الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب السماوات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنه إن كانت الصناعة النحوية والتاريخية والفقهية قد ألقت بظلالها فيما سلف من دروس؛ فإن الصناعة الإيمانية -إن صح التعبير- تلقي بظلالها على ما نحن بين يديه في هذا الدرس من آيات.
قال ربنا وهو أصدق القائلين: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:151-153].
هذه الآيات الثلاث ذكر الله جل وعلا فيهن أمهات الفضائل وأصول الرذائل، فأصول الرذائل ذكرت لنجتنبها، وأمهات الفضائل ذكرت لنعمل بها.
وختمت هذه الآيات بذكر أنها وصايا من رب العالمين جل جلاله لعباده، وتضمنت كل ما فيه تهذيب النفوس وتزكيتها، ولإن كانت سورة الأنعام سورة مكية، فذلك لا يعني أبداً أن القرآن أغفل تزكية النفس وتهذيبها في أيام المجتمع المكي، خاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بين قوم كانت الضلالة قد ضربت بأطنابها في حياتهم، وعلى مسيرة حياتهم الاجتماعية خاصة، فجاء القرآن يأتي بأمهات الفضائل ليتبعها الناس، وأصول وجوامع الرذائل ليتركها الناس ويحذروها.
وهنا سنتكلم بإطلالة عامة، ولن نأخذ الآيات آية آية، أو لفظة لفظة، أو حرفاً حرفاً؛ لأن الوصايا هنا ظاهرة بينة، وليست مسائل فقهية استغلق فهمها تحتاج إلى تحرير أقوال لعلماء وأئمة، وإنما هي وصايا ظاهرة بينة من رب العالمين جل جلاله.
والوالدان جعلهما الله جل وعلا سبباً في وجودك، فعظم الله جل وعلا حقهما، ومن تعظيم الله تعظيم من عظمه الله جل وعلا.
كما أن سوء الظن بالله والخوف من الفقر لا ينبغي للمرء أن يتحلى به، ولهذا قال الله: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ [الأنعام:151].
ودليل ذلك قصة وقعت ذكرها الشيخ صالح الخضيري في كتابه (العبر في حوادث الدهر).
وهو أنه قبل اثنين وخمسين عاماً تقريباً، -أي: عام ستة وسبعين للهجرة بعد الثلاثمائة تقريباً- في أحد أقاليم بلادنا المباركة كان هناك مطر غزير استمر أياماً حتى تعطلت مصالح الناس، وقصروا عن الذهاب والإياب، والبيوت يوم ذاك في ذلك الإقليم كان أكثرها من طين، فخاف أهلها من أن تسقط عليهم، ففروا إلا قليلاً، وخرجوا من بيوتهم، فاحتاج أحدهم إلى مال، فذهب إلى جاره يستقرضه، فلما دخل على جاره كان الجار طيب النفس سليم السريرة، وكان مريضاً، فرفع الوسادة، وأخرج صرة فيها جنيهات، وأعطاه ما احتاجه وطلبه، ثم رد الوسادة على الصرة.
فهذا الطالب المقترض كان خبيث الطوية، فطمع في المال، فلما جاء الليل وحل الظلام وأمسى الناس تسور البيت، ولا حاجة به إلى أن يتكلف تسوره؛ إذ المطر ينزل والبيوت من طين، ثم جاء فوجد صاحبه نائماً وزوجته معه وطفلة رضيعة لهما على الفراش، فأحكم الصنعة، فحمل الطفلة بلحافها وغطائها ووطائها، ووضعها في فناء الدار والمطر ينزل، وتنحى قليلاً واختفى، وكان يؤمل أن يزداد تساقط المطر فتستيقظ الطفلة فتبكي فتسمعها الأم فتأتي إليها فيخلو الوضع، فيأتي هو إلى الوسادة والرجل مريض نائم فيأخذ المال، فوقع الأمر كما رسم، فاستيقظت الطفلة وأخذت تبكي، وتوالى بكاؤها، فاستيقظت الأم، ولكن الأم تعجبت لكون الطفلة ليست قادرة على المشي، وكيف انتقلت إلى فناء الدار، وزادها خوفاً أنها لم تجد وطاء ولا لحاف ولا فراش ابنتها، فقالت في نفسها: لو قدرنا أن الطفلة تقلبت فهذا قد يعقل أن يحدث، ولكن ما الذي ذهب بالفراش والوطاء إلى هناك؟! فازداد خوفها وأيقظت زوجها، فلما أيقظته قال لها: اذهبي الآن إلى الطفلة، فعبرت له عن خوفها، وأصرت على أن يذهب معها، فقام لا يتمالك نفسه ولم يكن به كسر، وإنما مرض وحمى، فخرج مع زوجته يبحثان عن الطفلة، فلما كانا في فناء الدار جاء هذا الذي خبثت نيته وقد خلا له الأمر، فرفع الوسادة وأخذ الصرة، وقبل أن يخرج سقط البيت كله عليه، فنجا الثلاثة بقدر الله، وانتقم الله منه.
فتأمل -أيها المبارك- عظيم القدرة وعظيم اللطف في آن واحد، نجا الله بعض أوليائه بلطفه، وبنفس القضاء -والله عزيز ذو انتقام- انتقم الله جل وعلا من شخص آخر، ونحن لا نقول: إن هذا الرجل كافر أو غير كافر، فالأصل أنه مسلم، ونعلم أن هذا الذنب لا يخرج من الملة، ولن نكلف أنفسنا ما لا تطيق، ولكن نقول: إن هذا عبرة لمن يعتبر ولمن يتعرض لحياة الناس، ولمن يتعرض لمظالم العباد، ولمن يظن أنه لو ملك صوت فتاة أو صورتها أو صورة حدث أو صورة عورة مكشوفة فإنه يستطيع أن يساوم بها جنسياً أو مالياً وقد تسلط، فقد يكون خصمك ضعيفاً جداً، ولكن هناك قوي عزيز جليل عظيم لا تخفى عليه من عبادة خافية. فتأمل في الخبر الذي سقناه.
وأما كيف عرف الناس هذا الأمر؛ فإنه لما سقط البيت فزع الجيران، وهم لا يشكون لحظة في أن صاحبهم وجارهم قد هلك، ولكنهم وجدوا الثلاثة مجتمعين خارج الدار، حتى قال الشيخ صالح الخضيري في كتابه: إن بعض الجيران قالوا: إن الملائكة أنجتكم، وهم لا يدرون بحال الأول، فهنئوهم بالسلامة، وقالوا: إذا أصبحنا وطلع النهار فنحمل الأنقاض التي سقطت لنخرج المتاع والأثاث، فلما استيقظوا صباحاً وطلع النهار كان هناك شيء من الضوء، وكانت الشمس محجوبة بالغيوم، فلما حملوا الأنقاض إذا بذلك الرجل الجار الذي يعرفونه ميتاً وفي يده الصرة، فهو أحكم الصنعة، ولكنه نسي قدرة الجبار جل جلاله.
فإذا أخبرت بخبر كالقصة التي سردناها نقلاً فتذكر ما ذكره الله جل وعلا في كلامه في كتابه العظيم من إهلاك لأمم قد خلت وقرون قد سبقت نازعوا ربهم فأوردهم الله جل وعلا طريق الثبور والوبال والهلاك، قال الله جل وعلا: مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ [هود:100]، فما كان حصيداً دل على قوته، وما جعله الله جل وعلا قائماً يتعظ به غيرهم، وقال ربنا: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [الحجر:76] أي: في طريق قائم يراه من ينظر بعين بصيرته قبل أن ينظر بعيني بصره، والمقصود الاتعاظ بكلام الله جل وعلا والخوف منه، وأن الإنسان لا يجعل حياته معلقة بالخلائق، وإنما يجعلها معلقة بربه تبارك وتعالى، فانظر إلى لطف الله بذلك الرجل وزوجته وابنته، كيف أن الله جل وعلا جعل من أراد بهم مكراً سبيلاً إلى نجاتهم، ومن أراد ما حرم الله بطريقة حرمها الله أورده الله طريق المهالك.
وقد يغتر بعض الناس؛ لأنه قد يصنع الأمر تلو الأمر ولا يقع، ولكن الله جل وعلا يقول: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ [إبراهيم:42]، فربنا تبارك وتعالى عظيم جليل ذو قدرة.
فليعلق الإنسان قلبه بالله، وليبن على تعلقه بربه آمالاً عظيمة، وحق له؛ لأن من فتح الله عليه وتولاه لا يمكن أن يخسر أو يحبط شأنه، ولهذا إذا سمع الإنسان وهو في صلاة الليل في رمضان أو في غيره الإمام يدعو، أو صلى لوحده ودعا فقال: (اللهم تولني فيمن توليت) فليستشعر معنى: (تولني فيمن توليت)، فيعلم أن الله جل وعلا إذا تولاك لا يمكن أن تخذل أبداً؛ لأنه ليس بعد ولاية الله ولاية، والعاقل يستصحب في دعائه أن يقول: اللهم إني أسألك رضاك؛ فإنه لا يضر مع رضاك سخط أحد، وأسألك ولايتك؛ فإنه لا يذل من واليت، وأسلك خيرتك؛ فإنه لا يعلم الغيب والشهادة إلا أنت. فإذا كان الله جل وعلا قد منحك رضاه وأعطاك ولايته واختار لك، فحق لك بعد ذلك أن تسير غير مبال بما يكون وراءك أو حولك أو أمامك، فمن أين تؤتى وقد تولاك الله؟! ومن أين تهلك وقد اختار الله لك؟! وأي شيء تخاف وقد رضي الله عنك؟!
فهذه أمور يحسن بالمؤمن التقي النقي الذي يريد ما عند الله أن يستصحبها ليل نهاراً غدواً ورواحاً سفراً وإقامة.
وقد ذكروا أن علياً رضي الله تعالى عنه وأرضاه فقد درعاً حطمية له يوم صفين، فلقيها يهودي، فلما رآها علي بعد المعركة مع اليهودي طلبها منه، فأنكر اليهودي، فاحتكما إلى شريح القاضي ، فقال شريح لـعلي : هل معك من شهود، فقال: نعم، ابني الحسن وغلامي قنبر ، فقبل شريح شهادة الفتى الغلام، ولم يقبل شهادة الحسن ، فأنكر عليه علي قائلاً: ألم تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
أبَيْتَ اللعنَ ما أدركت ديني ولو أدركته لرأيت ديناً
فكم يعزى إلى الإسلام ذنب وكل الذنب ذنب المسلمين
والمقصود أن الإنسان يعدل في قوله وفي شهاداته، ويراقب الله.
والإنسان أحياناً قد يبتلى بسؤال في موطن لا يملك فيه الإجابة، فيواري أو يجيب إجابة -كما يقول العامة اليوم- دبلماسية يخلص بها من بطش الجبارين، وليس له سبيل إلى أن يهلك نفسه، ولكن أحياناً يغيب الوعي ويغيب الرشد إذا أراد الله جل وعلا أن يتم أمره، كما قال تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11].
قال ابن عباس : إذا جاء أمر الله تخلت عنه الملائكة. لأن قدر الله ماض لا محالة.
فهذه الوصايا -كما قلت-: يجعلها المؤمن نبراساً، فيتوخى أمهات الفضائل ويسير عليها، وينظر في أمهات الرذائل وجوامعها -عياذاً بالله- فيجتنبها، والموفق من وفقه الله، والإلحاح على الله في الدعاء وإخلاص النية مما ينال به المرء مطلوبه ويحقق المؤمن به غايته.
جعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
هذا ما تحرر إيراده وتهيأ إعداده حول هذه الثلاث الآيات المباركات من سورة الأنعام، والله تعالى أعز وأعلى وأعلم.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر