وبعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب جماع توحيد الله عز وجل وصفاته وأسمائه، وأنه حي قادر عالم سميع بصير متكلم مريد باقٍ ].
باب له تعلق بذات الله عز وجل وأسمائه وصفاته، ووجوب معرفة الله عز وجل.
فمعرفة الله عز وجل واجبة، ولا يتصور أن عابداً لله عز وجل يعبده وهو لا يعرفه، ولا يتصور أن عبداً يؤمن بالله وهو لا يعرفه، وكذلك لا يتصور أن عبداً يؤمن برسول الله وهو لا يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمعرفة الله تعالى واجبة، وكذلك معرفة الرسول عليه الصلاة والسلام واجبة، وذلك لا يثبت إلا بالسمع.
والمصطلح الذي اشتهر على ألسنة الناس: (أننا عرفنا ربنا بالعقل) وهذا يخالف ما كان عليه معتقد سلفنا رضي الله عنهم أجمعين من أن معرفة الله تعالى تثبت بالنقل لا بالعقل. وهذه المسألة لها مدلول لدى العقلانيين والمعتزلة.
إن أهل السنة والجماعة يجري على ألسنة بعضهم أخطاء شائعة في الاعتقاد من حيث لا يدرون، فإذا سئل أحدهم: بماذا عرفنا الله؟ أجاب مباشرة بالعقل، وهذه إجابة خاطئة تمام الخطأ، فالله تعالى يعرف بالسمع لا بالعقل، أو بالنقل لا بالعقل، وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا كانت العبادة أو الشرع لا يعرفان إلا بالنقل فمشرع الشرع لا يعرف كذلك ومن باب أولى إلا بالنقل.
قال: [ جماع توحيد الله عز وجل وصفاته وأسمائه، وأنه حي قادر عالم سميع بصير متكلم مريد باق. وسياق ما يدل من كتاب الله عز وجل وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن وجوب معرفة الله تعالى وصفاته بالسمع لا بالعقل ].
ولو كان يعرف ذلك بالعقل فإن أرجح العقول وأقواها وأهداها سبيلاً هو عقل نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وقد خاطبه الله عز وجل بهذا النقل، والأمر ابتداءً لا يعرف إلا من قبل النقل.
والعرب كانوا من أرجح الناس عقلاً وذكاءً وفطنة، وغير ذلك، ومع هذا كانوا يعبدون الأصنام، ويعبدون غير الله عز وجل، وقالوا بعقولهم: ما نعبد هذه الآلهة إلا لتقربنا إلى الله زلفاً. والذي هداهم إلى ذلك عقولهم الفاسدة التي كانت من الذكاء والحفظ والإتقان والتثبت بمكان، وربما لا تبلغ أعظم العقول في هذا الزمان أقل العقول في أيام الجاهلية من جهة الحفظ والإتقان، فقد كان الواحد منهم يحفظ القصيدة أو الألفية المكونة من ألف بيت أو ألفين من المرة الأولى، ومع هذا كان منحرفاً في جهة التوحيد وزائغاً ضالاً؛ لأنه ليس عنده نقل يثبت أن الله تعالى إله واحد.
وقد خاطب الله عز وجل نبيه بهذا الخطاب ليثبت له سمعاً ونقلاً ووحياً أن الله تعالى هو المتفرد والمستحق للألوهية وحده، وأن هذه الآلهة التي تعبد من دون الله عز وجل إنما هي آلهة مزعومة.
قال: [ وقال الله تبارك وتعالى: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:106].
وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] ].
فهو المستحق للعبادة وحده دون سواه، وكان كل نبي يؤمر بهذا عند رسالته، ويكلف بتبليغ هذا الأمر إلى أمته، فأخبر الله نبيه في هذه الآية أنه بالسمع والوحي عرف الأنبياء من قبله التوحيد.
فالأنبياء أنفسهم لم يعرفوا التوحيد إلا من قبل الوحي، ولا شك أن النبي عليه الصلاة والسلام كان قبل الرسالة على الحنيفية السمحاء.
وهذا التوحيد الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام بعد الرسالة وبعد التكليف لم يكن يعرفه عليه الصلاة والسلام تفصيلاً قبل الوحي، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام على الحنيفية السمحاء، والنبي عليه الصلاة والسلام كان صاحب عبادة وتهجد واختلاء بالله عز وجل وذكر له، ولكن ليس بهذه المنهجية والتأصيل الذي أرسله الله عز وجل به، وإلا فما فائدة الوحي في حق النبي عليه الصلاة والسلام حينئذ؟
قال: [ فأخبر الله نبيه ] أي: في هذه الآيات المتقدمة [ أن بالسمع والوحي عرف الأنبياء قبله التوحيد.
وقال تعالى: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي [سبأ:50] -أي: قل يا محمد- وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي [سبأ:50] ]، يعني: أن الهداية بوحي، والإيمان بوحي، والتوحيد بوحي، والوحي سمع ونقل، ولا دخل للعقل فيه؛ لأنه كلام الله تعالى، قال: وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ [سبأ:50].
قال: [ قال الله تبارك وتعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158] ]. وهذه الآية تدل على أن معرفة الرسول لا تكون إلا بوحي من السماء.
قال: [ وقال تبارك وتعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] ].
فالرسل هم الذين يقيمون حجة الله على الخلق، وهم الواسطة بيننا وبين الله عز وجل، وهم المبلغون عن الله عز وجل وحيه ومراده، والذين ينقلون تكاليف الله عز وجل الشرعية إلى الخلق أجمعين.
والله تعالى لا يسأل الجاهل الذي جهل بعد أن بذل الوسع في التعلم وخفي عليه العلم، كما أنه لا يسأل الناسي ولا المجنون، ولا السفيه الذي قد عذره الله تعالى في كتابه وعذره نبيه في سنته.
وكذلك الله تبارك وتعالى ما أرسل رسله إلا ليفرغوا الوسع ويبذلوا الجهد في تعليم الخلق؛ حتى تنقطع حجتهم بين يدي الله عز وجل حتى لا تكون لهم حجة يوم القيامة.
قال: [ وقال تبارك وتعالى: وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا [القصص:44-47] -يعني: يا رب! لو أنك أرسلت إلينا رسولاً ما وقعنا في هذه الجرائم- فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص:47].
وقال تعالى: وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ [طه:133] -يعني: لو يأتينا بآية ومعجزة من ربه- أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى * وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى [طه:133-134] ].
قال: [ فدل ] أي: هذه الآيات [ على أن معرفة الله والرسل بالسمع كما أخبر الله عز وجل، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة ]. فمعرفة الله ومعرفة الرسل إنما تكون بالسمع والنقل لا بالعقل.
هذا بعض الأدلة من كتاب الله على قولنا.
وفي حديث أنس قال: (نهينا أن نسأل النبي عليه الصلاة والسلام عن شيء)، وهذا النهي هو المذكور في قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101]. فخافوا بعد نزول هذه الآية أن يسألوا النبي عليه الصلاة والسلام خاصة في قوله عليه الصلاة والسلام: (لعن الله عز وجل من سأل عن مسألة فحرمت لأجل مسألته)، أو نحواً من هذا الكلام وهذا المعنى، وكانوا يرغبون عن سؤال النبي عليه الصلاة والسلام، حتى قال أنس بن مالك : (نهينا أن نسأل النبي عليه الصلاة والسلام عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية). وأهل البادية فيهم جلافة وغلظة، وقد كان الواحد منهم يدخل على النبي عليه الصلاة والسلام كما يدخل على أقرانه وأصدقائه من أهل البادية بجلافة وغلظة وحماقة وبداوة وجفاء، فيسأل النبي عليه الصلاة والسلام بطريقة غير لائقة.
وقول أنس : ( فكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل ). يعني: المهذب المحترم الذي تأدب بأدب أهل المدينة، لا بأدب البادية. وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من بدا جفا). يعني: من سكن البادية كان فيه من الجفاء والغلظة ما فيه، وقال تعالى: الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا [التوبة:97]. يعني: فيهم غلظة وجلافة وشدة.
وأهل البادية لا يستريحون مع أهل الحضر، فأهل البادية ينظرون إلى أهل الحضر على أنهم قليلوا العيال فارغين لا ينفعون، وأهل الحضر ينظرون إليهم على أنهم في منتهى الغلظة والجفاء، وعقولهم غير متفتحة.
قال أنس : (كان يعجبنا أن يأتي الرجل العاقل من أهل البادية فيسأل النبي عليه الصلاة والسلام ونحن نسمع). وهذا فعل جيد أيضاً؛ لأن أنس لو أراد أن يتفاهم مع هذا الرجل لو سمع وحده فلن يعرف أن ما يأخذه منه حق أو باطل؛ لأنه ربما يستكثر أن يقول له: أنا أرى أن أعمل كيت وكيت، أو ينقله إليه بجلافة وغلظة، ثم إن لسان أهل البادية يختلف عن لسان الحضر.
وقد رأينا أناس في الشام من سكان الجبال كأنهم يتكلون اللغة اللاتينية، وحتى أهل الأردن وأهل سوريا وأهل لبنان لا يعرفون هذه اللهجة.
وأخبرنا أئمة المساجد الذين كلفوا من قبل أوقاف الشام في سوريا والأردن بالذهاب لإمامة الناس في هذه المساجد التي في البادية أنهم لم يجلسوا معهم أسبوعاً واحداً، وأن البطل فيهم هو الذي جلس أسبوعاً، وكانوا يقولون لهم: نحن لا نفهمكم ولا أنتم تفهموننا، وهذه الكلمة فهمها بعد أسبوع، وكانوا يقولون لهم: اكتبوا ما تريدون منا ونحن نقرأ، فالتعامل صعب جداً بين أهل البادية وأهل الحضر.
فقال أنس : (نهينا أن نسأل النبي عليه الصلاة والسلام عن شيء فكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع).
قال: [ عن أنس قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوساً فجاء رجل على جمل له فأناخه ثم عقله -أي: فأناخه على باب المسجد، ثم ربطه بالعقال- ثم قال: أيكم محمد؟) ] وهذا من الجفاء والغلظة. [ (قال: قلنا هذا الرجل الأبيض المتكئ عليه الصلاة والسلام) ]. وهذا فيه وصف النبي عليه الصلاة والسلام بالبياض وفيه: جواز الجلوس متكئاً، ولكن إن كان ذلك ولابد فعلى اليد اليمنى لا على اليسرى.
قال: [ (ورسول الله صلى الله عليه وسلم متكئ بين أظهر أصحابه، قال: فقال: يا محمد!) ] ولم يقل: يا رسول الله، والله يقول: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63]. يعني تأدباً مع النبي عليه الصلاة والسلام، وأهل العلم لهم من الحرمة ما ليس لغيرهم، وحرمة النبي عليه الصلاة والسلام أشد.
قال: [ (قد جئتك يا ابن
قال: [ فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (سل عما بدا لك) ]. وهذه ليست أخلاق المدينة، بل هي أخلاق النبوة عليه الصلاة والسلام.
قال: [ (فقال: يا محمد! أتانا رسولك فزعم لنا) ]. والزعم ليس بلازم أن يكون كذباً، بل هو مجرد القول، وأحياناً يكون الزعم والظن بمعنى الصدق في الحديث، وقوله: (أتانا رسولك). يعني: أن النبي عليه الصلاة والسلام أرسل إليهم رسولاً إلى البادية ليعلمهم الوحي.
قال: [ (فزعم لنا أنك تزعم - أي: أنك تقول- أن الله أرسلك؟ قال: صدق) ]، يعني: صدق رسولي الذي أرسلته إليكم.
وفي حديث ابن عباس : (جاء رجل من بني
وهذا جواب يدل على حسن العبارة، فإذا ناداك مناد فقل: لبيك. وهذا أفضل من أن تقول: نعم. ونعم إجابة جيدة وجميلة، ولكن لبيك أولى في الدلالة من كلمة نعم.
ومعنى قد أجبتك يعني: قل ما تريده، فأنا قد سمعتك ومتهيئ لسماعك.
[ (قال: أنا وافد قومي) ]. يعني: قد انتدبني قومي وأهلي لأن أسمع منك بنفسي. وطلب العلو ممدوح، ولما قيل لـشعبة : ما تشتهي؟ قال: إسناد عال وبيت خال. يعني: بيت ليس فيه إزعاج، وإسناد عال، فالأولى اقتراب المرء من النبي عليه الصلاة والسلام لا ابتعاده عنه، والحديث إذا رواه ثلاثة فهو أفضل ما لو رواه أربعة أو خمسة، فهو يدل على أن هذا الإسناد من الأسانيد العالية. يعني: أن كل واحد من أصحاب هذا الإسناد لم يجعل بينه وبين النبي عليه الصلاة والسلام اثنان إذا كان بإمكانه أن يأتي بواحد، أو كان بإمكانه أن يسمع منه مباشرة.
قال: [ (أنا وافد قومي ورسولهم، وإني سائلك فمشتد في مسألتي إياك، وأنا ناشدك فمشتد نشادي إياك، فلا تجدن علي - أي: فلا تحزن- قال: نعم. قال: فأخبرني من خلق السماء؟) ] أي: أخبرني يا محمد! من خلق السماء. [ (قال صلى الله عليه وسلم: الله. قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله. قال: فمن نصب هذه الجبال؟ -يعني: أقامها وجعلها أوتاداً تمسك الأرض- وجعل منها ما جعل؟ قال: الله. قال هذا الرجل: فبالذي خلق السماء، وخلق الأرض، ونصب هذه الجبال آلله أرسلك؟) ]، يعني: هل أنت متأكد من هذا يا محمد؟! فإذا كنت تقول: إن الله هو الخالق البارئ المصور، وأنه لا خالق لهذا الكون غيره، أفبالخالق يا محمد! أنه هو الذي أرسلك؟
قال: [ قال النبي عليه الصلاة والسلام: (نعم) ].
وفي حديث شريك عن أنس : [ (يا محمد! أنشدك بربك وبرب من كان قبلك) ]. وهذا الرجل لم يكن يشرك في اليمين أو الحلف، فلم يكن يقل: والنبي أو وإبراهيم أو وموسى أو وعيسى، ونحن نحلف دائماً بالنبي، حتى أصبح معروفاً عند الناس الأجانب أن يمين المصريين: (والنبي)، والرجل هذا لم يكن يحلف بالأنبياء.
قال: [ (أنشدك بربك وبرب من كان قبلك آلله بعثك إلى الخلق كلهم؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم) ].
وفي حديث ابن عباس : [ (أتتنا كتبك، وأنبأتنا رسلك أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأن ندع اللات والعزى، فناشدتك به هو أمرك؟) ] يعني: هل الله عز وجل الذي أرسلك أمرك بأن نعبده وحده لا شريك له، وأن ندع عبادة اللات والعزى؟ [ (فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم) ].
وفي حديث شريك عن أنس : [ (يا محمد! أنشدك بربك ورب من كان قبلك آلله أمرك أن نصلي الخمس في اليوم والليلة؟) ] لأن رسول رسول الله عليه الصلاة والسلام أخبرهم بهذا كله، فأراد الرجل أن يستوثق بنفسه، وأن يطلب العلو بالسماع من النبي عليه الصلاة والسلام مباشرة، فبدلاً من أن يمكث في بلده ويقول: أخبرنا فلان أن النبي عليه الصلاة والسلام قال كذا كان يقول: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام بنفسي قال كذا وكذا، وبدلاً من أن يكون هناك واسطة بينه وبين النبي سمع النبي عليه الصلاة والسلام بنفسه، وهذا إسناد عال. [ قال: (آلله أمرك أن نصلي الخمس في اليوم والليلة؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اللهم نعم) ]، أي: أمرني أن نصلي الخمس الصلوات.
قال: [ وفي حديث ثابت عن أنس قال ذلك الأعرابي: (فزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا. قال النبي عليه الصلاة والسلام: صدق).
وفي حديث ابن عباس : (وأنبأتنا رسلك أن نصلي في كل يوم وليلة خمس صلوات، ناشدتك به هو أمرك بهذا؟ قال: نعم).
وفي حديث شريك عن أنس : (أنشدك بربك وبرب من كان قبلك آلله أمرك أن نأخذ الصدقة من أغنيائنا فنقسمها في فقرائنا؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اللهم نعم).
وفي حديث ثابت عن أنس : (فزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا، قال: صدق. قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال : نعم) ].
وهذا من ذكاء هذا الرجل وعقله الراجح.
قال: [ وفي حديث ابن عباس قال : (أتتنا كتبك، وأنبأتنا رسلك أن نأخذ من فضل أغنيائنا فنرده على فقرائنا، ناشدتك به أهو أمرك بهذا؟ فقال: نعم).
وفي حديث شريك عن أنس قال: (يا محمد! ناشدتك بربك وبرب من كان قبلك آلله أمرك أن تصوم الشهر في السنة؟).
وفي حديث ثابت عن أنس : (فزعم رسولك صوم شهر رمضان في سنتنا قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال: نعم).
وفي حديث ابن عباس : (أتتنا كتبك، وأنبأتنا رسلك أن نصوم من كل سنة شهراً، ناشدتك به أهو أمرك بهذا؟ قال: نعم).
وفي حديث ثابت عن أنس : (وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلاً؟ قال: صدق).
وفي حديث ابن عباس : (أتتنا كتبك، وأنبأتنا رسلك أن نحج بيت الله في الحجة -أي في العام- ناشدتك به أهو أمرك؟ قال: نعم) .
وفي حديث شريك : (آمنت بما جئت به). وهذه هي الخاتمة والنهاية. (وأنا رسول من ورائي، وأنا
وفي حديث ثابت عن أنس قال: (فبالذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن شيئاً، ولا أنقص منهن شيئاً). وهذا الرجل هو الذي قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (أفلح إن صدق) ].
وربما يثار في الذهن أسئلة عما يتعلق ببقية السنن والنوافل وغيرها. والجواب: أن هذا كان قبل سن هذه السنن، أو أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: من أدى هذه بتمامها وكمالها لا ينقص منها شيئاً فإن الله تبارك وتعالى يتقبله من الصالحين.
ومصداق ذلك قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: لو أن الله تقبل مني ركعتين لكفى. قيل له: كيف ذلك يا أبا عبد الرحمن ؟! قال: ألم يقل الله عز وجل: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]؟ فلو أنه تقبل مني ركعتين لعلمت أنني على قدر من التقوى، وهذا كاف.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لئن صدق ليدخلن الجنة). أي: لئن صدق في اعتقاده وعمله وقوله ليدخلن بذلك الجنة.
وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم، وحديث ابن عباس فيه نوع من الغرابة، ولكنه صحيح جيد.
قال: [ عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قول الله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:35] -معنى: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ منور السماوات والأرض، وهو سبب لإحداث النور والهداية في الأرض والسماء- قال ابن عباس : الله سبحانه هادي أهل السماء وأهل الأرض ].
فالنور بمعنى الهداية. قال: الله سبحانه هادي أهل السماء وأهل الأرض، فمثل هداه في قلب المؤمن كمثل الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار، فإذا مسته النار ازداد ضوءاً على ضوء، كذلك يكون قلب المؤمن يعمل فيه الهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى، ونوراً على نور، وهذا كما حدث لإبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، فإبراهيم عليه السلام قال قبل أن تجيئه المعرفة: قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام:76]. وذلك هدى الله تعالى يؤتيه من يشاء فقال: قَالَ هَذَا رَبِّي حين رأى الكواكب من قبل أن يخبره أحد أن له رباً، فلما أخبره الله أنه ربه ازداد هدى على هدى، ونوراً على نور.
ونبينا عليه الصلاة والسلام كان يعبد الله تبارك وتعالى في غار حراء، وكان ذلك من بعض الهدى الذي آتاه الله تعالى إياه، ولكنه ازداد بعد الوحي هدى إلى هداه، ونوراً إلى نوره.
قال: (لا يعرفه منا أحد)، يعني: ليس من أهل المدينة. [ (ولا يرى عليه أثر السفر) ]. وهذا عجب.
قال: [ (حتى جلس إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فأسند ركبتيه إلى ركبته -يعني: أسند ركبتي نفسه إلى ركبتي النبي عليه الصلاة والسلام- ووضع كفيه على فخذيه) ]. أي: ووضع كفيه على فخذي نفسه، وليس على فخذي النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذا لا يتناسب مع أدب طلب العلم، فليس من الأدب أن تجلس إلى المعلم وتضع يديك على كتفه، أو على رجله، أو تأتيه من الخلف، فكل هذا من سوء الأدب مع المعلم والشيخ، وإنما من أراد أن يسأل مسألة فليأت من قبل وجه الشيخ، وليجلس إليه، ثم يسأله في أدب ووقار كما سأل هذا الرجل الذي جلس إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فوضع ركبتيه إلى ركبتيه. يعني: كان بحذاء النبي عليه الصلاة والسلام مباشرة. ولا يعني ذلك أنه لامس بركبتيه ركبة النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما كانت بمحاذاة ركبة النبي عليه الصلاة والسلام ومسندة إلى ركبته عليه الصلاة والسلام. [ (ثم قال له: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ -يعني: عن أركان وشرائع الإسلام- فقال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً) ]. وهذه الأركان الخمسة هي أركان الإسلام. [ (قال: صدقت، قال
[ قال: (قال: صدقت، فعجبنا له وهو يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره) ]، فأركان الإيمان ستة، وأركان الإسلام خمسة. (قال: صدقت، ثم قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه). وهذا منتهى المراقبة لله عز وجل. (فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، أي: فإنه سبحانه يراك حقيقة. (قال: صدقت. فأخبرني عن الساعة؟ قال: قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، أي: أني مثلك في هذه القضية، فيوم القيامة لا يعرفه أحد؛ لأن هذا من الغيب الذي أستأثر الله تعالى به لنفسه، وأنا لا أستطيع أن أجيبك عن هذا السؤال. (قال: فأخبرني عن أماراتها وأشراطها وعلاماتها. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أن تلد الأمة ربها)، وفي رواية: (أن تلد المرأة ربتها) ، وكلا الروايتين صحيحة.
ومعنى: (أن تلد الأمة ربتها) أي: سيدها.
ففي آخر الزمان ومع انتشار العبيد والرق، فإن الواحد يشتري امرأة ثم يضاجعها فتلد له ولداً، وهذا الولد في الرق والحرية تابع لأبيه، وليس للرقيق أن يشتري رقيقاً، وإنما ذلك للسيد الحر، وولد ذلك الحر من تلك الأمة يأخذ صفة الحرية فيكون حراً كأبيه، وسيداً لأمه كأبيه، فيكون ولدها سيداً لها.
والمعنى الآخر: أن المرأة الأمة تلد رجلاً، وربما يتولى ذلك الرجل أمر الأمة وأمر الدولة، فيكون سيداً لها من هذا الباب، إذ إنها من رعيته.
قال: (وأن ترى الحفاة العراة العالة -أي: الفقراء- رعاة الشاء)، يعني: الذين يرعون الغنم، (يتطاولون في البنيان). وهذا الكلام موجود الآن، اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1].
والآن علية القوم الذين يذهبون يمنة ويسرة يتطاولون ويبنون ناطحات السحاب، فإذا سألت عن أصله فإنه لا أصل له، وكذلك أصحاب البادية والأعراب الأجلاف رعاة الأغنام وأصحاب الفقر والعيلة نجدهم الآن يبنون العمارات ويركبون السيارات.
بل أعرف من هؤلاء رجلاً لا يأكل طعام العرب ولا طعام المسلمين قط، وإنما يأتيه الطعام مرة من باريس ومرة من لندن يومياً، وله طائرة خاصة تحمله من هنا إلى هناك، والعكس بالعكس.
وهذه من أمارات الساعة. (ثم انصرف ذلك الرجل، فلبث ملياً فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أتدرون من السائل؟ قالوا: لا) والنبي عليه الصلاة والسلام لم يعرفه حتى ذلك الوقت، والمسألة عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم كما عرضت على أصحابه لتمام الفائدة، ولعظيم حكمة الله عز وجل، فقال: (التمسوه)، يعني: اذهبوا وابحثوا عن ذلك الرجل. (فذهبوا فبحثوا عنه في كل واد حتى خرجوا على مشارف المدينة، قالوا: يا سول الله! لم نجده، فقال: إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).
فسمى الإيمان ديناً، وسمى الإسلام ديناً، وسمى الإحسان ديناً، وسمى الغيب ديناً، وكل هذا له تعلق بدين الله عز وجل، فلا يمكن أبداً أن يكون الإنسان ديناً إلا أن يصنع في عمله وجوارحه وإيمانه وعقيدته كل هذا، فإذا آمن الرجل بالله وكتابه ورسله وأنبيائه، وبالقدر خيره وشره، والبعث بعد الموت والجزاء والحساب، والنار والحشر، ولم يكن مصلياً ولا مزكياً ولا صائماً ولا شاهداً لله عز وجل، ولا شاهداً لرسوله الكريم فإنه لا يكون مسلماً ولا صحاب دين.
وإذا كان يصلي ويصوم ويزكي ويحج وينطق بالشهادتين، ولكنه يبغض هذه الكلمة ولا يحبها، ولا يؤمن بالملائكة، ولا بالقدر خيره وشره، فإنه لا يكون مؤمناً، ولا مسلماً كذلك.
وإذا كان الرجل لا يؤمن بأشراط الساعة ولا بأن الله تعالى يبعث الناس بعد موتهم فإنه لا يكون مسلماً ولا مؤمناً.
وقد جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: (يا محمد! علمني الإسلام) أو قال: (ما الإسلام؟) في رواية البخاري ، (فنزل النبي عليه الصلاة والسلام من على المنبر، وطلب كرسي فجيء به، فجلس عليه في المسجد أو في صحن المسجد، وعلم الرجل الإسلام، ثم صعد المنبر فأتم الخطبة عليه الصلاة والسلام).
فإذا سألك أحد أن تعلمه الإسلام فدع ما في يدك مهما كانت أهميته، وعلم ذلك الرجل كيف يدخل في الإسلام، ولذلك ترك النبي عليه الصلاة والسلام عملاً عظيماً جداً، وهو خطبة الجمعة لأجل هذا، كما قطعها لأجل طفلين صغيرين الحسن والحسين -فلما رآهما النبي عليه الصلاة والسلام نزل من على المنبر وقطع الخطبة، وحمل الحسن والحسين وصعد بهما إلى المنبر، وتلا قول الله عز وجل: أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال:28].
وليس فرضاً عليك أنك تزوج أولادك، وتبني لهم البيوت قبل أن تؤدي فرض الله عز وجل الذي فرضه عليك فرض عين.
قال الحسن البصري : جاء أعرابي إلى عمر فقال : يا أمير المؤمنين! علمني الدين. فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله -وهذا يعرف بالسمع لا بالعقل- وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان. قال: وعليك بالعلانية -أي: في كل ما يرضي الله عز وجل- وإياك والسر -أي: وإياك وما يستحيا منه- كما قال النبي عليه الصلاة والسلام (لما وجد رجلاً من الأنصار يعظ أخاه في الحياء). يعني: يعاتب أخاه في الحياء ويقول له: إن حياءك شديد ويكاد أن يهلكك. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (دعه فإن الحياء من الإيمان). وفي رواية: (فإن الحياء لا يأتي إلا بخير). وفي رواية: (فإن الحياء كله خير).
وقال عليه الصلاة والسلام: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
وهذا الحديث له معنيان عند أهل العلم: أحدهما: إذا لم تستح من فعلك بين يدي الله عز وجل فاصنعه، فإنه من طاعة الله وفي رضا الله. يعني: إذا لم يكن فعلك هذا مما تستحي منه بين يدي الله إذا حاسبك عليه فافعله الآن؛ لأنه في مرضاته وفي طاعته.
وهذا المعنى هو الذي قال فيه عمر : وعليك بالعلانية وإياك بالسر. أي: وإياك أن تعمل عملاً في السر يغضب الله عز وجل. وعليك بالعلانية، أي: وعليك بما لا يستحيا منه بين يدي الله عز وجل في الآخرة، ولا بين الناس في الدنيا، وإن لقيت الله فقل: أمرني بهذا عمر .
والمعنى الثاني لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت). يعني: إذا كان الشخص ليس عنده حياء قط فليصنع ما شاء بعد ذلك، فإنه إذا نزع من المرء الحياء لم يعاتب ولم يلم على فعله القبيح الذي هو فيه؛ لأن الناس اعتادوا منه سوء الخلق، وسيحاسبه الله عليه يوم القيامة.
معنى كون الولد (مجهلة). أي: أنه هو الذي يسبب الجهل لأبيه، فإذا خرج والده في طلب العلم منعه الولد لحاجته ومتطلباته، وغير ذلك مما يخص الولد. يعني: أن الولد يشغل أباه عن طلبه للعلم، فيصير جاهلاً.
وقد تكون الزوجة أجهل من ولدها، والولد قد يحتمل، وأما الزوجة فلا تحتمل، فلا يخرج الزوج لدرس العلم إلا خفية من الزوجة، فيقول لها: سأذهب لآتي بكذا وكذا وكذا فتقول له: اذهب وفقك الله، ولو اشترى كتاباً لانتقدته أمه بأنهم ليس معهم مصاريف الأولاد وغير ذلك، حتى أنه يضطر في النهاية إلى شراء الكتاب بغير علمها.
فطالب العلم يحتاج إلى صبر عجيب جداً، صبر على شراء الكتاب، وصبر في المحافظة عليها، وصبر في الطلب، وصبر على الزوجة، وعلى الأولاد، وصبر من كل ناحية، وإن لم يكن صاحب حكمة وحنكة وفطنة وحسن تصرف في المواقف المتكررة كل ساعة وكل دقيقة فسيضيع مع أولاده ومع امرأته، فلا بد أن يجعل طالب العلم لقلبه ولوقته ولعلمه وقتاً مع كتاب الله ومع سنة رسوله، وحضور مجالس العلم وإلا سيضيع.
والشيخ ابن عثيمين وغيره يشرحون قوله صلى الله عليه وسلم: (الولد مجبنة) فيما يتعلق بالجهاد. أي: إذا نادى منادي الجهاد يقولون له: انتظر إلى أين ستذهب؟ إن لديك أولاداً صغاراً، فمن سيربيهم؟ مع أن هؤلاء الأولاد هم الذين سيدمرونه ويضيعونه، فهو لن يطلب العلم بسبب العيال، ولن يجاهد حتى يجاهد في العيال، فالولد هو سبب كل بلية، والذكي هو من يعطي لكل ذي حظ حظه، ثم يدع الأمر بعد ذلك لله عز وجل.
وكم من شخص حرص كل الحرص على تربية أبنائه، ثم ما رباهم في النهاية؛ لأنه لم يتق الله تبارك وتعالى فيما تعين عليه هو أولاً، بل جعل كل همه في أولاده، وليست هذه دعوة لترك الأولاد والتفريط في حقهم، أبداً، بل هذا مما قد تعين عليك، ولكنه تعين بقدر، فينبغي ألا تزيد عليه ولا أن تنقص منه.
والأصل في ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول). وفي رواية: (أن يضيع من يقوت) . فعليه أن يعولهم ويطعمهم ويسقيهم ويعلمهم ويربيهم، ويعلمهم الإيمان بالله وبالملائكة وبالكتب وبالرسل، وغير ذلك، فكل هذا داخل في عيالة الأولاد، وفي المسئولية تجاههم، فهذا الحديث لا يتعلق فقط بالطعام والشراب.
وإذا تعين عليك الجهاد كأن يقتحم العدو البلاد فلا بد من دفع العدو وإلا هلكت البلاد والعباد بما فيهم أنت والأولاد، فإذا نودي عليك بالجهاد ففي هذه الحالة لا يوجد شيء اسمه أولاد؛ لأنه تعين عليك وصار فرض عين في حقك، فينبغي ألا تتخلف وإلا لحقك الإثم، ثم إن الله تبارك وتعالى يخيب ظنك في أولادك الذين تخلفت بسببهم، والله تبارك وتعالى يقول: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا [النساء:9]، والضعاف: الصغار، وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ [النساء:9].
(الإيمان بالله يتضمن الإيمان بوجوده سبحانه وتعالى، والإيمان بربوبيته). أي: أنه متفرد بالربوبية، والإيمان بأسمائه وصفاته، والإيمان بألوهيته، وأن ذلك لا يتحقق إلا من قبل السمع، والعقل، والحس، والفطرة.
قال: فإن قلت: وجدت بنفسها فمستحيل عقلاً يعني: أن العقل يحيل أن توجد هذه الكائنات بنفسها؛ إذ إنها في أصلها عدم ثم أنشئت، فكيف تكون موجودة وهي معدومة؟ والمعدوم ليس بشيء حتى يوجد فضلاً عن أن يوجد).
فهي لا يمكن أن توجد نفسها؛ لأنها في الأصل معدومة، والمعدوم لا يوجد نفسه، فكيف يوجد غيره؟ وإن قلت: وجدت صدفة فنقول: هذا يستحيل عقلاً أيضاً، فهل ما أنتج من الطائرات والصواريخ والسيارات والآلات بأنواعها وجد صدفة؟ فلابد أن يقول: لا يمكن أن يكون ذلك، وكذلك هذه الجبال والشمس والقمر والنجوم والشجر والرمال والبحار وغير ذلك لا يمكن أن توجد صدفة كذلك، ولا يتصور أن هذا التقدم الحضاري الذي يمر به العالم الآن وجد هكذا صدفة؟ وهل وجدت الطائرة أو الصاروخ أو أي آلة إلكترونية من قبل الصدفة، أم درس ذلك دراسة علمية منضبطة على المنهج التقني والحديث؟ لابد وأن ذلك كان مدروساً، فهذه الحضارة التي هي موجودة الآن التي عمرت الأرض شرقاً وغرباً لا يمكن أن يقول أحد أنها وجدت صدفة، وإذا كان الأمر كذلك فلابد وأن تكون مخلوقات الله عز وجل لها مدبر.
ويقال: إن طائفة من السمنية -وهم فرقة من أهل الهند- جاءوا إلى أبي حنيفة رحمه الله، فناظروه في إثبات الخالق عز وجل، وهل الخالق لهذا الكون موجود أم غير موجود؟ وكان هذا في القرن الثاني الهجري، وكان أبو حنيفة من أذكى العلماء فوعدهم أن يجيبهم بعد يوم أو يومين، فذهبوا ثم عادوا بعد يوم أو يومين وقالوا: ماذا قلت؟ قال: أنا أفكر في سفينة مملوءة من البضائع والأرزاق جاءت تشق عباب الماء حتى أرست في الميناء ونزلت الحمولة وذهبت وليس فيها قائد ولا حمالون. قالوا: تفكر بهذا يا أبا حنيفة ؟! قال: نعم. قالوا: إذاً ليس لك عقل، فهل يعقل أن سفينة تأتي بدون قائد وتنزل وتنصرف؟! هذا ليس معقول. قال: كيف لا تعقلون هذا، وتعقلون أن هذه السماوات والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والناس كلها بدون صانع؟
فعرفوا أن الرجل خاطبهم بعقولهم، وعجزوا عن جوابه.
فهذا حجة عقلية في إثبات وجود الله عز وجل، ونحن متفقون أن الله تعالى إنما وجبت معرفته بالسمع، ولا بأس بمعرفته استئناساً بالعقل، والله تبارك وتعالى خاطب العقول الراجحة السليمة في القرآن في غير ما آية في عشرات ومئات الآيات، مثل قوله: أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44]، وقوله: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ [محمد:24]، وغير ذلك من الآيات التي تخاطب العقل وتأمره بالتدبر والتفكر في آيات الله عز وجل وفي الخلق والكون وغير ذلك.
وقيل لأعرابي من البادية: بم عرفت ربك؟ قال: الأثر يدل على المسير. يعني: لو أن جملاً مشى في الصحراء لعرف أثر قدمه، والعرب كانوا يعرفون آثار الأقدام، ونحن في هذا الوقت لا نعرف ما يمشي إلا السيارة، وأما الأعراب فكانوا يعرفون أن الذي مشى من هنا معزة فلان، فكانوا يعرفون حتى لمن هي، فهذه حياتهم.
وكان أحدهم يضع أذنيه قريباً من الأرض، وقد يسمع أصواتاً من بعد فإذا نظر ولم ير أحداً وإنما سمع دبيب الأرجل على الأرض علم أن هناك أناساً جاءوا من الشمال أو من اليمين أو من الجنوب. فهذه حياتهم، وهم أئمة في ذلك.
فهذا الأعرابي لما سئل: بم عرفت ربك؟
قال: الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟ بلى. ولهذا قال الله عز وجل: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35]. يعني: أهم خلقوا من غير شيء فأوجدوا أنفسهم بعد أن لم يكونوا؟ أم هم الخالقون للكون؟ أم أنهم كانوا في الأصل عدماً؟ فكيف أوجدوا أنفسهم فضلاً عن كيفية إيجادهم لغيرهم؟
فالعقل يدل دلالة قطعية على وجود الله عز وجل، ولا بأس بأن نقول: معرفة الله تبارك وتعالى واجبة بالسمع، ولا بأس أن نستأنس بالعقل السليم الراشد.
والأعرابي الذي دخل المسجد والرسول عليه الصلاة والسلام يخطب الناس يوم الجمعة فقال: (هلكت الأموال، وانقطعت السبل، وهلك الضرع والزرع، فادع الله يغيثنا. قال
والله تعالى يقول: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].
ويقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]. وهذا أمر واقع يدل دلالة حسية على وجود الخالق.
وفي القرآن الكريم كثير من هذا، مثل قوله تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ [الأنبياء:83-84] ومع أن هذه دلالة حسية إلا أنها تشمل معها الدلالة السمعية كذلك، إذ هي آية من كتاب الله عز وجل.
والناس الذين لم تنحرف فطرهم يؤمنون بوجود الله، حتى البهائم العجم تؤمن بوجود الله عز وجل، وجاء في قصة سليمان عليه السلام: (أنه خرج يستسقي فوجد نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها نحو السماء تقول: اللهم إنا خلق من خلقك فلا تمنع عنا سقياك، فقال سليمان: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم).
فالحشرات والحيوانات والبهائم والطيور ومنها الغراب والهدهد عرفوا الله عز وجل ووحدوه حق توحيده الذي يجب له وينبغي.
إذاً الفطر مجبولة على معرفة الله عز وجل وتوحيده، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف:172].
فلما خلق الله تعالى آدم أخرج من صلبه كل نسمة تكون إلى يوم القيمة مثل الذر، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ [الأعراف:172]، ثم أخذ عليهم العهد والميثاق أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف:172]، أي: ألست الخالق لكم، المدبر لجميع أمركم؟ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172]. فلا تأتوا يوم القيامة وقت الامتحان والاختبار تقولون: كنا يا رب! من الغافلين. فإن الله عز وجل جبلكم وفطركم وخلقكم على توحيده وعبادته، فلا تنحرفوا عن ذلك وتقولوا غفلنا. أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ [الأعراف:173]. يعني: ليس لنا ذنب، ونحن سمعنا ووجدنا آباءنا مشركين فأشركنا. وهذا لا ينبغي أن يكون جواباً يوم القيامة.
فهذه الآية تدل على أن الإنسان مجبول بفطرته على شهادته بوجود الله وربوبيته، وسواء استخرجهم الله من ظهر آدم واستشهدهم، أو إن هذا هو ما ركب الله تعالى في فطرهم من الإقرار به؛ فإن الآية تدل على أن الإنسان يعرف ربه بفطرته.
وأما دلالة الشرع فهو ما جاءت به الرسل من شرائع الله تعالى المتضمنة لجميع ما يُصلح الخلق، وهذا يدل على أن الذي أرسلهم بها رب حكيم رحيم عليم خبير، ولاسيما هذا القرآن المجيد الذي أعجز البشر والجن أن يأتوا بمثله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تبارك وتعالى لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر