بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
فاللهم! اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصلّ -اللهم- وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فحيا الله أصحاب الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله أنفسهم، وشرح الله صدروهم، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعني وإياهم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وأخص بالتحية مربية الأجيال وصانعة الرجال، التي تربعت طيلة القرون الماضية على عرش حيائها، تهز المهد بيمينها، وتزلزل عروش الكفر بشمالها، فمرحباً مرحباً بك يا صاحبة النقاب والحجاب في عهد الغربة الثانية للإسلام التي أخبر عنها النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، فحياك الله يا صاحبة النقاب ويا صاحبة الحجاب.
يا درة حفظت بالأمس غالية واليوم يبغونها للهو واللعب
يا حرة قد أرادوا جعلها أمة غربية العقل غريبة النسب
هل يستوي من رسول الله قائده دوماً وآخر هاديه أبو لهب
وأين من كانت الزهراء أسوتها ممن تقفت خطى حمالة الحطب
فلا تبالي بما يلقون من شبه وعندك الشرع إن تدعيه يستجب
سليه من أنا من أهلي لمن نسبي للغرب أم أنا للإسلام والعرب
لمن ولائي لمن حبي لمن عملي لله أم لدعاة الإثم والكذب؟
وما مكاني في دنيا تموج بنا في موضع الرأس أم في موضع الذنب؟
هما سبيلان يا أختاه ما لهما من ثالث فاكسبي خيراً أو اكتسبي
سبيل ربك والقرآن منهجه نور من الله لم يحجب ولم يغب
فاستمسكي بعرى الإيمان واعتزي وصابري واصبري لله واحتسبي
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل مني وأحبابي جميعاً صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياهم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته؛ إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير.
أيها الأحبة الكرام! هذه هي السلسلة المنهجية التي ابتدأناها في أحد المساجد الطيبة المباركة، والتي عنونا لها بهذا العنوان: (التربية لماذا؟).
وليعرني القارئ قلبه وسمعه؛ فإن المواضيع المنهجية تحتاج إلى حسن متابعة وشدة تركيز؛ حتى لا يشتكي القارئ من صعوبة الطرح، أسأل الله سبحانه أن يذلل لي ولكم الصعاب، وأن ييسر لي ولكم الأسباب، وأن يفتح لي ولكم؛ إنه هو الفتاح الوهاب.
أيها الحبيب الكريم! هناك أسباب هي التي دعتني لطرح هذا الموضوع الهام ولخصت هذه الأسباب في التالي:
أولا: الصحوة الإسلامية المباركة فإن هذه الصحوة في أمس الحاجة الآن إلى منهج تربوي أصيل يقود خطها ويصحح سيرها ومسراها؛ حتى لا تتعامل هذه الصحوة تعاملاً خاطئاً مع النصوص الخاصة أو العامة بوضعها في غير موضعها، أو بالاستشهاد بها في غير محلها، أو بدون تحقيق المناطات الخاصة أو العامة التي لابد منها للربط ربطاً صحيحاً دقيقاً بين دلالات هذه النصوص وحركة الواقع.
إن هذا المنهج التربوي هو الذي يحفظ الصحوة من الانسياح والذوبان في هذه المناهج المنحرفة، وهو الذي سيحفظ على الصحوة جهدها، فلا يضيع جهدها سدىً كما يضيع ماء الأمطار بين الوديان والشعاب.
السبب الثاني: هو الذوبان في بوتقة المناهج التربوية الغربية الدخيلة، لاسيما بعدما هزمت الأمة هزيمتها النفسية النكراء يوم أن تخلت عن أصل العز والشرف وراحت تحاكي أمم الشرق الملحد وأمم الغرب الكافر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
هذه الحالة تحتاج الآن إلى منهج تربوي أصيل منبثق من القرآن والسنة بفهم سلف الأمة، وإنه قد آن الأوان ليتخلص واضعوا ومخططوا المناهج التربوية لأبنائنا وبناتنا من عقدة النقص أمام هذه المناهج الغربية الدخيلة على عقيدتنا وإسلامنا وديننا.
السبب الثالث من هذه الأسباب: الانفصام بين المنهج المنير والواقع المرير فإننا نرى الآن انفصاماً نكداً بين منهجنا وواقعنا، وهذا الانفصام كائن في جانب العقيدة، وفي جانب العبادة، وفي جانب التشريع، وفي جانب الاتباع، وفي جانب الأخلاق والمعاملات والسلوك.
كنت قد تحدثت عن خصائص المنهج التربوي، وتكلمت عن خصائص التربية، وركزت الحديث في هذه الخصائص التالية:
قلت: إن أهم خصائص هذا المنهج التربوية هي:
أولاً: خاصية التكامل والشمول.
ثانياً: التوازن والاعتدال.
ثالثاً: التميز والمفاصلة.
وتكلمت في محاضرة عن خاصية واحدة من هذه الخصائص، ألا وهي التكامل والشمول، وقلت: إن التكامل والشمول صفة فريدة من صفات المنهج التربوي الإسلامي؛ لأنه منهج رباني من عند الله لا من صنع البشر؛ إذ من المستحيل أن يصنع الإنسان لنفسه منهجاً تربوياً متكاملاً شاملاً؛ لأن الإنسان محدود من ناحية الزمان ومن ناحية المكان، ومحكوم بضعفه وجهله وشهواته ونزواته ورغباته.
ومن ثم إذا تحدى الإنسان المنهج الرباني، وانطلق مستكبراً ومستعلياً مغروراً ليضع لنفسه منهجاً تربوياً متكاملاً شاملاً -زعم- يأتي هذا المنهج الإنساني الأرضي المنحرف قاصراً، فإن قدم حلاً لجزء غفل عن حلول أخرى، وتراه يقدم الحلول لصنف من الناس ولا يقدم الحل لصنف آخر، وتراه صالحاً لمكان دون مكان، ولزمان دون زمان، وهذه هي الحقيقة، وهذا هو الحق والعدل؛ لأنه لا يملك أن يضع المنهج التربوي المتكامل الذي يصف الحياة كلها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها إلا من خلق هذا الكون وهذا الإنسان، الذي قال:
أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
قدم المنهج الإسلامي تكاملاً وشمولاً لجميع جزئيات الحياة في كل جوانب الحياة، قدم المنهج التربوي الإسلامي تصوراً ناصعاً لكل هذه الجزئيات؛ لأن الإسلام منهج حياة، فهو عقيدة وعبادة، ودين ودولة، وسيف وقلم، ودنيا وآخرة.
وقلت: إنه يجب على الأمة الآن أن تأخذ هذا المنهج التربوي بكماله وشموله، أما أن نأخذ ما اشتهينا وندع ما شئنا فهذه شنشنة قديمة خطيرة أنكرها الله على يهود، فقال تعالى: :
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85].
وأقول بملء فمي: والله لقد وقع كثير من أبناء الأمة الآن فيما وقع فيه أبناء يهود.
وذكرت مثالين:
فقلت: إننا نقرأ بل بعد كل صلاة آية الكرسي في سورة البقرة لنتبرك بها، وفي نفس السورة نلتزم بقول الله جل وعلا:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183]، وفي نفس السورة نضيع قول الله جل وعلا:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ [البقرة:178].
وقلت: إننا نلتزم بقول الله:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183]، ونضيع في نفس السورة قول الله جل وعلا:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ [البقرة:216].
ونأخذ بقول الله في سورة المائدة:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ... [المائدة:6] الآية، نأخذ بهذا الأمر الإلهي الكريم، ونضيع في نفس السورة قول الله جل وعلا:
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] و(الظالمون) و(الفاسقون).
فيا أيها الأحبة! أقول: إن المنهج التربوي الإسلامي قدم هذا المنهج المتكامل الشامل، ووجب علينا نحن المسلمين أن نأخذ هذه المنهج بتكامله وشموله، فلا نأخذ ما نشاء وندع ما نشاء، وهذا فعل اليهود، أسأل الله أن لا نقع فيما وقع فيه يهود، وأن لا يجعل خاتمتنا كخاتمة يهود؛ إنه ولي ذلك ومولاه.
ظاهرة التوازن ليست في المنهج فحسب
مقارنة بين المنهج التربوي الإسلامي وغيره من المناهج الأرضية
التوازن والاعتدال خاصية بارزة في المنهج التربوي الإسلامي، لا يستطيع على الإطلاق -يا أحبابي- منهج تربوي أرضي أن يضع منهجاً متوازناً معتدلاً أبداً يجمع بين الروح والمبدأ، وبين الثبات والتغير، وبين الفردية والجماعية، وبين النظرة إلى الواقع والنظرة إلى الغير، لا يمكن على الإطلاق أن يقدم منهجٌ تربويٌ أرضيٌ هذا التوازن والاعتدال بين كل هذه الخصائص والصفات والأركان أبداً، فإن قدم المنهج الأرضي جانباً فرط في جانب آخر، وإن اهتم بجانب نسي جوانب أخرى.
فنرى -مثلاً- جانباً من هذه المناهج الأرضية يهتم بالروح فقط، فيغذي الروح، ويركز على غذاء الروح، إلى أن يصبح الإنسان كائناً مشلولاً عن كل ما يمت إلى هذه الحياة بصلة.
ونرى جانباً تربوياً آخر من المناهج الأرضية المنحرفة يركز على جانب العقل، فينفخ في العقل، ويشبع العقل، ويضع العقل فوق طاقته وقدرته وإمكانيته ومكانته التي ينبغي أن تكون، إلى أن يصبح الإنسان كائناً مغروراً ينظر إلى هذا الكون كله من خلال هذا العقل القاصر.
ونرى منهجاً أرضياً منحرفاً يركز على جانب البدن فقط، فيغذي البدن، ويعطي البدن ما يشاء من مأكل ومشرب، وملبس وشهوات وجنس إلى غير ذلك، إلى أن يصبح الإنسان بهيمياً لا يعيش إلا من أجل شهواته ونزواته ورغباته، لا يفكر في آخرة ولا يهتم بموت، ولا يفكر في غاية ولا يسعى لهدف، وإنما يعش كالأنعام.
وهذا الحكم ليس من عندي حتى لا أتهم بسوء الأدب والتطرف، وإنما هذا قول الله جل وعلا، حكم الله على هذا الصنف الفارغ الذي لا يعيش إلا لشهواته ونزواته، ولا يعيش إلا لعرشه وكرشه وفرجه، لا يعيش إلا كما تعيش الأنعام، فقال ربنا جل وعلا عن هذا الصنف:
لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ [الأعراف:179] حكم الله:
أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179]، أضل من الأنعام:
أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].
وهكذا -أيها الأحباب- إذا قدم المنهج الأرضي علاجاً لجانب قصر في الجوانب الأخرى، رأيت في أمريكا هذا الرجل الأمريكي الذي فجر الذرة، وغاص في أعماق البحار، وانطلق بعيداً بعيداً في أجواء الفضاء، وناطح السحاب بعماراته وفنادقه المذهلة، وحول العالم كله إلى قرية صغيرة عن طريق هذه التقنية العلمية المذهلة في عالم الاتصالات والمواصلات، ومع هذا وبالرغم من كل هذا ركزوا على العقل تارة، وركزوا على البدن تارة، ونسي هؤلاء جانب الروح والأخلاق، فترى هذا الرجل يعيش كما تعيش البهائم، ترى الدعارة والرذيلة في كل مكان ورب الكعبة، في الشارع، وفي الطيارة، وفي السيارة، وفي المطار، وفي القطار، وفي التلفاز، وفي المجلة، وفي الجريدة، وفي كل مكان تراه يعيش كالبهيمة في هذا الجانب.
وإذا أردتم أن تتعرفوا على هذه الحقيقة فاقرأوا إن شئتم آخر إحصائيات للجريمة بين هذا الشعب الذي وصل إلى ما وصل إليه في الجانب المادي العلمي المذهل؛ لتعلموا يقيناً أن الحياة ليست كلها مادة، ولا يمكن لطائر على الإطلاق أن يحلق في أجواء الفضاء بجناح واحد، وإنما إن حلق لفترة وإن طالت فحتماً سيسقط منكسرا.
إن الحياة روح ومادة، ودنيا وآخرة، ثم جاء المنهج الإسلامي ليقدم التوازن والاعتدال في أجلى وأجل صورة، توازن بين العقل والروح والجسم، وتوازن بين النظرة إلى الواقع والنظرة إلى الغير، وتوازن بين الدين والدنيا، وتوازن بين رغبات الإنسان وأشواقه وما ينبغي عليه، وتوازن في كل أمور الحياة؛ لأن الذي خلق الإنسان ويعلم ما يصلحه ويفسده هو الذي وضع له المنهج، وهو الله رب العالمين.
فجاء منهجنا التربوي الإسلامي متوازناً معتدلاً في كل جزئيات وجوانب الحياة بلا استثناء.
التوازن والاعتدال بين الدنيا والآخرة
التوازن والاعتدال في التشريع
بإيجاز أتحدث عن التوازن والاعتدال في التشريع نفسه، فالمنهج التربوي الإسلامي منهج متوازن معتدل بين التحليل والتحريم، بين التحريم الذي أفرطت فيه اليهودية، وبين الإباحة التي أفرطت فيها النصرانية، فاليهودية أسرفت في التحريم، كما قال الله عز وجل
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160] حرمت عليهم طيبات.
ربنا سبحانه وتعالى قال لهم: اذبحوا بقرة، فقالوا: ما هو شكلها؟ وما هو لونها وأوصافها وسنها؟ وماذا تأكل؟ فشددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، أسرفوا في التحريم فزاد عليهم ما حرم.
وجاءت النصرانية وأفرطت في الإباحة، وأحلت أشياء حرمتها التوراة، مع أن الإنجيل قد أقر بأن المسيح عليه السلام ما جاء لينقض التوراة بل ليكملها وليتمها.
فجاء الإسلام بمنهجه التربوي ليضع التوازن والاعتدال في الحل والحرمة، وجعل هذا الحق لله وحده ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فالتحليل والتحريم ليس من حق أحد، لا من حق فرد، ولا من حق مجلس، ولا من حق هيئة، ولا من حق برلمان، بل ولا من حق دولة، وإنما التحليل والتحريم حق لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا مانع أن يأتي ولي الأمر المسلم ليقنن أموراً من خلال هذه القواعد الكلية والأصول الشرعية من القرآن والسنة.
ويتجلى التوازن والاعتدال في جانب التشريع في أن الله عز وجل ما أحل إلا الطيب النافع، وما حرم إلا الخبيث الضار، وما أمر عباده إلا بما هم قادرون على أدائه وفعله، مصداقاً لقوله:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] فالأوامر والنواهي في نطاق المكلفين، والناس يفهمون الآية على عكس المراد، فإن قلت لبعضهم: لماذا لا تصلي؟ يقول لك: يا أخي! لا يكلف الله نفساً إلا وسعها. لماذا لا تزكي؟ يقول لك: لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
وإن قلت له: زوجتك متبرجة يقول لك: والله لا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وأصبح كأنه مفتي سبحان الله!
أخي الحبيب! ليس هذا هو المعنى، وإنما المعنى أن الله جل وعلا ما أمر بأمر وما نهى بنهي وما حد حداً إلا وهو في مقدور وطاقة المكلفين؛ لأنه جل وعلا قال:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]،
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7].
ويوضح هذا الحكم هذا الحديث الكريم الذي رواه
البخاري و
مسلم من حديث
أبي هريرة أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (
ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم...) أصبحت عقيدة الولاء والبراء باهتة في القلوب، هذا مع حسن ظني، هذا مع إحسان الظن، فأنا الآن أعتقد أن عقيدة الولاء والبراء موجودة لكنها بهتت، لم يعد هناك تميز ولا مفاصلة، فالتميز والمفاصلة من خصائص المنهج الإسلامي، المنهج الإسلامي يصوغ المسلم صياغة عقدية عبادية تشريعية أخلاقية سلوكية لا يمكن على الإطلاق أن تلتقي مع أي منهج أرضي آخر، بل وعاش المسلم الأول في هذا المنهج التربوي بصفة التميز والمفاصلة حتى بين أظهر المشركين والمنافقين، في الثياب، وفي الكلام، وفي الطعام، وفي الشراب، وفي الكلام، وفي المعاملة، وفي الأخلاق، وفي السلوك، وفضلاً عن الاعتقاد والتعبد لله جل وعلا.
المسلم متميز في كل شيء، نعم يجب أن يعرف المسلم قدره، ويجب أن يعرف المسلم شأنه، فهو كريم عزيز بتوحيده واتباعه لله ولسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو مهان ذليل إن تخلى عن هذا المنهج الرباني القرآني النبوي، ولا قيمة له، فإننا لا نفخر بأنساب، ولا بعصبيات، ولا بقوميات، ولا برايات، ولا بمصالح، ولا بمغانم، وإنما نردد مع
سلمان .
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
فالمسلم عزيز بهذا النسب، وذليل إن ترك وقطع حبل هذا النسب، والمنهج الإسلامي منهج متميز، منهج مفاصل مخالف لكل المناهج المحرفة المزورة، ويجب على المسلم أن يكون متميزاً، وأن يكون مبايناً لكل هذا المناهج الأرضية المحرفة المزورة الكافرة التي تعادي منهج الله جل وعلا.
وأختم بهذا المشهد، فإن هذا الموضوع طويل، وأقول: هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وكلنا يعرف أنه كان مستضعفاً مطروداً من بيته ومن أهله ومن ماله ومن ولده، وهاجر إلى المدينة فآووه ونصروه رضوان الله عليهم جميعاً، لكن كان في المدينة رأس النفاق
عبد الله بن أبي بن سلول، وفي يوم من الأيام ركب عليه الصلاة والسلام حماراً، فمر على رأس النفاق هو ومن معه فغبر الحمار الذي يركبه النبي عليه الصلاة والسلام على هؤلاء، فقال رأس النفاق: غبر علينا ابن
أبي كبشة . واللفظ هنا
للبزار، وقال
الهيثمي : رجاله ثقات.
و
أبو كبشة زوج
حليمة السعدية ، هو الرجل الذي كان متزوجاً بـ
حليمة السعدية التي أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، فكأن
عبد الله بن أبي بن سلول يريد أن ينتقص من قدر النبي عليه الصلاة والسلام وأن يقلل من شأنه بقوله: غبر علينا ابن
أبي كبشة .
وسمع
عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول ابن رأس النفاق أن أباه قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وانظر إلى التميز والمفاصلة العجيبة حتى مع أقرب الناس، فيجب على المسلم أن يحقق هذا المنهج الآن، لاسيما ونحن نعيش زماناً قد اختلطت فيه الأوراق.
فماذا قال
عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول ؟ قال: يا رسول الله! والله لو أمرتني لأتيتك برأسه، فلو كان اليوم لسموه إرهابياً مباشرة، قال: والله لو أمرتني لأتيتك برأسه. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كلا. بل اذهب لبر أبيك ولحسن صحبته. فصلى الله عليه وآله وسلم، وأي خلق هذا؟
عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول يقول هذا الكلام! فانظر إلى هذا الموقف الذي تتجلى فيه أروع صور التميز والمفاصلة حتى مع أقرب الناس إليه، قال رأس النفاق:
لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ [المنافقون:8]، ويريد رأس النفاق العزة لنفسه والذلة لحبيبنا ورسولنا صلى الله عليه وآله وسلم، وجاء ابنه إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال له: (يا
عبد الله! هل سمعت أباك ما قال؟ فقال له: ماذا قال يا رسول الله؟ قال له: قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)، والقصة رواها الإمام
الطبري بسند صحيح.
أتدرون ماذا قال
عبد الله ؟ قال: صدق والله أبي يا رسول الله، -والله- أنت الأعز وهو الأذل يا رسول الله، ولقد أتيت المدينة ولا يوجد بها من هو أبر بأبيه مني، أما وقد قال ما قال فلتسمعن ما تقر به عينك يا رسول الله، وانطلق
عبد الله بسيفه ووقف على باب المدينة، فلما جاء رأس النفاق وقف ابنه في وجهه وقال له ولده: والله لا يؤويك ظلها ولا تبيتن الليلة فيها إلا بأمر من رسول الله؛ لتعلم من الأعز ومن الأذل. أي تميز وأية مفاصلة؟
فالرجل صرخ ونادى وقال: يا للخزرج! ولدي يمنعني بيتي! وذهبوا إلى نهر الرحمة وينبوع الحنان صلى الله عليه وآله وسلم، إلى صاحب الخُلُق وأخبروه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا له: فليأذن لأبيه. فلما جاءه الأمر من رسول الله نظر إلى والده وقال: أما وقد جاءك الإذن الآن فلتدخل لتعلم من العزيز ومن الذليل.
أيها الأحبة! الموضوع طويل ومرير بقدر بعدنا عن هذا المنهج المنير، فهذه بعض خصائص المنهج التربوي، التكامل والشمول، والتوازن والاعتدال، والتميز والمفاصلة.
أسأل الله جل وعلا أن يوفقني وإياكم للعودة إلى هذا المنهج الرباني الكريم، إلى كتاب ربنا، وسنة نبينا بفهم سلفنا رضوان الله عليهم، وأسأل الله أن يقر أعيننا وإياكم بنصرة الإسلام وعز الموحدين، وأن يتقبل منا وإياكم صالح الأعمال.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم.