ لله فيحكم سبحانه وتعالى بينهم، فيفرق بين المؤمنين وبين الكفار، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم المقيم، وفيها الحياة الأبدية التي ينعمون فيها بما شاء الله عز وجل لهم من أنواع النعيم، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات فيها البساتين وفيها ما يشاءون من طعام وشراب وما تشتهيه الأنفس وتلذ به الأعين وهم فيها خالدون.
قال الله تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا [الحج:58] هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن عامر : ( ثم قتِّلوا أو ماتوا ) أي: قاتلوا في سبيل الله فمنهم من قتل فكان شهيداً، ومنهم من مات، والاثنان لهما الأجر العظيم عند الله سبحانه وتعالى، فقوله تعالى: ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا [الحج:58] هما سواء.
والهجرة عظيمة وفضلها عظيم، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة ميز بين المهاجرين الأولين، وبين من دخل في الإسلام بعد الفتح فقال: (لا هجرة بعد الفتح) مضت الهجرة لأهلها، يعني: الثواب العظيم في هذه الهجرة مضى لأهلها، سواء قتلوا شهداء، أو ماتوا على فرشهم، فالله عز وجل ذكر الاثنين، قال: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا والفعل المضارع إذا سبقته لام التوكيد وجاء في آخرها نون التوكيد المثقلة فهذا دليل على جواب القسم فيه، فكأنه يقول: والله ليرزقنهم الله رزقاً حسناً وإن الله لهو خير الرازقين.
فجعل للاثنين من مات حتف أنفه، أو من قتل في سبيل الله الأجر العظيم عند الله سبحانه، فهم هاجروا من ديارهم وأموالهم وفي نيتهم أن يكونوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث ما كان، وأن ينصروا دين الله سبحانه وتعالى، فنووا أن يكونوا معه، وأن يجاهدوا معه صلى الله عليه وسلم، واستحضروا نية الجهاد، وتمنوا أن يكونوا شهداء، وكيف لا وقد سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لوددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا) فلفضل الجهاد تمنى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وتمنوا هم ذلك، قال تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23] فشهد لهم الله عز وجل أنهم الصادقون، وأنهم لم يبدلوا ولم يتبدلوا، ولم يبدلوا دين الله، ولم يغيروا نواياهم، فلذلك كان لهم الأجر العظيم عند الله سبحانه.
ومن قتل في سبيل الله له الحسنى عند ربه سبحانه، ومن مات أيضاً له الحسنى عند الله؛ لأنه هاجر ونوى الجهاد، ونصر دين الله سبحانه وتعالى، وتقدير الموت بيد الله ليس بيد الإنسان، فالإنسان لا يملك لنفسه أن يموت شهيداً أو يموت على فراشه، وهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه يقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم ويجاهد بعده صلوات الله وسلامه عليه مع الخلفاء الراشدين، ويتمنى أن يستشهد في سبيل الله سبحانه وتعالى، ويذهب في مواضع الموت مقاتلاً مجاهداً ومع ذلك كتب الله عز وجل له أن يموت على فراشه، وهو يقول للناس: إنه ما في بدنه موضع إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء، رضي الله تبارك وتعالى عن خالد بن الوليد وعن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جميعهم.
الغرض هنا: أن الله وعد هؤلاء الذين هاجروا في سبيل الله سبحانه بصدق نيتهم، وصدق جهادهم مع النبي صلى الله عليه وسلم أن لهم الحسنى عند الله عز وجل سواء قتلوا أو ماتوا، ففي الحالتين لهم الأجر العظيم، فقال سبحانه: ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الحج:58] تأكيد من الله سبحانه وتعالى، ووعد مؤكد، قال: لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا [الحج:58] وذكر لفظ الجلالة دليل على تشريف هؤلاء، فلم يقل: ( والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم رزقاً حسناً ) ولكن قال: لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ [الحج:58] تشريفاً لهؤلاء بأن الرزق من عند الله، فليست الملائكة هي صاحبة الرزق، ولا مخلوق آخر، إنما صاحب الرزق هو الله، إذاً: الرزق يليق به سبحانه وتعالى، يعطي المجاهدين في سبيله رزقاً حسناً، وكل رزق الله حسن سبحانه وتعالى، فإذا كانوا رزقوا الجنة فلا شك أنه أحسن الأرزاق وأفضلها، ولكن الله سبحانه يشرفهم ويفضلهم ويطمئنهم بقوله: لكم أحسن الرزق عند الله رب العالمين.
روى البخاري ومسلم عن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عندها فنام صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهو يضحك) دخل بيت أم حرام بنت ملحان التي هي أخت أم سليم أم أنس بن مالك رضي الله عنه، وهذه أختها زوجة عبادة بن الصامت ، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضحك فقالت: ما يضحكك يا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون يبج هذا البحر مثل الملوك على الأسرة) يخبر أنه رأى في الرؤيا ورؤيا الأنبياء كلها وحي من الله وكلها حق، فرأى أن من أمته من يخرج مجاهداً في سبيل الله في البحر، وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم ما كان الصحابة متعودين على ركوب البحر في الجهاد في سبيل الله سبحانه؛ لأن ركوب البحر شيء شاق جداً فهو رأى هذه الرؤيا وفسرها أنه يخرج في يوم من الأيام ناس من الصحابة مجاهدين في البحر، فضحك فقال: (مثل الملوك على الأسرة، فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وضع رأسه ثم استيقظ وهو يضحك صلوات الله وسلامه عليه فقالت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله) كما ذكر في الحديث الأول، يعني: مرتين كأنه يخرج ناس مجاهدون في سبيل الله وبعدهم يخرج آخرون مجاهدون في سبيل الله عز وجل، (فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم قال: أنت من الأولين) فذكر الراوي أنها ركبت البحر في زمن معاوية بن أبي سفيان وحين خرجت من البحر، ركبت دابتها فوقعت من الدابة وماتت رضي الله تبارك تعالى عنها، فهذه المجاهدة طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله أن يجعلها منهم، فكانت هي منهم خرجت مجاهدة في سبيل الله مع زوجها عبادة بن الصامت رضي الله عنه مجاهدين للروم.
لاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنت من الأولين) يعني: من هؤلاء المجاهدين فكان لها أجر هؤلاء المجاهدين الذي كالملوك على الأسرة مع أنها لم تقاتل وإنما وقعت عن دابتها، فالمهاجر إذا هاجر في سبيل الله سبحانه وتعالى وجاهد في سبيله عز وجل ثم قتل أو مات فله أجره وله الرزق الحسن عند الله سبحانه وتعالى.
أيضاً: جاء في حديث آخر: عن عبد الله بن عتيك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من خرج من بيته مهاجراً في سبيل الله فخر عن دابته فمات، أو لدغته حية فمات، أو مات حتف أنفه؛ فقد قع أجره على الله، ومن مات قعصاً فقد استوجب المآب) المعنى: أن الخارج مجاهداً ليس شرطاً أن يقتل من قبل العدو، فمن الممكن أن يموت أو تلدغه حية فيكون له أجره عند الله؛ لأنه نوى الخروج، بل من سأل الله عز وجل الشهادة بصدق فله أجرها وإن مات على فراشه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه).
قال تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ [الحج:59] لما ذكر الله أجر هؤلاء ذكر اسمين من أسمائه سبحانه، الاسم الأول: العليم، الاسم الآخر: الحليم سبحانه وتعالى.
فقوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ [الحج:59] أي: عليم بمن يستحق هذا الأجر العظيم، وعليم سبحانه وتعالى بنيات هؤلاء، وحليم عن عقابهم، قد يسيء الإنسان ثم يهاجر في سبيل الله، فالهجرة تجب ما قبلها، وقد يكون بعض من هؤلاء وقع في نوع من الذنوب، أو شيء من الآثام، وبعد ذلك يستر عليه الله ويغفر له، فالله حليم، وكم من إنسان يجاهد في سبيل الله سبحانه وتعالى مستيقناً بما أوجب الله عز وجل من هجرة ومن جهاد وله الأجر العظيم عند الله سبحانه، ولعله كان قبل ممن يدفع هذا الدين ويمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو في مكة، وأن يدعو إلى دين ربه سبحانه، فالله سبحانه حلم عليهم، ثم أرشدهم وهداهم إلى الإسلام ثم جعلهم شهداء، بل قد يكون قد قتل مسلماً مثل: خالد بن الوليد، في يوم أحد كان كافراً، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في يوم أحد يقاتلون هؤلاء الكفار، وإذا بـخالد يسلم بعد ذلك قبل فتح مكة، ويدخله الله عز وجل في هذا الدين مدخلاً حسناً، ويكون من المجاهدين لإعلاء دين رب العالمين سبحانه، فالله حليم سبحانه وتعالى، عليم بقضائه وقدره، علم سبحانه وتعالى أن هذا ممن يستحق الحسنى من الله عز وجل، فلم يؤاخذه بذنوبه، ولم يعجل له العقوبة، وتاب عليه سبحانه وتعالى، وجعله من المجاهدين، فالله عليم بمن يستحق الرحمة، والله يحلم عن العاصي لعله يتوب، فإذا تاب رفعه وغفر له سبحانه وتعالى، وفرق بين أن يحلم على إنسان ليتوب، وبين أن يملي إنساناً ليعذبه، فالله عز وجل يحلم عن إنسان علم في قلبه الخير، فإذا به يتركه فيراجع نفسه ويتوب، فيتوب الله عز وجل عليه، ويملي إنساناً آخر في معصية؛ فإذا به يزداد عتواً وفجوراً، ويزداد بعداً عن دين الله ونفوراً، فإذا بالله يأخذه أخذ عزيز مقتدر.
نسأل الله عز وجل بفضله حلمه وكرمه ورزقه الحسن، ونعوذ بالله من عذابه، ونسأله جنته ونعوذ به من عقابه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر