الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثلي كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها قال: فذلكم مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار: هلم عن النار، هلم عن النار فتغلبوني تقحمون فيها وهذا لفظ مسلم ، ولفظ البخاري : إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها فجعل الرجل ينزعهن ويغلبنه يتقحمن فيها وأنا آخذ بحجزكم عن النار وهم يقتحمون فيها.
هذا الحديث من النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة التي تجلي صفة الرحمة في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هذه الرحمة ملأت قلبه حتى كادت تهلك نفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم حزناً وحسرة على هذه الأمة، قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6]، ففاضت هذه الرحمة وفاضت حتى كادت تقتل صاحبها صلى الله عليه وسلم حزناً لما يرى من انصراف الخلق عن طريق الجنة إلى طريق النار.
يقول صلى الله عليه وسلم: (مثلي) وفي بعض الألفاظ (مثلي ومثلكم) -أي مثلي ومثل الناس- (كمثل رجل استوقد) -أي: أوقد ناراً فاتقدت هذه النار واشتعلت وسرى ضوءها (فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها) الفراش جمع فراشة وهي دواب مثل البعوض تطير وتتهافت في السراج وتنجذب ناحية الضوء، فإذا رأت السراج بالليل ظنت أنها في بيت مظلم وأن السراج فوة في البيت المظلم إلى الموضع المضيء، فتظل تطلب هذا الضوء وترمي بنفسها إلى هذه الفوة، فإذا ذهبت بعيداً عنها ورأت الظلام ظنت أنها لم تصب تلك الفوة، فتعود إليها إلى أن تحترق بهذه النار التي تحسبها نوراً! والدواب جمع دابة، وهي التي تقع في النار كالفراش والبعوض والجندب حيث ينجذبن إلى النار ويقعن في هذه النار، (وجعل الرجل يحجزهن) أي: يمنعهن عن النار مخافة عليهن، ويغلبنه، فرغماً عنه تصر هذه الدواب على أن تقع في النار وتتقحمها، (فيغلبنه فيقتحمن فيها) أي: فيدخلن في النار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فذلكم مثلي ومثلكم) أي: ما ذكر من حال الرجل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حولها صار الفراش والدواب يقتحمن فيها، والرجل يمنعهن من ذلك وهن يغلبنه يقتحمن في النار، ثم زاد هذا الأمر بياناً فقال صلى الله عليه وسلم: (أنا آخذ بحجزكم عن النار)، والحجز جمع حجزة، وهي مقعد الإزار، ومن السراويل هي موضع التّكّة، (وأنا آخذ بحجزكم عن النار: هلم عن النار، هلم عن النار) أي: أقبلوا إلي عن النار، أقبلوا إلي ولا تنجذبوا ناحية هذه النار، ففي متابعتي السلامة منها، (فتغلبوني تقحمون فيها أو تتقحمون فيها) بحسب إحدى الروايتين، أي: تدخلون فيها هجوماً عليها من غير روية.
فشبه صلى الله عليه وسلم تساقط العصاة في نار الآخرة بجهلهم عاقبة الشهوات بتهافت الفراش في نار الدنيا بسبب جهلها وعدم تمييزها لما تقصد إليه، فهي تعتقد نفع النار وهي سبب هلاكها، فكذلك أهل الشهوات في شهواتهم الغالبة، يعتقدون أنها نافعة وهي مضرة، والعاقل منهم الذي تحقق له أنها مضرة، لكن كان أسيراً للشهوات، فإنه لا ينفعه علمه بالضرر الذي فيها عن أن يسلك طريق النار فيقتحم فيها اقتحام الفراشة في النار مع علمه بأن فيها هلاكه.
يقول بعض العلماء:
إلى الله أشكو طوع نفسي للهوى وإسرافها في غيها وعيوبها
إذا سقتها للصالحات تقاعست ودبت على كره إليها دبيبها
وتهب نحو الموبقات نشيطة إذا ساوقتها الريح ساقت هبوبها
وما هي إلا كالفراشة إنها ترى النار ناراً ثم تصلى لهيبها
فهذا الحديث من أجلى ما يبين رحمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الأمة، كيف أنه يحرص أشد الحرص على إنجاء الناس من النار، وإنما يهلك من هلك رغماً عنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
في هذه الرحمة وجهان:
الأول: أنه رحمة للمؤمنين فقط، وأما الأمم النائية عنه صلى الله عليه وسلم فإن الله سبحانه رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض، فأصاب كل العالمين النفع برسالته.
الوجه الثاني: أنه رحمة لكل أحد، لكن المؤمنين قبلوا هذه الرحمة فانتفعوا بها دنيا وأخرى، والكفار ردوها فلم يخرج بذلك عن أن يكون رحمة لهم، لكنهم لم يقبلوها، كما يقال: هذا دواء لهذا المرض، فإذا لم يستعمله لم يخرج عن أن يكون دواء لهذا المرض.
قال الرازي : إنه صلى الله عليه وسلم كان رحمة في الدين والدينا، أما في الدين فلأنه بعث والناس في جاهلية وضلالة، وأهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم؛ لطول مكثهم وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم، فبعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب، فدعاهم إلى الحق وبين لهم سبيل الثواب، وشرع لهم الأحكام وميز الحلال من الحرام.
ثم إنما ينتفع بهذه الرحمة من كانت همته طلب الحق، فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والاستكبار، وكان التوفيق قريناً له، قال الله تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت:44]، وأما في الدنيا فلأنهم تخلصوا بسببه من كثير من الذل والقتال والحروب، ونصروا ببركة دينه صلى الله عليه وآله وسلم.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى في محاسن التأويل: كل من لحظ بعين الحكمة والاعتبار ونفذت بصيرته إلى مكنون الأسرار؛ علم حاجة البشر كافة إلى رسالة خاتم النبيين، وأكبر منة الله به على العالمين، لقد بعث صلوات الله عليه وسلامه على حين فترة من الرسل، وإخافة للسبل، وانتشار من الأهواء، وتفرق من الملل؛ ما بين مشبه لله بخلقه، وملحد في اسمه، ومشير إلى غيره، كفر بواح وشرك صراح، وفساد عام، وانتهاب للأموال والأرواح، واغتصاب للحقوق، وشن للغارات، ووأد للبنات، وأكل للدماء والميتات، وقطع للأرحام، وإعلان بالسفاح، وتحريف للكتب المنزلة، واعتقاد لأضاليل المتكهنة، وتأليه للأحبار والرهبان، وسيطرة من جبابرة الجور وزعماء الفتن وقادة الغرور، ظلمات بعضها فوق بعض، وطامات طبقت أكناف الأرض، استمرت الأمم على هذه الحال الأجيال الطوال حتى دعا داعي الفلاح، وأذن الله تعالى بالإصلاح، فأحدث بعد ذلك أمراً، وجعل بعد عسر يسراً، فإن النوائب إذا تناهت انتهت، وإذا توالت تولت؛ وذلك أن الله تعالى أرسل إلى البشر رسولاً ليعتقهم من أسر الأوثان ويخرجهم من ظلمة الكفر وعمى التقليد إلى نور الإيمان، وينقذهم من النار والعار، ويرفع عنهم الأصرار، ويطهرهم من مساوئ الأخلاق والأعمال، ويرشدهم إلى صراط الحق، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، وقال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164].
قال عز وجل: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الأنبياء:108]، يأمر تعالى رسوله صلوات الله وسلامه عليه أن يبلغ المشركين ويقول لهم: (إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي: متبعون على ذلك مستسلمون منقادون له؟ هذا أسلوب قصر، فيه قصر الوحي في كلمة التوحيد: (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)، وقصر الوحي على استئثاره تعالى بالوحدانية فيه إشارة إلى أن التوحيد هو الأصل الأصيل، وما عداه راجع إليه، فكل ما عدا (لا إله إلا الله) راجع إلى (لا إله إلا الله)، فكأن كل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام إنما المقصود بها تحقيق كلمة (لا إله إلا الله) التي هي كلمة التوحيد وكلمة النجاة، وليس معنى ذلك أن الصلاة والزكاة والصيام والحج والمعاملات وكل الأحكام لا تدخل في (لا إله إلا الله)، لكن هذا إشارة إلى أن الأصل الأصيل في الدين هو توحيد الله تبارك وتعالى وتحقيق هذا التوحيد، وإذا تأملنا القرآن نجد أن القرآن من أوله إلى آخره كله في التوحيد؛ لأن القرآن إما دعوة إلى التوحيد وتنفير من ضده وهو الشرك، وإما بيان لحال الأنبياء والدعاة الذين دعوا إلى التوحيد، وبيان حال الذين اهتدوا وأسلموا في الدنيا، أو بيان حال القوم الذين أعرضوا، وكيف كان عاقبة المؤمنين في الدنيا نتيجة التزامهم بالتوحيد وحقوق التوحيد، وكيف كان عاقبة الكافرين الذين تولوا عن التوحيد وحقوقه، ثم أحوال أهل الجنة الذين استجابوا لدعوة التوحيد، وأحوال أهل النار الذين أعرضوا عن التوحيد، وإما إخبار بأوامر وتكاليف هي حقوق التوحيد، فإذا قلنا: لا إله إلا الله أي: لا يستحق أن يعبد إلا الله، فكيف إذاً نعبد الله؟
أتت الشرائع لتبني العبادات، وهي من حقوق التوحيد كما جاء في الحديث المعروف: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل)، فهذه كلها من حقوق التوحيد. إذاً: كل الرسالة موضوعها تحقيق لا إله إلا الله، فمن أجل ذلك قصر وحصر الله سبحانه وتعالى الوحي في لا إله إلا الله.
قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا [الأنبياء:109] أي: تركوا ما دعوتهم إليه، فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنبياء:109]، أي: أعلمتكم؛ لأن معنى الآذان: الإعلام، (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ) أي: أعلمتكم أني حرب لكم، كما أنكم حرب لي، أنا بريء منكم، كما أنكم برآء مني؛ وذلك في قوله تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس:41]، وهذا أيضاً مثل قوله تبارك وتعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنفال:58] أي: ليكن علمك وعلمهم لنبذ العهود على السواء، وهكذا هاهنا قال عز وجل: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنبياء:109] أي: أعلمتكم ببراءتي منكم، وبراءتكم مني لعلمي بذلك.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى أيضاً في نفس هذه الآية: (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي: أعرضوا وصدوا عما تدعوهم إليه: فَََقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنبياء:109] أي: أعلمتكم أني حرب لكم، كما أنكم حرب لي، بريء منكم كما أنتم برآء مني.
واستدل بنفس هذه الآيات التي ذكرنا، وبين أن معنى (آذنتكم) يعني: أعلمتكم، ومنه الأذان للصلاة وقوله تعالى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ [التوبة:3] يعني: إعلام من الله، وقال عز وجل: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ [البقرة:279] أي: اعلموا، ومنه قول بعض الشعراء:
آذنتنا ببينها أسماء رب ثاو يمل منه الثواء
يعنى أعلمتنا ببينها، فالمقصود: (فَََقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ) أي: أعلمتكم على بيان أنا وإياكم حرب لا صلح بيننا، وإن كان بيننا وبينكم أي عهد فقد نقضناه.
إذاً: آذنتكم أي: أعلمتكم، ويكون علمي وعلمكم بهذه الحرب سواء لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6].
فقوله تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنفال:58] يعني: إن كان بينك وبين قوم عهد وميثاق وخفت منهم الخيانة فأعلمهم أولاً بأن هذا العهد انقضى ولا تغدر؛ فإن الأنبياء لا يغدرون، بل أعلمهم قبل أن تقاتلهم بأنك قد نقضت هذا العهد، فاستويت أنت وهم في العلم بذلك، فليس لفريق عهد ملزم في حق الفريق الآخر.
قال الزجاج : معنى الآية: أعلمتكم بما يوحى إلي على استواء في العلم به، وهذا تفسير آخر، أي: كل الناس سواء في هذا الحق، لم أظهر لفريق ما كتمته عن فريق، لكنني أعلمتكم جميعاً ما أوحي إلي، ولم أكتم منه شيئاً، وكلكم سواء في العلم بما أوحي إلي، ولم أظهر لأحد شيئاً كتمته عن غيره.
قال تبارك وتعالى: وَإِنْ أَدْرِي [الأنبياء:109] يعني: ما أدري، ما هي النافية وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ [الأنبياء:109] يعني ما توعدون من الفتح عليكم، وإيراث أرضكم غيركم، ولحوق الذل والصغار بعصيانكم، فـ مَا تُوعَدُونَ [الأنبياء:109] واقع لا محالة، لكن لا أدري متى هو، فهو واقع لا محالة، لكن لا علم لي بقربه ولا ببعده.
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ [الأنبياء:110] أي: إنه يعلم سبحانه وتعالى الغيب جميعه، ويعلم ما يظهره عباده وما يسرون، وسيجزيهم على ذلك القليل والجليل، يقول تعالى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الملك:13]، ويقول: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ [المائدة:99]، ويقول عز وجل: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:33]، ويقول عز وجل: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]، ويقول عز وجل: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7].
قال عز وجل: وَإِنْ أَدْرِي [الأنبياء:111] يعني: ما أدري لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [الأنبياء:111] يعني: لعل هذا الإمهال والتأخير اختبار وامتحان لكم، ولعل إمهال هذا الموعد المرتقب وتأخيره فتنة لكم ومتاع إلى حين، وهذا هو الواقع، فإننا نرى الكفار يغترون بإمهال الله تبارك وتعالى إياهم، ويحسبون أن الله إذا أمهلهم فقد يهملهم، لكن الله عز وجل يمهل للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وهذا نراه عياناً في مشارق الأرض ومغاربها.
(وَإِنْ أَدْرِي) يعني: ما أدري (لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ)، أي: تمتيع يمتعكم الله بالدنيا (إلى حين) حتى يأتي القدر المقدور.
وقال ابن جرير : أي: لعل تأخير ذلك عنكم فتنة لكم، أي: استدراج وابتلاء، ومتاع إلى أجل مسمى.
قال الله سبحانه: قَالَ رَبِّ احْكُمْ ?بِالْحَقِّ [الأنبياء:112]، وفي بعض القراءات: (قل رب احكم بالحق)، عامة القراء السبعة ما عدا حفص عن عاصم يقرءون: (قل رب احكم بالحق) بصيغة الأمر، فقراءة الجمهور تدل على أنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يقول ذلك، وقراءة حفص (قَالَ رَبِّ احْكُمْ ?بِالْحَقِّ) تدل على أنه صلى الله عليه وسلم امتثل الأمر بالفعل.
وما أمره الله أن يقوله هنا قاله نبي الله شعيب عليه السلام كما ذكره الله عنه في قوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [الأعراف:89]. (افْتَحْ بَيْنَنَا) أي: احكم بيننا. (قَالَ رَبِّ احْكُمْ ?بِالْحَقِّ) أي: افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق أي: بحكمك الحق.
وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [الأنبياء:112] أي: الله عز وجل الرحمن المستعان على ما تصفونه بألسنتكم من أنواع الكذب بادعاء الشركاء والأولاد وغير ذلك، كما قال عز وجل: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ [النحل:62]، وقال عز وجل: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ [النحل:116]، وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قاله يعقوب عليه السلام لما علم أن أولاده فعلوا بأخيهم يوسف غير ما أخبروه عنه، وأخبروه خبراً كاذباً حيث زعموا أن الذئب أكل يوسف عليه السلام، وعلم أنهم كاذبون في ذلك، فذكر نص هذه العبارة فقال: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18] المستعان يعني: المطلوب منه العون تبارك وتعالى، فقوله تعالى: (قَالَ رَبِّ احْكُمْ ?بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)، أي: افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق، والله المستعان عليكم على ما تقولون وتفترون من الكذب بجعل الأنداد لله تعالى وعبادتها من دونه عز وجل.
يقول الرازي : قال القاضي : إنما ختم الله هذه السورة بقوله: (قل رب احكم بالحق)؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان قد بلغ في البيان لهم الغاية يعني: استوفى كل ما يستطيع في بيان حقيقة هذا التوحيد، والدعوة إلى هذا الدين، استوفى كل ما أمكن في بيان رسالته، فقد كان قد بلغ في البيان لهم الغاية، وبلغوا النهاية في أذيته وتكذيبه، فهو استفرغ وسعه وجهده في أداء الرسالة وهم بلغوا النهاية وأقصى حد ممكن في أذيته وتكذيبه، فكان قصارى أمره تعالى بذلك تسوية له (قل رب احكم بالحق)، تسوية له وتعريفاً أن المقصود مصلحتهم، فإذا أبوا إلا التمادي في كفرهم فعليك بالانقطاع إلى ربك ليحكم بينك وبينهم بالحق، إما بتعجيل العقاب بالجهاد أو بغيره، وإما بتأخير ذلك فإن أمرهم وإن تأخر قريب، فكل ما هو كائن قريب، فالله عز وجل وعد هؤلاء الكافرين المعرضين بالإهلاك وبالعذاب الأليم، وأخبر أنه يمهل ولا يهمل سبحانه وتعالى، فمن أجل ذلك أمره الله عز وجل أن يقول هذا القول كالاستعجال بالأمر بجهادهم حتى يجعل الله للمسلمين مخرجاً.
هذا آخر تفسير سورة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام فلله الحمد والمنة.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر