قال الله عز وجل: ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [المؤمنون:31].
هذه قصة أخرى يذكرها الله سبحانه وتعالى في سورة المؤمنون، بعدما ذكر قصة نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكيف دعا إلى ربه سبحانه، فلما كذبه قومه أهلكهم الله وجعلهم عبرة، وأنجى نوحاً ومن معه من المؤمنين كما تقدم.
فأول من نزل بهم العذاب العظيم الشديد العام هم قوم نوح، فالمفترض فيمن جاءوا من بعدهم أن يتعظوا، ويعلموا أن الله سبحانه قد أهلك قوم نوح، وقد أغرق الأرض ومن عليها، وهؤلاء القوم الذين جاءوا من بعد نوح هم من ذرية نوح ومن ذرية القوم المؤمنين الذين كانوا مع نوح، فكان المفترض في أمرهم أن يتبعوا ما كان عليه آباؤهم المؤمنون، وما كان عليه نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولكن عادة الإنسان النسيان، كلما جد عليه زمان نسي ما كان في الماضي، وتجده ينظر إلى الآن وما الذي يفعله، فهو يريد طعامه وشرابه ومتعته ولهوه، ويتناسى ما كان عليه السابقون من معاص، وما أصابهم من شؤم معصيتهم.
فقال الله سبحانه وتعالى: ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ، والقرن: الأمة من الناس، والقرن عدد من السنين، قالوا: أربعون سنة، وقالوا: مائة سنة، وقالوا: مائة وعشرون سنة، وقالوا: إن القرن من الزمان هو الذي عاش فيه مجموعة من الناس ثم ماتوا ولم يبق منهم أحد، وعندما نقول: قرن الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم هم الصحابة، أي: المجموعة الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه وعاشروه، فكل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي، وقد جاء في الحديث: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم)، أي: هؤلاء الصحابة ماتوا رضوان الله وتعالى عليهم، وجاء من بعدهم التابعون الذين لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم، لكن رأوا البعض من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء القرن الذين رأوا الصحابة وظلوا على ذلك إلى أن مات آخر من رأى هؤلاء الصحابة، وجاء القرن الذي يليه الذين لم يروا الصحابة، وإنما رأوا من بعدهم من التابعين، فهؤلاء قرن، وهكذا قرن يمضي ويأتي من بعده قرن آخر.
فقال الله عز وجل: ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ أي: من بعد قوم نوح، قَرْنًا آخَرِينَ أي: قرن قوم عاد من بعد نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقيل: بل قوم ثمود، باعتبار أن الله قال: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ [المؤمنون:41] ولا مانع أن يكونوا هم قوم عاد، فقد أخذهم الله عز وجل بالريح التي أرسلها عليهم وبصحية صاح فيهم جبريل فأهلكهم الله عز وجل وأبادهم بذلك، فلا مانع من أن يكونوا هم؛ لأنهم الذين كانوا من بعد قوم نوح.
إذاً: بعد إهلاك قوم نوح أنشأ الله عز وجل خلقاً وأوجد من بعدهم قرناً آخرين وأمة من الناس غير هؤلاء، وعادة الله سبحانه وتعالى أنه يرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام ليدعوا قومهم ويثبتوهم على دين ربهم سبحانه وتعالى.
قال الله سبحانه وتعالى: فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [المؤمنون:32].
قوله: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ يقرؤها بالكسر أبو عمرو ويعقوب وعاصم وحمزة ، أما باقي القراء فيقرءونها: (أنْ اعُبدوا الله).
كذلك مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قراءة الجمهور: مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ باعتبار المعنى، وأصلها: (ما لكم) أي: ليس لكم إله غيره سبحانه وتعالى، فكأن الأصل الضم فهذا وصف للمضموم أو للمرفوع، فقرأها الجمهور: مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وراعى اللفظ الكسائي وأبو جعفر وقالا: إنه وصف للمجرور، فوصف المجرور مجرور مثله، فقرآها: (ما لكم من إله غيرِهِ).
قوله: أَفَلا تَتَّقُونَ أي: هلا اتقيتم الله سبحانه وتعالى؟ فهو يحثهم ويحضهم على عبادة الله سبحانه وعلى تقوى الله، وأن يحذروا من أن يغضبوا ربهم سبحانه، فقال لهم: أَفَلا تَتَّقُونَ أي: أفلا تجعلون من أعمالكم الصالحة وقاية لكم من عذاب الله ومن غضبه؟ فالتقوى: هي أن تقي نفسك غضب الله وعذاب الله، وأن تجعل وقاية وحاجزاً وستراً بينك وبين عقوبة رب العالمين سبحانه، فهؤلاء القوم لم يتقوا الله سبحانه، وإنما كذبوا كما كذب الكفرة من قبلهم.
الملأ: هم علية القوم في الناس، و(الملأ) مأخوذة من ملء الشيء، ملأ الإناء يمتلئ امتلاءً، فهؤلاء الملأ كأنهم الذين يملئون العيون، ويملئون أماكنهم، ويكون في قلوب الناس منهم هيبة لمكانهم ومكانتهم، ولكونهم كبار القوم.
قوله: وَقَالَ الْمَلَأُ أي: الكبار من القوم، مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ أي: صفاتهم أنهم كفار وأنهم مكذبون بيوم الدين، وبلقاء رب العالمين سبحانه، وَأَتْرَفْنَاهُمْ في الحياة الدنيا أي: والحال أننا قد أترفناهم وأعطيناهم الرغد من العيش، والخصوبة والمال الوفير الكثير، والنعمة التي يتنعمون بها، فهؤلاء لما نظروا إلى أنهم مترفون وأنهم الكبار من القوم اغتروا بذلك، فقالوا عن نبيهم صلوات الله وسلامه عليه: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، أي: لا يوجد إلا هذا الذي يأتيكم ليدعوكم إلى الله، وهو بشر مثلكم، يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ أي: يأكل ويشرب مثلكم، وإذا كان يأكل ويشرب فإنه سيخرج هذا الشيء ويتبول ويتغوط، فلا ميزة له علينا.
فهؤلاء لم ينظروا إلى الحجة والدليل، وإنما نظروا إلى الهيئة التي أمامهم، وقالوا: هذا إنسان مثلنا فكيف يكون أحسن منا؟! فهو يأكل ونحن نأكل ويشرب ونحن نشرب، ويقضي حاجته ونحن مثله، فما الذي فضل به علينا؟ فهم لم يسمعوا لما يقول؛ لأن الكفر يدفع الإنسان للعمى وعدم النظر في حجة من يتكلم، والمكانة والرياسة والسيادة للإنسان كل ذلك يجعله يعمى عن أن ينظر إلى الحجة، أو يخاف على المكان الذي هو فيه، فيقول: لا داعي للنظر في دليل وفي حجة، فتجد الواحد منهم يرد ويقول: إنك لا تفهم شيئاً، وتقول كلاماً مثلنا.
قالوا: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ، وأصلها (ويشرب مما تشربون منه) أي: يشرب نفس الشراب الذي تشربونه.
قال تعالى حاكياً عن قوم هود: وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [المؤمنون:34]، انظر هنا إلى الكلام الذي ليس له معنى! نقول: إذا كانت طاعة البشر فيها الخسران، فهؤلاء الذين يطيعونكم أنتم، أنتم بشر وهم بشر، فلماذا طاعة نبيكم فيها الخسران وطاعتكم أنتم ليست فيها الخسران؟! إذاً: إذا احتججتم عليهم بهذا الشيء -وهو أنكم إذا اتبعتم بشراً فإنكم خاسرون- فكذلك أنتم بشر إذا اتبعوكم فهم خاسرون، ولكن العمى عن دين الله رب العالمين يجعل الإنسان يهرف بما لا يعرف، ويتكلم بما لا يفهمه هو ولا يقتنع بما يقول، ولكنهم يظنونها حجة يقولونها فقالوها: وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ فهو من البشر، ولكنه لا يأمرهم بطاعة نفسه، وإنما يأمرهم بطاعة الله رب العالمين سبحانه، فالطاعة لله، فلو دروا ما يقولون لعلموا أن هذا وإن كان بشراً فإنه لا يدعو إلى طاعة نفسه، ولكن يدعو إلى طاعة رب العالمين، بما جاء به من عند ربه.
إذاً: طاعة الله فيها الفلاح لو كان يعقلون.
قوله: إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أي: صرتم تراباً وعظماً، أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هؤلاء يتعجبون ويقولون: كيف سنرجع مرة ثانية إلى هذه الدنيا؟!
قال تعالى: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ [المؤمنون:36] أي: لم ننظر أحداً مات ثم رجع، وكأنهم يقيسون الآخرة على الدنيا، ولذلك قالوا: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ [المؤمنون:35-36] وقوله: (هيهات) أي: بعد بعداً عظيماً، ومستحيل أن يكون هذا.
فقوله: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ ، هذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي جعفر (هيهاتِ هيهاتِ لما توعدون) بالكسر فيها، ووقف عليها الكسائي وأبو عمرو هكذا: (هيهاه) وإذا وصلاها قالا: (هيهات هيهات) على قراءة الجمهور، لكن الجمهور إذا وقفوا عليها قالوا: (هيهات) بالتاء.
وهنا قدموا ذكر الموت على الحياة، فهل هذا فيه دليل على أنهم يؤمنون بأن بعد الموت حياة؟ لا، هم لا يقصدون هذا؛ لأنهم لو قصدوا ذلك لما قالوا بعد ذلك: وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ لكن المقصود من كلامهم: نَمُوتُ وَنَحْيَا أنه يموت جيل ويحيا جيل آخر، يموت الآباء ويحيا الأبناء، ويموت الأبناء ويحيا الأحفاد وهكذا، أو (نموت ونحيا) أي: كنا أمواتاً وكنا نطفاً ثم صرنا أحياء، وبعد ذلك نموت ولا بعث بعده، أو على التقديم والتأخير، وأصلها نحيا ونموت، أي: حياة وبعد ذلك موت ولا يكون هناك بعث مرة أخرى.
قال تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ [المؤمنون:38]، يقولون عن نبيهم صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ أي: (ما هو) فقصر الوصف عليه، أي: أن هذا صفة رجل من الرجال مثله مثلنا، ولكنه مفتر كذاب، والافتراء أشد الكذب، إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى أي: اختلق وكذب، عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ، وكأنهم يقولون: نحن القدوة ونحن لن نؤمن له، فاتبعونا في هذا الشيء، وافعلوا كما نفعل نحن، فإننا لسنا لَهُ بِمُؤْمِنِينَ.
وقوله: لَيُصْبِحُنَّ ، اللام قبل الفعل المضارع والنون المثقلة في آخره تدل على القسم، كأن الله سبحانه يطمئنه ويقول: والله ليصبحن نادمين فلا تخف، فكأن الله يقسم لنبيه عليه الصلاة والسلام أننا سننصرك عليهم، وسينظرون ما الذي يحدث لهم.
قال تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:41] هذا هو الذي عاقب الله به قوم عاد، وجاء في آية أخرى قوله: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ [فصلت:16] أي: ريح عاصفة شديدة البرودة عظيمة الهبوب فيها الأحجار تقذف هؤلاء وترفعهم ثم تقلبهم على رءوسهم، فهم ينزلون كأعجاز نخل منقعر، قد انقعر وقد جز من أصله، فالله سبحانه وتعالى أرسل عليهم ريحاً شديدة، وصاح بهم ملك من ملائكة رب العالمين، قال تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: أهلكهم الله ورفعهم بالرياح فألقاهم على رءوسهم، فصاروا كأعجاز نخل منقعر، وقوله: فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً أي: جعلهم غثاء كغثاء السيل، وهو الزبد الذي يكون على سطح الماء على وجه ماء البحر أو النهر، هذا هو الغثاء الذي ليس له قيمة ولا ينتفع بمثله، فصاروا كهذا الغثاء فلا قيمة لهم ولا قدر لهم.
فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: سحقاً لهم وتباً لهم وعقوبة شديدة للقوم الظالمين، ليس هؤلاء فقط بل هم وأمثالهم وكل من فيه هذه الصفة صفة الظلم الأكبر، من ظلم نفسه بتركه عبادة الله سبحانه، وظلم أنبياء الله سبحانه فلم يتبعهم فيما قالوا، وكذبهم وافترى عليهم، فبعداً وسحقاً وعذاباً للقوم الظالمين.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر