-
تفسير قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى)
قال تعالى:
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى *
وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى [النجم:19-20].
سبق تفسير قول الله تبارك وتعالى:
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى *
عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى *
عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى *
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى *
مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى *
لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:13-18].
ثم قال تبارك وتعالى منكراً على المشركين عبادتهم الأوثان واتخاذهم لها البيوت مضاهاةً للكعبة التي بناها خليل الرحمن لعبادته تعالى وحده لا شريك له:
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى *
وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى [النجم:19-20].
قال
ابن كثير : اللات صخرة بيضاء منقوشة، وعليها بيت في الطائف له أستار وسدنة -يعني خادماً- وحوله فناء معظم عند أهل الطائف وهم ثقيف ومن تابعها، يفتخرون بها -أي: باللات- على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش.
قال
ابن جرير : وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله تبارك وتعالى فقالوا: اللات، يعنون مؤنثة من لفظه تعالى، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. أي: زعم المشركون أن اللات -والعياذ بالله- مؤنث لفظة الجلالة (الله)، فهذا من افترائهم الذي نسبوه إلى الله سبحانه وتعالى، كما قالوا: عمرو وعمرة، فكذلك قالوا: الله، فزعموا أن اسم اللات مؤنث لفظ الجلالة.
وقال
الزمخشري : هي فعلة من لوى؛ لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون بالعبادة أو يلتوون عليها، يعني: يطوفون بها.
وحكي عن
ابن عباس و
مجاهد و
الربيع بن أنس أنهم قرءوا:
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَّ وَالْعُزَّى [النجم:20] -بتشديد التاء- وفسروه بأنه كان رجلاً يلتُّ للحجيج في الجاهلية السويق، يعني: يعد للحجاج هذا الطعام ويقدمه لهم، والسويق طعام يتخذ من مدقوق الحنطة والشعير، سمي سويقاً لانسياقه في الحلق، ويقال: لتَّ السويق، يعني: خلطه بسمن وغيره، ويقال: لتَّ العجين، يعني: بلَّه بشيء من الماء، ومن كلام العرب: فلان يلُتُّ ويعجن، يعني: إذا كان ثرثاراً يبدئ ويعيد فيما يقول.
فإذاً: من قرأ ( اللَّاتَّ ) بتشديد التاء فسره بأنه كان رجلاً يلت للحجيج في الجاهلية السويق، فلما مات عكفوا على قبره وعبدوه.
وَالْعُزَّى: هي شجرة عليها بناء وأستار بنخلة، وهي بين مكة والطائف.
قال
ابن جرير : اشتقوا اسمها من اسمه تعالى: العزيز.
وقال
الزمخشري : أصلها تأنيث الأعز.
وقوله تعالى:
وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى هي: صخرة كانت بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة، وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها، ويهلون منها للحج إلى الكعبة، روى
البخاري عن
عائشة رضي الله تعالى عنها نحوه.
وقال
ابن جرير : وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول: اللات والعزة ومناة الثالثة أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها.
وقال
ابن كثير رحمه الله تعالى: كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر، تعظمها العرب كتعظيم الكعبة غير هذه الثلاثة التي نص الله عليها في كتابه العزيز؛ وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أكثر من غيرها.
وقال
ابن إسحاق في السيرة: وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجَّاب، ويُهدى لها كما يُهدى للكعبة، وتطوف بها -أي: العرب- كطوافها بالكعبة، وتنحر عندها، وهي تعرف فضل الكعبة عليها؛ لأنها عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام ومسجده، فكانت لقريش ولبني كنانة العزى بنخلة، وكانت سدنتها وحجَّابها من بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم، وبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم
خالداً وأمره بهدم العزى فهدمها رضي الله تعالى عنه، وجعل يقول:
يا عزى كفرانكِ لا سبحانكِ إني رأيت الله قد أهانكِ
وروى
النسائي عن
أبي الطفيل قال: (
لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة، وكانت بها العزى، فأتاها
خالد وكانت على ثلاث سَمُرات -شجر السَّمُر المعروف- فقطع السَّمُرات، وهدم البيت الذي كان مبنياً عليها، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: ارجع فإنك لم تصنع شيئاً، فرجع
خالد فلما أبصرته السندة -وهم حجبتها- أمعنوا في الحيل، وهم يقولون: يا عزى! -أي: يستغيثون بها كي تنقذ نفسها من أن يحطمها
خالد أو يقتلها- فأتاها
خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها، فغمسها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: تلك العزى).
فإن صح هذا فإنه يبين أن من الشياطين من يكون في هذه التماثيل وهذه المعبودات من دون الله سبحانه وتعالى، وقد يتكلم بكلام أو يفعل أشياء ليزيد فتنة الذين يعبدون هذه الأصنام، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
ولذلك كان من الشعر الذي قيل في هذا الموقف: قول بعض السدنة لها:
أعزى إن لم تقتلي المرء خالداً فموتي بإثم عاجل أو تنصري
فأقبل
خالد وجعل يهدمها وهو يقول:
يا عزى كفرانكِ لا سبحانكِ إني رأيت الله قد أهانكِ
قال
ابن إسحاق : وكانت اللات لثقيف بالطائف، وكان سدنتها وحجَّابها بني معتب، وقد بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم
المغيرة بن شعبة و
أبا سفيان صخر بن حرب فهدماها، وجعلا مكانها مسجداً بالطائف.
وقال
ابن إسحاق : وكانت مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد، فبعث إليها النبي صلى الله عليه وسلم
أبا سفيان صخر بن حرب فهدمها، ويقال:
علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه.
-
تفسير قوله تعالى: ( ألكم الذكر وله الأنثى )
قال تعالى:
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى [النجم:21].
قال
الزمخشري : كانوا يقولون: إن الملائكة وهذه الأصنام بنات الله، وكانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله تبارك وتعالى مع وأدهم البنات أي أن قول الله سبحانه وتعالى لهم:
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى يعني: أنهم كانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله، وأن هذه الأصنام بنات الله، فلذلك كانوا أحياناً يئدون البنات لشدة بغض البنات، ويقولون: نحن نلحقهن ببنات الله، كي ينتقلن إلى جوار الملائكة؛ لأن هؤلاء بنات والملائكة بنات الله! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فكانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله تبارك وتعالى مع وأدهم البنات، فقيل لهم: (
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى) ، يعني: أنتم تبغضون البنات -وحالهم في ذلك معروف- ومع ذلك رضيتم أن تنسبوا إلى الله سبحانه وتعالى أسوأ الحظين في نظركم! وإلا فإن بغض البنات جاهلية بغيضة، وليس من الإسلام على الإطلاق بغض البنات، وإنما هو من خصال أهل الجاهلية.
ويجوز أن يُراد أن اللات والعزى ومناة إناث، وقد جعلتموهن لله شركاء، ومن شأنكم أن تحتقروا الإناث، وتستنكفوا من أن يولدن لكم وينسبن إليكم، فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أنداداً لله وتسمونهن آلهة؟!.
وفي قوله تعالى:
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى *
وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى [النجم:19-20] (أرأيت) اسم فعل أمر بمعنى: أخبرني، واختلف العلماء في فعل الرؤية في قوله: ( أَفَرَأَيْتُمُ ) هل هو الرؤية البصرية أم أنها الرؤية العلمية؟
وكأن أصل التركيب: ألكم الذكر وله هن، أي: تلك الأصنام؟ وإنما أوثر هذا الاسم في قوله:
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى لوقوعه رأس فاصلة، أي: لأنه في فاصلة الآية.
-
تفسير قوله تعالى: ( تلك إذاً قسمة ضيزى )
-
تفسير قوله تعالى: ( إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ... )
-
تفسير قوله تعالى: ( أم للإنسان ما تمنى )
-
تفسير قوله تعالى: ( فلله الآخرة والأولى )
-
تفسير قوله تعالى: ( وكم من ملك في السماوات... لا يغني من الحق شيئاً)
-
تفسير قوله تعالى: ( فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ...)
-
تفسير قوله تعالى: ( ذلك مبلغهم من العلم )
(( ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ )) يعني: أمر الدنيا منتهى علمهم، فلا علم لهم فوقه، وما يريدون إلا الدنيا، وما يعلمون إلا الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (
إن الله يبغض كل جعظريٍّ، جواظٍ، صخابٍ في الأسواق، جيفةٍ بالليل، حمارٍ بالنهار، عالمٍ بأمر الدنيا، جاهلٍ بأمر الآخرة).
فهو يعلم أسماء لاعبي الكرة، وأسماء فرق الكرة في كل مكان في العالم، ومن هو الكابتن، وكم أحرز هدفاً! وإلى آخر هذا الكلام، حتى اللون الذي يحبه، والأكل الذي يحبه، والثياب التي يحبها، ويقلدونهم! ويعرف أسماء الممثلين والمطربين والفنانين، وكذا وكذا! ولا يعرف الأسئلة الثلاثة التي سوف يُسأل عنها أول ما يوضع في قبره: من ربك؟ وما دينك؟ وماذا تقول في النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟
فمع اجتهادهم وتسخيرهم العقول في كل ما يخدم الدنيا، لو صرفوا جزءاً يسيراً من عبادتهم وتبتلهم للدنيا لوجه الله سبحانه وتعالى لكانوا عباداً ورهباناً متبتلين؛ لكن انظر إلى اجتهادهم في الدنيا وتعظيمهم الدنيا، ومع ذلك يحاربون أهل الحق، ويريدون أن يطفئوا نور الله سبحانه وتعالى، ويجتهدون في ذلك ليل نهار بكل الأساليب، سواءً بذبح المسلمين، أو إذلال المسلمين، أو تجويعهم وغير ذلك مما نلمسه من أعداء الله في مشارق الأرض ومغاربها، هذا مع أنهم على الباطل، ومع أنهم لا يتبعون إلا الظن، وما يتبعون إلا الأهواء، وأصبحوا مفلسين، وما عندهم شيء يقدمونه للبشرية، فليس لدى أمريكا وغيرها من أعداء الله ما يقدمونه لإصلاح البشرية، ما لديهم إلا الفساد والانحلال وتحطيم الخير في هذه الأرض ونشر الفساد فيها!
فقوله تعالى: ( ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ )، يعني أن الدنيا هي المحطة النهائية عندهم، ولا يوجد عندهم خط ثانٍ بعد هذا، (( ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ))؛ لأن المكان المعين وصلوه، فلا يوجد بعده مكان آخر.
و( ذَلِكَ ) الإشارة فيه إلى أمر الدنيا الذي ورد في آخر الآية السابقة: (( وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا )).
التحذير من تحريف النصوص الشرعية لخدمة الأمور الدنيوية
والعجيب أن من مظاهر غربة الإسلام: أن علم الدنيا صار أشرف في نظر كثير من الناس من علم الدين! وهذا بلاء عظيم جداً، والرسول عليه الصلاة والسلام جعل من أشراط الساعة: (أن يقل العلم، ويظهر الجهل) أي: يقل العلم الشرعي الشريف ويظهر الجهل بالعلم الديني، كما هو الحال الآن! وللأسف، وإلا لو كان المقصود بالعلم -كما يزعمون- علوم الدنيا لانعكس الأمر الآن؛ لأن الظاهر أن الناس قد ظهر فيهم القلم، والناس تتعلم كثيراً جداً من علوم الدنيا، فهل يقال: إنه قد ظهر العلم في هذا الزمن، بمعنى: ظهر العلم الذي قصده النبي عليه السلام حينما جعل من علامات الساعة أن يقل العلم ويظهر الجهل؟!
الجواب: لا. بل العلم المقصود به العلم الذي هو أشرف العلوم على الإطلاق وهو علم الدين، وأشرف علوم الدين هو علم التوحيد؛ لأن أي علم يُعرف شرفه بشرف معلومه، أي: المعلوم الذي تتعلمه من خلاله، فأشرف العلوم لا شك أنها علوم الدين.
فهناك محاولات مستميتة لتسخير النصوص الدينية التي تحث على الآخرة وتحث على العلم الشرعي لخدمة الدنيا، فهي عملية استخدامٍ للدين من الذين يريدون أن يحولوا الدين إلى خادم، والمفروض أن الدين مخدوم، ولو أن واحداً -مثلاً- أراد أن ينظف أسفل نعله فما لقي مكاناً ينظفه فيه إلا خده، فنظفه بخده! فهذا إنسان سفيه؛ لأنه قلَب الخادمَ مخدوماً، فالوجه شريف يُخدم، والنعل -وبالذات أسفل النعل- المفروض أنه خادم، فأنت تحوله إلى مخدوم والمخدوم إلى خادم!
فاستعمال نصوص الشريعة لتلميع مفاهيم دنيوية يعتبر مضادة لشرع الله تبارك وتعالى، فمثلاً: يدخل في هذا الذين يتكلمون عن العمل وزيادة الإنتاج، ويستدلون بقوله تعالى:
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105]! صحيحٌ أن العمل من أجل الرزق أمر من الأمور التي حث الإسلام عليها؛ لكن هل هذا هو المقصود بقوله: ( اعْمَلُوا ) هنا؟! وهل هي تخاطب الشيوعيين والماركسيين والنصارى واليهود؟! فالآية تخاطب المسلمين المؤمنين، وقوله: ( اعْمَلُوا )، يعني: اعملوا صالحاً، (( فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ )).
فأشرف العلوم على الإطلاق هو علم الدين وعلوم الآخرة، فإذا نظرت إلى موضوعها أو إلى ثمرتها ستجدها هي التي تجلب للإنسان السعادة والفلاح في الدنيا وفي الآخرة.
إذاً: يجب ربط الدين بالنصوص، فإن العلم هو أقوى مؤيدات الإسلام، حتى العلم الحديث هو من أقوى مؤيدات الإسلام؛ لكن تركوه من جهة أنهم نسوا الخالق وذكروا المخلوق، حتى سموا أماكن معينة في جسم الإنسان بأسماء الخواجات، وكأنهم هم خلقوها! مثال ذلك: ما يسمونه بقناة استاكس، فأنا مسلم وفي جسمي حاجة اسمها: قناة استاكس باسم واحد كافر! وهكذا ما يُسمى بجزر لانجرهانز التي في البنكرياس، وهكذا صار جسم الإنسان مثل الشوارع التي تسمى بأسماء الكفار!
فالشاهد: إذا كان هذا من أجل أن واحداً اكتشف، فما بالك بمن خلق وصنع؟! فالعلم الآن في حالة من الجحود والنكران لفضل الله ونعمة الله تبارك وتعالى على البشرية.
من الذي خلقها؟! ولماذا لا ينسبونها إلى الله سبحانه وتعالى؟! ولماذا لا نقول: خلق الله في البذور قوة الإنبات، ورزقنا الله الماء كي تنبت البذور ويحصل كذا وكذا؟! وخلق الله الجمجمة وفيها من العظام كذا، وفيها ثقوب خلقها الله كي تمر من الأعصاب مثلاً، وكذا وكذا؟! ورتب كذا على كذا لأجل حماية كذا؟! فلماذا لا يُنسب الفضل لصانعه؟! ولماذا يمضي العلم بعيداً عن الله سبحانه وتعالى؟! وليس هذا فحسب، بل ربما أحياناً ينصب هذا العلم في تأييد مذاهب كفرية وإلحادية لا تقوم إلا على الظن وما تهوى الأنفس، وهي أبرأ ما تكون من العلم، كنظرية
فرويد أو نظرية
داروين أو غيرها من هذه النظريات التي سخرت لخدمة الإلحاد.
فالعلم الآن صار يُستعمل آلة لخدمة الإلحاد، مع أنه أقوى ناصر ومؤيد للإسلام، وأوجه الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وهكذا في السنة النبوية الشريفة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (
مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكان منها ...)، وشمل الحديث تقسيم الأرض إلى الأنواع الثلاثة المعروفة، فيفسرون الحديث لطلبة المدارس ويقولون لهم: أرض الطائفة الأولى التي حبست الماء وأنبتت العشب والكلأ الكثير فانتفع بها الناس هي هذه التكنولوجيا! فأصبح الحديث يفسر أن هذا حث على التكنولوجيا، وليس على العلم الشرعي.
والأرض الأخرى هي التي أمسكت الماء فقط.
والأرض الثالثة التي غورت الماء، وتركت الماء يذهب سدىً، لم يُحبس ولم يُنتفع به للزرع وغيره، فيقولون: هذا دليل على أنه لا يجوز للمسلم أن يسرف في استعمال الماء، ولابد من ترشيد استعمال المياه! وما علاقة هذا بذاك؟! هذا النوع بعيد جداً، صحيحٌ أن الإسرافَ محذور، لكن هذا الحديث لا يحثنا على التكنولوجيا، ولا يحثنا على ترشيد استعمال المياه، وليس هذا هو المقصود بالحديث، وإنما هذا تسطيح للمعاني الإسلامية الرفعية والعالية.
فهذه الآية: ( ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) من أقوى ما يوضح أنهم توقفوا عند علوم الدنيا، أما أخطر قسم من العلوم وهو العلم الذي يترتب عليه خلود إلى الأبد في جنة أو في نار فلا خبر عندهم عن هذا العلم، ومن كان هذا أقصى معارفه فما على داعيه إلا الصفح عنه، والصبر على جهله، فمثل هذا لا يستحق أنك ترد على جهله بجهل مثله، وإنما تصفح عنه، وتعرض عنه، فهذا هو المقصود من قوله: ( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا ) يعني: أعرض عن أذيتهم، ولا تقابل سفاهتهم بمثلها، بل استمر في دعوتهم، ولا تلقِ بالاً للترهات والأذية والجهل ونحو ذلك.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (
إن الله يبغض كل جعظريٍّ، جواظٍ)، الجعظري : الفظ الغليظ المتكبر، والجواظ: الجموع المنوع؛ يجمع المال ويبالغ في جمعه، ثم يمنع حقه من الصدقة والزكاة وغيرها.
وقوله: (صخابٍ في الأسواق)، أي: يرفع الصوت بالجلبة والصياح.
وقوله: (جيفةٍ بالليل، حمارٍ بالنهار)، يعني: لا يذكر الله سبحانه وتعالى، ولا يصلي صلاة عشاء ولا فجر ولا غيرهما فضلاً عن النوافل، وأما في عمل الدنيا فهو كالحمار بالنهار، وطبعاً إذا رأينا هذا المثال في هذا الحديث يطرأ إلى أذهاننا الناس الذين يتفانون في خدمة الدنيا كاليابانيين؛ فإنهم يفنون تماماً أثناء الخدمة، وما عندهم خبر عن موضوع الآخرة أبداً، بل تراهم يعملون مظاهرات؛ لأن الحكومة لا تريد تشغيلهم في يوم إجازة، إذ كيف يتوقفون عن العمل؟! ولذلك
تاتشر في يوم من الأيام عيرتهم في تصريحات رسمية فقالت: أنتم شعب كائن مثل النمل، فرد وزير الخارجية الياباني وقال لهم: وأنتم الأوربيون كائنون مثل الصراصير، فتبادلوا الاتهامات، فحتى الأوروبيون لم يعجبهم اليابانيون، ويقولون: أنتم تعيشون مثل النمل، يعني: ما وراءكم غير الشغل فقط، وسبحان الله! من ذهب إلى اليابان يرى الأماكن التي ينامون فيها مثل الصناديق، يعني: الغرف مثل الصناديق، كالجثة موضوعة في قبر أو صندوق أو كذا.
وقوله: (عالمٍ بأمر الدنيا، جاهلٍ بأمر الآخرة)، أي: تعلم من العلوم كثيراً مما لا ينفعه، والجهل به لن يضره، وفي نفس الوقت أعرض عن ذكر الله، وأعرض عن القرآن، وأعرض عن أن يتدبر في الغاية من خلقنا؟ ولماذا خلقنا؟ وإلى أين نسير؟ وكيف يجيب على هذا الامتحان الإجباري الذي سوف يُسأل عنه كل إنسان: (من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟)، وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فمن كان هذا قصارى علمه، فما على الداعية إلا الصفح عنه، والصبر على جهله.
وقوله: ( ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ ) اسم مكان، وكأنه محل وقف فيه علمهم ادعاءً، والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها من قصر الإرادة على الحياة الدنيا، ثم علل الأمر بالإعراض، فقال تعالى: (( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ ))، فهذا تعليل لقوله تعالى:
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، والسياق: (( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ )) تعليل للإعراض؛ لكن جملة: (( ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ )) جملة اعتراضية، فقوله:
ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ يعني: أعرض؛ لأن
رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ، وإذا كان الله أعلم بالفريقين فلابد أن يعاملهم بموجب علمه فيهم، فيجزي كلاً بما يقتضيه عمله.
والله سبحانه قدم قوله:
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيْلِهِ على قوله: (( بِمَنِ اهْتَدَى ))؛ لأن هؤلاء الذين ضلوا هم المقصودون أساساً من الخطاب، وسياق الكلام في شأنهم.
-
تفسير قوله تعالى: ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ... )
-
تفسير قوله تعالى: ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ... )
-
تفسير قوله تعالى: ( أفرأيت الذي تولى ... ألا تزروازرة وزر أخرى)
-
تفسير قوله تعالى: ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ... الجزاء الأوفى)
قال تعالى:
وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى *
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى *
ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى [النجم:39-41].
وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى .
أي: وأنه لا يُجازى عامل إلا بعمله خيراً كان أو شراً، وظاهر السياق يُشعر بلزوم الآيات رداً على ما كانوا يتخرصونه ويتمنونه ويتحكمون فيه على الغيب لجاجاً وجهلاً، ولذلك فمفهومها الشمولي جلي.
واستُدل بهذه الآية على عدم دخول النيابة في العبادات عن الحي والميت، يعني: لا يصح أن ينوب أحد عن أحد في صلاة ونحوها.
واستدل به
الشافعي على أن ثواب القراءة لا يلحق الأموات؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال:
وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى .
وقال
ابن كثير : ومن هذه الآيات الكريمة استنبط
الشافعي رحمه الله ومن تبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى؛ لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته إليها، ولا حثهم عليها، ولا أرشدهم إلى ذلك بنص ولا إيماء.
يعني: أن ثمة سنة تركية، فالشيء قد يكون مقتضاه موجوداً في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، والمانع غير موجود، ومع ذلك لم يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان مأموراً بالبلاغ، وأي شيء له علاقه بالدين يقربنا وينفعنا عند الله ويبعدنا من النار أمر به النبي، وما كتم شيئاً؛ فهو مأمور بالتبليغ، ومعصوم من الكتمان، وهل الموتى من المسلمين في حاجة إلى إحسان أقاربهم أو إخوانهم إليهم بقراءة القرآن ثم إهداء الثواب، أم ليسوا في حاجة إلى هذا؟
فالناس محتاجون إلى أن يقرءوا القرآن ويهدوا ثوابه إلى الموتى، فالزمان كان زمان تشريع، والرسول عليه السلام مأمور بالتبليغ، والوحي ينزل عليه، والداعي المقتضي موجود، والمانع مفقود، أي لا يوجد مانع يمنعهم من أن يشرع لهم ذلك، ومع ذلك لم يشرعه.
فإذاً: السنة في هذا أن نترك ما تركه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن المقتضي كان موجوداً، والمانع غير موجود، ومع ذلك لم يشرعه، فدل على أنه ليس من الدين.
إذاً: من تعبد ببدعة فهو يرهق نفسه بما لا طائل من ورائه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (
من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
هذا أنموذج من المسائل التي فيها مثل هذا الكلام، وهو موضوع قراءة القرآن وإهداء ثوابه إلى الموتى، لكن يُستثنى من هذا الابن مع أبيه، كما ذكر ذلك العلامة
الألباني رحمه الله تعالى في كتابه المبارك: (أحكام الجنائز) فقال: يُستثنى الابن فقط، الابن يقرأ ويهدي الثواب لأبيه؛ لأن الابن من كسب أبيه.
بل بعض العلماء يقول: إن الابن أصلاً لا يحتاج حتى لإهداء الثواب؛ لأن كل ما يعمله الابن من العمل الصالح يجازى الأب بمثله، وكل ما يعمله الابن من العمل يصل ثوابه إلى ميزان أعمال الأب؛ لأن الابن من سعي أبيه، فهو الذي تسبب في وجوده في هذه الدنيا.
فهذا كما يقول
ابن كثير : ومن هذه الآيات الكريمة استنبط
الشافعي رحمه الله تعالى ومن تبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى؛ لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء، ولم يُنقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، وباب القربات يُقتصر فيه على النصوص -وإلا يُفتح باب الابتداع في الدين على مصراعيه- ولا يُتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء، فأما الدعاء والصدقة فذلك مُجمَع على وصولهما، ومنصوص من الشارع عليهما.
فالأدلة أتت بأن الدعاء ينفع الموتى، والصدقة تنفع الموتى، وبعض العبادات تنفع الموتى، كالحج ونحو ذلك.
وأما الحديث الذي رواه
مسلم في صحيحه عن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده، أو علم يُنتفع به)، فهذه الثلاث-في الحقيقة- هي من سعيه وكده وعمله، كما جاء في الحديث : (
إن أطيب ما أكل الرجل من كده، وإن ولده من كده)، والصدقة الجارية كالوقف ونحوه هي من آثار عمله ووقفه، فقد قال تعالى:
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس:12]، والعلم الذي نشره في الناس فاقتدى به الناس بعده هو أيضاً من سعيه وعمله.
وثبت في الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (
من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء).
قال
الرازي : المراد من الآية: بيان ثواب الأعمال الصالحة، أو بيان كل عمل.
ونقول: المشهور أنها لكل عمل؛ فالخير مثاب عليه، والشر معاقب به، أي أن قوله هنا: (
وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)، يعني: إلا سعيه وكسبه. و(ما) هنا مصدرية.
فبعض العلماء يقول إنها تعم.
وبعضهم يقولون: إنما تعني الأعمال الصالحة.
يقول
الرازي : والظاهر أنه لبيان الخيرات، يدل عليه (اللام) في قوله تعالى: (( لِلإِنسَانِ ))، فإن (اللام) لعَود المنافع، و(على) لعَود المضار، تقول: هذا له، وهذا عليه، وتقول: هذا يشهد له، وهذا يشهد عليه، في المنافع والمضار.
وأيضاً مما يقوي هذا المذهب: قول الله تبارك وتعالى:
ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى [النجم:41] فهذا قطع بأن هذا الفعل سوف يُجزى عليه الإنسان الجزاء الأوفى، والأوفى لا يكون إلا في مقابلة الحسنة، أما في حالة السيئة فإنما يجزى بالمثل أو دونه أو العفو عن الإثم بالكلية، كما قال تعالى:
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ *
وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:89-90]، وقد يعفو الله عن السيئة، بل قد يبدلها حسنات.
وقوله تعالى: (
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى) يعني: سوف يراه، ويُعرض عليه، ويُكشف له، مِن (أُريتُ الشيء).
أو سَوْفَ يُرَى للخلق وللملائكة، ففيه بشارة للمؤمن وإفراح له، ونذارة للكافر وإرهاب له.
أو هو مِن (رأى) المجرد، يعني: سوف يراه، كقوله تعالى:
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105].
(
ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى)، أي: يُجزى سعيه جزاءً وافراً، لا يُبخس منه شيء.
-
تفسير العلامة الشنقيطي لقوله تعالى: ( أفرأيت الذي تولى ... )
يقول العلامة
الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآيات الكريمة:
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى *
وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى *
أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى *
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى *
وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى *
أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى *
وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى *
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى *
ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى [النجم:33-41].
(تولى) أي: رجعل وأدبر عن الحق.
( وَأَعْطَى قَلِيلَاً ) : قال بعضهم: أعطى قليلاً من المال.
وقال بعضهم: أعطى قليلاً من الكلام الطيب.
( وَأَكْدَى )، أي: قطع ذلك العطاء ولم يتمه، وأصله من أكدى صاحب الحفر، يقال: أكدى إذا ظل يحفر حتى اصطدم بصخرة لا يقدر على الحفر فيها، فينقطع عن الاستئناف وتكملة الحفر.
وأصله من الكُدَية، وهي: الحجارة تعترض حافر البئر ونحوه، فتمنعه الحفر.
وهذا الذي أعطى قليلاً وأكدى: اختلف فيه العلماء:
فقيل: هو
الوليد بن المغيرة ؛ قارب أن يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فعيَّره بعض المشركين، فقال: أتركت دين الأشياخ وضللتهم؟ قال: إني خشيت عذاب الله، فضمن له الذي عاتبه إن هو أعطاه كذا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله، فرجع
الوليد إلى الشرك، وأعطى الذي عيَّره بعض ذلك المال الذي ضمن، ومنعه باقي هذا المال، فأنزل الله عز وجل هذه الآية:
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ، يعني: بعدما كاد يقبل على الإسلام،
وَأَعْطَى قَلِيلَاً وَأَكْدَى ، يعني: أعطى هذا الذي ضمن له أن يتحمل عنه عذاب الله يوم القيامة، ( وَأَكْدَى ) يعني: توقف عن استئناف العطاء وتكملة المال المتفق عليه.
وقيل: (( وَأَعْطَى قَلِيلَاً )) من الكلام الطيب، كمدحه للقرآن واعترافه بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، (( وَأَكْدَى )) أي: انقطع عن ذلك ورجع عنه.
وقيل: هو
العاص بن وائل السهمي ، كان ربما وافق النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور، وذلك هو معنى إعطائه القليل، ثم انقطع عن ذلك، وهو معنى إكدائه، وهذا قول
السدي ، ولم ينسجم مع قوله بعده:
أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى ... [النجم:35] إلخ.
وعن
محمد بن كعب القرظي قال: إنه
أبو جهل ، قال: والله! ما يأمرنا محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا بمكارم الأخلاق. وذلك معنى إعطائه القليل، وقطعه لذلك معروف. يعني: فيما حصل منه من أذية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فلا ينبغي أن نفرح حينما نجد كافراً من الكفار ينطق ببعض الكلمات التي فيها بعض الإنصاف للإسلام أو للنبي صلى الله عليه وسلم، يعني: لا ينبغي أن نتجاوز بمثل هذا الإنسان قدره؛ لأنه حتى إذا أعطى قليلاً لكنه يُكدي، ولا يكمل الرحلة، فنجد بعض الناس يفرحون بقول بعض الكفار من الأمريكان في كتابه: العظماء مائة، أعظمهم محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهل نحن نقول: لا إله إلا الله، محمد عظيم، عليه الصلاة والسلام؟! ونشهد أن محمداً عبقري، وأنه أعظم مائة عرفهم التاريخ؟! وهل عظمة النبي عليه السلام وعبقريته محل خلاف؟!
كل محور الخلاف هو: هل هو نبي يُوحى إليه أم لا؟! هذا هو جوهر القضية، فكل إنسان مهما نطق بمعسول من القول ولم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فهو من أعداء الله وأعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو باقٍ في الكفر، صحيحٌ أنه أحياناً ينفع الاستدلال بهذا الكلام؛ لكن أقول: الناس تجازف وتغالي في المدح والثناء في حين أنه ينطبق عليه هذه الآية، فهو حينما يمدح الإسلام فهو يقرر أمراً واقعياً، فهذا دين الله عز وجل وليس مذهباً أرضياً ولا مذهباً فكرياً، بل هذا نظام إلهي ووحي إلهي.
فحينما يفعل كافر شيئاً من هذا أو تسمعون تصريحاً لكافر تذكروا دائماً هذه الآية، خاصة على هذا التفسير.
أما
الزمخشري فاقتصر على أن المقصود بالآيات -ولا حول ولا قوة إلا بالله!-
عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال: روي أن
عثمان بن عفان كان يعطي ماله في الخير، فقال له
عبد الله بن سعد بن أبي سرح -وهو أخوه من الرضاعة- يوشك ألا يبقى لك شيء! فقال
عثمان رضي الله عنه: إن لي ذنوباً وخطايا، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى، وأرجو عفوه.
يعني: كأنه لم يستجب لهذا الكلام، كعادة الكريم؛ لأن الكريم لا يستفيد من التجارب، كما يقول البعض: الكريم لا تنفعه التجارب، ولا يستطيع أبداً أن يقاوم الرغبة في البذل والتضحية والإنفاق.
فقال
عبد الله : أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها، فأعطاه وأشهد عليه، وأمسك عن العطاء، فنزلت الآية:
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى *
وَأَعْطَى قَلِيلَاً وَأَكْدَى [النجم:33-34]، يعني: لم يتم له العطاء.
يقول: فعاد
عثمان إلى أحسن من ذلك وأجمل.
يقول العلامة
الشنقيطي رحمه الله تعالى: ولا يخفى سقوط هذا القول وبطلانه، وأنه غير لائق بمنصب أمير المؤمنين
عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه.
أي: لا يليق هذا حتى وإن كان يمدح
عثمان بالنفقة، لأن السياق يقول:
أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى *
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى *
وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى *
أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى *
وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:35-39]؟!
فهذا شيء لا يُقبل في شأن أمير المؤمنين وثالث الخلفاء الراشدين المهديين
عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، فهذا قول ساقط، ولا يمكن أن يصح.
تضمن الآيات لسبعة أمور يدل عليها القرآن