قال تبارك وتعالى:
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا [النساء:148].
قوله: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول) يعني: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد، إلا أن يكون مظلوماً فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله: (إلا من ظلم) وإن صبر فهو خير له.
(وكان الله سميعاً عليماً) سميعاً لما يقال، عليماً بما يفعل.
أقوال المفسرين في معنى قوله: (إلا من ظلم)
من قال بأن إلا في قوله: (إلا من ظلم) بمعنى لا
نقل
السمرقندي وغيره عن
الفراء في قوله تعالى: ((إِلَّا مَنْ ظُلِمَ)) أن (إلا) بمعنى: لا، أي: ((لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ)) يعني: حتى الذي يظلم لا يحب الله منه أن يجهر بالسوء من القول، يقول
القاسمي : هذا من تحريف الكلم عن مواضعه -يعني: تفسير (إلا) بمعنى: لا- فإن الآية صريحة في أنه يجوز للمظلوم أن يتكلم بالكلام الذي هو من السوء في جانب من ظلمه، ويؤيده الحديث الذي رواه الإمام
أحمد و
أبو داود و
النسائي و
ابن ماجة و
الحاكم ، عن
الشريد بن سويد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (
لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)، الواجد هو: الشخص الذي عليه دين أو حق للناس وعنده من المال ما يسدد به الدين ويعطي للناس حقوقهم، فهو ليس فقيراً أو معدماً وليس لديه أي عذر، ومع ذلك يماطل ويسوّف، ويتهرب من أداء حقوق الناس، فإذا وقع إنسان في هذه المماطلة والتسويف مع كونه واجداً وغنياً فهذا ليه ومماطلته تحل عرضه وعقوبته، يعني: تحل الشكوى منه والثناء عليه بالشر الذي يفعله، فيحق لك أن تذكره بسوء وتشتكيه إلى القاضي وتقول: فلان ظلمني، فلانٌ ماطلني، فلان يمنعني حقي، فهذا داخل في قوله تعالى:
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ، فمن حق الذي ظلم أن يشتكي لكن من لم يظلم وجهر بالسوء فهذا يكون مرتكباً لكبيرة الغيبة.
والكلام هنا في الرخصة في الجهر بالسوء من القول في حق من ظلم، أما من لم يظلم فجهره بالسوء داخل في الغيبة المحظورة.
أفادت الآية جواز الجهر بالدعاء على الظالم، ودلّت على أن من جهر بكلمة الكفر مكرهاً لا يكفر، وهذه الآية تضم إلى الآية التي في سورة النحل
إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106] وذلك لأن المكره مظلوم، وإذا ثبت بطلان حكم لفظ الكفر مع الظلم، فكذا يلزم في سائر الأحكام من البيع والعتاق والطلاق والإقرار.
ثم قال: والمحبة ها هنا بمعنى: الإباحة، لا أن ذلك يريده الله تعالى.
يقول
القاسمي : هذه نزغة اعتزالية، أي: تأويل فاسد، ثم قال: وتسميته سوءاً بكونه يسوء المقالة فيه، يعني: لأنك إذا اشتكيت من هذا الظالم فهذا الكلام الذي تقوله يسوءه ويؤذيه، وإلا فليس بقبيح في هذه الحال؛ لأن مقابلة الظالم بالجهر بالسوء من القول في حقه إنما هو من العدل؛ وذلك كقوله تعالى:
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، وهذه مجرد مشاكلة في اللفظ للمجاورة، لكن هل السيئة الثانية تسمى سيئة، أم أنها من العدل؟
السيئة الثانية عدل وقصاص وليست قبيحة، كذلك هنا: ((لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ))، هذا أيضاً ليس سيئاً ولا قبيحاً في حال المقابلة وفي حال التشكي وقد ظلم.
من قال بأن إلا في قوله: (إلا من ظلم) بمعنى الواو
هناك من قال: إن (إلا) بمعنى: (الواو) ((لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ)) يعني: (ومن ظلم).
في الحقيقة لا أدري كيف يكون المعنى: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول ومن ظُلِم) هذا بعيد، إلا إذا قرئت (ومن ظَلَم)، يقول
البغوي الشاهد لهذا القول:
وكل أخ مفارقه أخوه لعمرو أبيك إلا الفرقدان
أي: والفراق دان، يقول: وهذا خلاف الظاهر، وهذا المذهب مردود. قولك: (إلا) بمعنى: الواو هذا خلاف ظاهر الآية الكريمة فلا تشتغلوا به.
الفوائد والحكم المستفادة من قوله: (إلا من ظلم)
نقل في معنى هذه الآية حكمٌ ونوادر بديعة، قال
الشعبي : يعجبني الرجل إذا سيم هوناً دعته الأنفة إلى المكافأة، يعني: أن المسلم يكون عزيز النفس، له أن يعفو ويصفح، لكن الصفح والعفو والحلم يكون في مقامه، أما معاملة المؤمن على أنه مغفل أو غير ذلك فهذا لا يمدح فيه العبد.
ومعنى كلام
الشعبي : يعجبني الرجل إذا سيم هوناً، أي: إذا ساوموه على أن يعطي الدنية والهوان والمذلة، دعته الأنفة والعزة إلى المكافأة، أي: في هذه الحالة يكافئ ويعاقب.
يقول عز وجل:
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، فبلغ كلام
الشعبي الحجاج ، فقال: لله دره أي رجل بين جنبيه، فتمثل:
ولا خير في عرض امرئٍ لا يصونه ولا خير في حلم امرئٍ ذل جانبه
أي: الذي يتحلم وهو في حالة المذلة، ولكن الحلم يكون قيمته في حالة العزة والقدرة على الانتقام، فهذا هو الذي يحلم.
وقال أعرابي لـ
ابن عباس رضي الله عنهما: (أتخاف عليّ جناحاً إن ظلمني رجل فظلمته؟ فقال له: العفو أقرب للتقوى، فقال:
وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى:41]). وقال
المتنبي :
من الحلم أن تستعمل الجهل دونه إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم
أي: إذا كان الحلم يشينك بمزيد من المذلة والهوان، ويفتح السبيل لمزيد من الظلم، فالحلم هنا لا يمدح ولا يقصد، بل إنه من الحلم أن تستعمل الجهل دونه وأن تسلك سبيل الجهل في مثل هذه الحالة، والجهل هنا بمعنى: الجهل العملي، والمقصود به: الانتقام والقصاص وأخذ الحق.
هذا معنى كلام
المتنبي ثم يقول
البرقوقي شارح ديوان
المتنبي : الحلم هو الأناة والعقل، والجهل هنا: نقيض الحلم، والمظالم: جمع مظلمة، وهي الظلم، يقول:
إذا كان حلمك داعياً إلى ظلمك، فإن من الحلم أن تجهل؛ لأن الحلم إنما يلجأ إليه بتدارك الشر، فإذا تفاقم الشر ولم يتدارك الشر إلا بالجهل كان الجهل حلماً.
فلا خير في حلم إذا لم يكن له زواجر تحمي صفوه أن يكدرا
حقيقة الاستثناء في قوله: (إلا من ظلم)
أما الاستثناء في قوله تبارك وتعالى: (( إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ))، إذا قلنا: إنه متصل ففيه وجهان:
الأول: قول
أبي عبيدة: إن هذا من باب الحذف في المضاف، يعني: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا جهر من ظلم) فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
الثاني: قول
الزجاج : المصدر هاهنا بعد الاستثناء متصل، يعني: لا يحب الله المجاهر بالسوء إلا من ظلم.
أما على أن الاستثناء منقطع فإنه يصلح أن يكون منقطعاً فـ(إلا) تكون بمعنى: (لكن)، وتكون العبارة: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول لكن المطلوب له أن يجهر بمظلمته.
قوله: ((وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا))[النساء:148]، فيه وعد للمظلوم بأنه تعالى يسمع شكواه ودعاءه، ويعلم ظلم ظالمه، كما قال تعالى:
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم:42]، ووعيد له أيضاً حتى لا يتعدى في الجهر المأذون فيه، فهو وعيد للظالم ووعد للمظلوم ووعيد له أيضاً ((وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا))، (وكان) أي: ولم يزل متصفاً بأنه تعالى (سميعاً) يسمع شكوى المظلوم ودعاءه، ويعلم ظلم ظالمه، وهذا وعد للمظلوم ووعيد له أيضاً، يعني: احذر أيها المظلوم أن تتعدى حدودك في القصاص من ظالمك، إذا شتمك تشتمه بمثل ما شتمك، لكن إذا كذب عليك في الشتيمة لا يجوز لك أن تقابلها بالمثل، وإذا خانك وغدر بك فلا يجوز لك أن تغدر وأن تخون وتقول: أنا أقتص منه؛ لأن الخيانة محرمة بحق الله سبحانه وتعالى، فالمسلم لا يغدر ولا يخون، مثلاً: إذا انتهك عرضك لا يحل لك أن تنتهك عرضه، وإذا سرق مالك لا يحل لك أن تسرق ماله.
فالمظلوم لا يتعدى بالجهر في المأذون فيه، فليقل الحق ولا يقذف بريئاً بسوء، فإنه يصير عاصياً لله بذلك.
وبعدما جوّز الله سبحانه وتعالى الجهر بالسوء، حث سبحانه على الأحب إليه والأفضل عنده، وأن يدخل العبد في الكرم والتخشع والعبودية، فقال سبحانه:
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [النساء:149].
قوله: (إن تبدوا خيراً) أي: تظهروا طاعة (أو تخفوه) أي: تعملوه سراً، (أو تعفو) أي: تتجاوزوا (عن سوء) أي: عن ظلم، (( فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا )) أي: يعفو عن الجاني مع قدرته على الانتقام.
يعني: الله سبحانه وتعالى موصوف بأنه عفو قدير، يعفو عن الجاني مع أنه قادر على الانتقام؛ فكذلك إذا قدرتم على الانتقام فأولى وأفضل في حقكم أن تعفوا عن الجاني.
فعليكم أن تقتدوا بسنة الله، وذلك بالعفو مع القدرة، فثمرة هذه الآية الحث على العفو، وأن لا يجهر أحد لأحد بسوء، حتى وإن كان على وجه الاقتصاص فضلاً عن كونه من مكارم الأخلاق، وإنما كان المقصود العكس بأن ما قبلها في ذكر السوء والجهر به، فمقتضى الكلام ((لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ)) أي: فإن عفا المظلوم ولم يدع على ظالمه ولم يتظلم منه، فإن الله عفو قدير، وإنما ذكر قبله إبداء الخير وإخفاءه توطئة للعفو عن السوء؛ لأنه يُعلم من مدح فاعل الخير في السر والعلانية.
قال
ابن كثير : ورد في الأثر: (أن حملة العرش يسبحون الله فيقول بعضهم: سبحانك على حلمك بعد علمك، ويقول بعضهم: سبحانك على عفوك بعد قدرتك).
وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: (
ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، ومن تواضع لله رفعه)، وصدر الحديث يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (
ثلاث أحلف عليهن ..) وهو الصادق المصدوق؛ لكن الحلف هنا لمزيد من التأكيد؛ لأن بعض الناس قد يستغرب من ذلك: (ما نقص مال من صدقة)، يعني: الصدقة لا تنقص المال أبداً، ومن ليس عنده يقين يستغرب هذا، فلذلك حلف النبي صلى الله عليه وسلم تأكيداً لهذه الحقائق، ويقول في نفس الحديث: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله).
وقال
الرازي : اعلم أن عواقب الخير على كثرتها محصورة في أمرين: صدق مع الحق، وخلق مع الخلق، والذي يتعلق مع الخلق محصور في قسمين: إيصال النفع إليهم، ودفع الضرر عنهم، فقوله تعالى: (( إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ )) إشارة إلى إيصال النفع إليهم.
(( أَوْ تَعْفُوا )) إشارة إلى دفع الضرر عنهم، فدخل في هاتين الكلمتين جميع أنواع الخير وأعمال البر.