وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وهانحن الليلة مع فاتحة سورة التوبة -تاب الله علينا وعلى كل مؤمن ومؤمنة- فهيا بنا نستمع إلى تلاوة هذه الآيات منها مجودة مرتلة، ثم نأخذ في شرحها، وبيان مراد الله تعالى فيها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة:1-4].
اللهم اجعلنا منهم.
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! نعود إلى الآيات التي تدارسناها بالأمس فنسرد على مسامعكم هداياتها، فإنها تذكرنا بالآيات وما تحمله من هدى، قبل الشروع في دراسة هذه الآيات التي سمعنا تلاوتها.
[ من هداية الآيات:
أولاً: بيان تفاوت المؤمنين في كمالاتهم وعلو درجاتهم عند ربهم ].
وهذا لا يشك فيه مؤمن ولا مؤمنة: بيان تفاوت المؤمنين في كمالاتهم وعلو درجاتهم عند ربهم، من أين أخذنا هذا؟
مداخلة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:72].
الشيخ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال:72]، وهنا بالأمس عرفنا أن الآية في المهاجرين والأنصار.
الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أولاً هم المهاجرون من أهل مكة وغيرها، آمنوا أولاً، ثم هاجروا ثانياً، ثم جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ثالثاً.
من بعدهم الأنصار الذين آمنوا وآووا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم. فهذه درجة لا تسمو فوقها درجة.
إذاً من هنا: بيان تفاوت المؤمنين في كمالاتهم وعلو درجاتهم عند ربهم.
[ ثانياً: أكمل المؤمنين الذين جمعوا بين الإيمان والهجرة والجهاد وسبقوا لذلك وهم المهاجرون الأولون، والذين جمعوا بين الإيمان والإيواء والنصرة والجهاد وهم الأنصار.
ثالثاً: دون ذلك من آمنوا وهاجروا وجاهدوا، ولكن بعد صلح الحديبية ].
آمنوا وهاجروا جاهدوا بأموالهم وأنفسهم، ولم يصلوا إلى مستوى الطائفة الأولى؛ لأنهم ما آمنوا ولا هاجروا إلا بعد صلح الحديبية، فالسابقون الأولون، وهؤلاء من أهل الجنة، ولكن دون الأولين في الدرجة.
[ رابعاً: أدنى أصناف المؤمنين من آمنوا ولم يهاجروا وهؤلاء على خطر عظيم ].
آمنوا وما هاجروا، هؤلاء دون الأولين، وهم على خطر، والله المنقذ والمنجد؛ لأنهم تركوا الهجرة فقد يترتب على ذلك أن يرتدوا أو يلزمونهم بالكفر والعياذ بالله فيهلكوا.
[ رابعاً: أدنى -أقل- أصناف المؤمنين من آمنوا ولم يهاجروا وهؤلاء على خطر عظيم ] كما علمنا.
[ خامساً: وجوب نصرة المؤمنين بموالاتهم ومحبتهم، ووجوب معاداة الكافرين وخذلانهم وبغضهم ].
هذا دل عليه قوله: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73]، إن لم يوالوا المؤمنون بعضهم بعضاً بالحب الكامل والنصرة التامة مع خذلان الكافرين وبغضهم، إن لم يتم هذا للمؤمنين يتعرضون للفتنة وللعذاب والعياذ بالله، وقد حصل هذا.
إِلَّا تَفْعَلُوهُ ماذا نفعل؟ الإيمان، والجهاد، والهجرة، وموالاة المؤمنين بحبهم وبنصرتهم في أي ميدان، ومعاداة الكافرين وبغضهم والحرب عليهم، إذا تركتم هذا يخشى أن يقع ما يقع، وقد وقع، ما تمزق شمل المسلمين؟ ما ذلوا، ما هانوا، ما تفرقوا؟
سبب ذلك: أنهم ما والى بعضهم بعضاً بالحب والنصرة، ولا عادوا الكافرين وأبغضوهم وحاربوهم، فحصل الذي حذر الله منه بقوله عز وجل: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73] والعياذ بالله.
قال: [ خامساً: وجوب نصرة المؤمنين بموالاتهم ومحبتهم، ووجوب معاداة الكافرين وخذلانهم وبغضهم ] أيضاً.
[ سادساً: نسخ التوارث بغير المصاهرة والنسب والولاء ].
كانوا يتوارثون بالمعاقدات والمعاهدات بينهم، بين المهاجرين والأنصار بالمؤاخاة.. تؤاخي شخص وتكتب بينك وبينه صك أنه أخوك ترثه ويرثك، كان هذا في أول الإسلام، ثم نسخ الله ذلك بقوله: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [الأنفال:75]، فلا إرث إلا بالنسب والمصاهرة التي هي الزوجة والزوج.
وذكر أهل العلم لعدم افتتاح سورة التوبة بالبسملة عدة وجوه، لكن أحسنها وأليقها أنها إعلان حرب، فلا يتلاءم معه إعلان (بسم الله الرحمن الرحيم)، فقد سئل علي عنها، فقال: هذه إعلان حرب وعذاب، كيف نذكر الرحمن الرحيم ثم نعذب؟!
بَرَاءَةٌ [التوبة:1] من أين هذه البراءة؟
من الله ورسوله، والمؤمنين تابعون لله ورسوله.
براءة هي: قطع الصلة نهائياً، والوصل والسبب لا صلة ولا سبب تربطنا بهؤلاء الكافرين، لا عهد ولا قرابة ولا وطن ولا أي سبب من الأسباب يربطنا بهم، انقطعت كل الصلات.
المعاهدات: منها ما هو سنة، أو ستة أشهر، منها ما هو أربعة أشهر، خمسة أشهر، ثلاثة.. هذه المعاهدات كلها ألغيت، وأعطي أهلها وغيرهم مدة أربعة أشهر -ثلث السنة-، اللهم إلا من كان لهم عهد ستة أشهر -مثلاً- وما نقضوه، ولا ظهرت منهم ظاهرة النقض أو النكث، فهؤلاء يوفى لهم مدتهم ولو كانت سنة أو أقل أو أكثر، ما عدا هؤلاء أصحاب المعاهدات التي دون الأربعة أشهر أو فوقها، وليست محددة بموعد وميقات معين، أعطاهم الله مدة أربعة أشهر يفكرون فيها، من شاء أن يشرق أو يغرب، يذهب إلى الأحباش أو إلى المجوس أو إلى الروم، لماذا؟ لأن الإسلام انتظم شأنه، وعلت رايته، وهذه الأرض هي بيضته وقبته، والرسول قريب يموت ويلتحق بربه، فلم يبق إذاً دينان في هذه الأرض.
فيا معشر المشركين! إن شئتم ادخلوا في رحمة الله.. ادخلوا في الإسلام تسلموا وتسعدوا وتكملوا، وإن أبيتم لكم فرصة أربعة أشهر -أي: ثلث سنة- فكروا فيها، وبعد ذلك اذهبوا إلى الشرق أو إلى الغرب أو كما شئتم، فإن رفضتم الإسلام وبقيتم في دياركم -أي: في جزيرة العرب-، فإنه لا مناص من قتلكم وإنهاء وجودكم؛ لتبقى هذه الديار قبة الإسلام وبيضته، لا يعبد فيها سوى الله عز وجل، ( لا يجتمع دينان في هذه الجزيرة ).
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ [التوبة:1] يا رسولنا والمؤمنين معك مِنَ الْمُشْرِكِينَ [التوبة:1]، وهذه المعاهدات -كما قدمنا- قد تكون سنة، تسعة أشهر، أكثر، أقل.. ما دامت غير محددة، أربعة أشهر كافية فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة:2]، سيحوا أيها المشركون المعاهدون أربعة أشهر.
فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ [التوبة:2]، لا تفهموا أنكم تهربون إلى الشرق والغرب وتتجمعون وتقاتلون الإسلام من جديد، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ، ووالله ما هم بمعجزين لله، وأن الله عز وجل مخزي الكافرين ومذلهم ومهينهم؛ حتى لا يفكروا في أن يتجمعوا مع إيران أو مع الروم أو مع كذا ويأتون ليقاتلوا، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ [التوبة:2] أي: مذلهم.
والكافرون: من لم يؤمن بالله ولقائه، ومحمد ورسالته صلى الله عليه وسلم.
أذان: إعلام رسمي في السنة التاسعة لما فتح الله باب الحج، ففتح مكة كان في السنة التاسعة، وقد وجب الحج في هذه السنة، فعين الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق يحج نائباً عنه أميراً للمسلمين، والرسول ما حج تلك السنة؛ لأمر أراده الله، فخرج أبو بكر الصديق ومعه ألوف المؤمنين والمؤمنات سنة تسع.
فالذي قاد الأمة أبو بكر الصديق وحج بالمسلمين، وهذه إشارة إلى أنه ولي المسلمين وخليفتهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نزلت هذه الآيات، ( وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ [التوبة:3]، فبعث بها رسول صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ؛ لكونه قريباً من الرسول صلى الله عليه وسلم وأعطاها غيره، وكانوا يتناقلونها ويعلنونها في عرفات وفي منى وفي مكة: ألا لا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان ).
(ألا لا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان) إذ كانوا يطوفون بالبيت عراة؛ للطيفة وهي: كيف نعصي الله في هذا الثوب ونطوف به؟!
فربما كانت قلوبهم أرق من قلوبنا، كافر وما يستسيغ أن يطوف بثوب عصى به الله!! إذاً يطوف عارٍ بلا ثياب، وكانت طائفة تقول:
اليوم يبدو كله أو بعضه وما يبدو منه فلا أحله
لأنها تطوف عارية ماذا تصنع؟ تضع يدها على فرجها وهكذا، لكن من تلك السنة لم يبق من يطوف بالبيت عارياً، ولا يحج بعد ذلك العام مشرك قط أو يقف في مكة إلى اليوم.
هذا الأذان أعلنه الله عز وجل ووفق رسوله لذلك، والرسول أسنده إلى علي وبعض المؤمنين، فأعلنوا في عرفات وفي مكة وهو يوم الحج الأكبر.
والله! ما عظم الحج كما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الأمة التي حجت بمئات الآلاف، فكان هذا الحج هو الحج الأكبر، هل هو يوم عرفة أو يوم منى؟
الصواب: أنه يوم منى؛ لأن الأمة مجتمعة فيه والبيانات والإعلانات الرسمية فيه، وأما يوم عرفة فيوم دعاء وعبادة، ليس فيه سوى الذكر والدعاء.
هذا هو يوم الحج الأكبر أيام منى، أعلن فيها رسمياً أنه لم يبق مجال لمشرك بعد اليوم، فمن هنا أعطاهم الله هذه الفسحة أربعة أشهر، فليتفضلوا.. ادخلوا في الإسلام، اخرجوا.. تنجوا.. شرقوا أو غربوا، أبيتم هذا وذاك، فالقتال هو الذي يصفي وجودكم، والله مخزي الكافرين ومذلهم.
من ينصركم أيها المشركون إذا تبرأ منكم الله، وتبرأ منكم رسوله، وتبرأ منكم المؤمنون؟ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [التوبة:3]، تبتم: أي رجعتم إلى الصواب بعد الخروج والبعد عنه، بأن آمنتم بالله ولقائه ومحمد ورسالته.
فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:3] ما بقيت نافذة أمل لهم أبداً، إما الإسلام وإما الدمار والهلاك، أغلق الله في وجوههم كل نافذة إلا باب الإسلام فقط، منه ينجون ويسلمون، أما ما عدا ذلك فلا ينفعهم شيء؛ لأن الله لا يعجزه شيء، والله يقول للرسول: بشر الكافرين بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة معاً.
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ من بعض القبائل وهي كثيرة مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا من المعاهدة وَلَمْ يُظَاهِرُوا ولم يعينوا عدوكم عليكم ولو بكلمة، ولو بكأس من الماء أو بحذاء تلبس، أما إذا أعانوا ولو بالكلمات أو بالإشارة، المعاهدة انتهت بهذه الشروط: لم ينقصوكم شيئًا من بنود المعاهدة، ولم يظاهروا ولم يعينوا ويناصروا عليكم أحداً ولو بكلمة أو بإشارة، فهؤلاء أتموا إليهم عهدهم سنة أو أشهر حتى تنتهي، فإن ظهرت منهم ظاهرة النقض فاضربوهم.
فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة:4] والمتقون هم الذين يطيعونه ولا يعصونه، هم الذين يفعلون محابه ويتركون مكارهه، والله عز وجل يحب الوفاء وفرضه وأمر به، فإذا عاهدتم أمة، قبيلة.. أفرادًا.. أشخاصًا، وفوا لهم عهدهم ولا تنقضوه إلا إذا لاحظتم منهم النقض والنكث، ورأيتم عوناً لأعدائكم عليكم.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة:4] معناها: أن المعاهدة إذا تمت يجب ألا تنقض، فإذا عاهدنا دولة كافرة لا ننقض المعاهدة حتى هي تتولى نقضها.
والبشارة تكون بالسرور، وتكون في حال الهزل والسخرية كذلك كما في قوله: وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:3].
البشارة: الخبر الذي يستبشر به الإنسان ويتفتح وجهه ويضحك، وكذلك التبشير بالعذاب من باب النكاية.
تعرفوا السياحة أو لا؟ الجولان في الأرض، ومنه ساح الماء يسيح فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أحرار، ادخلوا كذا اخرجوا من كذا فكروا أربعة أشهر، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ [التوبة:2] لا يفهموا أن الله أعطاهم هذه الفرصة؛ لأنهم أقوياء ولأنهم كذا وكذا! لا والله! ما هي إلا رحمة الله بهم فقط، فرصة لعلهم يؤمنون ويسلمون، فلهذا قال: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ [التوبة:2] (الكافرين) إلى يوم القيامة، والله ما وجد المؤمنون الصادقون إلا ووجد الكافرون الأذلة المهانون.
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة:3] أين أعلن هذا الأذان وهذا البيان الرسمي؟ يوم الحج الأكبر، سنة تسع من الهجرة النبوية، حج أبو بكر أميراً أو خليفة عن رسول الله في الحج، وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم ابن عمه علي وغيره يعلنون في منى وعرفات: ( ألا لا يحجن بعد العام مشرك )، انتهى حج المشركين، فما هي إلا أربعة أشهر وليست سنة، إما أن تسلموا وإما أن تهربوا شرقاً أو غرباً أو تتعرضوا للنهاية والفصل.
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ [التوبة:3] هذا الأذان هو: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة:3] أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم بريء كذلك، ومن تبرأ الله منه ورسوله تلتهمه جهنم، كيف ينتصر؟ كيف يعز؟ كيف يبقى؟ بل يهلك.
فَإِنْ تُبْتُمْ أي رجعتم إلى الصواب؛ لأن هذه الإشارة فيها أن بعض القبائل ترددوا والعياذ بالله تعالى، أذعنوا ثم تراجعوا، فلهذا فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ وأعرضتم فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي: غالبين الله ولا منتصرين عليه وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا يا رسولنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:3] وهو عذاب الدنيا بالذل والهون، وعذاب الآخرة بالخلود في النار وجحيمها وعذابها.
ثم استثنى تعالى ما علمتم: إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إلا الذين عاهدتموهم من المشركين، من الذي عاهدهم؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمته معه أصحابه معه، عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا ولو كلمة، ولو دقيقة أو ساعة وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا حتى إذا ما نقضوا العهد ووفوا ثم ساعدوا العدو علينا بكلمة أو بإشارة أو بمعونة مادية يعتبرون نقضوا العهد وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فهؤلاء فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ سنة أو سنتين هو أقل ما فيه سنة، أشهر فقط فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ زيادة على الأربعة أشهر، فوق الأربعة الأشهر العامة.
ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة:4].
كيف نكون من المتقين؟
نعرف ما يحب الله من الاعتقاد والقول والعمل والسلوك والصفة، ونعمل ذلك بجد وصدق، ونعلم ما يكره الله ويبغضه من الأقوال والأفعال والاعتقادات الباطلة، ونتركه وبذلك تتم ولاية الله.
المتقون: هم الذين اتقوا غضب الله وسخطه بطاعته وطاعة رسوله، أي: بفعل محاب الله وترك مكارهه، بهذا تتم التوبة، تتم التقوى والله يحب المتقين.
قال: [ أولاً: جواز عقد المعاهدات بين المسلمين والكافرين، إذا كان ذلك لدفع ضرر محقق عن المسلمين ].
يجوز للوالي المسلم الحاكم العام أن يعقد معاهدة بين دولة كافرة وبينه، إذا كان ذلك لدفع ضرر محقق لا موهوم فقط.
[ أو كان لجلب نفع للإسلام والمسلمين -أيضاً- محقق ] ليس موهوم أو متوقع فقط، محقق.
من أين أخذنا هذا؟ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا [التوبة:4] الآية.
[ ثانياً: تحريم الغدر والخيانة، ولذا كان إلغاء المعاهدات علنياً وإمداد أصحابها بمدة ثلث سنة يفكرون في أمرهم ويطلبون الأصلح لهم ].
لماذا أعطاهم أربعة أشهر؟ حتى ما يغدر بهم وهم غافلون يسلط عليهم رجاله فيقتلونهم، أعطاهم فسحة أربعة أشهر، فلهذا قلنا: تحريم الغدر والخيانة في الإسلام، لا غدر ولا خيانة، ولذا كان إلغاء المعاهدات علنياً، وإمداد أصحابها بمدة ثلث سنة يفكرون في أمرهم ويطلبون الأصلح لهم، لو أراد أن يغدر بهم -والعياذ بالله- أمر رسوله أن يقتلهم.
[ ثالثاً: وجوب الوفاء بالمعاهدات ذات الآجال إلى أجلها اللهم إلا أن ينقضها المعاهدون ].
إذا عاهدنا دولة من الدول على عشر سنين، سنة، عشرة.. يجب الوفاء، إلا إذا نقضوها أو ظهرت علامات النقض، فحينئذ كما تقدم نضربهم.
[ رابعاً: فضل التقوى وأهلها، وهي اتقاء سخط الله بفعل المحبوب له تعالى، وترك المكروه ].
ففضل التقوى أن الله يحب أهلها، فهل هناك خيرٌ أفضل وأكمل وأعظم من أن يحبنا الله عز وجل؟ فالله خالق السماوات والأرض، المميت المحيي، المعطي المانع، مدير الكون كله يحبك، فماذا تريد بعد هذا؟
والله لا أفضل من هذا الحب أبداً، فكيف نحصل على حب الله؟ بأن نحبه ونحب ما يحب ونكره ما يكره.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر