عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].
معاشر المؤمنين! لا شك أن لكل مخلوق في هذا الوجود أمنية يرجو نوالها، ويخطط لتحقيقها، ويعد ويرتب للحصول عليها، ومن المعلوم أن الآمال والأماني تختلف بين شخص وآخر، تختلف بين الناس بحسب علو هممهم، ورفعة مقاصدهم، فمن كانت همته عالية وجدت أمانيه غالية عزيزة رفيعة، ومن كانت همته هابطة وجدت أمانيه لا تبعد كثيراً عن هبوط همته، ورحم الله القائل:
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام |
أيها الأحبة في الله! لو سألت كثيراً من الناس عامة، أو سألت بعض الشباب خاصة، عن همته وغايته في هذه الحياة، وما يؤمل فيها، لهالك الأمر مما ترى، من دنو الهمة، والقناعة بالنـزر اليسير، والقدر القليل من حظوظ الكرامة والفلاح في الدنيا والآخرة، فمن الناس من ترى همته انحصرت في أرض صغيرة، أو دويرة عامرة، أو زوجة حسناء، أو دريهمات في الحساب الجاري في البنك، أو سيارة فارهة، وليس طلب الإنسان أو سعيه لتحصيل شيء من هذه الأمور معيباً، ما لم يرتكب في سبيل ذلك إثماً أو حراما.
لكنما المعيب والعجيب أن ترى الهمة والأمنية محصورة عند هذا الحد من حطام الدنيا وحظوظها الفانية، لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يمنحون الفرص الكثيرة، ليسأل أحدهم النبي صلى الله عليه وسلم ما شاء، وإذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأحد أجيبت دعوته، وإذا وعد النبي صلى الله عليه وسلم أحداً بموعد تحقق وعده، وحينئذ كان بوسع أحد الصحابة أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم آلاف الجمال والأباعر والنوق، أو قطعان الغنم، أو المال العظيم من الذهب والفضة، ومع هذا كله ما سأل أحد منهم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحطام إلا عدد قليل من الأعراب، وما جعلوه فرصة للإثراء.
إذاً حينما تتاح الفرصة للصحابة رضوان الله عليهم، ماذا كانوا يسألون؟ وماذا كانوا يتمنون؟ وماذا كانوا يطلبون؟ اسمعوا الجواب من خلال هذه القصة وغيرها.
فانظروا إلى سؤال ربيعة ، وأمنيته وغايته، ما قال: أسألك نوقاً أو إبلاً أو جمالاً أو ذهباً أو فضة، وهي فرصة يجاب فيها أي سؤال، حينما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: سل، فقال: أسألك مرافقتك في الجنة.
ثم قال للأعرابي: سل، فقال الأعرابي: ورحلها؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: لك ذاك.
ثم قال: سل، قال: أسألك زاداً؟ قال: وذاك لك، فعجبنا من ذلك! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعطوا الأعرابي ما سأل، قال: فأعطي، ثم قال صلى الله عليه وسلم: كم بين مسألة الأعرابي وعجوز بني إسرائيل.
).وملخص هذا، أن العجوز سألت موسى عليه السلام أن تكون معه في الدرجة التي يكون فيها في الجنة، فقال موسى: سلي الجنة، فقالت العجوز: لا أرضى إلا أن أكون معك في الدرجة التي تكون فيها في الجنة، فأوحى الله إلى موسى أن أعطها ذلك، فإنه لا ينقصك شيئا. رواه الترمذي في الأوسط عن علي.
فيا شباب الإسلام! ويا عباد الله! انظروا إلى الهمم العالية، والمطالب الغالية التي تمنوها فأدركوها، تمنوها خالصة لوجه الله جل وعلا، فاجعلوا همتكم رضا الله، واجعلوا سعيكم في مرضاة الله جل وعلا، عند ذلك يحقق الله لكم الدنيا والآخرة (من أصبح والدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه ضيعته، ووكله إلى نفسه، ولم يأته من الدنيا إلا ما قسم له، ومن أصبح وهمه الآخرة، تكفل الله برزقه، وأتته الدنيا راغمة، وجمع الله له ضيعته).
فارفعوا الهمم يا عباد الله! واصدقوا ربكم الوعد، وارفعوا الهمة والأمنية: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضو بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها؛ وكل محدثة بدعة؛ وكل بدعة ضلالة؛ وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
معاشر المؤمنين! إن مما يكدر البال، ويسوء الخاطر، أن ترى فئاماً من شباب المسلمين قد دنت همتهم، وانحصرت مطالبهم في حظوظ قليلة، وأمتعة رخيصة زائلة، من حطام هذه الدنيا الفانية، بل وإن منهم من حصر همه في ذلك على سبيل محرمة، وجاوز بها كل سبيل مباح، ولا حول ولا قوة إلا بالله! إن من الشباب من عرفناه، وقال بعظم لسانه: أتمنى أن أفتح محلاً للفيديو؛ لأبيع ألواناً وأشكالاً وأصنافاً من الأفلام، عجباً لهذه الأمنية، أمنية رخيصة، وهمة دنيئة، ومع ذلك أسلوبها وسبيلها حرام من كتاب الله وسنة نبيه، فيه أذى وإفساد.
يقول أحد السلف : وددت أن الخلق هذا أطاع الله ولو مزق لحمي إرباً، انظروا إلى هذه الهمة العالية، التي بلغت حد أمنية أن يهدي الله العباد، حتى وإن كان تحقيق هذه الأمنية على سبيل بدنه وتمزيق جسمه، شهادة في سبيل الله جل وعلا.
فارفعوا هممكم، وقلبوا أحوالكم، واجعلوا الهمة عند الله جل وعلا عالية، وإذا سألتم فاسألوا الله الذي بيده الخلائق، وبيده الأرزاق، فإن من الناس رغم دنو همته لا يجعل السبيل إليها إلا عن طريق البشر، فتراه ملحاً لحوحاً في سؤال عباد الله!، في سؤال الفقراء والضعفاء، وينسى أن يسأل ربه خالق الضعفاء والفقراء، ينسى أن يسأل ربه خالق الأغنياء والأثرياء.
انظروا يا عباد الله! عظم هذه الهمة التي جاوزت سؤال هذا الحد، وانظروا يا عباد الله! كيف يرتبط السلف في سؤالهم ودعائهم بالله جل وعلا، إن من الناس من لو بلغت به جائحة أو مصيبة تلفت إلى الضعفاء والفقراء، وإلى المساكين الذين لا يدفعون ولا يملكون نفعاً ولا ضراً، يسألهم حاجته أو تفريج كربته، ولو قلت له: أسألك بالله، هل قمت ليلة في حالة نزول ربك جل وعلا في الثلث الأخير من الليل يوم ينزل الجبار جل وعلا يسأل العباد حاجاتهم، وهو أعلم بها منهم (هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأجيبه ؟) هل سألت ربك حاجتك؟ يقول: لا والله ما حصل، إنما ذهبت إلى فلان واسطة إلى فلان، وذهبت إلى فلان شفاعة لفلان، وذهبت إلى علان شفاعة عند المسئول أو الجهة أو المكانة الفلانية، وقد نسي المسكين أن يسأل ربه الذي بيده نواصي الخلق أجمعين.
من يسأل الناس يحرموه وسائل الله لا يخيب |
وإذا بليت ببذل وجهك سائلاً فابذله للمتفرد المفضال |
لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب |
الله يغضب إن تركت سـؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب |
عباد الله: اسألوا الله الجنة، اسألوا الله الفردوس، اسألوا الله الشهادة في سبيله، اسألوا الله أن يفرج عن المكروبين، اسألوا الله واجعلوا من هممكم أن يخرج السجناء تائبين من سجونهم، اسألوا الله أن يهدي شباب المسلمين، اجعلوا هممكم عامة وعالية، انظروا إلى الكون بآفاقه الشاسعة، ولا تنظروا نظرة الأنانية أو نظرة الذاتية والفردية، تلك النظرة التي لا يجاوز فيها صاحبها حد نفسه ومصالحه القاصرة.
ويا للأسف! ما أكثر الذين لا ينظرون إلا إلى أنفسهم، وإلى أرصدتهم، وحظوظهم ونصيبهم فقط، وقد يرى الناس من حوله يجوعون أو يتضورون ويتضوغون جوعاً، ومع ذلك لا يفرج كربة وهو قادر عليها، من كرب العباد التي يستطيع العباد تفريجها، لا يشفع بوجه وهو قادر على الشفاعة، لا يبذل جاهاً وهو قادر على بذله، لا يقدم معروفاً وهو قادر على تقديمه.
أحسن إذا كان إمكان ومقدرة فلا يدوم على الإحسان إمكان |
مادام الإنسان قادراً ومستطيعاً، ومادام الإنسان مطيقاً، فليبادر وليقدم وليجعل الهمة عالية، وليرفع نفسه بهمة تنفعه عند الله، وتنفع الخلائق أجمعين، إن الخلق عيال الله، فأحبهم إليه أنفعهم لعياله.
فانفعوا عباد الله! واجعلوا همتكم لهم جميعاً، لا تجعلوا همتكم فردية لا تجعلوها أنانية، ولا تجعلوها ذاتية.
أسأل الله جل وعلا أن يهدي شباب المسلمين، وأن يفرج كربات المكروبين، وأن يمن على المذنبين بالتوبة.
يا شباب الإسلام! إن من أهم الأمور التي تستطيعونها، وتقدرون عليها، هي أمر الدعوة إلى الله جل وعلا، ومن كانت أمنيته أن يكون داعيةً إلى الله فليبذل أسباب وسائلها بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى يهتدي الخلق على يديه، فيقفون يوم القيامة يشهدون ويشفعون له، وتوضع مثل أعمالهم في موازين أعماله، تلكم هي الهمم العالية.
اجعلوا همتكم تربية الأبناء وتربية الأجيال، ونفع المسلمين، اجعلوا همتكم حفظ الأمن والأمة والمجتمع والبلاد، اجعلوا همتكم كل خير شمل وعم أبناءكم وإخوانكم وعامة المسلمين، واسألوا الله جل وعلا، واجعلوا ذلك فوق الهمم جميعاً، أن يختم الله لكم بالشهادة والسعادة، وأن يثبتكم الله على دينه، وأن يأخذ بنواصيكم إلى مرضاته، وأن يحيل بينكم وبين أسباب سخطه، هذه هي الهمم.
ينبغي أن يتذكر الإنسان هذه الأحوال، وأن يسألها ربه، وأن يجعلها من أعلى هممه، لا أن يجعل همته محل بيع أغاني، أو محل بيع أشرطة فيديو، أو سيارة من بلد كذا، أو فلة على شارعين، أو رصيداً قدره كذا وكذا، لا بأس لو سأل ربه مباحاً من المباحات، لكن ليست هذه هي الأمنية، وليست هذه هي الغاية، ولا تقف همة مسلم عند هذا الحد.
تلكم هي الهمة العالية، أن ينشر دين الله، وأن يبلغ أمر الله وكلام الله: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67]، فبلغوا دعوة الله يا شباب الإسلام! والله يعصمكم ويحفظكم: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38] ولا تهابوا قليلاً ولا كثيراً، ولا تخافوا صغيراً ولا كبيراً، إن الله جل وعلا يحفظ عباده المتقين.
اللهم اجعلنا من عبادك المحسنين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، اللهم اجعلنا على حوض نبينا واردين، ولكأسه من الشاربين، وعلى الصراط من العابرين، وآتنا صحفنا باليمين، وبيض وجوهنا يوم تسود وجوه الكفرة والمجرمين.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً اللهم جازه بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً، وافسح اللهم له في قبره مد بصره، ونور عليه ظلمة لحده، وافتح له اللهم باباً إلى الجنان يا رب العالمين!
اللهم اهد شبابنا، وارفع هممهم إلى ما يرضيك يا رب العالمين!
اللهم جنبهم الفساد، اللهم جنبهم الزيغ والعناد، اللهم افتح على البصيرة قلوبهم، اللهم اجعل نفعهم وحظهم لأمتهم، ولا تجعل فعلهم وجهدهم للشيطان وللأعداء، يا رب العالمين! يا أرحم الراحمين!
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته، اللهم أصلح مضغة قلبه، اللهم قرب له بطانة الخير، وجنبه بطانة الشر يا رب العالمين! اللهم اجعل جليسه من خافك وأرضاك واتبع رضاك يا رب العالمين!
اللهم اجمع شمله وإخوانه وأعوانه على كتابك وسنة نبيك، وسخر اللهم لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرضين بقدرتك، ربنا لا تشمت بنا ولا بهم حاسداً، ولا تفرح علينا ولا عليهم عدواً، وخذ بنواصينا أجمعين إلى ما يرضيك يا رب العالمين!
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين!
اللهم أغثنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً مريعاً، سحاً نافعاً طبقاً مجلياً غير ضار، اللهم اسق العباد والبهائم والبلاد، اللهم اسقنا ولا تجعلنا من القانطين، ربنا اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل رحمة من رحماتك، وبركة من بركاتك، ترحم اللهم بها العباد، وتنفع بها البهائم والبلاد بمنك يا أرحم الراحمين، اللهم اسق المسبحات الركع، والبهائم الرتع، والأطفال الرضع، والشيوخ الركع، برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم إن عظمت ذنوبنا، فإن عفوك أعظم، وإن كبرت معاصينا، فإن فضلك أكبر، وإن تعددت ذنوبنا، فإن فضلك أعظم يا رب العالمين! لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر