أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك. آمين.
وها نحن مع سورة النحل، ومع هذه الآيات المباركات الكريمات:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:75-78].
هذه الأصنام جيء بها من الشام، جاء بها أحد الهالكين - عمرو بن لحي- وورثها في هذه الديار، بحجة أنها تشفع لهم عند الله فيستغيثون بها ويدعونها ويتضرعون بين يديها، كل ذلك من أجل أن يدفع الله عنهم البلاء ويرزقهم العافية والخير في الدنيا، لا أنهم يعبدونها على أنها خلقت ورزقت، وإنما توسلاً بها إلى الله، وقد أخبر تعالى في هذه القضية بقوله من سورة الزمر: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] أي: قربى.
والبشرية في ذلك الوقت وقبله وبعده ما كان يوجد بينهم منكر لوجود الله، لا في العرب ولا العجم، لا في الأولين ولا الآخرين، كلهم يؤمنون بخالقهم ورازقهم وأنه الله عز وجل، وإنما يعبدون معه غيره بتزيين الشيطان لهم ذلك.
فطوائف عبدوا الملائكة، لأنهم يؤمنون بأن لله ملائكة؛ إذ بلغهم هذا بواسطة الرسل والكتب الإلهية، لكن عبدوها تقرباً بها إلى الله، فعبدوها بدل أن يعبدوا الله، وأوضح دليل على ذلك عالم النصارى اليوم، فإنهم يعبدون عيسى لا لكونه الخالق الرازق أبداً، بل يتوسلون بعبادته إلى الله، بدعوى أنه ابن الله وأنه روح الله.
وانتقل هذا المرض إلى العالم الإسلامي لما ذهبت القرون النورانية الذهبية الثلاثة، فانتشر بين المسلمين عبادة غير الله، فأصبحوا يعبدون القبور، قبر سيدي فلان وفلان، ويبنون عليها قباباً ويصنعون لها توابيت، ويضعون عليها الحرير والستائر، ويجمرونها بالبخور يوم الخميس وليلة الإثنين، ويسألون ويستغيثون ويستعيذون بالأموات، وهم يؤمنون بالله ولكنهم يحلفون بها، وينذرون لها النذور: يا سيدي فلان! يا مولاي فلان! إذا تحقق لي كذا فسأذبح لك كذا، أو آتيك بكذا. نساءً ورجالاً، وما نجا وسلم من ذلك إلا العدد القليل، ولكن -والحمد لله- لما انتشرت الدعوة الإسلامية بواسطة هذه الآلات خف ذلك الحال وقل، وأصبح أكثر المؤمنين موحدين، لا يحلفون بغير الله ولا يستغيثون بغير الله، ولا يعكفون على قبر ولي من أولياء الله، ولا يشدون رحلاً لزيارته والعكوف حوله، وسبب ذلك ما دبره الله لعباده من هذه الاتصالات، حيث اتصل العالم الإسلامي بعضه ببعض، وبلغتهم دعوة الله عز وجل، بالكتب والصحف والإذاعات كذلك، فخف -والحمد لله- ذلك البلاء.
وقد ضرب الله في هذه الآيات مثلين: أولهما: لعبد صالح مؤمن بصير، وآخر جاهل أحمق لا يدري شيئًا.
والمثل الثاني: ضربه تعالى لعبد أبكم لا يسمع ولا ينطق، وضربه لنفسه عز وجل. فما الفرق بين هذا وذاك؟ اسمعوا الآيات شيئاً فشيئاً:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [النحل:75] ولا على درهم ولا حبة عنب ولا تمرة.. فهو عاجز؛ لأنه مملوك لسيده، لا يستطيع أن يعطيه شيئاً أبداً ، والثاني: وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا [النحل:75] إنسان رزقه الله المال والحرية يتصرف في ماله كيف يشاء فيعطي هذا ويمنع هذا، يلبس كذا ويشرب كذا؛ لما أعطاه الله عز وجل فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ [النحل:75] والله لا يستويان، ما قال: هل يستويان. قال: (هل يستوون)؛ لأن (مَنْ) تدل على التعدد.
هذا المثل الأول: رجل فقير مملوك لا يملك شيئاً أبداً كالصنم والحجر، ورجل له مال ورزق يتصرف فيه، كمحمد صلى الله عليه وسلم، هل يستويان؟ لا يستويان.
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [النحل:75] هذا الأول، وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا [النحل:75] العلم والمعرفة وغيرهما فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ [النحل:75]؟ الجواب: لا. والحمد لله.
إذاً: هل تستوي الأصنام والتماثيل التي تعبد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يأمر وينهى، ويعلم ويربي؟ لا والله، إذاً: فكيف يكرهون رسول الله ويدبرون عن كلامه ويعرضون ويحاربونه ويعادونه، ويكبون على الأحجار يدافعون عنها وينافحون طول حياتهم، أين العقول؟
والله يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، هذا أمر أم لا؟ ومن المأمور؟ أليس الناس؟ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فكل من كان لا يعلم يجب أن يسأل ليعلم، ولا يحل لأحد أن يعيش العام والأعوام وهو لا يعرف ما يحب الله ولا ما يكره الله، بل يجب أن يسأل: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فلو علم أهل مكة ما عبدوا الأصنام والأحجار وتقربوا إليها وتوسلوا بها، ولذا لما علموا كفروا بالأصنام والأحجار وعبدوا الله عز وجل. فهذا المثل الأول.
أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ [النحل:76]، حمل ثقيل على أبيه أو على أخيه أو ابن عمه أو مولاه الذي يقوم بشأنه، كلّ عليه كالحمل، كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ [النحل:76]، لا يقدر على شيء، ما يسمع، ولا يبصر، كيف يعيش هذا المخلوق؟! كيف يتحمل مسئوليته أخوه أو عمه أو أبوه؟! وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ [النحل:76]، حيثما يقول له: اذهب إلى كذا.. امش إلى كذا.. لا يأتي بخير، أبكم ما ينطق وما يسمع، هذا مثل الأصنام التي تعبد والعياذ بالله تعالى:
أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [النحل:76]، هل يستوي هذا الأبكم الأصم الذي لا يسمع، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل:76]، لا يستويان أبداً، والمراد بقوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ [النحل:76]، يعني: نفسه عز وجل، ذهب إلى هذا ابن جرير الطبري وكثير من المفسرين، وهو أن هذا المثل ضربه الله لنفسه، فهو تعالى العدل، وهو على صراط الجنة يدعو الناس إليها، فكيف يستويان؟
إذاً: بطلت عبادة غير الله، فالعابدون لغير الله ساقطون هابطون؛ إذ لا بصيرة لهم ولا سمع يسمعون به، وهذا هو المثل الثاني.
يقول تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ [النحل:76]، الأبكم: الذي لا يسمع ولا ينطق، وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ [النحل:76]، على من يخدمه أو يعيّشه معه، ثقيل عليه كالحمل الثقيل، أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ [النحل:76]، اذهب إلى السوق، إلى البستان إلى كذا.. ما يستطيع ولا يقدر على شيء، كالصنم
وهو َمَثل الأصنام، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ [النحل:76] والحق والخير، وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل:76]، إلى دار السلام، إلى السعادة والكمال في هذه الدنيا، هل يستويان؟ الجواب: والله لا يستويان. ومعنى هذا: أنه بطلت عبادة غير الله، ولن يصح أبداً بحال من الأحوال أن نلتفت إلى غير ربنا، لا بالدعاء والضراعة، ولا بالتوسل والاستغاثة، ولا بالنذر ولا بالركوع ولا بالسجود، ولا بالرهبة والرغبة أبداً، إنما الله فقط هو الذي يرهب ويرغب فيما عنده ويعبد ويذل له ويخضع، أما غير الله - سواء كان ملائكة أو أنبياء أو أولياء أو أصناماً أو أحجاراً- فالكل لا يستحقون أن يعبدوا، وهذان المثلان بهما تطهرت هذه الديار وأصبحت كلها أنوارًا تشع.
إذاً: له غيب السماوات والأرض، فيجب أن نقبل عليه، مستغيثين، مستعيذين، متواضعين، متوسلين بما طلب منا أن نتوسل به إليه، وبم نتوسل إلى الله؟ هل بسيدنا رسول الله؟ أم بابنته فاطمة ؟ أو بصهره علي ؟ بم نتوسل؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35]، هيا نتوسل إلى الله بما يحب أن نتوسل به إليه، فمثلاً عندنا: ( كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم )، قلهما ورددهما وأنت ماش وأنت قاعد، تتوسل بهما إلى الله ليرضى عنك ويحبك، قم فتوضأ إن كنت على غير وضوء، واستقبل بيت الله، وقل: الله أكبر، وادخل في مناجاة مع الله بالدقائق إن شئت أو بساعة كاملة، واسأله حاجاتك وطلباتك، واستعذ به مما تخاف، وسله كل ما تريد؛ لأن الواجب علينا هو أن نتوسل إلى الله بما يحب أن نتوسل به إليه من هذه العبادات التي شرعها من أجل التوسل إليه بها، فنتملق دائماً لله ونتوسل إليه ليسعدنا ولا يشقينا، ويعزنا ولا يذلنا، وجلوسنا هذا توسل إلى الله، فكل من جاء لحلقة علم يريد أن يعرف ويتعلم كان متوسلاً إلى الله بجلوسه. أما أن نتوسل بالأموات والأصنام والأحجار فهذا خطأ فاحش، وضلال مبين، لا يجوز أبداً أن تقول: يا رسول الله! امدد يديك، يا رسول الله! أنا في حماك .. أنا بجوارك، كما يفعل العوام، هذا باطل والله لا يجوز، فلنتق الله ولنوحد الله في عبادته.
قال تعالى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل:77]، متى نلقى ربنا؟ الغيب لله. متى تقوم الساعة؟ الأمر لله. من منا المقبول ومن المردود؟ الأمر لله، الغيب لله. إذاً: من منا سيسعد ومن منا سيشقى؟ الغيب لله. فلنرجع إلى من بيده الغيب وبيده ملكوت كل شيء، هذا الذي نطرح بين يديه ونسأله.
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ [النحل:77]، ولمح البصر سريع؛ لأن أمر الله تعالى بين الكاف والنون، كن فيكون فقط، هذه أقل من لمح البصر، كن فكان.
قال تعالى: وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ [النحل:77]، قال: الساعة، وهي الساعة المعروفة، البشرية كلها قبل الإلحاد والعلمانية كانوا يؤمنون بالدار الآخرة وأن الحياة هذه تنتهي أيضاً، فهي الساعة المعهودة.
ثانياً: حكمته -والله- لا يخلو منها شيء، فهي من الذرة إلى المجرة؛ لأن كل شيء أوجده الله لحكمة، فليس هناك لهو ولا عبث، وحكمته توجد في كل شيء، ولا يخلو منها شيء، وكذا قدرته لا يعجزها شيء، علمه أحاط بكل شيء، إذاً: فهذا الذي يستحق أن نذعن له ونخضع ونذل ونسأله حاجاتنا ونطلب منه ما نريد، لا التماثيل ولا الأصنام ولا القبور ولا الأحجار.
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [النحل:77]، لا يستثنى من هذا العموم شيء أبداً، وقد قال السيوطي في تفسيره: إلا وجود ذات كذاته. ولا حاجة إلى هذا أبداً، فهو تعالى يخاطبنا بما نعلم، ربنا على كل شيء يريده قدير: خَلْق السماوات وإفناؤها، وخلق الأرض وإبادتها كما يشاء، ولا أقول: إلا ذاته تعالى؛ فلا داعي لهذا، ولكن حين تسأله عز وجل اسأله ما جرت سنته بوقوعه، لا تغل في الدعاء، لا تقل: اللهم ردني شاباً كما كنت وأنت في السبعين والثمانين، ولا تقل المرأة: يا رب حولني إلى ذكر وهي أنثى، هذا لا يجوز، هذا هو الغلو في الدعاء.
هل هناك من يقول: غير الله؟
أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ [النحل:78]، نطف كنطف الماء القذرة تتحول إلى دم، ثم تتحول إلى علقة، ثم إلى مضغة من اللحم، ثم تتحول إلى إنسان ذكر أو أنثى يعيش في بطن أمه تسعة أشهر، ثم من يخرجه؟ الله الذي أخرجنا من بطون أمهاتنا: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا [النحل:78]، الطفل الذي يولد هل يعرف شيئاً؟ كلا، ولو بعد عامين وقد انتهى الرضاع لا يعلم شيئاً، فكيف أصبحنا نعلم؟ من علمنا؟ الله تعالى أم الأصنام والأحجار التي تعبد؟
يكون أولاً: بالاعتراف بنعمته، نعمة السمع والبصر والفؤاد، الاعتراف بالنعمة وأنها من الله عز وجل، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53]، سواءً كانت مالاً أو كانت أولادًا أو كانت عقلاً أو كانت سمعاً أو بصراً، فأيما نعمة فمصدرها وواهبها ومعطيها هو الله لا إله غيره، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل:53]، نرفع أصواتنا: يا رب.. يا رب! خفف آلامنا واشف مرضنا.
إذاً: فالذين لا يشكرون الله، أي: لا يعترفون بالنعمة وأن الله هو وليها وهو واهبها ومعطيها، ثم بعد ذلك ما يحمدونه بألسنتهم، ولا يقولون: الحمد لله والشكر لله، ثم لا يصرفون النعمة فيما من أجله أنعم الله بها عليهم، هؤلاء كفار، كفرة للنعمة جاحدون لها.
إن هذه الحقيقة ينبغي ألا تغيب عن أذهاننا، وهي: بم يكون شكر الله عز وجل؟
أولاً: أن نعترف بكل نعمة وأن الله مصدرها وهو واهبها ومعطيها، كالسمع والبصر وتحريك اليد، لا بد من الاعتراف من القلب بأن هذه النعم من الله، والله إنها لمن الله.
ثانياً: أن نحمد الله تعالى بألسنتنا، كلما ذكرنا النعمة نقول: الحمد لله، كلما باشرنا نعمة نقول: الحمد لله، لا يفارقنا حمد الله أبداً.
ثالثاً: أن نصرف النعمة فيما من أجله أنعم بها علينا، مثلاً: نعمة العلم، أنعم الله عليك بالعلم، هل تستعمله طريقاً لجلب أموال الناس، والتسلط عليهم وأكل أموالهم أو سحرهم والكذب عليهم؟ الجواب: لا، تعلمته لتعمل به أو تعلمه غيرك.
المال: أعطاك الله مالاً كثيراً أو قليلاً، هذه نعمة من نعم الله اشكرها، وكيف تشكرها؟ اعترف أنها من الله واحمد الله عليها واصرفها فيما يحب أن تصرف.
وهبك سيارة تركبها، فلا تركبها لتمشي إلى معصية الله بها، ما وهبك لهذا، أو تركبها لتظلم الناس أو تقتلهم على هذه السيارة، وهكذا.. كما قال تعالى: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78]، أي: من أجل أن نعدكم للشكر، إذ الأعمى والأبكم والذي لا عقل له لا يشكر؛ لأنه لا يستطيع، ولذا لما أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئاً وهبنا السمع والبصر العقل والقلب من أجل أن نشكره، فإن قلنا: خلقتنا ووهبتنا ولن نشكر؛ فهذا أعظم كفر، ولهذا يعذب الكافر -يا عباد الله- بلايين السنين ولا يخرج من النار أبداً؛ لأن جريمته كما سمعتم، خلقك ووهبك سمعك وبصرك وأطعمك وسقاك وكساك لتشكره فإذا بك تكفر به، فكيف يحبك؟ ما يكون جزاؤك إذاً إلا الخلود في عذاب النار والشقاء الأبدي والعياذ بالله.
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ [النحل:75]؟ الجواب: لا. هل العبد المؤمن الصالح كالكافر الفاجر؟ لا يستويان أبداً، الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النحل:75]، السبب في جهلهم وكفرهم أنهم لا يعملون، فلهذا يجب أن نتعلم، لا يحل أبداً أن نعيش جاهلين بربنا ومحابه ومكارهه، والطريق كما كررنا القول فقلنا: يا أهل القرى! اجتمعوا في مساجدكم مع علمائكم وتعلموا الكتاب والسنة، ادرسوا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تتخلصوا من المذهبية والطرقية والأباطيل، وتصبحوا كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ [النحل:76]، والعياذ بالله، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل:76]، أي: لا تسو الحجارة برب العالمين، كيف أسوي الحجارة بالله وأعبدها؟ من عبدها فقد سواها بالله عز وجل، الذي يعبد الأصنام أما سواها بالله حين عبدها؟
ثم قال تعالى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النحل:77]، من ادعى أنه يعلم الغيب فقد نازع الله عز وجل، من ادعى أن الله لا يعلم ما يجيء به الغد أو ما يكون بعد غد فهو جاهل بالله عز وجل، وقد أساء إليه؛ إذ الله تعالى له غيب السماوات والأرض وحده دون من سواه، وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ [النحل:77]، القيامة، إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ[النحل:77]، فقط يقول الرب: كن فيكون؛ إذ أمره بين الكاف والنون أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل:77] أيضاً، إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [النحل:77]، لا يعجزه شيء أبداً، متى أراد شيئاً كان، أراد الكون فكان أم لا؟ كيف خلقت السماوات والأرضون وما فيهما؟ أراد أن تكونا فكانتا، وحين يريد إنهاءهما وإبادتهما فتصبحان سديماً يقول لهما: كونا فتكونان كذلك.
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا [النحل:78]، من يرد على الله؟ الحمد لله. ثانياً: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ [النحل:78]، أي: القلوب، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78]، اللهم اجعلنا من الشاكرين يا رب العالمين.
أولاً: استحسان ضرب الأمثال، وهو تشبيه حال بحال على أن يكون ضارب المثل عالماً ] بما يقول، فمن أراد أن يوجه أو يرشد أو يعلم ويحاول أن يفهمهم يضرب لهم مثلاً بكذا أو كذا حتى يفهموا، يستحسن هذا، كيف والله قد ضرب الأمثال؟
[ ثانياً: بيان مثل المؤمن في كماله والكافر في نقصانه ]، وهذا هو المثل الأول: فالكافر كالأصم الأبكم، والمؤمن كالذي رزقه الله رزقاً حسناً.
[ ثالثاً: بيان مثل الأصنام في جمودها وتعب عبدتها عليها في الحماية وعدم انتفاعهم بها ]، نعم، فهم يحمونها ويصنعونها ولا ينتفعون بها.
[ بيان مثل الأصنام في جمودها وتعب عبدتها في صنعها وفي حمايتها من غيرهم، ومثل الرب تبارك وتعالى في عدله، ودعوته إلى الإسلام وقيامه على ذلك مع استجابة دعاء أوليائه، ورعايتهم، وعلمه بهم وسمعه لدعائهم، ونصرتهم في حياتهم، وإكرامهم والإنعام عليهم في كلتا حياتيهم -الدنيا والآخرة-، ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم ].
اللهم يا حي يا قيوم، يا بديع السماوات والأرض، يا مالك الملك، يا ذا الجلال والإكرام، هذه أكفنا قد رفعناها إليك سائلين ضارعين فاستجب دعاءنا يا ربنا!
اشف اللهم هؤلاء المرضى، وعجل بشفائهم يا رب العالمين، واشف كل مريض فينا وبيننا وفي مشافينا وبيوتنا؛ إنك أرحم الراحمين ورب العالمين.
اللهم شفاءك الذي لا يغادر سقماً.
اللهم إنا نسألك لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن توحد كلمتها وصفوفها، وأن تردها إلى عبادتك وتحكيم شريعتك وطاعتك فيما تأمر وتنهى يا رب العالمين.
اللهم زك نفوسنا، وآتها هداها وتقواها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
ربنا أدخلنا في عبادك الصالحين.. ربنا أدخلنا في عبادك الصالحين.. وارحمنا والمؤمنين أجمعين.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر